التصنيفات » ترجمات

أزمة الهوية إسرائيل ومواطنوها العرب


  

 

 

المحتويات:

ملخّص وتوصيات

I- مقدمة

أ- "الإسرائيليون العرب"

ب- عالمٌ منعزل.

II- القرينة التاريخية والسياسية

أ- بعد عام 1967: طمس الخطوط الفاصلة؛ إيجاد صوت.

ب- الحقبة الذهبية: اتفاق أوسلو وعهد رابين كرئيسٍ للوزراء.

ج- سنوات نتنياهو وباراك.

د- الانتفاضة.

III- تمييز وإقصاء واستياء

أ- الموارد.

ب- الأرض والتخطيط.

ج- التعليم.

IV- المدارك المشتركة والنظرة المتبادلة

أ- المدارك "الإسرائيلية" اليهودية.

ب- المدارك "الإسرائيلية" العربية.

V- وجه البلبلة

أ- النزعة الراديكالية الإسلامية.

ب- خطر العنف.

ج- مزيد من الاضطراب السائد؟

VI- عملية السلام

 

 

 

 

 

ملخّص وتوصيات:

على مدى مرحلةٍ معتبرة من تاريخها، كانت "إسرائيل" تركز على الدول العربية المجاورة، وعلى الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة. وأما شأن المواطنين العرب(1) الذين يعيشون على الأراضي "الإسرائيلية"، فغالباً ما كان يبقى بعيداً عن الاهتمام الوطني "الإسرائيلي". إذ أن هؤلاء السكان لم يستقطبوا الاهتمام على المستوى الوطني إلا في أوقات الأزمات؛ وحتى في تلك الظروف، كان الالتفات إلى شؤونهم لا يتعدى حدود ردّات الأفعال. ولذلك، لا بد من الإشارة إلى أن احتمال حصول الاضطرابات والمشاحنات الداخلية سيبقى قائماً بقوة، إذا لم يتم التعاطي الممنهج والمدروس مع حالة "اللامساواة" التي يواجهها "الإسرائيليون" العرب، وإذا لم يتم إطلاق عملية شاملة هدفها تحديد موقف الدولة البعيد المدى حيال هذه الشريحة من المواطنين.

من المعلوم أن المواطنين العرب الفلسطينيين المقيمين في "إسرائيل"، الذين يشكلون نسبةً تصل إلى حوالي عشرين بالمئة من إجمالي عدد السكان، يعيشون منقطعين عن جغرافية "إسرائيل" وثقافتها واقتصادها وتيارها السياسي السائد. وهم يتمتعون بحقوقٍ سياسية لا يعرفها الكثيرون من سكان المنطقة، لكنهم –مع ذلك- يعانون من مختلف أشكال التمييز العنصري، الذي يأخذ أحياناً شكل التمييز الرسمي المباشر، ويكون دون هذا المستوى أحياناً أخرى. وهذا يؤثر سلباً على الركائز الثلاث، الأكثر أهمية، التي يقوم عليها المجتمع الديموقراطي: وهي: الموارد؛ والحقوق؛ والتمثيل. وتشتد المظلمة وسط السكان البدو الذين يعيشون في ما يُطلق عليه اسم "القرى غير المعترف بها"، حيث الناس محرومون من أبسط الخدمات؛ ناهيك عن معاناتهم المستمرة بسبب التدمير العشوائي للمنازل في مناطقهم.

وجديرٌ بالذكر أن حالة "الشحن الداخلي" العهيدة هذه كانت بعيدةً عن أضواء عملية أوسلو، التي بشرت بحقبةٍ من الأمل لليهود "الإسرائيليين" والعرب على حدٍ سواء؛ لكنها عادت لتطفو على السطح ثانيةً، وبصورةٍ متجددةٍ، مع بدء الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في أيلول/2000.

فبعد شهرٍ واحد (على اندلاع هذه الانتفاضة)، سيّر "الإسرائيليون" العرب تظاهرات ٍ صاخبة، للتعبير عن تضامنهم مع إخوانهم الفلسطينيين، وعن استيائهم الشديد من الحالة الصعبة التي وصل إليها مجتمعهم، فسقط نتيجةً لتلك التظاهرات ثلاثة عشر شخصاً. ومن الخطأ النظر إلى أحداث تشرين الأول على أنها انعكاسٌ دقيق للمزاج العام الذي يسود الأوساط "الإسرائيلية" العربية. لكن، من الخطأ أيضاً اعتبار تلك الأحداث مجرد ظاهرةٍ عابرة. فالتطورات التي شهدتها الأراضي المحتلة شكّلت الظرف الملائم الذي استغله "الإسرائيليون" العرب للتعبير عن استيائهم من التمييز التاريخي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) ومن إهمال "إسرائيل" لهم؛ وجاءت بعد صداماتٍ محليةٍ متكررةٍ نشبت إثر قيام السلطات "الإسرائيلية" بمصادرة مساحاتٍ من الأراضي. ويمكن القول إن أحداث تشرين الأول/2000 كانت بمثابة إنذارٍ خطيرٍ نبّه الجميع إلى حقيقةِ أن استدماج الأقلية "الإسرائيلية"-العربية في قرينة المجتمع "الإسرائيلي" كان فاشلاً، حتى الآن.

وليس من السهل حل هذه المشكلة، لأنها تتصل بجوهر التعريف الذي اختارته "إسرائيل" لنفسها، كدولةٍ "يهودية" و"ديموقراطية"؛ ولأن العلاقات القائمة داخل المجتمع "الإسرائيلي" متميزة بتعدد وتراكب طبقاتها، حيث إن الأقلية العربية "الإسرائيلية" تعيش في دولةٍ يهوديةٍ تتصارع مع جيران عرب. وفي أحسن الحالات، لا يمكننا وصف العلاقة بين "الأقلية العربية-الإسرائيلية" و"المجتمع اليهودي-الإسرائيلي" بأفضل من عبارة "اللاإكتراث"، أما في أسوأ الحالات، فيمكن القول إن الشعور المتبادل هنا يصل إلى أبعد حدود سوء التفاهم، وانعدام الثقة، والعداوة الناطقة. ونجد في المجتمع اليهودي "الإسرائيلي" أوساطاً عديدةً تشكك في استعداد "عرب إسرائيل" للإقرار بمشروعية وجود الدولة. وغالباً ما يُنظر إلى هؤلاء على أنهم "خطرٌ أمني" و"قنبلة ديموغرافية/سياسية موقوتة. وقد تعززت هذه النظرة بفعل ما شاع من مزاعم تتعلق بالتعاون بين "الإسرائيليين العرب والمنظمات الفلسطينية منذ بدء الانتفاضة؛ وبالمقابل؛ بات المواطنون الفلسطينيون في "إسرائيل" مؤمنين بأن الدولة غير مستعدة لاحترام حقوقهم كأفراد، ولا للاعتراف بهويتهم الجماعية، وبأن هذه الدولة تسعى إلى تحجيم وزنهم السياسي ووجودهم الديموغرافي. والذي زاد الأمر سوءاً هو أن الجسم السياسي "الإسرائيلي" سمح بارتفاع الأصوات السياسية المتطرفة، وبسنّ قوانين عدوانية، وبمشاركة أحزابٍ تنادي "بنقل" المواطنين العرب إلى ما وراء حدود "إسرائيل".

لكن الذي يبعث على الارتياح –إلى حدّ ما- هو أن العنف الشامل لا يلوح في الأفق القريب، على الرغم من أن الأجواء المشحونة بمزيجٍ خطيرٍ من الاستقطاب السياسي والإحباط المتراكم في نفوس "الإسرائيليين" العرب، الذين يجري إقصاؤهم عن النظام السياسي في ظل أجواءٍ اقتصاديةٍ متردية.

ويرى البعض أن حل مشكلة الصراع الخارجي "الإسرائيلي" مع الفلسطينيين سيؤدي تلقائياً إلى حل هذه المشكلة الداخلية. ومما لا شك فيه أن ذلك سيساهم في تحسين أوضاع "الإسرائيليين العرب". إلا أن الانفصال عن الأراضي المحتلة يسلط الضوء على المجتمع "الإسرائيلي العربي"، وسيرغم هاتين الفئتين من السكان –في الوقت نفسه- على الانصراف إلى معالجة "مشكلة العلاقة الطويلة الأمد" بينهما. وإذا لم يتم إطلاق عملية استدماج المواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل"، بصورة أفضل، ولم ينكبّ الوسط السياسي "الإسرائيلي" على التفكير جدياً في كيفية صوغ "عقدٍ" سياسيٍ جديدٍ أكثر شموليةً وأقل محاباة، فسوف تواجه "إسرائيل" مشكلةً خطيرة، ألا وهي مشكلة مجتمعٍ متنامٍ يعيش في كنفها ويكنّ لها العداء. والنتيجة المحتومة التي ستحقق ذاتها بذاتها هي: فرز مواطنين من الدرجة الثانية، ليشكلوا خطراً مباشراً على استقرار المجتمع "الإسرائيلي" وانسجامه الداخلي.

 

توصيات:

توصيات موجّهة إلى حكومة "إسرائيل":

1-    إتخاذ تدابير من شأنها إلغاء القوانين والممارسات المنطوية على مختلف أشكال التمييز؛ وذلك عن طريق:

أ‌-   تبنّي وتنفيذ التوصيات الواردة في تقرير عام 2003، الذي أصدرته لجنة أور [Or Commission] في أعقاب صدامات تشرين الأول/2000.

ب‌-  إلغاء "قانون الجنسية والدخول إلى إسرائيل" (القانون المؤقت)، الصادر في 31 تموز/2003، والذي يمنع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة (رجالاً ونساءً) المرتبطين بمواطنين (أو مواطنات) "إسرائيليين"، عن طريق الزواج، من استصدار أذونات سكنٍ "إسرائيلية".

ج‌-  إعتماد خطة متوسطة المدى (تمتد سنوات عدة) بهدف القضاء على التمييز العنصري على صعيد تحصيص موارد الدولة؛ من أجل إنصاف المجتمع العربي؛ وذلك عن طريق سنّ القوانين التشريعية، وإعادة جدولة الموازنة، وتنفيذ "خطة مليارات ملايين شيكل" (986 مليون دولار)، وإلغاء التعديل الذي أُدخل على "قانون الضمان الوطني" في حزيران/2002، والذي قضى بحرمان العائلات التي ليس لها أقارب في الجيش من الجرايات المالية المخصصة للأولاد.

د‌-   تصنيف المناطق العربية الأشد فقراً في خانة المناطق ذات الأولوية الوطنية؛ وتوفر الخدمات المختلفة لهذه المناطق على أساس التصنيف إياه.

ه‌-   تخيير المواطنين العرب بين "تأدية الخدمة العسكرية" و"العمل البديل في قطاع الخدمات المجتمعية"، والتأكيد لهم أن أياً من هذين الخيارين يضمنُ لهم نفس الفوائد والأوضاع الاجتماعية.

و‌-     زيادة حجم التمثيل العربي على كافةِ المستويات، سواء كان ذلك في القطاع العام أو في هيئات التخطيط.

ز‌-  إدخال ثقافة "رفض التمييز العنصري والحذر من كافة أشكال هذا التمييز" إلى مناهج التعليم والتدريب، في المدارس والإدارات الرسمية والمؤسسات الحكومية، بدءًا بسلك الشرطة.

2-  تعزيز فرص التعليم للمواطنين العرب، عبر الإنصاف في تمويل المؤسسات التعليمية، العربية واليهودية على حدٍ سواء، وتعويض العجز السابق في تمويل مؤسسات التعليم وسط المجتمع العربي.

3-  ضمان المساواة والتكافؤ على صعيد الأنظمة الخاصة بالملكيات والأراضي، لجهة التوزيع والتخطيط والترسيم والمسح؛ وذلك عن طريق:

أ‌-   إنهاء الأدوار الرسمية التي تؤديها الهيئات القانونية التي تقوم بمهام حكومية يغلب عليها طابع التمييز الفئوي (كالصندوق القومي اليهودي).

ب‌-    ضمان تمثيل الإسرائيليين" العرب في جميع هيئات التخطيط الرسمية ذات الصلة.

ج‌-  تطبيق خطة شاملة تقضي بتنمية القرى البدوية غير المعترف بها في النقب، بالتشاور مع الممثلين الشرعيين للمجتمع المعني (البدوي).

د‌-      تعليق سياسة تدمير المنازل والممتلكات، إلى حين وضع سياسة متكافئة فيما يتعلق بشؤون الأراضي.

 

التوصيات الموجّهة إلى القيادة المجتمعية "للإسرائيليين" العرب

ذ‌-      إعتماد استراتيجيا شاملة للتواصل مع الجمهور "الإسرائيلي"، والحرص على صوغ رؤيةٍ شاملةٍ لحقوق ومسؤوليات المواطنين.

ر‌-  اللجوء –حصراً- إلى الوسائل السلمية، من أجل دعم الأهداف السياسية وتفادي أي نوعٍ من أنواع الخطاب الاستفزازي الذي يُلهب المشاعر.

ز‌-  السعي، على المستوى المحلي، إلى تفكيك شبكات المصالح التي تقوم على أساس الانتماء العشائري والإجارة والمزابنة، والتي تقوّض أركان الحكم المحلي التمثيلي الفعال.

 

 عمان بروكسل، 4 آذار/2004.

 

 

أزمة هوية: "إسرائيل" ومواطنوها العرب.

I- مقدمة:

أ- "الإسرائيليون العرب":

يعيش في "إسرائيل" اليوم حوالي مليون وثلاثمئة ألف مواطن عربي، وهم يشكلون نسبة 19.4% من إجمالي عدد السكان "الإسرائيليين" البالغ نحو ستة ملايين وسبعمئة ألف نسمة(2). وحسب بعض التقديرات، المختلف عليها، والتي تثير جدلاً حاداً في الأوساط "الإسرائيلية" المعنية، يمكن أن ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 23% في العام 2020، وإلى 31% في العام 2050(3).

ويتواجد السكان "الإسرائيليون" العرب في ثلاث مناطق رئيسة، هي:

a.      الجليل والشمال، بما في ذلك بلدات الناصرة وسخنين وشفاعمرو.

b.  المثلث الصغير، في وسط "إسرائيل"؛ وهي المنطقة الممتدة غربي "الخط الأخضر" الذي يفصل "إسرائيل" عن المناطق المحتلة؛ والتي يعيش فيها حوالي ثلاثين بالمئة من السكان "الإسرائيليين" العرب، وتشمل بلدات أم الفحم والطيبة والطيرة وباقة الغربية وكفر قاسم.

c.   صحراء النقب، في الجنوب؛ حيث يعيش نحو مئة وأربعين ألفاً من السكان البدو، في سبع محلات استيطانية رئيسة (تضم بلدة راحات)، وفي حوالي خمس وأربعين من "القرى غير المعترف بها".

 

وبالإضافة إلى ذلك، يعيش حوالي عشرة بالمئة من أبناء هذا المجتمع في ست مدن يهودية-عربية مختلطة، هي: تل أبيب/يافا، حيفا، عكا، اللدّ، الرملة، والناصرة العُليا. وفي كل من المدن المذكورة يشكل العرب أقليةً، ويسكنون في أحياء منفصلة.

وينتمي أفراد المجتمع "الإسرائيلي العربي" إلى القومية العربية، ويتكلمون اللغة العربية، التي نادراً ما تُستخدم في الأوساط العامة (بما في ذلك الإشارات المنصوبة على جوانب الشوارع) وفي الإجراءات الإدارية والقانونية إلا أن محدودية الفرص الاقتصادية والعجز عن التحرك والعمل بحريةٍ دفعا عدداً كبيراً من هؤلاء العرب المسيحيين إلى الهجرة. على الرغم من أن الدوائر الرسمية "الإسرائيلية" تعترف بكونها "اللغة الثانية في ا لبلد. ويشكل المسلمون السنة حوالي 82% من السكان "الإسرائيليين العرب"؛ في حين ينقسم الباقون (200000 نسمة تقريباً) بين المجتمعين المسيحي والدرزي، بشكلٍ متساوٍ(4). ويعيش معظم العرب المسيحيين في مدن وبلدات الشمال، وهم منقسمون إلى طوائف عدة (أورثوذوكس-روم كاثوليك- كاثوليك لاتين). ونتيجة لذلك، نلاحظ أن المجتمع العربي المسيحي في "إسرائيل" ينحسر تدريجياً (من حيث عدد أفراده ونسبتهم إلى المجتمع "الإسرائيلي").

أما الدروز الذين يشكلون مجتمعاً دينياً منفصلاً، والذين تعترف بهم الدولة على هذا الأساس، فيعيشون في ست عشرة قريةٍ من قرى شمال "إسرائيل"(5). وعلى الرغم من كونهم أقليةً وسط أقلية، يتمتع الدروز بوضعٍ مختلفٍ، وبأفضليةٍ نسبيةٍ من نواحٍ عدة. ففي ظل "قانون الجنسية" "الإسرائيلي" يُصنف هؤلاء "دروزاً"، وليس عرباً؛ ولهم قانون أحوال شخصية خاص بهم، ولديهم ممثلون في مؤسسات الدولة؛ ويتمتعون "بالخطوة" في الشبكات غير الرسمية وفي مختلف الدوائر الحكومية، مقارنةً بغيرهم من العرب "الإسرائيليين". وجديرٌ بالذكر أيضاً أن الدروز يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية، منذ عام 1956، ويستفيدون من الامتيازات التي يحصلون عليها لقاء تأدية هذه الخدمة، خلافاً لما هي حال العرب المسلمين والمسيحيين، الذين لا يمكنهم أن يؤدوا الخدمة العسكرية في الجيش "الإسرائيلي" إلا تطوعاً. وفي هذا الصدد، يوضح رمزي الحلبي، رئيس البلدية السابق في قرية دالية الكرمل الدرزية (أكبر قرى الدروز في "إسرائيل")، بأنه "مقارنةً ببقية العرب، تُعتبر الظروف التي يعيشها الدروز أفضل نسبياً ... لكنها ليست أفضل بكثير ... فالدروز أصبحوا مستدمجين بشكلٍ أفضل (في المجتمع "الإسرائيلي") من خلال الخدمة العسكرية والمساعدات المالية ... ونتيجة لولائهم التاريخي للدولة... لكن، على الرغم من أننا نؤدي نفس الواجبات التي يؤديها اليهود، إلا أننا لا نتمتع بالحقوق والامتيازات نفسها ... وهو ما يبدو واضحاً في مجال تقديم الإعانات المالية وتأهيل البُني التحتية..."

أما المجتمع البدوي في النقب، فتلقى ضربة قوية في حرب عام 1948، التي لم تبق من أبنائه، الذين كان يتراوح عددهم بين سبعين وتسعين ألف نسمة، إلا على ثلاثة عشر ألفاً تقريباً. (وفي هذا الشأن، يقدّم بعض الناشطين البدو أرقاماً أكبر؛ فيقولون ان مجتمعهم كان يضم مئة إلى مئة وخمسين ألف نسمة قبل تلك الحرب، وحوالي أحد عشر ألفاً –فقط- بعدها)(7). والحقيقة أن غالبية السكان البدو إما هربت، أو طُردت إلى الأردن، أو الضفة الغربية، أو قطاع غزة، أو سيناء المصرية(8). كما أن حوالي خمسة وثمانين بالمئة من مساحة النقب "أُعلنت "مناطق نائية"، فكان معظم السكان الباقين فيها يعيشون ضمن مناطق "مغلقة"، شرقي بئر السبع، في مجتمعات منتشرةٍ عند تخوم البلدات "الإسرائيلية" الجديدة. ومع مرور الوقت؛ ونتيجةً للسياسات المتعلقة بالأرض وتخطيط الأراضي وللأعمال التي مارستها "الدورية الخضراء"، أصبح نصف سكان النقب البدو يعيشون في سبع بلدات، وبقي الآخرون في أراضيهم "بصورةٍ غير قانونية"، كسكانٍ "للقرى غير المعترف بها"، التي ما زالت محرومةً من الخدمات الأساسية والبُنى التحتية، والتي يعيش أبناؤها أسوأ حالات الفقر والتشتت والتهميش(9).

ب- عالم منعزل:

بشكلٍ عام، يسكن "الإسرائيليون" العرب واليهود بلداتٍ وأحياء متجانسةً عرقياً، حيث يبدو التجانس الاثني واضحاً ضمن كل مجتمعٍ على حدة، إن كان ذلك من جهة التعليم أو اللغة أو الأعياد والمناسبات الدينية. وهذه الظاهرة ملموسةٌ إلى حدٍّ ما على امتداد المجتمعات "الإسرائيلية" الثانوية؛ إلا أن الخنادق التي تفصل بين هذه المجتمعات أعمق بكثيرٍ مما تبدو عليه(10). والتجربة الوطنية الاستدماجية الوحيدة (الخدمة في الجيش) لا تعتبر قاسماً مشتركاً بين غالبية "الإسرائيليين العرب".

وإذا جُلْنا على المناطق المدنية الرئيسة داخل تل أبيب، وحولها، نلاحظ غياباً كاملاً للعرب. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن العديد من المناطق الوسطى والسهول الساحلية، حيث يعيش معظم السكان "الإسرائيليين"، وحيث تتواجد غالبية المصالح التجارية والاقتصادية الحديثة. وبالإضافة إلى ذلك، إذا عاينا منطقة "المثلث الصغير" التي تفصل "إسرائيل" عن وسط الضفة الغربية، ونظرنا إلى واقع الحال فيها وفي المنطقة الممتدة شمالاً نحو الجليل، نجد أن المجتمع "الإسرائيلي" بدأ يكتسب طابع الضفة شيئاً فشيئاً(11). فالقرى والبلدات العربية الكثيرة تنتشر في الوديان إلى جانب بعض التجمعات "الإسرائيلية" اليهودية المبعثرة.

ويعكس السلوك الاجتماعي خطوطاً جغرافيةً واضحةً تفصل بين المجتمعين. ونادراً ما نصادف حالاتٍ من الزواج المختلط. وبالنسبة إلى الأكثرية اليهودية، كان السكان "العرب الإسرائيليون" غير ظاهرين للعيان. وحتى أواسط الثمانينيات، كان هؤلاء غائبين إلى حدٍ بعيد عن قرينة الحديث الشعبي وعن الساحتين الثقافية والإعلامية، حيث قلما يبرز العرب حتى في وقتنا الحاضر، سواء كان الوسط فنياً شعبياً أو إعلامياً إخبارياً(12).

ولذلك، نرى أن التعاطي بين المجتمعين يتم في وسطين اثنين: العمل والدراسة؛ فغالباً ما يقدم العرب الأيدي العاملة الرخيصة نسبياً، كما أننا نجد قدراً من التعاون والاحترام المتبادل في مجال الرعاية الصحية. ومع ازدياد عدد الشبان العرب المسجلين في المدارس الثانوية. وبسبب عدم وجود جامعاتٍ تدرس باللغة العربية، تحولت الجامعات العبرية إلى حقلٍ هامٍ آخر من حقول التفاعل الاجتماعي، فاتحةً أبواب الجدل وأقنية الحوار في آن. وتمثل رياضة كرة القدم مجالاً آخر للتعاطي بين المجتمعين. ففي موسم 2003/2004، هناك فريقان عربيان يمثلان بلدتين عربيتين(13)، وينافسان في مباريات كأس "إسرائيل". ونتيجةً لذلك، بدأ المواطنون "الإسرائيليون العرب" بظهرون عبر وسائل الإعلام (وإن كان في صفحاتٍ خلفيةٍ وبرامج ثانوية) كنماذجَ أوليةٍ تشارك في تمثيل المجتمع ككل. إلا أن الرياضة لم تخل من الصدامات العرقية التي ألهبتها الهتافات العنصرية والممارسات العنيفة الصادرة عن كلا الجانبين.

وصحيحٌ أن القانون "الإسرائيلي" لا يكرس حالة "اللامساواة"، إلا فيما ندر من القضايا، غير أن هذه الحالة تبرز من واقع السياسات التمييزية، وتنشأ بشكلٍ غير مباشرٍ عن بعض الممارسات التي يُفترض أن تكون بعيدةً عن أي تمييز.

 

II- القرينة التاريخية والسياسية:

أُعلن قيام دولة "إسرائيل" في الرابع عشر من أيار/1948. وأثناء الحرب التي أعقبت ذلك، كان مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين سكنوا المنطقة التي باتت تعرف باسم "إسرائيل" (حسب خطوط وقف إطلاق النار المرسومة عام 1949) إما يهربون من هذه المنطقة، أو يُطردون منها، ليصبحوا لاجئين في الضفة الغربية، أو قطاع غزة، أو في البلدان العربية المجاورة. والسكان الذين لم يغادروا (حوالي مئة وخمسين ألفاً) أصبحوا يشكلون أقليةً في الدولة اليهودية، البعض ضمن قراهم ومدنهم الأصلية، والبعض الآخر في مناطق داخليةٍ أخرى هُجروا إليها.

ومما لا ريب فيه أن الحرب -مع ما تلاها من أحداثٍ- كانت ذات تأثيرٍ كبيرٍ على العلاقات اليهودية-العربية داخل "إسرائيل". وبالنسبة إلى الدولة الفتية، والمحاصرة، كان البقاء يمثل أولوية عليا. ولذلك، كانت "إسرائيل" تنشط في تشجيع وتسهيل هجرة اليهود من مخيمات النازحين والمُهجرين على امتداد أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية والمحرقة [Holocaust]، ومن البلدان العربية (حيث تعرض اليهود للمضايقة والعنف)، ومن دولٍ أخرى كإيران، في حين كانت السلطات "الإسرائيلية" تمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، جرى تدمير أو إخلاء المئات من القرى العربية التي كانت آهلةً بالسكان. وبالنتيجة، أسفرت الحدود الجديدة، التي كانت وليدة الحرب، عن تقسيم عددٍ كبيرٍ من الأسر والعائلات والعشائر العربية. والأماكن التي كانت تتمتع بعلاقاٍت اقتصاديةٍ واجتماعية متينة فيما بينها (كالطيبة وطولكرم وأم الفحم وجنين) أصبحت معزولةً تماماً بسبب الحدود التي رسمتها الحرب (14) ("الخط الأخضر").

من هنا، نستطيع القول: إن الفلسطينيين الذين بقوا في "إسرائيل" –والذين غالباً ما يشار إليهم اليوم بعبارة "عرب 48"- لم يصبحوا مواطنين بمحض اختيارهم، بل نتيجةً لما آلت إليه مجريات الحرب وويلاتها، فعاشوا حالة ًصعبةً من التخبط؛ وكانوا مرغمين على التعاطي مع "صدمة الهزيمة"، من جهة، ومع "نازلة التهجير الجماعي"، من جهةٍ ثانية، في وقتٍ كانت الدولة تنظر إليهم بعين الريبة والحذر. وتشير التقارير إلى أن حوالي أربعمئة قريةٍ عربيةٍ كانت في طور "الإزالة"؛ وإلى أن أهالي تلك القرى (حوالي ربع السكان الباقين) عانوا من التهجير الداخلي، وهكذا، فإن المجتمع العربي المتبقي، الرازح تحت الحكم العسكري، والمفتقر إلى القوة والتنظيم، والنفوذ السياسي، كان يركز على هم وحيدٍ، وهو "البقاء".

والهيكليات المنظمة التابعة للحركة الصهيونية، والتي شكلت النواة النموذجية الأولية للدولة، منذ فترة ما قبل الحرب، والتي كان المجتمع العربي في حالة صراع معها، أصبحت بعد تلك الحرب دولةً ترعى شؤون البلد وتسنّ قوانين الأرض. وأبرز التدابير التي سارعت هذه الدولة إلى اتخاذها كان فرض "الحكم العسكري" على "مناطق دفاعية" محددة (ضمت كل القرى العربية)؛ مع ما انطوى عليه ذلك من استحداث للمحاكم العسكرية (العرفية) التي تمتعت بصلاحيات واسعة النطاق(15). وفي ظل هذه القرينة، قُتل ثلاثة وأربعون شخصاً من سكان قرية كفر قاسم العربية، رمياً برصاص دوريةٍ عسكريةٍ "إسرائيليةٍ"، وهم عائدون من العمل، بعد فرض حظر للتجوال لم يكونوا على علم مسبق به(16). وبشكل تدريجي، بدأت المحاكم تحد من هذه الممارسات الاستغلالية الحائفة التي عجّ بها هذا النظام، إلى أن قام الكنيست بإلغاء "أنظمة الطوارئ" التي قام عليها الحكم العسكري (في عام1966).

وخلال السنوات القليلة التي أعقبت الحرب، قامت الدول باعتماد إجراءاتٍ حددت وقيدت بها أوضاع مواطنيها الفلسطينيين. ومنها "قانون الجنسية" (1952)، الذي منع عودة الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون المناطق التي أصبحت "إسرائيلية"، وسمح بترحيل الفلسطينيين الذين كانوا قد دخلوا إلى هذه المناطق بعد فترة 1947-1948 بدون إذنٍ مسبق من السلطات. وفي الوقت ذاته، تم تشريع بعض القوانين التي منحت المجتمع المسلم هامشاً معتبراً من الاستقلالية في مجالي العبادة والأحوال المدنية(17). لكن الإجراءات الأشد وطأة، التي ما زال تأثيرها قوياً جداً حتى اليوم، هي تلك المتعلقة بالأرض والملكية. إذ أن الأراضي والممتلكات العائدة إلى السكان السابقين أصبحت تابعة للدولة؛ وتم توزيعها فيما بعد على عناصر المجتمع اليهودي (المستوطنات العائلية المجتمعية/الأهلية-الكيبوتزيم-المستوطنات الزراعية-الموشافيم). وبعد أن كانت ملكاً لأصحابها العرب، باتت هذه الأراضي والمباني ملكاً لأفراد يهود وجماعات يهودية؛ في الوقت الذي تم فيه توسيع مصطلح "المالكين الغائبين" ليشمل فئة "المالكين الغائبين حالياً"؛ الأمر الذي سمح للسلطات "الإسرائيلية" بمصادرة أراضٍ وممتلكاتٍ تعود إلى سكان فلسطينيين شرعيين وإلى أشخاص عرب "مُهجرين داخلياً"(18).

وقد شهد مواطنو "إسرائيل" الفلسطينيون أيضاً تطوراتٍ إيجابيةً خلال مرحلة ما بعد الحرب (تعليم مجاني- حرية التعبير وتأسيس الجمعيات الأهلية والفكرية)؛ إلا أنهم عانوا كثيراً بسبب حرمانهم من الأراضي. وبالنتيجة، ونظراً لتطور البنية الاقتصادية بفضل التكنولوجيات الحديثة، مال هؤلاء المواطنون إلى التحول من "أفراد مجتمعٍ زراعي" إلى "عمّال" مستخدمين في ثلاثة قطاعات اقتصادية "إسرائيلية" رئيسة هي: الزراعة والبناء والخدمات. وظلت أحوالهم كما هي، حتى أيامنا هذه.

وفي المضمار السياسي، كان المجتمع العربي "الإسرائيلي" يتحرك بكل حذرٍ، لكن، على غير هدىً، وبعيداً عن غالبية قادته التقليديين. وعلى العموم، لم يكن هذا المجتمع قادراً على ترجمة "وزنه الديموغرافي" إلى قوةٍ سياسية(19). وأثناء الانتخابات، كان حزب "الماباي"" (العمل، لاحقاً) يسعى إلى تشكيل "لوائح تابعة" (تدور في فلكه)، وسط المجتمع العربي، على أساس الانتماءات العائلية والعشائرية، وانسجاماً مع شبكات إجارةٍ ومزابنة محددة(20). وهذا النشاط كان يتضارب –على الدوام- مع سعي "الإسرائيليين العرب" إلى الاعتماد على هيكلياتهم التقليدية في مواجهة التغيير الراديكالي. وسرعان ما أصبح "الماباي" الوسيلة الرئيسة لحصول المواطنين "الإسرائيليين العرب" على المساعدات المادية؛ فكان مرشحوه يحصدون أصوات هؤلاء المواطنين في كل انتخابات. كما أن حزب "ماكي" الشيوعي (الخيار الوحيد غير الصهيوني –وإن كان يهودياً- منذ تأسيسه في عام 1949 حتى انفراقه في عام 1965) اجتذب عدداً كبيراً من العرب الأكثر نشاطاً على الحلبة السياسية(21). فقد كان هذا الحزب يعارض مصادرة الأراضي، ويطالب بإنهاء الحكم العسكري وبوقف السياسات الرسمية الأخرى التي تسبب المعاناة للمجتمع العربي، فيجني -بهذه المواقف- ربع أصوات الناخبين العرب تقريباً(22). وأما الأحزاب العربية الوطنية التي عملت في العلن (كحزب الأرض) فبقيت محرومة من المشاركة في العملية الانتخابية(23).

 

أ- بعد عام 1967: طمس الخطوط الفاصلة ... إيجاد صوت

يمكن القول إن حرب عام 1967 (وما أعقبها من احتلال للضفة الغربية وقطاع غزة) كانت نقطة تحول أخرى بالنسبة إلى المواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل". إذ أن تجديد التواصل مع الفلسطينيين الآخرين، بعد تسعة عشر عاماً من الانقطاع (وخاصة في الضفة الغربية)، حيث تزداد العلاقات نتيجة للصلات العائلية والقرب الجغرافي)، وكان مدعاةً لإجراء عملية تقييم أخرى من المنظورية السياسية(24)وفي ظل الاحتلال،بعيداً عن الحكم العسكري الذي كان قد رفع عنهم، وبعد وصْل قراهم بشبكة التيار الكهربائي، أصبح هؤلاء أكثر انفتاحاً على إعلام العرب، والأدب العربي؛ وعلى النزعة الوطنية الفلسطينية، وأيضاً على النزعات العربية الأكثر شمولية، كالشيوعية. وصار سكان الأراضي المحتلة يزورون البلدات "الإسرائيلية العربية" الأخرى؛ وسافر عددٌ قليلٌ من أبنائهم للدراسة في جامعات الضفة الغربية وبلدان العالم الأخرى. وقد ساعدت الأحداث الإقليمية على تسييس هذا المجتمع؛ وخاصة منها الغزو "الإسرائيلي" للبنان في عام 1982، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول 1987.

والحقيقة أن العملية التعبوية السياسية جسدت نفسها بطرق عدة، فالولاء الذي كان يحمله الناخبون انتقل من جهة الأحزاب "الإسرائيلية" السائدة إلى جهة المنظمات العربية التي راحت تعمل في العلن. وفي عام 1965، انفرق حزب "ماكي"؛ وسارع حزب "راكاح" إلى تكريس ذاته "حزباً عربياً أولاً" (في ظاهر الأمر)(25)، واحتل موقعاً مهيمناً وسط الحيز السياسي العربي في "إسرائيل". وبعد أن نال 24% من أصوات "الإسرائيليين العرب" في أول مشاركة انتخابية له (عام 1965)، زاد "راكاح" في نطاق شعبيته، وحصل على 37% من هذه الأصوات في انتخابات عام 1973؛ ليحصد بعد ذلك (عام 1977) نصف أصوات الناخبين "الإسرائيليين العرب"، نتيجة لتحالفه مع الجماعات السياسية اليهودية والعربية، الأصغر حجماً، مثل "حاداش" (الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة)(26) وبذلك، أصبح "راكاح" أول هيكلٍ سياسي وطني حقيقي يمثل المجتمع العربي في "إسرائيل". وساعد كذلك في إيجاد شكلٍ من أشكال المؤسسات المجتمعية "الإسرائيلية العربية" الوطنية شبه المستقلة(27). وكان عدد من هذه المؤسسات بمثابة "منظمات واجهة" لراكاح، الذي ساعد على توليد روحية جديدة من الفعالية السياسية، في نفس الوقت الذي كان فيه يجتذب جيلاً من القادة الشبان(28)، ويزودهم بأدواتٍ أكثر فعاليةً في المواجهة الخصامية والمعارضة العنيفة، إزاء سياسات الدولة(29). وفي الثلاثين من آذار/1976، عمدت السلطات "الإسرائيلية" إلى مصادرة أراضٍ عربية في الشمال، وكانت غالبية هذه الأراضي تابعة لقرية سخنين؛ فأثار ذلك موجة من الاحتجاجات وسط المجتمع "العربي الإسرائيلي"، الذي أعلن الإضراب العام، وكان على راس المحتجين عددٌ من ناشطي "راكاح". وأثناء المواجهات العنيفة التي دارت آنذاك، قُتل سبعة "إسرائيليين عرب". ويمكن القول إن تلك الحادثة (التي يُحيي "الإسرائيليون العرب" ذكراها كل سنة بالتظاهرات والاحتجاجات، تحت عنوان "بوم الأرض") كانت بمثابة نقطة تحولٍ في عملية تسييس المجتمع العربي وعلى صعيد العلاقة المجتمعية الخصامية بين العرب و"الإسرائيليين".

وفي عام 1982، بذل حزب راكاح مساعي ناجحةً أسفرت عن تشكيل "اللجنة العليا لمتابعة شؤون العرب في "إسرائيل". وهذه اللجنة، التي تضم كل مدراء السلطات المحلية العربية وممثلين عن كل القوى السياسية في المجتمع العربي، تلعب دوراً رئيساً في تنسيق أنشطة ومشاريع هذا المجتمع؛ بما فيها الإضرابات، وإعداد العرائض، وإحياء المناسبات المهمة، وصوغ المواقف حيال الأحداث السياسية الوطنية والصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني. وأثناء احتجاجات تشرين الأول/2000، ساهم الحزب أولاً في تنظيم التظاهرات، ثم في تهدئة الأوضاع، مبرزاً دوره كوسيط بين المجتمع والسلطات "الإسرائيلية".

حتى أواسط الثمانينيات، كان راكاح الحزب المهيمن دون منازع. لكن، في عام 1984، دخلت البرلمان مجموعةٌ سياسيةٌ عربيةٌ أخرى، هي "القائمة التقدمية من أجل السلام"، التي ضمت يهوداً، وكانت برئاسة عربي، وعكست ملامحها العامة "هوية فلسطينية" واضحة. وقد شهدت الأعوام اللاحقة ظهور العديد من الأحزاب "الإسرائيلية" العربية الأخرى، التي كان أبرزها "المجتمع الوطني الديموقراطي-بلد" و"الحركة الإسلامية". فأدى ذلك إلى تحولٍ لصالح الأحزاب العربية في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وإلى زيادةٍ في نسبة التمثيل السياسي العربي(30). وقد استفادت الأحزاب العربية من التغيرات الطارئة على المشهد السياسي "الإسرائيلي". إذ أن حزب العمل، الذي كان مهيمناً من قبل، ما برح يتقهقر أمام الليكود؛ إلى درجة أن الفترة الممتدة بين عامي 1977 و1992 لم تشهد إلا صنفين من الحكومات "الإسرائيلية": حكومات ائتلافية يقودها الليكوديون، وحكومات وحدةٍ وطنيةٍ لم تخل من الزعزعة والاضطراب. وفي الوقت نفسه، كان الليكود والعمل يتقهقران أمام الأحزاب الأخرى الأقل شأناً، التي عززت مواقعها مع مرور الوقت. وكان الليكود يبحث عن تحالفات مع الأحزاب الدينية واليمينية؛ في حين كان العمل يسعى إلى التحالف مع الأحزاب العربية وأحزاب اليسار.

 

ب- الحقبة الذهبية: إتفاق أوسلو وعهد رابين كرئيس للوزراء

في عام 1992، شكل رابين حكومته الائتلافية التي ضمت حزب ميريتز اليساري وحزب شاس الديني المتشدد، إلى جانب حزب العمل؛ وبعد عامٍ واحدٍ، انطلقت عملية السلام من أوسلو، فكان هذان الحدثان بمثابة نقطتي تحول بالغتيْ الأهمية. إذ أن حكومة رابين وضعت حداً لخمس عشرة سنةً من حكم الإدارات الائتلافية الليكودية أو الاتحادية الوطنية، التي كان خلالها دور البرلمانيين "الإسرائيليين العرب" مهمشاً للغاية. وصحيح أن حكومة رابين الائتلافية لم تضم ممثلين عرباً؛ غير أن أعضاء الكنيست "الإسرائيليين العرب" الخمسة قدّموا دعماً حيوياً ساعدها على الصمود(31). بالإضافة إلى ذلك، كانت هذه الحكومة تضم عدداً من أعضاء العمل وميريتز الشبان، الذين حملوا منظوريةً مختلفةً إزاء موضوع التعاطي مع عرب "إسرائيل". وللمرة الأولى في التاريخ "الإسرائيلي"، دخلت الأحزاب العربية في اتفاقيات ائتلافية، وكان دعمها حيوياً بالنسبة إلى الحكومة، لجهة تمكينها من المحافظة على أكثرية برلمانية فاعلة(32), وهذا ما أكسب "العرب الإسرائيليين" شرعية ونفوذاً غير مسبوقين، وفتح أمامهم نافذة لتحقيق مكاسب سياسيةٍ ملموسة. ومن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال هذه الفترة: توفير فرص الاستطباب للعرب على قدم المساواة مع اليهود- فتح ثمان وأربعين عيادة صحية عائلية في المناطق العربية-الإنصاف في صرف الإعانات المخصصة للأولاد (عن طريق إلغاء الامتيازات الإضافية الممنوحة لعوائل الشبان الذين خدموا في جيش الدفاع "الإسرائيلي" –زيادة التمثيل العربي في قطاع الخدمات المدنية- تحقيق قدرٍ أكبر من المساواة على صعيد موازنات المجالس البلدية.

وقد شهد عقد التسعينيات أيضاً تكثيفاً للمساعي التي بذلها مواطنون يهود ومنظمات غير حكومية، من أجل تعزيز المساواة بين المجتمعين، ومحاربة التمييز العنصري، وتحسين موقعية المنظمات غير الحكومية في الوسط العربي(33). إذ أن المجتمع المدني العربي كاد يزول نهائياً بعد إقامة دولة "إسرائيل"؛ ولم نجد له آثاراً ملموسة إلا بعد رفع الأحكام العرفية في عام 1966. غير أن الإنبعاث الحقيقي جاء في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ليعكس تنبهاً متزايداً إلى أهمية العمل الشبكي/الجماعي –على كافة المستويات المحلية والوطنية (القطرية) والعالمية- باتجاه تحصين الحقوق المدنية في مجالات التخطيط وتحديد ملكيات الأراضي والإسكان والتعليم والرعاية الصحية وإتاحة الفرص أمام التبادل الثقافي(34).

والذي ساهم في تحسين العلاقات، أيضاً، إطلاق عملية السلام من أوسلو والاعتراف المتبادل بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، فالعملية السلمية زادت في حدّة الخلافات السياسية بين العمل والليكود، وجعلت من الصعب تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية. وبالنظر إلى النظام الانتخابي "الإسرائيلي"، كان في ذلك فائدة للأحزاب الصغيرة (اليهودية الدينية المتشددة منها؛ والعربية أيضاً)، التي غدت أكثر أهمية في نظر قادة حزب العمل، والتي أضحى التعاون معها أمراً مطلوباً ومؤثراً. وبدورها حملت عملية أوسلو مزيداً من التفاؤل إلى المواطنين اليهود والعرب، لجهة العلاقات المتبادلة بينهم. كما أن الاتفاق الذي لم يُشِرْ إلى عرب "إسرائيل"، أطلق رسالةً مفادها أن منظمة التحرير الفلسطينية ما عادت تدّعي تمثيلهم، وأن تقرير مصيرهم سيتم في إطار الدولة "الإسرائيلية"(35). ومن جانبهم، يصف الناشطون السياسيون العرب (من كل المشارب)، والنواب العرب في الكنيست، سنوات (عهد) رابين بأنها كانت "الذروة" في حيز العلاقات بين العرب واليهود(36).

لكن التطورات الأخرى لم تكن على هذا المستوى من الإيجابية. لأن اتفاق أوسلو استقطب السياسات "الإسرائيلية" اليهودية بطريقةٍ أثرت سلباً على العلاقات بين المجتمعين. واتهم الأخصام حكومة رابين بأنها كانت تفتقر إلى "التفويض اليهودي"، لأنها اعتمدت -إلى حدّ ما- على تأييد الأعضاء العرب في الكنيست. كما أن مرجوحية قيام دولةٍ فلسطينية كشفت عن وجود مزيدٍ من الشقاقات. وتعزز إزاء ذلك الرأي القائل بضرورة تحصين وتدعيم الهوية اليهودية لـ"إسرائيل"، في حين تراجعت الفكرة التي تنادي بالتعاطف مع حقوق الأقلية الفلسطينية؛ وبرز من يقول أنه "... إذا كانت الأراضي المحتلة ستعطى للفلسطينيين؛ فيجب أن تكون "إسرائيل" لليهود(37)..." وبالنسبة إلى الوسط "العربي الإسرائيلي"، كان اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بانسحابها من تمثيل مصالح هذا الوسط، في ضوء احتمال إنهاء الصراع بين الجانبين، مدعاة للتركيز على المصالح والمطالب والأوضاع الخاصة بالمواطنين العرب داخل "إسرائيل". واشتكى البعض من أن الحكومة"الإسرائيلية" تبدو مهتمةً بالمصالحة مع "جيرانها" الفلسطينيين، أكثر من اهتمامها بإصلاح أوضاع "مواطنيها" الفلسطينيين(38). والأهم من ذلك أن المواضيع الشائكة، المتروكة منذ عام 1948، وأبرزها موضوع اللاجئين ومشكلة الأراضي المصادرة، عادت لتطفو على السطح من جديد. وفي الوقت ذاته، علت الأصوات التي تطالب "إسرائيل" بأن تكون "دولة لجميع مواطنيها" (محفزة على التشكيك في الطبيعة اليهودية للدولة) وبأن يكون هناك اعترافٌ رسميٌ صريحٌ بالمجتمع "الإسرائيلي" العربي كأقليةٍ وطنية.

 

ج- سنوات نتنياهو وباراك

أمسى تغير المزاج العام أكثر وضوحاً بعد اغتيال رابين (في تشرين الثاني/1995)، وبعد فوز بنيامين نتنياهو الانتخابي (في أيار/1996). وبادر بعض نواب الكنيست اليهود إلى المطالبة بجعل أي استفتاءٍ على موضوع الأرض مشروطاً بوقوف أكثريةٍ "يهودية" غالبةٍ وراءه. وبالنتيجة، بدأت تتراجع بعض التحسينات السوسيو-إقتصادية التي كان المجتمع العربي قد عاش تجربتها. وهو ما عبر عنه جعفر فرح، رئيس (منظمة) "المساواة" (المنظمة غير الحكومية التي تدافع عن حقوق أبناء المجتمع "العربي الإسرائيلي"). حينما قال "... سياسة التمييز العنصري التي تمارسها الحكومة "الإسرائيلية" هي سياسةٌ مدروسةٌ ومعهودةٌ منذ عقود ... والخطوة الوحيدة في الاتجاه الصحيح هي تلك التي قضت بضم القرى العربية إلى قائمة الأولويات الوطنية في ظل حكومة رابين ... لكن أول عملٍ قامت به حكومة نتنياهو كان إلغاء هذا المشروع(39).

وقد كان للنظام الانتخابي المُستحدث في عام 1996 عددٌ من الارتدادات الملحوظة. وبدل إجراء عملية انتخاب وحيدة، أصبح "الإسرائيليون" يجرون انتخابات منفصلة لرئاسة الوزراء وللوائح الأحزاب البرلمانية. وقد أعطى هذا قوة جديدة للأحزاب الفئوية (أو الطائفية) الصغيرة، بما فيها الأحزاب العربية. وفي عام 1996، انتخب 62.5% من الفلسطينيين مواطني "إسرائيل" لصالح اللوائح العربية، ثم ارتفعت هذه النسبة إلى 78% في عام 1999، وإلى 80% في عام 2003، على الرغم من العودة إلى نظام الانتخابات الواحدة. وقد شكل ذلك نقطة تحولٍ على صعيد السياسات العربية. فالمنافسة على الأصوات أصبحت أشدّ، والاحزاب التي تنافست في انتخابات عام 1996 (الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، و"التجمع الوطني الديموقراطي"، و"الأحزاب الإسلامية الأخرى، على وجه الخصوص") إنما تنافست ساعيةً إلى تمييز نفسها عن غيرها من الأحزاب بما أطلقته من رسائل راديكالية وقتالية. وحسب ما قاله أسعد غانم في هذا الشأن، "... كانت التعددية السياسية المتزايدة "مدمرة" لقدرة المجتمع (العربي) على الوقوف وراء رسالةٍ سياسيةٍ واضحةٍ وموحدةٍ ... ومن الناحية العملية، سبب ذلك ما يشبه الشلل للمؤسسات المجتمعية/الأهلية الوطنية التي تم بناؤها على مدى عقودٍ من الزمن"(40)...

وبسبب استيائهم من سياسات حكومة نتنياهو، تحشّد "العرب الإسرائيليون" وراء إيهود باراك في انتخابات عام 1999. ومن الواضح أن الشعار الانتخابي الذي رفعه الأخير "... دولةٌ للجميع ..." كان بمثابة صدىً لصوت المجتمع العربي الذي يطالب "... بدولةٍ لكل المواطنين"... والنتيجة أن حوالي 95% من الناخبين "العرب الإسرائيليين" اقترعوا لصالح باراك، الذي حقق انتصاراً حاسماً.

لكن عهد باراك بدأ بوعودٍ عظيمةٍ، وانتهى بخيبة أملٍ واستياء وأعمال عنف. وخوفاً من الإضرار بعملية السلام مع سوريا والفلسطينيين، جعل باراك كل اهتمامه منصباً على هذه العملية، ورغب بالابتعاد عن اتخاذ أية خطواتٍ محليةٍ محفوفةٍ بالمجازفة أو الخطر. وسعى إلى بناء ائتلاف يمكنه من تمرير اتفاقات السلام، فعمل على تشكيل حكومة يسارية/يمينية/دينية واسعة الطيف(41). ومن جانبها، كانت الأحزاب العربية الممثلة بعشرة أعضاء في الكنيست (أكبر عدد حتى الآن) تأمل في الاستفادة من ترتيبات 1992-1996 (آليات التشاور- تبادل التأييد للالتزامات الحكومية الموقعة- دعم ما يُرى فيه صالح من القرارات السياسية ومشاريع توزيع الموارد). وحسب بعض المشرعين والقادة السياسيين العرب، سعى باراك –بصورةٍ مدروسة- إلى إقصاء القوى التي ساهمت في تحقيق الفوز الانتخابي له، وإسقاط صفة الشرعية عنها. والحقيقة أن العلاقات بين المجتمعين (العربي واليهودي) شهدت تراجعاً كبيراً لم تعوضه حقيقة أن وزراء الحكومة بذلوا مساعي فردية من أجل تلبية احتياجات المجتمع العربي للتعاطي مع ممثليه في الكنيست(42).

وردّ مواطنو "إسرائيل الفلسطينيون" بغضبٍ على الطريقة التي اعتمدتها حكومة باراك في التعامل معهم خلال الفترة الممتدة بين عامي 1999-2001 (عهد باراك القصير). وحسب عضو الكنيست محمد بركه، زعيم الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة/"حاداش"، "... كان باراك يتعاطى مع الأعضاء العرب في الكنيست كما لو كان حاكماً عسكرياً، ولم يتعاط معهم كرئيسٍ للوزراء ... وكان يتبنى النزعات الأكثر سلبيةً في المعسكر الصهيوني، واضعاً إيّانا جميعاً على مسارٍ محفوف بالمشاكل"(43).

وقد عبّر ثلاثة وزراء سابقين في حكومة باراك عن وجهة نظر مشابهةٍ، وإن كان بلهجةٍ ألطف(44). وفي أيلول/2003، خلص تقرير لجنة أور [ Or Report] (اللجنة التي شكلت رداً على صدامات تشرين الأول/2000) إلى اعتبار أن باراك أخطأ لأنه "... لم يكرس ما يكفي من الجهود والطاقات والتفكير لمعالجة موضوع ذي أهمية استراتيجية بالنسبة إلى دولة "إسرائيل" ومواطنيها"(45).

وبعد دفعهم إلى هامش الحلبة السياسية، ردّ أعضاء الكنيست العرب بشن هجماتٍ معاديةٍ على سياسات الدولة؛ وخاصة فيما يتعلق بقضايا الأراضي والممتلكات، فانتقد "تقرير أور" قادة المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل" على تبنيهم "استراتيجيا التهديد"(46) وفي السادس عشر من أيلول/2000، أي قبل اقل من عشرة ايام من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، قال الشيخ رائد صلاح (الجناح الشمالي للحركة الإسلامية) في إحدى التظاهرات، "... سوف لن نتخلى ولو عن حجرٍ واحدٍ من حجارة تلك الحضرة المقدسة (الحرم الشريف، بما فيه المسجد الأقصى) ... فمن يبع الأقصى ... يبع القدس..."(47).

وفي شباط/2001، قامت اللجنة باستدعاء عبد الملك الدهامشة (العضو العربي في الكنيست)، ووجهت إليه انتقادات بسبب إطلاقه "... رسائل تؤيد العنف"(48) وعشية اندلاع الانتفاضة، هدد الدهامشة قائلاً: "... سوف نكسر أيدي وأرجل الشرطيين الذين يدمرون منازل العرب ... الجمهور العربي يمر في مرحلةٍ عصيبة ... ونحن على عتبة انتفاضةٍ شعبية جماهيريةٍ جديدةٍ لعرب إسرائيل"(49).

 

د- الانتفاضة:

في ظل الغضب العارم الذي ساد المجتمع العربي، قام زعيم المعارضة (آنذاك)، أرييل شارون، بزيارةٍ إلى الحرم الشريف، اندلعت إثر تلك الزيارة الانتفاضة الفلسطينية (أواخر أيلول/2000)، و -على الفور- ضجت أجواء "العرب الإسرائيليين" باحتجاجات صاخبة. ودعت "اللجنة العليا للمتابعة" إلى إضراب عام وتظاهرات داخل "إسرائيل" في الأول من تشرين الأول. فسارع "الإسرائيليون العرب" إلى ممارسة أعمال العنف والشغب، التي "... لم يسبق لها نظير" ... حسب تعبير أحد الأعضاء في لجنة أور(50). وحصلت صدامات بين رجال الشرطة و"الإسرائيليين العرب" في العديد من القرى والبلدات العربية، بما فيها يافا وعرّابة والناصرة وأم الفحم، وقتل نتيجة لهذه الصدامات شخصان. وفي اليوم التالي، أشعلت مسيرة التشييع فتيل صداماتٍ جديدة، وعمت أجواء العنف مختلف أرجاء المجتمع العربي. فسقط نتيجةً لذلك ستة قتلى من "الإسرائيليين العرب" في الناصرة وسخنين وعرّابة والجتّ؛ وقتل "إسرائيلي" يهودي واحد.

وقد استمر ت الإضرابات بصورة متقطعة طيلة أكثر من أسبوع، وقتل نتيجتها ثلاثة عشر عربياً (بمن فيهم فلسطيني من قطاع غزة)، وجرح العشرات، لأن رجال الشرطة والقناصين كانوا يطلقون الذخائر الحية والرصاص الفولاذي المغلف بالمطاط وقنابل الغاز المسيل للدموع. وفضلاً عن ذلك، جرى توقيف أكثر من ألف متظاهرٍ عربي، بينهم العديد من الفتيان القاصرين(51). وفي معرض وصفهم لتلك الأحداث، أورد أعضاء "لجنة أور" أن المتظاهرين واصلوا الاحتجاج سلمياً، لكن الاضطرابات الرئيسة حصلت بعد ذلك، على الطرق "الإسرائيلية" العامة، حيث صعّد هؤلاء المتظاهرون ممارساتهم الاحتجاجية، ولم يعد بالإمكان بقاء ما يقومون به مجرد تظاهر. ومن جانبه، علق أحمد الطيبي (العضو العربي في الكنيست) قائلاً: " لا ينظرون إلينا على أننا متظاهرون ... بل على أننا أعداء ... وهم يعاملوننا على هذا الأساس ... وقبل أن يعتبرونا "مواطنين" ... بدأوا ينظرون إلينا "كعرب" ... المواطنون اليهود يتظاهرون ... لكنهم لا يتعرضون للقتل"...(52).

ولم تقتصر الصدامات على المواجهة بين العرب ورجال الشرطة فحسب، بل امتدت ايضاً لتشمل مواجهات بين المجتمعين العربي واليهودي، ما أدى إلى سقوط مزيدٍ من القتلى والجرحى العرب، وخصوصاً في الناصرة(53).

ورداً على ذلك، قام رئيس الوزراء بارك بخطواتٍ عدة، منها تخصيص حكومته مبلغ 986 مليون دولار لتنفيذ خطةٍ إنمائيةٍ للمجتمع العربي (على مدى سنوات)(54). وعودة عن قرارٍ سابق، أمر باراك بتشكيل لجنة تحقيق رسمية، برئاسة قاض المحكمة العليا ثيودور أور، بتفويضٍ يسمح لها بالتحقيق في أعمال العنف، وفي سلوك رجال الأمن "الإسرائيليين" والجهات المحرضة والمنظمة والمشاركة خصوصاً(55).

وفيما يلي الأسباب الرئيسة التي كانت وراء تلك الاحداث، حسب تقرير اللجنة إياها:

·    التمييز من جانب الحكومة "... إن تعاطي الحكومة مع القطاع العربي كان موسوماً بالتمييز والإهمال بالدرجة الأولى ... ومن الأدلة على حالة الكبت الموجودة: الفقر والبطالة وضيق مساحة الأراضي (التي يمكن الاستفادة منها) ... والمشاكل الخطيرة التي يعاني منها قطاع التعليم ... وحالة التردي واللافعالية التي وصلت إليها البنية التحتية...".

·    سلوك الشرطة ... انتقدت اللجنة استخدام رجال الشرطة الأساليب الفتاكة في قمع أعمال الشغب، كما انتقدت سلوك القوى الأمنية حيال الأقلية العربية: "... يجب أن يدرك رجال الشرطة أن القطاع العربي في "إسرائيل" ليس عدواً ... ويجب عدم التعاطي معه على هذا الأساس"(56).

·        تنامي النزعة الراديكالية داخل القطاع العربي ...

 

"... السبب الآخر، كان تنامي النزعة الراديكالية الآيديولوجية-السياسية وسط القطاع العربي"... وقد عبر ذلك عن نفسه "من خلال دعم النضال الفلسطيني ضد الدولة "الإسرائيلية" والانخراط فيه"... ومن الواضح أن هناك تراجعاً في مستوى الولاء للدولة المركزية، إذ أنه تم إنشاء مؤسسات موازية ومنفصلة (شبكات الخدمة الاجتماعية- نظام الإنعاش الاجتماعي- المدارس...)، وما زالت المعارضة مستمرة من جانب بعض الفصائل السياسية لفكرة ترشيح منافسين للمشاركة في الكنيست. وفي الوقت نفسه، أدانت اللجنة القيادة "الإسرائيلية"-العربية لرفضها "... إدراك أن أعمال الشغب العنيفة ... والمواقف المؤيدة للنشاط المسلح ضد الدولة ... تشكل خطراً على مواطني الدولة اليهود، وتلحق الضرر الكبير بالنسيج الحساس للعلاقات اليهودية- العربية في إسرائيل".

وبشكل عام، كان موقع المجتمع العربي مرحباً بالتقرير، لكن، مع التحفظ حيال سعيه إلى إقامة "توازن" بين "انتقاد الدولة" و"انتقاد القيادة العربية"(57). إلا أن البعض اعتبره "مجرد تمويه" ... كما عبّرت أسر الشبان الذين سقطوا في المواجهات.

وما زال المراقبون يستشعرون الآثار التي خلفتها أحداث أيلول/2000، في ظل التردي العام الذي تعاني منه العلاقات بين الدولة والأقلية العربية.فقد عمد معظم مواطني "إسرائيل الفلسطينيين" إلى مقاطعة انتخابات رئاسة الوزراء التي حقق فيها أرييل شارون فوزاً ساحقاً (شباط/2001)(58). لكن المشاركة في الانتخابات البرلمانية سجلت نسبة معتبرةً في كانون الثاني/2003 (حوالي 64%)، على الرغم من أنها لم تصل إلى المستويات المسجلة سابقاً (كما حال نسبة المشاركين من "الإسرائيليين" اليهود). وفي هذه الانتخابات، اقترع نحو ثمانين بالمئة من "العرب الإسرائيليين" لصالح الأحزاب العربية. وبالنسبة إلى جعفر فرح (مدير منظمة المساواة)، "... هناك وضعٌ خطيرٌ يتم فيه تعطيل أو تقويض المساعي الرامية إلى إزالة الإحباط الشعبي ... وذلك في ظل عدم كفاية التمثيل البرلماني، وتراجع نسبة المشاركين في الانتخابات، وإخفاق المجالس المحلية، وإغلاق مؤسسات الحركة الإسلامية"(59) والذي جعل الأحداث أكثر أهمية في نظر العرب "الإسرائيليين" هو أنها حصلت في عهد حكومةٍ يقودها حزب العمل:

"... الحركة التي كان من المُفترض أن تدافع عن حقوقنا هي نفسها التي كانت تقتلنا ... ولو كان اليمين على رأس السلطة، لكانت حركة السلام تتظاهر معنا اليوم ضده .. اليسار يلومنا، لا لأننا نزلنا إلى الشوارع، بل لأننا فعلنا ذلك في عهده ... كانوا يقولون لنا: "أنتم تحرجوننا ... أنتم تهددون مصالحنا"... ... لقد عبّروا عن تناقضٍ ذاتي يفوق الوصف ... وهذا غير واردٍ عند ... فعلى الأقل، ينظر اليمينيون إلى الأمور كما هي"(60).

وفي أيار/2002، أصدر الكنيست قانونين اثنين يقيدان حرية التعبير السياسي.الأول يمنع ترشيح أي حزبٍ أو فردٍ "يدعم (قولاً أو فعلاً) الكفاح المسلح لأعداء الدولة أو المنظمات الإرهابية"... والثاني يفرض عقوبات صارمة على كل من يدعم العنف "ضد إسرائيل"(61). وأثناء حملة عام 2003 الانتخابية، بُذلت محاولاتٌ فاشلةٌ لمنع الأحزاب السياسية العربية والمرشحين السياسيين العرب من المشاركة، وكانت المحاولات تركز على "التجمع الوطني الديموقراطي- بلد"، وعلى زعيمه عزمي بشارة، وفي الوقت نفسه، كانت حكومتا شارون تضمان أحزاباً ووزراء يؤيدون فكرة نقل السكان [Transfer]. وحسب تعبير شوقي الخطيب، الرئيس الحالي للجنة العليا للمتابعة، "إنها من أصعب الفترات التي عرفها مجتمعنا"(62).

والحقيقة أن الإحساس بالاستبعاد لدى مواطني "إسرائيل الفلسطينيين" كان منعكساً أيضاً من خلال احساس الجانب اليهودي بأن " الإسرائيليين العرب" يفقدون ولاءهم لـ"إسرائيل" يوماً بعد يوم. والذي ساهم في تقوية هذا الإحساس أن المواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل" كانوا مدانين بالمشاركة في عملياتٍ معاديةٍ للدولة "الإسرائيلية" وبإقامة علاقاتٍ مع حماس وحزب الله (وهو ما سنناقشه أدناه).

وصحيحٌ أننا نخطئ إذا نظرنا إلى أحداث تشرين الأول/2000 على أنها انعكاسٌ دقيقٌ للمزاج العربي العام؛ لكن، من الخطأ أيضاً أن نعتبر هذه الأحداث مجرد ظاهرة عابرة. لأن الأحداث إياها دارت بزخم الأحداث التي شهدتها الأراضي المحتلة، وحصلت نتيجة لتاريخ طويل من التمييز والإهمال اللذين عانى منهما "العرب الإسرائيليون" سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأعقبت صدماتٍ أشعلتها مصادرة الأراضي، وكانت مصدر قلق بالنسبة إلى أجهزة الأمن "الإسرائيلية".

 وحتى الآن، مازالت تلك الأحداث مبعثاً للقلق، وما زالت أسبابها المادية قائمة أيضاً، فما حصل في تشرين الأول/2000 كان إنذاراً خطيراً ينبه إلى حقيقة أن "استدماج الأقلية الإسرائيلية-العربية آل إلى الفشل".

 

III- تمييز وإقصاءٌ واستياء:

تُعرّف "إسرائيل" نفسها بأنها دولة ديموقراطية لشعبها اليهودي؛ وفي هذا الصدد، أورد إعلان الاستقلال "الإسرائيلي" أنه تم "... تأسيس دولةٍ يهودية على أرض إسرائيل"... وأن هذه الدولة "... فتحت أبوابها للهجرة اليهودية، من أجل تجميع المنفيين، وسوف تقوم بتنمية البلد، لما فيه صالح جميع سكانه، وتضمن مساواة كاملةً على صعيد الحقوق الاجتماعية والسياسية، لكل سكانها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجنسية"...

ومنذ تأسيسها، تواجه "إسرائيل" التحدي الذي يحتم عليها أن تكون "ديموقراطية" و"يهودية" في آن. لكن، في مآل الأمر، يبقى الموضوع موضوع ممارسة عملية على أرض الواقع، وليس موضوع تعريف بالعبارات والمصطلحات، ولا يهم أن "تعرّف" "إسرائيل" نفسها بالدولة اليهودية (وهو تعريفٌ مثيرٌ للجدل)؛ ولا أن "تقول" أنها تعامل مواطنيها باحترام وتكريم، على قدم المساواة، فمعظم مواطني "إسرائيل الفلسطينيين يجمعون على أن دولتهم لم تف بالوعد. وفي هذا الصدد، يقول عضو الكنيست العربي أحمد الطيبي أن "... إسرائيل ديموقراطية مع مواطنيها اليهود ... ويهودية مع مواطنيها العرب"(63).

وصحيح أن العرب في "إسرائيل" يتمتعون بحقوق سياسية لا مثيل لها في دول المنطقة، إلا أنهم يعانون من الغبن على أصعدة ثلاثة يكتنفها المجتمع الديموقراطي، وهي: توزيع الموارد، وضمان الحقوق، والحرص على سلامة وكفاية التمثيل. وهنا، يقول إيال بنفينيستي (أستاذ مادة القانون في الجامعة العبرية) ان "الأقلية العربية تعاني من التمييز (ضدها) على امتداد جبهات عدة ... في حين أن المجتمعات اليهودية المتدينة عموماً، والمتشددة خصوصاً، تتمتع بامتيازات على امتداد عدة جبهات ... وهاتان الحقيقتان واضحتان، ولا تحتاجان إلى دليل، بالنسبة إلى أي "إسرائيلي"(64)...

وعلى مدى الأعوام الماضية، واستناداً إلى القوانين الأساسية الأحد عشر، التي لها الاولوية على باقي التشريع، تمت صياغة عددٍ من "تدابير الحماية"، الدستورية الطراز، من أجل المحافظة على الحريات المدنية وحقوق الإنسان. وقد تولت تلك المهمة المحكمة العليا "الإسرائيلية"، مع الإشارة إلى أن هذه المؤسسة –شأنها كشأن الجهاز القضائي "الإسرائيلي" عموماً- هي من المؤسسات القليلة التي تتمتع بصدقيةٍ معتبرةٍ لدى المواطنين الفلسطينيين(65). وجديرٌ بالذكر أيضاً أن المحكمة أصدرت عدداً من الأحكام الاستثنائية المتعلقة "بالتمييز" و"التوزيع غير المتساوي للموازنة" و"عدم كفاية التمثيل السياسي". لكن، قلماً نجد ترجمةً لهذه الأحكام على أرض الواقع.

والذي زاد الأمر تعقيداً، هو تردي الوضع الاقتصادي العام في "إسرائيل". إذ أن المشاكل الاقتصادية اثّرت في أوضاع المجتمع "الإسرائيلي العربي"، الذي يعيش على الهامش -بل على أقصى الهامش. منذ البداية. والقطاعات التي يعمل فيها أبناء هذا المجتمع (البناء-الأعمال الخِدَاميَّة- المصانع...) هي القطاعات التي تعرضت للتقليص أو النقل (إلى خارج البلد)؛ ما جعل الأيدي العاملة فيها فائضة عن الحاجة. كما أن رجال الأعمال "الإسرائيليين"، الذين وجدوا أيد عاملةً أرخص، في وقتٍ زادت شكوكهم حيال العرب الذين أنجبتهم الانتفاضة، بدأوا ينجذبون نحو العمال الأجانب، مساهمين بذلك في خلق أزمةٍ بطالةٍ وسط "الإسرائيليين العرب" على المدى الطويل.

وإذا نظرنا إلى البيانات الاحصائية التالية نستخلص أهم فصول هذه الرواية:

d.  في عام2003، كان نحو 44.7% من الأسر "الإسرائيلية العربية" تحت خط الفقر، مقابل نسبة 20% من الأسر "الإسرائيلية" اليهودية(66).

e.   بين العامين 1975 و2000، شكلت الوحدات السكنية المبنية للسكان العرب نسبةً لا تزيد على 0.3 من إجمالي عدد الوحدات السكنية المبنية في البلد(67).

f.   من أصل الشرائح السكانية الثلاثين التي تُسجل فيها البطالة أعلى المعدلات، يضم المجتمع "العربي الإسرائيلي" سبعاً وعشرين شريحةً؛ منها الأربع عشرة شريحة التي سجلت المعدلات القياسية(68).

g.     معدل الدخل الساعي الإجمالي للمتكسب العربي الواحد يشكل نسبة 60% من الدخل الساعي للمتكسب اليهودي(69).

h.     6.1% فقط من موظفي الحكومة هم من المجتمع العربي. وهناك موظفٌ عربيٌ واحدٌ في وزارة الاتصالات؛ وآخر في وزارة الأمن العام، واثنان في وزارة البنى التحتية الوطنية(70).

i.       من أصل الأربعمئة وأربعة وثمانين قاضياً في المحاكم "الإسرائيلية"، هناك سبعة وعشرون قاضياً عربياً فقط(71).

j.   26% فقط من طلاب المرحلة الثانوية العرب يتابعون دراستهم، مقارنة بحوالي 46% من الطلاب الثانويين اليهود(72).

k.     لا يشكل الطلبة العرب أكثر من نسبة 9% من إجمالي عدد طلاب الجامعات في "إسرائيل"(73).

 

وبالطبع، لم يتأت ذلك كله عن الممارسات الموسومة بالتمييز العنصري. إذ أن الزيادة في معدل عدد أفراد الأسرة العربية تعني زيادةً في عدد القاصرين المعتمدين على المعيل. أضف إلى ذلك أن مشاركة المرأة في القوة العاملة تبقى متدنية نسبياً داخل المجتمع العربي (27% في عام 2001، مقارنةً بنحو 53.7% داخل المجتمع اليهودي)(74). لكن، على وجه الإجمال، يمكن القول: إن التمييز العنصري هو العامل الأساس؛ وإن حالة اللامساواة تمثل مصدراً للاستياء، والمشاحنة، والصراع الكامن.

ويشير "الإسرائيليون العرب" إلى حالاتٍ أخرى تتجلى فيها اللامساواة؛ ومنها: "قانون العودة" (1950)، الذي يعطي اليهود، على امتداد العالم، الحق في الهجرة والحصول على الجنسية "الإسرائيلية"، وتعديل عام 1970"، الذي يسمح للزوجات غير اليهوديات، المتزوجات من يهود، بالحصول على الجنسية "الإسرائيلية" (وهو حق غير ممنوحٍ لزوجات "الإسرائيليين" غير اليهود)(75)؛ والحقوق الممنوحة رسمياً للمؤسسات الصهيونية هي جزء من هيئات الدولة (بما فيها الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي)، لكنها تؤدي وظائف حكومية بحتة. فعلى سبيل المثال، يملك الصندوق القومي اليهودي حوالي عشرة بالمئة من أرض "إسرائيل"، ويمارس سلطة إدارية على هذه الأراضي. والتزاماً من جانبه بتعزيز الوجود اليهودي في "إسرائيل"، لا يقدم هذا الصندوق اية خدمات مباشرة إلى مواطني "إسرائيل الفلسطينيين".

ومن المواضيع المعقدة، موضوع الخدمة العسكرية، فالقانون لا يمنع العرب من الخدمة في قطعات الجيش؛ لكنه يخضع الذكور الدروز لخدمةٍ إلزامية، في حين يستطيع الذكور من باقي الفئات "العربية الإسرائيلية" أن يؤدوا الخدمة العسكرية تطوعاً. وفي الغالب، لا نجد عرباً مسلمين أو مسيحيين ينافسون على تأدية هذه الخدمة، فالأسباب سياسية، يرفض هؤلاء الخدمة في جيش الدفاع "الإسرائيلي" (حيث يرتب عليهم ذلك قتالاً ضد اخوانهم العرب). وبالنتيجة، قليلاً، أو نادراً ما نجد عربياً مسلماً أو مسيحياً يرغب في التطوع. لكن، هناك امتيازاتٌ وخدماتٌ مخصصةٌ لأسر الذين يخدمون في الجيش "الإسرائيلي" (منح مدرسية- وظائف في الإدارة العامة- مخصصات للأبناء...). وحسب التعديل الذي أدخل على قانون الضمان الوطني (في حزيران/2002)، وفضلاً عن اقتطاع 4% من مخصصات الأبناء، فرض هذا التعديل آليةً تقضي باقتطاع 20% من مخصصات العائلات التي ليس لها أقارب في الجيش، الأمر الذي أثر كثيراً على اوضاع "الإسرائيليين العرب"(76). ومن جهةٍ ثانية، نجد أن اليهود المتدينين المتشددين (المعفيين أساساً من الخدمة العسكرية الإلزامية) لم يتأثروا كثيراً بهذا التعديل، لأن المعونات تأتيهم عبر قنواتٍ أخرى (كوزارة الشؤون الدينية).

 

أ- الموارد

هناك حالات صارخة من انعدام التكافؤ على صعيد توزيع موارد الدولة. فعلى سبيل المثال، لم يحصل المجتمع "الإسرائيلي العربي" إلا على نسبة 4% من موازنة التنمية لعام 2004. ونجد العديد من حالات انعدام التكافؤ المشابهة في قطاعي التعليم والإسكان، وفي البرامج الثقافية والرياضية(77). ومن أجل إصلاح هكذا خلل، لا بد من تعزيز قدرة المجتمع العربي على التأثير في عملية صنع القرار السياسي، من جهة، والعمل على استدماج "الإسرائيليين العرب" في قطاع الخدمة المدنية وسواه من القطاعات العامة، من جهةٍ أخرى.

ولا نبالغ إذا قلنا إن مواطني "إسرائيل الفلسطينيين"، غير الممثلين على أعلى مستويات الإدارة(78)، غائبون تقريباً عن الشبكات الرسمية والأهلية التي تجمع ما تجمعه من السلطة والنفوذ(79). ولعل أنطق برهانٍ على ذلك هو ما نراه في حيز الترتيبات غير الحكومية، حيث يستغل المستوطنون والمتدينون المتشددون هذه الترتيبات في خدمة مصالحهم، ويؤثرون في القرارات المتعلقة بجدولة الموازنة وتوزيع الموارد. وبالمقابل، يسمح "الإسرائيليون العرب"- في مرحلةٍ متأخرة- بالقرارات التي تؤثر على مجتمعهم، ويعرفون أن هذه القرارات "تأخذ طريقها إلى التطبيق عبر القنوات البيروقراطية". وبشكل عام، ليس لأفراد هذا المجتمع أصدقاء في مواقع بارزةٍ داخل دوائر الخدمة العامة، ولا مدراء عامون سابقون يستطعيون الاعتماد عليهم في طلب خدمةٍ ما، وهم ليسوا جزءاً من "شبكة المحاربين القدامى"، ولا تربطهم علاقات متينة بمجتمع رجال الأعمال "المدعوم عند الدولة. أي أن "الإسرائيليين العرب لا يعرفون إلى من يلجأون ... وماذا يطلبون ... وكيف يجارون النظام"(80).

ويعاني مواطنو "إسرائيل الفلسطينيون" أيضاً من "التمييز الخفي" الذي يتم على صعيد بنود الموازنة. وهذا يشمل الامتيازات والهبات الممنوحة لأفراد عددٍ من المجتمعات المتدينة، ولسكان ما يطلق عليهم اسم "بلدات التطوير" أو "مناطق التنمية الخاصة"(81)، و"للمحاربين القدامى" (كما أوردنا من قبل).

وفي مسعىً يرمي إلى إزالة بعض حالات "اللامساواة"، أعلنت حكومة باراك في حزيران/2000 (كما أسلفنا) عن نيتها إطلاق خطةٍ لتحسين مستوى البنى التحتية للقطاع العربي، على مدى أربع سنوات. بكلفة 986 مليون دولار تقريباً(82). وقد حظيت هذه الخطة باهتمام على أعلى مستويات بعد أحداث تشرين الأول/2000. ورحب القادة "الإسرائيليون العرب" بها، على الرغم من أن بعض الساسة ومسؤولي المنظمات غير الحكومية انتقدوها لكونها غير كافية، واعتبروا أنها تفتقر إلى الدعم "الإسرائيلي" المطلوب. إلا أن تنفيذها كان مغلوطاً ومختلاً، فكانت النتائج غير مشجعةٍ على الإطلاق. حسب منظمة "سيكوي" (جمعية تعزيز المساواة المدنية في "إسرائيل")، طرأ انخفاضٌ معتبرٌ على قيمة الأموال العامة المخصصة للسكان العرب في مختلف الحقول، وقد سُجّل الانخفاض المذكور في عام2002(83). فظهر عجزٌ خطيرٌ في شتى المجالات، وأبرزها: مراكز التوظيف، ومشاريع الإسكان، وصيانة المواصلات (وكل المجالات التي تؤثر في عيش المواطنين العرب. وفي إحساسهم بأنهم ممثلون كجزء من المجتمع "الإسرائيلي" وحسب مهندس الخطة (الإنمائية)، بعزي هولزمان، الذي كان أبرز المشجعين على تنفيذها، تعود أسباب المشاكل والخلل في التطبيق إلى <... "ثقافة عدم الوفاء بالوعد" التي تسم النظام "الإسرائيلي" ... إنها ليست مؤامرة، بل سلسلة من مواضيع الخلل في التطبيق... كما أن وزارة المال تكره خطط التمويل التي تمتد عدة سنوات، ولهذا السبب، فهي لا تتعاون ... والعروض لا تنشر ... والعقود لا توقع ... والأموال لا توزع ... وفي مناسبات عدة، قالوا لي بلهجةٍ تصادميةٍ ... "لماذا تضيع وقتك عليهم؟ ... لن يقبلوا بنا على أية حال"...>(84).

وهكذا، في ظل هذه الحالة من تدني مستوى التمثيل الوطني، كان على المجتمع العربي أن يعتمد –بالدرجة الأولى- على مجالسه البلدية/المحلية، كقناةٍ رئيسة، ووحيدة للنشاط السياسي وممارسة النفوذ وتوزيع الخدمات. لكن المجالس البلدية تعاني من بلاءٍ خطيرٍ، هو "عدم الكفاية"؛ وغالبيتها لا تجبي الضرائب على قاعدة سليمة، وتفتقر إلى الأنظمة الاقتصادية الدينامية، والتخطيط الصناعي العصري، والاستثمارات المفيدة، والأراضي اللازمة لإطلاق المشاريع. ومع ذلك، هناك بعض اللوم الذي تحمله القيادة العربية. وفي هذا الصدد، يقول محمد أبو الهيجا (رئيس جمعية الأربعة) ان "... السياسيين العرب خيبوا آمال مجتمعهم ... ورؤساء البلديات مهتمون برواتبهم فقط ... وما يحرصون عليه هو أن ينتخبهم الناس مرة أخرى..."(85).

ومن جانبه، يتحدث دوبي غازيت (المدير العام لوزارة الداخلية) عن المجالس المحلية العربية، معدداً بعض الحالات الاستثنائية؛ فيقول ان "... قاعدة الانطلاق لدى هذه المجالس ضعيفة اقتصادياً ... وهي تفتقر إلى التنمية، والقدرة على الاستخدام وانتقاء الخيارات الصناعية؛ كما تعاني من ضعف أنظمة الجباية الضريبية وسوء الإدارة والمحاباة ... إلى حدٍّ يثير الاشمئزاز"(86).

ولهذا السبب تحاول المنظمات غير الحكومية أن تملأ الفراغ الذي أوجده ضعف هذه المجالس.

 

ب- الأرض والتخطيط

بالنسبة إلى مواطني "إسرائيل الفلسطينيين"، هناك العديد من أوجه التمييز المتعلقة بسياسة الأراضي، وأبرزها: مصادرة الممتلكات؛ وعدم الإنصاف في توزيع أراضي الدولة. ولعل هذين الوجهين يشكلان المصدر الرئيس للشقاق مع الدولة "الإسرائيلية"(87). وجديرٌ بالذكر هنا أن حوالي 93% من الأراضي مملوكٌ من قِبَل الدولة، ويجري استغلال هذه الأراضي وتطويرها عبر "مصلحة إدارة الأراضي في "إسرائيل". وقد تمت مصادرة غالبيتها من العرب. وبالنتيجة، لم يعد العرب (الذين يشكلون نسبة عشرين بالمئة من سكان البلد) يملكون إلا حوالي 3.5% من الأراضي. وعلى الرغم من أن عددهم تضاعف ست مراتٍ منذ عام 1948، يفقد العرب أراضيهم شيئاً فشيئاً ؛ في الوقت الذي يمنعهم القانون "الإسرائيلي" من شراء أو استئجار أية أراضٍ على امتداد نحو ثمانين بالمئة من مساحة أراضي الدولة(88).

وقد اعترفت المحكمة العليا "الإسرائيلية"، من خلال أحد الأحكام الصادرة عنها، بوجود سياسة التمييز، وبأن هذه السياسة تسود آلية وهيكلية صنع القرار. ففي عام1995، حاولت عائلة "كعدان" (العربية) شراء قطعة أرض في مستوطنة كاتزير التعاونية (موشاف) التي كانت قد أنشئت حديثاً، بتمويل من الصندوق القومي اليهودي، على أرضٍ للدولة. فرفضت جمعية كاتزير التعاونية بيع الأرض بحجة أن العائلة التي تريد شراءها ليست يهودية. ورداً على ذلك، قدمت عائلة كعدان طلباً للاستئناف لدى المحكمة العليا، على اعتبار أن المستوطنة شيدت على أرضٍ مخصصةٍ للصندوق القومي اليهودي، من قبل "مصلحة إدارة الأراضي الإسرائيلية"، أي من قبل هيئة رسميةٍ مكلفةٍ قانوناً بمعاملة كل المواطنين على قدم المساواة. وفي آذار/2000، أصدرت المحكمة قرارها لصالح العائلة العربية، غير أن جمعية كاتزير التعاونية مازالت (حتى تاريخ هذا التقرير) ترفض تنفيذ الحكم القضائي الصادر في هذه القضية(89).

وفي تموز/2002، دعمت الحكومة مشروع قرارٍ تقدم به حاييم دروكمان (عضو الكنيست الذي يتزعم الحزب الديني القومي) يقضي بتجاهل حكم المحكمة، عن طريق منع تسليم أراضي الدولة لغير اليهود.

وإن كانت هذه القضية تدل على شيء -علاوةً على حقيقة أن مواطني "إسرائيل الفلسطينيين" يعجزون عن شراء أراضٍ ضمن المناطق اليهودية- فهو أنه لا توجد أية هيئةٍ رسميةٍ "إسرائيلية" مكلفةٍ بتطوير وتنمية القرى والبلدات العربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الهيئة المسؤولة عن التخطيط السياسي وصنع القرارات داخل "مصلحة إدارة الأراضي في "إسرائيل" (المجلس) تتألف من ثمانية عشر عضواً، يجري تعيين نصفهم من قبل "الصندوق القومي اليهودي" (أحد أجهزة الوكالة الصهيونية العالمية/ الوكالة اليهودية من أجل "إسرائيل").

ومن جانبها، تقول الوكالة ان أحد أهدافها هو "... شراء وتطوير الأراضي، كمصدرٍ وطني للشعب اليهودي، ومن قبل الشعب اليهودي، ومن أجل الشعب اليهودي..."(90) وهنا، يجري استغلال الأراضي وتطويرها تبعاً للتوصيات والأهداف المحددة في (وثيقة) "الإرشادات العامة للمشروع الوطني/القُطري) ("تاما"، بالعبرية)، التي تُراجع بشكلٍ دوري. وأما الترتيبات التفصيلية المتعلقة بالتخطيط والترسيم، فهي محددة في وثيقة "تفاصيل المشروع الإقليمي والمحلي" (تامام، بالعبرية)؛ وتشمل توجيهاتٍ تتعلق بمشاريع البنى التحتية ومشاريع الإسكان والاستخدام الصناعي والتجاري للأراضي. وقد وضعت وزارة الداخلية تعريفاً لصلاحيات السلطات الإقليمية (المناطقية)، والمحلية، والمجالس المحلية/البلدية، والتجمعات الريفية الأخرى(91)، كمالموشافيم، والكيبوتزيم، والميتزيم (المستوطنات الأصغر حجماً)، والييشوفيم بوديديم (مستوطنات زراعية لوحدات عائلية منفردة)(92). وهناك العديد من الهيئات القانونية الأخرى التي لها أدوارها على صعيد القرارات المتعلقة بالتخطيط والترسيم، ومنها: مصلحتا تطوير النقب والجليل، ومصلحة تطوير الطبيعة، ومصلحة تطوير المتنزهات: ولكن تمثيل المواطنين الفلسطينيين غالباً ما يكون محدوداً -أو معدوماً- في هذه السلطات والمصالح. وحسب سهاد بشارة (من مركز العدالة)، "... يضم مجلس تخطيط المشاريع الحكومية للمنطقة الشمالية (تامام2) أحد عشر عضواً من اليهود ... ليس بينهم عضوٌ عربيٌ واحد؛ على الرغم من أن العرب يشكلون أكثر من نصف سكان المنطقة..."(93).

وتتبع الحكومة أساليب عدة للتمييز بين اليهود والعرب، على صعيد قضايا الأرض والتخطيط. فهي تعمد، مثلاً، إلى تصنيف مناطق وبلداتٍ معينةٍ في خانة "المناطق ذات الأولوية الوطنية"، ثم تمنح سكان هذه المناطق موازناتٍ أكبر وامتيازاتٍ أفضل؛ بما فيها إعفاء السكان من الضرائب أو تخفيض قيمة الجعالات الضريبية المفروضة على المشاريع الصناعية. وجديرٌ بالذكر أن الغالبية الساحقة من "المناطق ذات الأولوية الوطنية" هي مناطق تسكنها مجتمعاتٌ يهودية. وعلى الرغم من أن المناطق أو المحلات الأربع عشرة التي تسجل فيها البطالة معدلاتٍ قياسيةً هي مناطق عربية، نجد أن أربعاً من هذه المناطق فقط مدرجةٌ في خانة "الأولوية الوطنية". وفي ايار/1998، رفع مركز "العدالة" مذكرةً إلى رئيس الوزراء، التمس فيها معالجة مشكلة التمييز بين المناطق، لكن القضية ما زالت معلقةً حتى الآن(94). وإضافة إلى ذلك، غالباً ما تكون الأراضي الواقعة ضمن حدود البلديات "الإسرائيلية العربية" هدفاً للمصادرة والضم إلى أراضي السلطات المحلية اليهودية.

 وعلى وجه العموم؛ يمكن القول: إن الأراضي الواقعة ضمن المناطق البلدية العربية تكون محددةً جداً من حيث المساحة، ولا تحظى بالمقومات اللازمة للاستفادة منها. فعلى سبيل المثال، تضم بلدة الناصرة أكثرية غالبةً من السكان العرب، ويعيش فيها حوالي ستين ألف نسمة، لكن صلاحيات مجلسها البلدي لا تشمل سوى ستة عشر ألف دونم (حوالي 5.6 أميال مربعة)، في حين أن بلدة نازايت إيليت، اليهودية المتاخمة لها، تضم أربعين ألف ساكن، وتمتد صلاحيات مجلسها البلدي على نحو أربعين ألف دونم (13.9 أميال مربعة).

وفضلاً عن ذلك، تصنف الدولة "الإسرائيلية" المناطق عادة إلى فئاتٍ متنوعة: مناطق للبناء- مناطق زراعية- مناطق صناعية ... إلخ(95). لكن، قلما نجد في البلديات العربية مناطق أو أراضٍ أخرى مصنفةً في خانة "مناطق البناء". كما أننا لا نجد خططاً لإعمار أو فرز أراضٍ لإنشاءات عربيةٍ جديدة، لا في المناطق الريفية ولا في المناطق المدنية(96). والنتيجة: ازدحام السكان في المناطق العربية، وظروفٌ معيشيةٌ صعبة، وأبنية مشيدة بدون تراخيص، وترد في مستوى الأحوال المعيشية والبنى التحيتة. غير أن المشاكل ليست كلها خارجية المنشأ. إذ أن ظروف استملاك وتوريث الأراضي العربية تزيد في تعقيد الموضوع، والأبنية التي يتم إنشاؤها، غالباً ما تكون قليلة الارتفاع، ولا تراعي فيها مسألة استثمار المساحات الأرضية إلى أقصى حد ممكن، وفي كثيرٍ من الحالات، يلجأ المواطنون العرب إلى بناء المنازل بشكلٍ غير قانوني (بدون تراخيص) هرباً من الرسوم والضرائب.

والحقيقة أن البناء غير القانوني يمثل إحدى نقاط الخلاف الرئيسة بين المواطنين العرب والحكومة؛ فتميل الأخيرة إلى التعاطي مع المشكلة، متبعةً أسلوب الهدم(97). وإلى أن تتم معالجة مشكلة قلة الأراضي (المتاحة للبلديات العربية)، يُتوقع أن تستمر ورشات البناء غير القانونية، وتستمر معها عمليات الهدم، الأمر الذي سيزيد غضب أولئك الذين يرون طموحاتهم تتبدد عند كل منعطف.

وهناك ظاهرة أخرى لافتة بالنسبة إلى أحوال الدولة الحديثة، وهي ظاهرة "القرى غير المعترف بها". ويشار بهذا المصطلح إلى التجمعات التي كانت موجودة قبل إقامة دولة "إسرائيل"، والتي لم تشملها مشاريع التخطيط، ولم يتم إصدار تراخيص أو وثائق رسمية تسمح باستثمارها، فبقيت "غير معترف بها. وتجدر الإشارة إلى أن غالبية هذه القرى مسكونة من قِبل البدو، الذين تزعم الدولة أنه يجب نقلهم إلى مناطق مدنية شملها التخطيط؛ وهي محرومةٌ من الخدمات الأساسية، على اعتبار أنها غير قانونية وآيلة للهدم، وفي الوقت نفسه، ماتزال "القرى غير المعترف بها" محرومة أيضاً من التمثيل في المجالس البلدية/المحلية المنتخبة.

وهناك عددٌ من التجمعات السكانية الموجودة في شمال "إسرائيل" منذ ما قبل إنشاء الدولة، وهي لم تحظ باعترافٍ رسمي حتى اليوم. واللافت هنا أن السكان البدو –بغالبيتهم- يملكون وثائق تسجيل؛ لكن الدولة تمنعهم من البناء على الأراضي (المسجلة). وكانت حكومة رابين قد اتخذت بعض الخطوات التي من شأنها تسهيل الاعتراف الرسمي بالعديد من هذه القرى،وتخصيص بعض الموارد لتنمية بناها التحتية وتحسين مستوى الخدمات فيها؛ غير أن الحكومات اللاحقة لم توافق على صرف غالبية المبالغ المحددة في جداول الموازنة. وفي بعض الحالات، كان يجري تأخير الموافقة على خرائط التخطيط، كما حصل في قضية الحسينية (القرى التي تم الاعتراف بها في عام 1995، والتي ما زال سكانها يُغرّمون على المساكن التي بنوها بدون تراخيص(99)).

لكن أصعب هذه الحالات هي تلك التي نشاهدها في النقب (جنوباً)؛ حيث يعيش نحو سبعين ألفاً من السكان البدو في حوالي خمسٍ وأربعين قرية "غير معترف بها"؛ حيث لا يملك معظم هؤلاء وثائق تسجيلٍ للأراضي التي يسكنون عليها ويعملون فيها. ولما كانت "حقوق الأراضي" الخاصة بهؤلاء البدو "غير معترف بها" من قِبَل الحكومة، عمدت السلطات "الإسرائيلية" إلى مصادرة بعضها بشكلٍ تدريجي ومدروس؛ وقامت بتصنيفها كأراضٍ مملوكة للدولة، ثم أعادت تخطيطها وفرزها، تمهيداً لبناء أحياءٍ يهوديةٍ جديدةٍ عليها. ومنذ أواسط الستينيات. تعمل الدولة من أجل "تمدين" السكان البدو عن طريق إعادة توطينهم في سبع مناطق مدنية حديثة خططتها لهم الحكومة في النقب. لكن تخطيط تلك المناطق تم دون استشارة ممثلي المجتمع البدوي، فبدت البلدات المستحدثة مغايرة تماماً لصورة الحياة البدوية التقليدية وغير منسجمةٍ على الإطلاق مع أسلوب العيش التي ألفها أفراد هذا المجتمع، فضلاً عن أنها تفتقر إلى المقومات الاقتصادية الضرورية. ولقاء الحصول على قطعة من الأرض في "البلدات المستحدثة" إياها، كان يترتب على البدو أن يتراجعوا عن كل ادعاءاتهم المتعلقة بأراضيهم المصادرة. وبالنتيجة، رفض الكثيرون منهم الانتقال إلى البلدات الجديدة. فبرزت ظاهرة "القرى غير المعترف بها" كرد أساسٍ على مساعي "التمدين" الفاشلة.

وفي عام2000، عملت اللجنة الفرعية الوزارية للشؤون البدوية من أجل وضع "خطة شاملة" للاعتراف بست عشرة إلى ثماني عشرة قريةً بدويةً، على أساس دراسةٍ يجري إعدادها بالتشاور مع "المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها" (وهو عبارة عن مجموعةٍ من الأشخاص الذين كرسوا جهودهم للدفاع عن حقوق سكان النقب). إلا ان حكومة شارون وضعت هذا الملف على الرف، وتبنت -في نيسان/2003- خطة خمسية لمعالجة مشكلة بدو النقب. وعن ذلك، يقول حاييم أورون (الوزير السابق المكلف إدارة ملف الشؤون البدوية): إن هذه الخطة (الخمسية) كانت بمثابة ... " إعلان للحرب ضد المجتمع البدوي..."(100) وحسب المخطط "الإسرائيلي" لمنطقة النقب .. هو تجميع أكبر عددٍ ممكن من السكان البدو على أصغر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض، وتوزيع أقل عددٍ ممكنٍ من اليهود على أوسع مساحةٍ ممكنةً من الأراضي..."(101)

وجديرٌ بالذكر في هذا السياق أن عمليات المصادرة والترحيل القسري تزيد شدة المشاحنات وتساهم في تفاهم الجريمة. كما أن "القرى غير المعترف بها"، التي لا تحمل الخرائط أية إشارةٍ إلى وجودها، ما زالت محرومةً من أبسط الخدمات الأساسية (الكهرباء- شبكات الصرف الصحي- البنى التحتية- العيادات الصحية- المدارس...إلخ)؛ ولا يمكن الوصول إليها إلا بسلوك الطرقات الترابية الوعرة(102). وفي هذه القرى يضطر الأولاد إلى السير مسافاتٍ طويلةٍ كي يصلوا إلى نقاطٍ يستطعيون أن يستقلوا منها الحافلات التي تنقلهم إلى المدارس. وأما أوامر الهدم الصادرة بشأن منازل البدو، فتشكل مبعثاً لخطرٍ مستمر(103). وهذه الظروف، التي تزداد سوءاً بفعل ممارسات "الدورية الخضراء"(104)، السيئة الذكر، جعلت الأجواء شبيهةً بأجواء الحكم العسكري المباشر. وهناك الكثير من السكان البدو الذين لا يرون أملاً في تحسن الظروف:

"... المتعلمون يشعرون بالإحباط والهزيمة.. في حين يميل غير المتعلمين إلى الالتحاق بالحركة الإسلامية ... ويبدو أن الأخيرة تستفيد من هذه المشاعر الشعبية؛ لكن، دون أن تكون لديها رؤية حقيقيةٌ لتحسين الأوضاع ..."(105).

وقد لجأ عددٌ من أفراد المجتمع البدوي إلى الجريمة، بدل الرد باحتجاجات سياسية. و"البلدات المستحدثة"، إياها، التي أصبحت ... "أرضاً خصبةً للجريمة وتعاطي المخدرات"...، ما عادت تصلح نماذج للتقدم الاجتماعي والاقتصادي(106).

ومن جانبها، تتبع الحكومة سياسة الإهمال التي تتجاهل فيها كل خطوةٍ أساسيةٍ من شأنها تحسين ظروف الحياة(107). وكما تقول كوليت آفيتال (النائب في المعارضة، ورئيسة الكتلة البرلمانية المناصرة لقضية البدو): "... إن البند الوحيد في موازنة البرنامج الحكومي الجديد المتعلق بشؤون البدو في النقب هو ذلك الذي يتحدث عن ضرورة اعتماد مزيدٍ من الشدة في تطبيق القوانين..."(108).

ومن هذا المنطلق، لا بد من الدعوة إلى فتح باب الجدل السياسي حول نماذج التوطين في أقرب فرصة ممكنة، والشرط المسبق الأساس هو أن تبدأ الحكومة بالتشاور مع ممثلي المجتمع البدوي، على قاعدةٍ منطقيةٍ سليمة.

 

ج-التعليم

تظهر الإحصاءات التعليمية تفاوتاً صارخاً بين العرب واليهود "الإسرائيليين". وعلى العموم، تبدو موارد دعم المدارس العربية قليلةً جداً نسبياً، فهي لا تشكل سوى نسبة سبعة بالمئة من موازنة وزارة التعليم لعام2004(109). وبالإضافة إلى ذلك، لا يزيد عدد طلاب الصف الواحد في المدارس اليهودية عن سبعةٍ وعشرين طالباً، في حين يصل هذا العدد إلى اثنين وثلاثين في صفوف المدارس العربية؛ كما أن انعدام التكافؤ على صعيد التمويل، في هذا الحقل، يؤثر في مستوى الخدمات التعليمية المساعدة(110)، وينعكس على مختلف الإنجازات، حيث يترك أربعون بالمئة من الطلبة الفلسطينيين مدارسهم في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، مقابل نسبة تسعة بالمئة في الوسط "الإسرائيلي" المشابه. وأما معدل النجاح في امتحانات الدخول إلى الجامعات، فيبلغ 31.5% وسط الطلبة "الإسرائيليين" العرب، مقارنة بنسبة 45% وسط الطلبة "الإسرائيليين" اليهود(111).

وتؤثر حالات انعدام التكافؤ أيضاً في التعاطي المؤسسي مع نظام التعليم العربي (الذي يشمل 92% من الأولاد العرب) والمدارس الدينية اليهودية/"الإسرائيلية"، على الرغم من أن الدولة تمول النظاميْن وتشرف عليهما(112). وخلافاً لما هي عليه حال المدارس الدينية، لا تتمتع المدارس الرسمية العربية إلا بقدرٍ من الاستقلالية، فيما يتعلق بالتخطيط والإدارة وتحديد الأهداف والمحتوى(113). وتعاني المدارس العربية كذلك من حقيقة أن النظام التعليمي يدار -إلى حد ما- من قِبَل المجالس البلدية، المسؤولة عن إنشاء وصيانة أبنية المدارس.

وبالتالي، وإلى جانب مشكلة التمييز الحكومي على صعيد التمويل في هذا الحقل، تواجه المدارس العربية مشاكل عديدة على المستوى البلدي (نقص مزمن في التمويل –تخلّف اقتصادي- سوء إدارة وفساد). وما يزيد الأمر سوءاً هو أن الموازنات المرصودة للبلديات من قِبَل وزارة التعليم غالباً ما تنفق على أنشطةٍ أخرى.

وقد فكّر البعض في خيار استخدام البنية التحتية التعليمية الموجودة لإنشاء إدارةٍ منفصلةٍ للتعليم العربي (نظام يديره عربٌ ضمن إطار وزارة التعليم). وفي هذا الصدد، قال رئيس كتلة "شاس" في الكنيست، يائير بيرتيز، إن منح التعليم العربي "نموذج استقلالية" شبيهاً بالنموذج الممنوح لحزبه يمكن أن يكون مقبولاً(114). إلا أن خياراً كهذا سوف يثير الكثير من الجدل، ولن يحظى بالإجماع داخل الدوائر "الإسرائيلية العربية"؛ ولا يمكن أن يتحقق إلا إذا خصت الدولة نظام التعليم العربي بتمويل كافٍ، وألزمت البلديات العربية بحصر إنفاق موازنة التعليم ضمن الإطار التعليمي. والأولوية الأخرى هي أولوية ضمن إجراء التعيينات في قطاع التدريس على أساس الكفاءة والإختصاص، وليس على اساس المحسوبية والمزابنة.

 

 

IV- المدارك المشتركة والنظرة المتبادلة.

بالنظر إلى الطبيعة المتعددة الطبقات للعلاقات المجتمعية/الأهلية في "إسرائيل" -حيث تعيش أقليةٌ عربيةٌ داخل دولةٍ يهوديةٍ تتصارع مع جيرانها العرب- يمكن وصف المدارك المشتركة والنظرة المتبادلة بأنها موسومةٌ "بعدم الاكتراث"، في أحسن الحالات، و"بسوء التفاهم وانعدام الثقة"، في أحسنها. وكما أوضح دوبي غازيت، المدير العام لوزارة الداخلية ... "... يشعر المجتمع اليهودي "الإسرائيلي" بالخوف ... مبرراً كان أو غير مبرر ... وهذا الخوف موجود ... وهو خوف حقيقيٌ ... وغالباً ما يحاول العرب استغلاله ... ومما لا شك فيه أن الخوف يساور المجتمع العربي أيضاً ... الحقيقة، على الأغلب، هي أن الجانبيْن يسيئان فهم بعضهما البعض..."(115).

وفي أعقاب الأحداث التي دارت في تشرين الأول/2000، ومع تردي العلاقات "الإسرائيلية"-الفلسطينية وازدياد مخاوف "الإسرائيليين" اليهود حيال التغيرات الديموغرافية؛ يبدو الصراع بين هذين المجتمعين مرشحاً للتصعيد. والذي يشل القدرة على الاستدراك في مثل هذا الوضع هو ما يعبر عنه المعلقون "الإسرائيليون" اليهود "بالاستفزازات العربية"، وما يصفه ممثلو المجتمع "الإسرائيلي العربي" "بالاستفزازات الرسمية واليمينية". وحتى الآن، يبدو الوضع سائراً نحو مزيدٍ من التوتر والمشاحنة بسبب ما يجري من اعتقالاتٍ للعرب (بتهمة التورط في الإرهاب)، وما تتخذه الحكومة من إجراءات قانونيةٍ بحق الجناح الشمالي للحركة الإسلامية، وما تشهده الساحة المحلية من إحباطٍ اقتصادي متعاظم، وما يطلقه الجانبان من تصريحات قتالية تبعث على الشقاق. وحسب تعبير جعفر فرح، من منظمة "المساواة". يعيش المجتمعان حالياً عملية ستؤدي بهما إلى "... فقدان العناصر التي كانت تمتص الصدمات"(116).

 

أ- المدارك "الإسرائيلية" اليهودية

يطرح "الإسرائيليون" اليهود –بغالبيتهم- أسئلة جدية حول مدى استعداد "الإسرائيليين العرب" للقبول بدولة "إسرائيل"، كدولةٍ يعيشون بوئامٍ فيها(117). وغالباً ما ينظر إلى مواطني "إسرائيل" الفلسطينيين على أنهم تهديدٌ "ديموغرافي"، في أحسن الحالات، أو ربما "أمنيٌ" حتى، على أقصى تعديل (كما ورد في خطاب عددٍ من "الإسرائيليين العرب" المتطرفين. وبعد انهيار عملية السلام (2000-2001)، واندلاع أعمال العنف المتبادلة استنتج "الإسرائيليون" اليهود أن الهدف الغائي للفلسطينيين هو "إقامة دولةٍ واحدةٍ غرب نهر الأردن، حيث يشكل سكان الأراضي المحتلة و"الإسرائيليون العرب" أكثرية غالبة"(118).

فالعامل الديموغرافي هو الأساس؛ وحسب مرتسمات الخط البياني لنمو السكان في المستقبل، سوف يصل عدد العرب إلى 8.1مليون نسمة في عام2020؛ في حين لن يزيد عدد اليهود داخل "إسرائيل" والأراضي المحتلة على 6.7 ملايين نسمة في العام نفسه(119). وداخل الأراضي "الإسرائيلية"، سجل المجتمع العربي مؤخراً نمواً سكانياً طبيعياً بمعدل 3.4%، مقابل 1.4% على الجانب اليهودي(120). وتوحي بعض التقديرات بأن العرب سوف يشكلون نسبة 23% في عام 2020، و31% في عام 2050. وهناك من يقول أيضاً، بلهجةٍ تحذيرية، ان مواطني "إسرائيل العرب" يتزوجون نساءً من الأراضي المحتلة، وينجبون الأولاد منهنّ، "محققين بذلك "العودة" عن طريق "الزحف البطيء"(121).

ومن جانبه، يحذر وزير المال بنيامين نتنياهو من التوقف عن استيعاب المهاجرين اليهود؛ لأن ذلك قد يسمح للسكان "الإسرائيليين العرب" بأن يشكلوا نسبة 35 إلى 40 بالمئة في المستقبل؛ فيحولوا بذلك "إسرائيل" إلى دولةٍ ثنائية القومية بمقتضى الواقع(122). وهذا التحذير لا يمثل رأياً فردياً، بل نظرة سائدةً ينظرها معظم اليهود إلى الواقع الديموغرافي العربي.

وفي ضوء تماثلهم الإثني والديني واللغوي مع فلسطينيي الأراضي المحتلة، يجسد "الإسرائيليون العرب" -في نظر مواطنيهم اليهود- حلفاء كامنين، أو حتى فعليين، للأعداء، في الحرب ضد الدولة اليهودية. ومن هذا المنطلق، غالباً ما يتم التعاطي معهم من زاوية الشبهة أو الارتياب. ويلعب جهاز الأمن العام (شين بتْ) دوراً حاسماً في تعيين الأساتذة العرب على كافة المستويات؛ وهو الذي يرصد نشاطات الأحزاب السياسية "الإسرائيلية العربية"، التي تشارك قلة قليلة منها في وزارات الدولة، في حين تمنع غالبيتها من المشاركة في وزارتي الأمن والدفاع (الأكثر حساسية وقدرة على الاستيعاب). ومن الناحية العملية، يُمنع "العرب الإسرائيليون" حتى من العمل في شركة كهرباء "إسرائيل". وفي مقابلاتٍ أجراها فريق [ICG]، قال عددٌ من المسؤولين السابقين في جهاز شين بت ومجلس الأمن القومي ان هذه السياسة تهدد بتقويض مصالح "إسرائيل" الأمنية القومية على المدى الطويل، عن طريق تغذية مشاعر السخط لدى السكان العرب(123).

ولا شك أن مسألة الولاء للدولة اليهودية هي من أهم المسائل وأشدها إثارة للحساسية؛ على اعتبار أنها تخص مجتمعين اثنين متمايزين ومتصارعين تاريخياً. فعندما يحيي "الإسرائيليون" اليهود ذكرى استقلالهم (بعد أسبوع كامل من الاحتفالات التي تستعاد فيها ذكريات المحرقة والجنود الذين سقطوا دفاعاً عن "إسرائيل")، يحيي المواطنون "الإسرائيليون العرب" ذكرى نكبة عام 1948 في جو من الحزن والحداد.

في هذا الشأن، يقول أوري بوروسكي، مستشار رئيس الوزراء شارون للشؤون العربية، ان "... الدولة يجب أن لا تستثمر مواردها وطاقاتها إلا في المجالس المحلية التي ترفع علم "إسرائيل" فوق منشآتها على الدوام، والتي تعلق صوراً لرئيس الوزراء ورئيس الدولة في مكاتبها"(124). وفي السياق ذاته يقترح وزير التعليم ليمور ليفانت أن تمويل المدارس العربية يجب أن يكون مشروطاً "بالولاء"(125) وفي كانون الأول/2003، أعلن رئيس جهاز الأمن الداخلي "الإسرائيلي"، آفي ديختر، ان إيران "صنّفت "العرب الإسرائيليين" "طابوراً خامساً" قابلاً للاستغلال"(126). وأما مايكل إيتان، عضو الكنيست عن حزب الليكود ورئيس لجنة الدستور والقانون والعدل البرلمانية، فأوجز قائلاً ان "... أحداً لا يتوقع نشوء علاقات يهودية-عربية (جيدة) في "إسرائيل" ... وأنا لا أرى أي سيناريو إيجابي ... لأن الصدام [داخل إسرائيل] واقعٌ لا محالة..."(127).

ويمضي البعض إلى أبعد من ذلك، في التعبير عن حالة انعدام الثقة. ولطالما شهدت الأوساط "الإسرائيلية" اليهودية سريان أفكارٍ تقول ان العرب يجب أن لا يحملوا هويات "إسرائيلية" وأن لا يتمتعوا بحقوق ٍ متساويةٍ مع حقوق "الإسرائيليين" اليهود(128)؛ على الرغم من أن القادة السياسيين حرصوا على إقصاء أنفسهم عن العناصر المتطرفة على الدوام. إلا أن التأييد لفكرة "نقل" العرب من "إسرائيل" عاد ليكتسب مزيداً من الزخم الآن، بعد أن شهد تراجعاً ملحوظاً خلال التسعينيات، وقد تجلى ذلك في تحالف "موليديت" (الحزب المؤيد لفكرة النقل [TRANSFER] مع حكومة الوحدة الليكودية العمالية. ففي استطلاع للرأي العام "الإسرائيلي" اليهودي. (أجري في آذار/،2002)، تبين أن 31% من سكان "إسرائيل" اليهود يفضلون "نقل" المواطنين الفلسطينيين إلى خارج البلد (بعد أن كانت نسبة المؤيدين لهذه الفكرة لا تتجاوز 24% في عام 1991)، وأن 60% من هؤلاء يفضلون "تشجيع" العرب على المغادرة(129) وفي ذلك، يقول وزير النقل، أفيغدور كاهلايني: "إذا سألتموني ... أردّ بأن المشكلة "رقم واحد" بالنسبة إلى "إسرائيل" ... هي –أولاً وأخيراً- مشكلة المواطنين العرب الذين يعيشون في الدولة ... أولئك الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، يجب أن يرحلوا إلى فلسطين ... هل يجب أن أعتبرهم مواطنين في دولة "إسرائيل"؟ ... كلا! هل يجب أن نسوّي المسألة معهم (أن نسوي معهم الحسابات القديمة)؟ ... هنا أقول نعم!..."(130).

إيفي إيتان، الذي يتزعم الحزب الديني القومي ويشغل منصب وزير البنية التحتية الوطنية، وصف المواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل" "بالقنبلة الموقوتة" و"بالورم السرطاني"(131).

وفي عام2002، ألصق حزب موليديت على لوحات الإعلانات والجدران في "إسرائيل" شعارات تقول ... "النقل" وحده يحقق السلام"؛ و ..."لا نريد عرباً" ... "لا نريد هجمات إرهابية"(132). وفي العام التالي، أصبح الوضع أكثر إثارةً للقلق، بعد أن ضمت حكومة الوحدة الوطنية كتلة "الاتحاد الوطني"، التي يطالب بعض أعضائها بتنفيذ خطة النقل(133) [Transfer].

واقترح بعض النواب في الكنيست مشروع قانون يشجع على الهجرة، وبحظّر إحياء ذكرى النكبة، ويمنع العرب من المشاركة في الاستفتاءات الوطنية بشأن المواضيع التي تعتبر حساسة بالنسبة لـ"إسرائيل" (اتفاقات السلام المستقبلية على سبيل المثال). وتعليقاً على ذلك، قال شوقي الخطيب (رئيس اللجنة العليا للمتابعة): "... لا يوجد في الحكومة من يُصغي إلينا ... وبكل بساطة، يمكن القول: إن هذه المرحلة هي من أصعب المراحل التي عاشها مجتمعنا..."(134).

وفي الوقت نفسه، عبّرت شخصيات "إسرائيلية" بارزة -من مختلف المشارب- عن قلقٍ عميقٍ حيال طريقة التعامل مع المجتمع العربي؛ وحث الكثيرون الحكومة على مضاعفة الجهود في سبيل تحقيق الدمج بين المجتمعين. ومن جانبه، استنكر موشي آرينز (وزير دفاعٍ أسبق) ما وصفه "باللاسياسة" من قبل الحكومة "الإسرائيلية"؛ وقال ان <.. مواطني "إسرائيل العرب" يعانون من إهمال الدولة على الدوام ... إلا وقت الانتخابات ... لقد تأخرنا ... لكن الفرصة لم تفت ... ومازال بإمكان الحكومة منح موضوع "استدماج السكان "العرب الإسرائيليين" في المجتمع "الإسرائيلي" الأولوية التي يستحقها ... وذلك من أجل مصلحتهم ومصلحة "إسرائيل">(135) ... وفي السياق ذاته، قال الوزير الليكودي السابق دان ميريدور ان <... على الدولة تحقيق مساواةٍ كاملة وضمان تكافؤ الفرص والامتيازات ... كل الأطراف بحاجةٍ إلى الوضوح والشفافية ... ولا بد من إعادة تنظيم الترتيبات السابقة...>(136).

 

ب- المدارك "الإسرائيلية العربية"

يميل مواطنو "إسرائيل" الفلسطينيون إلى تبني وجهات نظرٍ مختلفةٍ فيما يتعلق بموقعهم ودورهم في المجتمع "الإسرائيلي". وبالنسبة إلى مجيد الحاج، أستاذ مادة علم الاجتماع في جامعة حيفا، ينتمي هؤلاء المواطنون إلى <... محيطٍ خارجيٍ مزدوج ... محيط المجتمع "الإسرائيلي" ومحيط الحركة الوطنية "الإسرائيلية">(137) ونتيجة لذلك، غالباً ما يجمع هؤلاء بين "الهوية الفلسطينية القومية" و"الرغبة العميقة في كسب اعترافٍ كاملٍ كمواطنين إسرائيليين". وهم لا يرون في ذلك تناقضاً بين أمرين يلغي أحدهما الآخر، كما يفعل "الإسرائيليون" اليهود. وعلى حد تعبير أحد المراقبين، <... يطمح مواطنو "إسرائيل" العرب إلى نيل حقوقهم في الدولة، من جهة، وإلى تعزيز صلتهم بالشعب الفلسطيني، من جهةٍ ثانية ... وهم لا يجدون في هذين الطموحين المتوازيين ازدواجيةً مستحيلة...>(138)

:<... مما لا ريب فيه أنه، في حال قيام دولةٍ فلسطينية، سوف يختار المجتمع الفلسطيني عموماً البقاء في "إسرائيل" ... لكن البقاء في "إسرائيل" لا يشكل تعدياً على هويتنا الفلسطينية ... وأي تعبيرٍ عن انتمائي إلى الشعب الفلسطيني يجب أن لا يُستغل ضدي أو يُعتبر مقدمةً للتشكيك في ولائي للدولة "الإسرائيلية" ... بل على الدولة "الإسرائيلية" أن تعيد النظر في صدق ولائها لمواطنيها....>(139).

وجديرٌ بالذكر أن هذا الانتماء الثنائي (أن يكون المرء فلسطينياً بمقياس الثقافة و"إسرائيلياً" بمقياس المواطنة) أصبح أكثر بروزاً أثناء عملية أوسلو.

ومن منظورية "الإسرائيليين العرب"، لا تبدي الدولة أي استعدادٍ لاحترام حقوقهم كمواطنين، ولا للاعتراف بهويتهم الجماعية؛ بل تصرّ على إدامة سياسة التمييز العنصري في مختلف المجالات، في الدين والتعليم والسياسة والأمن وتوفير فرص العمل(140). وفي ذلك، يقول أحد القادة السياسيين المحلليين: <... نحن لا نعترض على الدولة ... بل على سياسة التمييز التي تمارسها...>(141).

ويتهم المواطنون "الإسرائيليون العرب" حكومتهم بالسعي إلى طمس المعالم العربية التي تتسم بها بعض المناطق، وخاصةً عن طريق حرصها على نقل "الإسرائيليين" اليهود إلى المناطق التي تسكنها أكثريات عربية في الجليل والنقب. ويشتكون أيضاً من أن الدولة تنظر إليهم على أنهم "طابورٌ خامس"، سياسي، أو "ديموغرافي" على الأقل: <... فهم يرون في وجودنا ونموناً السكاني خطراً يهدد الطبيعة اليهودية للدولة>... حسب تعبير أحد الناشطين السياسيين(142).

وبعد المسارعة إلى اتهام الحكومة بالوقوف وراء محنتهم، يعبّر مواطنو "إسرائيل" الفلسطينيون عن استياءٍ عارمٍ حيال عجز مجتمعهم عن الخروج باستراتيجيا واحدة متساوقة، وعن تنظيم الصفوف في مواجهة التمييز و"التهويد"، وخاصة على المستوى المحلي. وأبرز ما في هذه الانتقادات هو أن القيادة فشلت في تشكيل جبهةٍ موحدةٍ للضغط باتجاه تحقيق الأهداف الجماعية المنشودة، عن طريق السير في مقاربةٍ ملائمةٍ وفعالة. وعن ذلك، يقول أحد الناشطين المحليين <... إن هناك اعتقاداً سائداً بان الممثلين العرب لا يستطيعون فعل أي شيء من شأنه معالجة ما يواجهه المجتمع من مشاكل...>(143).

<... والسكان الفلسطينيون يشعرون بأن لا حول لهم ولا قوة..."(144).

وحتى قادة المجتمع الذين يصنفون في خانة الاعتدال يجدون أنفسهم بين مطرقة اتهامهم بعدم الولاء للدولة التي يسعون وراء خدماتها وسندان عجزهم عن تلبية مطالب الجمهور الذي يفترض أن يمثلوه. ومن داخل إطار "المعارضة الدائمة" الذي وضعهم فيه التيار "الإسرائيلي" اليهودي السائد، يفتقر الساسة العرب إلى القدرة على عقد الاتفاقات أو بناء التحالفات داخل الكنيست. وهذا يحد من درجة فاعليتهم؛ وخاصةً بالمقارنة مع ممثلي اليهود المتدينين أو المستوطنين أو المهاجرين الروس. وقلةٌ قليلةٌ هم الذين يرون نافذة للخروج من هذه الورطة في غياب تسويةٍ شاملةٍ للصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني.

وانطلاقاً من الحاجة الماسة إلى إقناع منتخبيهم بجدوى المشاركة في العملية البرلمانية، وسعياً إلى تعويض النقص في الإنجازات الملموسة الذي يطالبهم الجمهور بتحقيقها (مع ما قد تثيره هذه الفكرة من جدل)، يميل قادة المجتمع العربي أحياناً إلى تصعيد اللهجة وإلهاب مشاعر الجمهور؛ الأمر الذي يقلّص نطاق شرعيتهم في نظر "الإسرائيليين" اليهود. ومن الأمثلة على أنشطة هؤلاء القادة، سعيهم إلى تعزيز مكانة بعض المنظمات العربية، كالجناح الشمالي للحركة الإسلامية، والدعوة إلى مقاطعة الهيكليات الديموقراطية "الإسرائيلية" وصوغ هيكلياتٍ أهليةٍ مستقلةٍ موازية.

وبصورةٍ، عامة تسود الوسط العربي شكوك حيال جدوى الاستراتيجية الانتخابية التي تقوم -إلى حد بعيد- على تحالف الأمر الواقع مع حزب العمل. وقد دفع ذلك القادة "العرب الإسرائيليين" إلى التفتيش عن بدائل تضمن لهم عدم اعتبارهم "حلفاء في الجيب" من قِبَل العماليين. لكنهم لم يجدوا أياً من هذه البدائل جاهزاً للتحالف، ما دفع الكثيرين من أبناء هذا المجتمع إلى التسليم بأن الخيار الوحيد الذي يُخرجهم من حفرة التهميش السياسي هو نفسه الذي يسقطهم في حفرة الارتهان لإرادة العمل في الانتخابات. وما زاد في إقصاء العرب سياسياً، وفي تعزيز مرغوبية الخيارات الراديكالية، انضمام أحزابٍ يمينيةٍ متطرفةٍ إلى الائتلاف الحكومي. وبالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من "الإسرائيليين العرب"، يتمثل دور الأحزاب الراديكالية اليهودية في التحريض على إدامة المواجهة وتصعيدها. وفي هذا الصدد، يقول محمد بركة، العضو في الكنيست "الإسرائيلي" عن "الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة": <... لا أريد أن أصوّر الأمر وكأنه مؤامرة ... ... لكن الائتلاف الحكومي يضم أطرافاً مؤيدةً لفكرة النقل [Transferists] ... ويريد هؤلاء إيصال الأمور إلى "نقطة الغليان"، من أجل الدفع باتجاه التصعيد وتشجيع الحكومة على القيام بخطواتٍ (عسكريةٍ) دراماتيكيةٍ ضد العرب في "إسرائيل">(145).

وفي المرحلة الراهنة، يبدو المواطنون "الإسرائيليون العرب" موحدين وراء مطلب "المساواة التي لا تصل إلى درجة الدمج الاستهضامي"، أو بالأحرى "ضمان الحقوق، كمواطنين "إسرائيليين"، دون الحاجة إلى التخلي عن الهوية والثقافة والتراث"(145). ويسأل أحد المعلقين هنا، <... لماذا يُعتبر العرب مختلفين عن المجتمع اليهودي المتديّن ... فأفراد هذا المجتمع يحصلون على حقوقٍ مساويةٍ كمواطنين، دون أن يرتب عليهم ذلك القيام بكل الواجبات ... كالخدمة العسكرية مثلاً ...>(146). وعلى نحو مماثل، يقول حنا سويد (أحد القادة السياسيين المحليين) ان <... الصلة بين الحقوق والواجبات تمثل واحدة من العقبات الرئيسة التي تعرقل تطبيق مبدأ المساواة... وأنا كعربي، أقبل بحقيقة أنني لا أستطيع أن أشارك في معالجة القضايا المتعلقة بالأمن ... لكن، لماذا أخدم علماً لا يمثلني؟ ... ولا أقبل بأن أعاقب على ذلك بحرماني من الحقوق ... إن مسألة الخدمة العسكرية –برمتها- لا تعدو كونها مجرد ذريعة لإدامة سياسة التمييز...> ويقترح سويد حلاً لهذه المشكلة؛ وهو أن تسمح الدولة لمواطنيها العرب بتأدية خدماتٍ مجتمعيةٍ بديلة(147).

 

V- وجه البلبلة

أ- النزعة الراديكالية الإسلامية

كما الحال في العديد من بلدان العالم العربي، شهد السكان العرب في "إسرائيل" تعاظماً لنفوذ وشأن النزعة الإسلامية السياسية، وهو ما دل عليه فوز الحركة الإسلامية في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وتنامي دور هذه الحركة على صعيد تقديم الخدمات الدينية والاجتماعية. وجديرٌ بالذكر هنا أن الحركة الإسلامية أسست في عام 1983، على يد الشيخ عبد الله نمر درويش، بعد أن نفذ الأخير حكماً بالسجن ثلاثة أعوام(148).

ويبدو أن الشيخ درويش هجر ماضيه كمقاوم، وتبنى استراتيجيا "اللاعنف" السياسية، بهدف إحياء الإسلام وسط المواطنين "الإسرائيليين" المسلمين. وقد شاركت الحركة الإسلامية في انتخابات عام 1983 المحلية؛ وانتُخب أحد أعضائها رئيساً للمجلس المحلي/البلدي في قرية كفر بارة. وأعقب ذلك انتصارات أخرى (بما فيها الانتصار الذي حققته الحركة في أم الفحم)؛ إلا أن قرار المشاركة في الانتخابات في أعقاب اتفاق أوسلو كان مثاراً للجدل. وفي عام1996، انقسمت الحركة إلى فصيلين اثنين، "الجناح الجنوبي"، الذي شارك في العملية الانتخابية، و"الجناح الشمالي"، الذي رفض المشاركة.

حتى عام1998، كان الجناح الجنوبي برئاسة الشيخ عبد الله نمر درويش؛ وكان يعمل ضمن إطار المؤسسات السياسية "الإسرائيلية". ومنذ أول مشاركة له في انتخابات عام1996 البرلمانية، تحالف هذا الجناح مع "الحزب الديموقراطي العربي"، الذي كان العديد من قادته ينتمون سابقاً إلى حزب العمل، والذي مازال يحافظ على علاقاتٍ متينةٍ مع هذا الحزب. وإلى جانب الفصائل السياسية العربية الصغيرة الأخرى، يشكل الجناح "القائمة العربية المتحدة"، التي نالت 31% من أصوات الناخبين العرب في انتخابات الكنيست لعام1999؛ فاحتلت خمسة مقاعد (إثنان منها للحركة الإسلامية)(149). وفي انتخابات عام2003 البرلمانية، عانى الجناح الجنوبي من انتكاسةٍ قويةٍ، شأنه كشأن القائمة العربية المتحدة ككل. ومن أبرز الأسباب التي قِيل انها كانت وراء هذه الانتكاسة الشقاق وسوء التعاطي مع الحساسيات المناطقية لدى تشكيل اللائحة، والإحساس المتنامي بالإحباط حيال المساعي الرامية إلى ضمان الحقوق من خلال العمل البرلماني.

ويقول ممثلو الجناح الشمالي ان مشاركة كهذه ستكون بمثابة اعترافٍ بشرعية "إسرائيل"، وسترتب على الحركة عقد صفقاتٍ حزبيةٍ تمس مكانتها المعنوية، دون إكساب المجتمع "العربي الإسرائيلي" أي دورٍ فعالٍ في الكنيست(150). ولذلك، ركّز الجناح الشمالي، برئاسة الشيخ رائد صلاح (مختار أم الفحم طوال الفترة الممتدة بين العامين1989 و2000)(151) على بناء المؤسسات المستقلة (في حقول الرعاية الصحية، والتعليم، والإنعاش الاجتماعي، والرياضة، والخدمات الدينية)، وعلى العمل من أجل صيانة الأماكن المقدسة. ومن جانبها، تنظر السلطات "الإسرائيلية" إلى هذه النشاطات على أنها أعمال "إنفصالية"؛ لكن الشيخ رائد صلاح يرى فيها ردة فعلٍ طبيعية على الفراغ الاجتماعي الناتج عن سياسة التمييز التي تتبعها السلطات على صعيد الاستثمار والخدمات في القطاع العربي(152). وفي كل سنة، ينظم الشيخ صلاح مسيراتٍ وتظاهراتٍ بعنوان "الأقصى في خطر"؛ الأمر الذي يعزز لدى الدولة حذرها الكامن حيال ما تعتبره "تحركات استفزازية يقوم بها الجناح الشمالي"، و"دليلاً على الخط الانفصالي الذي يسير فيه هذا الجناح"، حسب ما يرى معظم "الإسرائيليين"(153).

وفي شباط/2002، منعت الحكومة "الإسرائيلية" الشيخ رائد من مغادرة البلد، وقامت -في كانون الأول من العام نفسه- بإغلاق مكاتب "صوت الحق والحرية" (الجريدة التي يُصدرها الجناح الشمالي)(154). وبعد ستة شهور، تم اعتقال الشيخ مع ثلاثة عشر شخصاً آخرين من ناشطي الحركة وقادتها، بتهمٍ عدة، أبرزها إيصال الأموال إلى حماس والاتصال بعملاء أجانب معادين (أي بناشطين في الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا والولايات المتحدة، وفي منظماتٍ إسلاميةٍ تعمل من داخل أوروبا)(155). واليوم، يميل معظم "الإسرائيليين" إلى اعتبار الجناح الشمالي راديكالياً، والجنوبي براغماتياً، لكن الفوارق ليست واضحة تماماً. وكما قيل: <... تبدو الحركة الشمالية أكثر انشغالاً بتأسيس المنظمات غير الحكومية ... في حين يسعى الجناح الجنوبي وراء فوزٍ في الانتخابات ... وعلى المستوى المحلي، ينشط الجناحان في مجال بناء المساجد...>(156)

أما بالنسبة إلى "الإسرائيليين العرب"، فتبدو الصورة مختلفة تماماً، إذ أن الناشطين المتدينين يمثلون ضحايا التطورات الإقليمية والعالمية المتردية؛ وخاصةً منها أحداث الحادي عشر من أيلول، التي غذت القلق "الإسرائيلي" حيال خطر المقاومة الإسلامية وشجعت "إسرائيل" على محاصرة "الإسلاميين والإطباق عليهم. وفي الوقت نفسه، يتهم آخرون الحكومة بالسعي إلى إحداث فراغٍ سياسيٍ داخل المجتمع العربي، وبأنها تضغط على الحركة انطلاقاً من إحساسها بالخطر، بعد النجاح الذي حققته الأخيرة على صعيد توفير الخدمات الاجتماعية وحماية الرموز الدينية(157). ومن جهتهم، يرى الإسلاميون شاهداً آخر على اضطهاد الدولة لهم في الحملة التي شنتها السلطات "الإسرائيلية" على شبكة الجمعيات الخيرية الإسلامية، وفي الخلط غير المبرر بين "مقاطعة الانتخابات" و"إنشاء المؤسسات الاجتماعية الموازية" و"دعم الإرهاب". وقد تم إغلاق المؤسسات الخيرية التابعة للجناح الشمالي مراتٍ عدة منذ عام1996، بتهمة تَقْنِيَةِ الأموال إلى حماس. وأثناء المحادثة التي أجراها معه فريق [ICG]، قبل إلقاء القبض عليه، أظهر الشيخ رائد حذراً شديداً في التعبير عن رأيه، وأكد قبوله بكل الأنظمة الديموقراطية، مضيفاً أن اللوم يجب أن يلقى على النظام الديموقراطي "الإسرائيلي"، الذي يترتب عليه إظهار قدرته على التعاطي مع المخاوف المسوغة للمواطنين العرب(158).

ووسط الموجة الراديكالية المتعاظمة التي عكستها مواقف الإسلاميين، واتهام بعض "الإسرائيليين" (العرب) بالتعاون مع هؤلاء في الإرهاب، قرر الجناح الجنوبي المشاركة في انتخابات الكنيست والمؤسسات السياسية "الإسرائيلية". وعلى الرغم من أن ما قاله عبد الملك الدهامشة (عضو الكنيست الإسلامي ورئيس القائمة العربية المتحدة) يعبّر عن تسامحٍ مع العنف، يبدو أن الموقف البراغماتي للحركة يعكس التزاماً على المستوى الاستراتيجي(159). وفي ذلك، يبدو أن الجناح الجنوبي اقتدى بحزب شاس السفاردي المتشدد، الذي التقى معه عند بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما فيها محاولة الحكومة تعميم الخدمة العسكرية الإلزامية على كل المواطنين "الإسرائيليين (ومنهم العرب واليهود المتدينون)(160). ومع ذلك، هناك ما يشير إلى قلة صبر "الإسرائيليين العرب" على انعدام فعالية العمل السياسي المؤسسي، وأبرز مؤشر على هذا الصعيد، ما عاناه الجناح الجنوبي من ارتدادٍ انتخابي. وكما قال أحد الناشطين العرب في حقل العمل الاجتماعي، <... عندما تقدم الحركة الإسلامية الخدمات، يكون وضعها أفضل منه عندما تعمل في السياسة ... و عندما بدأت تتعاطى العمل السياسي، لم يعد الناس يؤمنون بها ... وهذا ما حصل لكل الأحزاب السياسية>(161)....

<... ماذا فعلت الحركة الإسلامية في الانتخابات؟ ... قال كثيرون ان شارون سوف يفوز؛ وبالتالي، لا جدوى من وراء الاقتراع ... الأمر لا يهمنا ... ولماذا نريد أن يفوز هذا المرشح أو ذاك؟ ... الأعضاء العرب في الكنيست لا يفعلون شيئاً ... ولم يفعلوا شيئاً في تشرين الأول/2000>(162).

 

ب-خطر العنف

شهدت الانتفاضة الثانية حوادث عدة أدت إلى اعتقال مواطنين فلسطينيين بتهمة الإرهاب (إيواء ونقل منفذي العمليات "الانتحارية"- تزويد الإرهابيين دعماً مالياً ولوجستياً- خطف- قتل- تنفيذ هجمات مختلفة). وحسب تقريرٍ صادرٍ في عام1999، تبين أن عربييْن اثنين كانا متورطين في نشاطاتٍ إرهابية؛ وفي عام2001، ارتفع العدد إلى ثلاثين، ثم إلى سبعة وسبعين في العام التالي(163). وفي حادثٍ أذهل كثيراً من "الإسرائيليين" أُلقي القبض على المقدّم عمر الهيب، الضابط البدوي المحترم في الجيش "الإسرائيلي"، في أيلول/2002، على قاعدة ادعاءٍ يتهمه بقيادة خليةٍ تتجسس لصالح حزب الله(164). وفي تلك الأثناء، زعمت بعض الجهات أن الأمر يتعدى ذلك إلى المشاركة في تدبير عملياتٍ "انتحارية". ففي العاشر من أيلول/2001، أصبح محمود شاكر حبشي أول "عربي إسرائيلي" ينفذ عملية "انتحارية"، عندما فجر نفسه داخل محطةٍ للقطارات في نهاريا(165).

وبعد ذلك، وفي 3 آب/2002، ساعد "إسرائيليان عربيان" فلسطينياً من جنين على تنفيذ عملية "انتحاريةٍ" أسفرت عن مقتل تسعة أشخاص،وحكم على العربيين بالسجن تسعة مؤبدات في نيسان/2003(166). وفي قضايا أخرى، تم التحقيق مع أشخاصٍ "عرب إسرائيليين" بتهمة العمل مع إيران وحزب الله لتدبير وتنفيذ هجماتٍ إرهابيةٍ داخل "إسرائيل"(167).

حتى لو افترضنا أنها صحيحة ودقيقة، لا يتوقع أن تشمل هذه الإدعاءات إلا عدداً قليلاً جداً من الأشخاص؛ غير أن تأثيرها بادٍ على امتداد المجتمع "الإسرائيلي". وكل هجمةٍ عنيفة، أو تحقيقٍ مع موقوف، أو اعتقال مشتبه به أو محاكمته، يشكل نقطةَ بؤرية تستقطب اهتمام الناس. وعن ذلك، يقول عضو الكنيست العربي محمد بركة، بحسرة، انه "...قبل سنةٍ تقريباً، تم اعتقال ضابطٍ بدويٍ بتهمة مقايضة المخدرات بالسلاح مع حزب الله ... وعلى الفور، بدأت الصحف تتحدث عن ذلك، علماً بأن المجتمع البدوي بكامله كان يفعل الشيء نفسه ... فعندما يحصل أمرٌ ما داخل مجتمعنا، يصبح هذا الأمر ظاهرة اجتماعية، وليس فعلاً فردياً(168) وفي كل مرة، كنت أدعى إلى استوديوهات التلفزيون، لأقف في قفص الاتهام، كلما نُسب فعلٌ إرهابيٌ ما إلى أحد المواطنين الفلسطينيين"(169).

من الواضح أن على الدولة اتخاذ تدابير من شأنها قطع دابر الإرهاب والعنف؛ إلا أن مخاطر المبالغة في ردود الأفعال لا تقل أهمية وتأثيراً ووضوحاً. واليوم، تُثار المخاوف حيال إمكانية تورط "العرب الإسرائيليين" في أعمال العنف من أجل تبرير قرارٍ مسبقٍ يقضي بنزع الهوية "الإسرائيلية" من المواطنين "الإسرائيليين العرب" الذين يُعتبرون غير موالين لـ"إسرائيل"، وذلك في وقتٍ يطبّق فيه "قانون الجنسية والدخول إلى إسرائيل"، الصادر حديثاً، والذي يحرم الفلسطينيين المقترنين بـ"إسرائيليات" (عربيات) من حقوق الجنسية والإقامة(170). والحقيقة أن هذا القانون سبب موجة من الاحتجاج، ليس وسط المجتمع العربي فحسب، بل ايضاً وسط منظمات حقوق الإنسان "الإسرائيلية"، ومنها "بتسيليم".(171)

وإذا ما تعاظمت هذه النزعة، يمكن أن تؤدي إلى تغذية نفس النزعة الراديكالية المقابلة التي يُزعم أنها تحاربها. وكما ورد في تقرير تقييميٍ صادرٍ عن مجلس الأمن القومي "الإسرائيلي"، في حزيران/2002، <... تزداد المشاحنة بين المواطنين العرب واليهود في "إسرائيل" على خلفيةٍ من ثقافة القوانين التشريعية التي تُعتبر موجهةً ضد القطاع العربي "الإسرائيلي"، والإجراءات المتزايدة التي تتخذها الحكومة بحقهم ... في غياب أي مسعىً يرمي إلى تحسين أوضاع هؤلاء المواطنين>(172).

 

ج-مزيدٌ من الاضطراب السائد؟

يدور جدلٌ حول مقولة ان المجتمع العربي مقبلٌ على حالةٍ من الاضطراب الواسع النطاق. إلا أن المعطيات على الأرض توحي بخلاف ذلك؛ فما زال هذا المجتمع هادئاً نسبياً في وجه الوضع المتردي داخل الأراضي المحتلة. وبالإضافة إلى ذلك، إذا نظرنا إلى الوضع الذي ساد حقبة أوسلو، مقارنةً بذلك الذي ساد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، نرى أن الفاعلية الراديكالية العنيفة تسلك منحى منحدراً، وليس العكس. وقلما نجد بين "العرب الإسرائيليين" أناساً مستعدين لقضاء فتراتٍ زمنيةٍ طويلة في مراكز الاعتقال؛ كما أننا نرى إجماعاً "سياسياً" على الهدف الذي يمكن أن يناضل المجتمع من أجل تحقيقه. وفي هذا الصدد، يعبّر أحد الناشطين العرب عن مشاعر سائدةٍ وسط مواطني "إسرائيل" الفلسطينيين، فيقول ان < ... العنف لم يكن خياراً استراتيجياً بالنسبة إلينا في يومٍ من الأيام ... فنحن نعرف من نواجه ... أقصد بهذا أن المؤسسة سوف تسحقنا إذا ما لجأنا إلى هذا الخيار، ولن يأتي أحد لنجدتنا... نحن، بمفردنا، نواجه أعتى قوة .... وأقوى نظام سياسيٍ ... وأكثر الدول تطوراً ... وقد حسمنا خيارنا منذ البداية ... نحن نعتبر أنفسنا مواطنين في هذه الدولة؛ ولن نجعل وجودنا تحت الخطر عن طريق اللجوء إلى الأعمال الإرهابية(173)...

ويقول هاشم عبد الرحمن (الناشط الإسلامي البارز): إن أحداث تشرين الأول/2000 سوف لن تتكرر، لأن <... الجمهور العربي يعاني من دمارٍ اقتصادي، وذاق مرارة الرد الذي يمكن أن يصدر عن الدولة ... ولن تسمح القيادة العربية بوقوع حوادث مشابهة (الحوادث تشرين الأول/2000) ... لن تسمح حتى بتنفيذ إضرابٍ عام؛ لأنها تعلم جيداً أن ذلك لن يؤدي إلا إلى المواجهة مع الشرطة>(174) <... ويدرك "الإسرائيليون العرب" أن المواطنة هي التي تمنحهم حقوقهم ... وقد علمتنا الشرطة "الإسرائيلية" أننا سنخسر كل شيءٍ إذا عزمنا على سلوك هذه الطريق (طريق النضال العنيف)>(175).

أما العوامل الأخرى، كالمشاركة في السياسة وغياب البديل السياسي الواضح، فتسير بمشاعر الاستياء نحو التهكم واللامبالاة، وليس نحو العمل العدواني؛ وتشجع على الاحتجاج الاقتصادي وليس على الممارسات العنيفة <... وفي كل تظاهرةٍ، تخرج نفس الجماعة من الناشطين، وإلى جانبها مجموعةٌ صغيرةٌ من الفتيان الذين تقل أعمارهم عن خمسة عشرة سنة، المستعدين لدخول السجن من أجل قضيةٍ سياسيةٍ>(176)...

ومن جهةٍ أخرى، يبدو أن الإحباط المتراكم، الذي يعززه الشعور بالإهمال في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، دفع البعض إلى التنبؤ بأن أعمال العنف سوف تندلع مرة أخرى. كما أن محدودية فرص العمل والتحصيل العلمي، ساهمت في خلق شريحة واسعة من الشبان الساخطين داخل الأوساط العربية المُدُنية؛ وفي وقت تتلاشى فيه آليات السيطرة التقليدية الريفية-العشائرية. والذي زاد الأمر سوءاً على الصعيد الاقتصادي هو أن خوف "الإسرائيليين" اليهود من التهديد الأمني دفع السلطات "الإسرائيلية" إلى تحجيم نطاق الخدمات المختلفة التي يستفيد منها "الإسرائيليون العرب"؛ الأمر الذي أسفر عن نتائج مدمرة. وبسبب التردي السوسيو إقتصادي العام الذي يعاني منه هذا المجتمع، أصبح حوالي 44.7% من العائلات العربية و60% من الأطفال العرب يعيشون تحت "خط الفقر" في العام2003. وقد أشار مكتب الصحة العامة إلى زيادة ملحوظةٍ في معدل وفيات الأطفال وسط السكان العرب، وخاصةً في مجتمع النقب البدوي، حيث وصل هذا المعدل إلى 17%، مقارنة بمعدلٍ لا يزيد على 004% وسط المجتمع اليهودي(177).

وبالنسبة إلى رامز جرايسة، محافظ الناصرة، <... من الممكن حصول "انفجار" بسبب الضغوط الاقتصادية المتزايدة>(178)... وعلى نحوٍ مماثل، يحذّر حنّا سويد، رئيس بلدية عيلبون، من أنه <... إذا اعتبرنا السياسات التمييزية سبباً في اندلاع أعمال العنف (تشرين الأول/2000)، فهذا يعني أن إمكانية تجدد المواجهات ما تزال قائمة، لأن سياسة التمييز التي تتبعها الدولة ما زالت على حالها...> وفي الوقت نفسه، أوضح سويد أن المتغير الرئيس هو ردّ الدولة على الاحتجاجات السلمية(179).

ويقول مراقب آخر في هذا الصدد: <... أشعر بأن الدولة تنتظر منا القيام بأي عملٍ غير قانوني، كي تتمكن من تنفيذ خططها بسرعة ... لكننا متيقظون ... ومع ذلك، لا يستطيع أحدٌ أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث ... هم يهدمون المنازل، ونحن نبنيها ... يقتلعون الأشجار، فنزرع غيرها ... ماذا يمكن أن يحصل غير ذلك؟ ... الأمور ليست واضحة تماماً>(180)...

وهناك أيضاً آخرون يعتقدون أن العنف لن يتجدد على المدى المنظور ... <... ولكن، على المدى الأطول ... فليس متوقعاً أن يحصل ذلك في الأعوام الخمسة أو الستة القادمة ... ربما بعد عشر سنواتٍ أو أكثر...>(181).

ومن الملاحظ أن مواطني "إسرائيل" الفلسطينيين معرضون للانفراق، ولسلوك طريقين متعاكسين في حال اشتداد المحنة. فالبعض يؤيد اتباع "وصفةٍ مجربةٍ"، لكن غير مضمونة النتائج، وهي وصفة "العمل السياسي الفاعل عبر الكنيست"، في موازاة حملةٍ تثقيفيةٍ عامةٍ تشيع أفكار ومبادئ المواطنة، وتركز على أهمية التحالف مع الأحزاب السياسية اليهودية المعتدلة والمنظمات غير الحكومية التي تنادي بالمساواة(182). وعن ذلك، يقول أحد أفراد المجتمع "العربي الإسرائيلي" انه <... على المدى الطويل، سوف تثبت استراتيجيا المواطنة، لأنها تلبي احتياجاتنا ... لسنا في الموقع الذي يسمح لنا بمحاربة الدولة اليهودية ... كل ما نريده هو أن نبقى هنا ... وليست تجربة عام1948 سوى مثالاً على ما يمكن أن يحدث إذا ما ساءت الأوضاع؛ ... والخاسرون الوحيدون هم الذين يرفضون اتخاذ المواقف البراغماتية ... ولعل في ذلك ما يعبر عن ذهنية انهزامية .... لكننا نعرف الآن حدود قوتنا ومواطن ضعفنا...>(183).

ومن جهتهم، يفضّل العرب الآخرون (الإسلاميون على وجه الخصوص) مواصلة "العمل الشعبي والجماهيري"، وتجنيد الأعضاء عن طريق تقديم الخدمات التي لا تقدمها الدولة. وهناك من وضع الأمل في النمو الديموغرافي العربي، كوسيلة لتعزيز القوة السياسية. لكن الجميع يعترفون بأن هذه الحلول لا تعدو كونها حلولاً جزئية وبسبب عجزهم عن تصور حل حقيقي في إطار القرينة الحالية، يتطلع "الإسرائيليون العرب" نحو الخارج؛ نحو حل نهائي لمشكلة الصراع العربي "الإسرائيلي"، على اعتبار أنها الطريقة الأسلم لتسوية مسألة الأقلية "العربية الإسرائيلية" <... يفتقر المجتمع العربي إلى استراتيجيا واضحة تضمن التغلب على المشاكل التي نواجهها ... ومن الصعب جداً الخروج باستراتيجيا من هذا النوع –ناهيك عن تحقيق الدمج المجتمعي- طالما أن مشكلة الصراع الفلسطيني-"الإسرائيلي" ما تزال قائمة>(184).

 

IV- عملية السلام

على الرغم من دينامياتها المتميزة، لا تقوم العلاقات بين يهود و"عرب إسرائيل" ككيانٍ منعزلٍ عن العلاقات "الإسرائيلية"-الفلسطينية؛ ولا يمكن النظر إليها من هذه الزاوية الناقصة. فالتقدم -أو عدمه- على طريق السلام، سوف يكون له تأثيرٌ عميق على العلاقات المجتمعية الداخلية. ومن المعلوم أن السنوات الأولى من حقبة أوسلو توافقت مع العديد من الوعود المقطوعة على الجبهة الداخلية؛ سواء كانت لجهة التحالفات السياسية أو لجهة توزيع موارد الدولة وآنذاك جسّد المواطنون الفلسطينيون "الإسرائيليون" قدرة كامنة على تجسير الهوة بين "إسرائيل" والعالم العربي؛ وقام بعض قادتهم بزيارة دمشق، مدفوعين بتشجيع رسمي غير معلن. وبالمقابل، تزامنت الانتفاضة الثانية والأجواء المحلية المتردية (بعد تشرين الأول/2000) مع تدهورٍ حادٍ على صعيد العلاقات المجتمعية؛ وراحت الشبهة تكتنف كل علاقةٍ بين "العرب الإسرائيليين"، من جهة، وفلسطيني الأراضي المحتلة والعرب الآخرين عموماً، من جهةٍ ثانية.

وبالإجمال، يمكن القول إن أي اتفاقٍ سلمي سينطوي على إمكانية تلطيف الأجواء المدنية المشحونة داخل "إسرائيل"، مساهماً في تهدئة المخاوف الأمنية لدى "الإسرائيليين". وعلى صعيد امتداد الطيف السياسي، يردد "الإسرائيليون العرب" أصداء ذلك، مع بعض الاستثناءات القليلة:

<... المشكلة الفلسطينية-"الإسرائيلية" تؤثر فينا إلى حدٍ بعيد ... فالعنف يباعد بين العرب واليهود؛ وهذا يشجع أنصار التمييز العنصري على سن القوانين التي تكرس الممارسات العنصرية ... فيما مضى، كان اليسار "الإسرائيلي" يقف إلى جانبنا، لكن، لا يوجد اليوم توازن في القوة بين اليسار واليمين ... وإذا تم التوصل إلى حل للصراع العربي-"الإسرائيلي"، سوف ينتقل مركز الاهتمام إلى موضوع المساواة ... وسوف يسهل السلام توحيد نضالنا الشعبي، ويجعل جهودنا متضافرةً من خلال الكنيست والمحاكم والمجتمع المدني...>(185).

وإلى حدٍ ما، نستطيع أن نعتبر المسألة متعلقة بالنظرة التقييمية. وفي ذلك، يقول نائب رئيس مجلس بلدية الناصرة: <... إن اعتبارنا طابوراً خامساً هو اعتبارٌ قابل للتغيير؛ وإذا تغيرت هذه النظرة، سوف تخف عنّا الضغوط، وتغدو الدولة أقل استعداداً لممارسة التمييز العنصري بحقنا...>(186). وبدورها، تعبر عائدة توما، مديرة الجمعية النسائية الداعية إلى وقف العنف، عن تأييدها لهذا الرأي، وتقول انه <... من وجهة النظر العملية، لا نستطيع أن نعالج موضوع "يهودية دولة إسرائيل" في غياب الحل الشامل لمشكلة الصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني ... وإذا تم إحلال السلام، سوف يصبح نضالنا أسهل ... فالآن، ينظر الجميع إلينا على أننا "طابور خامس" ... ولكن هذه النظرة ستتغير حتماً في ظل أجواء سلميّة ... وبمجرد أن تتغير هذه النظرة (وينال جميع المواطنين حقوقاً متساوية)، يمكن عندئذٍِ إلغاء القوانين الجائرة، وتنظيم عملية توزيع الموارد العامة، ووضع قوانين جديدة موضع التطبيق ... وفي مثل هذه الحالة، سوف يسمح لنا السلام بتبديل أولوياتنا والتركيز على مشاكلنا الخاصة...>(187).

لكن، بمعزلٍ عن التنظير، هناك ما يدعو إلى التشكيك في صوابية التفاؤل حيال هذا الموضوع. فمن المفترض أن تساهم تسوية الصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية في تلطيف المدارك المخيفة المتبادلة. وكل من المجتمعين (العربي واليهودي) -يؤمن بأن السلام والدولة الفلسطينية سوف يؤثران تأثيراً إيجابياً على العلاقات المجتمعية، وعلى أوضاع الأقلية العربية. لكن، إذا لم يتم اتخاذ خطواتٍ عمليةٍ مسبقةٍ هدفها إزالة أو تخفيف الهواجس التي تنتاب المجتمع "الإسرائيلي العربي"، فمن المحتمل جداً أن تنشأ مشاحنات جديدة عندما ينصرف "الإسرائيليون" اليهود إلى التفكير في مضامين النمو السكاني العربي، بعد أن يحققوا الإنفصال الكامل عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ولا يجدون أمامهم من شأنٍ داخلي مقلقٍ على المدى الطويل سوى المشكلة الديموغرافية(188)؛ وخاصة إذا عاد "الإسرائيليون العرب" إلى المطالبة بمعالجة مشاكلهم التي تنتظر الحل. وبعبارةٍ أخرى، على الرغم من أن نهاية الصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني سوف تساعف على تحسين أوضاع "الإسرائيليين العرب"، إلا أنها لن تضمن معالجة كل المشاكل العالقة؛ بل يمكن أن تعيد إلى الواجهة قضايا أساسية تخص العلاقات بين "إسرائيل" والأقلية العربية على المدى الطويل.

<... يخشى المجتمع العربي أن ينتقل الصراع إلى داخل "إسرائيل" بمجرد تسوية المشكلة الفلسطينية-"الإسرائيلية" ... وهذا يعني أن العرب سيعيشون حالة من الخوف الدائم، لأنهم لا يجدون مواصفات الشريك، لا في مجتمعهم، ولا في دولة "إسرائيل">(189).

لكن الناشط اليميني (البدوي) سلامة الأطرش يعبّر عن مزيدٍ من التشكيك، فيقول: < ... يوجد بيننا من يعتقد أن السلام يحمل نتائج إيجابية، وهناك آخرون يخشون أن لا يصبح "العرب الإسرائيليون" مواطنين في حساب الدولة، حتى لو تحقق السلام... وهناك أيضاً خطر اعتبار الدولة الفلسطينية "حلاً بديلاً لمشكلة عرب "إسرائيل" ... ما يعني أن هؤلاء سيفقدون شرعية وجودهم ويصبحون معرضين لضغوط النقل [Transfer]...>(190).

ومن جانبهم، يخشى بعض اليهود "الإسرائيليين" أن يعود العرب إلى إحياء مزاعمهم القديمة، وتوكيدها، في أعقاب التوصل إلى اتفاق سلام. ويقول مناحم كلامين في هذا الشأن: <... إذا لم نكن متيقظين، فسوف تكون هناك صحوة مزعجة ... وبمجرد أن يتنفس "الإسرائيليون" اليهود الصعداء، بعد إغلاق ملف عام1948، سوف يأتي جيرانهم العرب الفلسطينيون، ويطرقون الباب ليقولوا: "... وماذا عنا نحن ؟ ... نحن لاجئون أيضاً ... وبيوتنا السابقة موجودة هنا"...>(191).

وجديرٌ بالذكر أن المجتمع العربي في "إسرائيل" يضم حوالي 250000 نسمة من الأشخاص الذي هُجّروا داخلياً؛ ويتواجد معظم هؤلاء في شمال "إسرائيل" ومنطقة الجليل. وكان الجزء الأكبر منهم قد هُجّر بسبب القتال الذي دار خلال أعوام 1947 و1948 و1949؛ إلا أن قرىً عديدة أخليت بُعيد الحرب لأسباب أمنية خاصة بهم(192) واليوم يعيش العرب المهجّرون داخلياً على أراضٍ تابعةٍ لقراهم السابقة، أو في مناطق قريبةٍ منها(193). وعلى الرغم من أن الحكومة تتجاهل موضوع هؤلاء المهجرين، إلا أنهم اكتسبوا مكانةً بارزةً وسط المواطنين "الإسرائيليين العرب". واليوم، يقوم كثيرون منهم بزيارة مواقع القرى والبلدات المدمرة، وتؤكد جماعاتهم الدينية على أهمية المحافظة على آثار المساجد والمقابر(194). وتنطوي الأفكار المقترحة للتعاطي مع قضيتهم على "عودة رمزيةٍ محدودةٍ إلى بعض القرى" (عكريب وبيرام، على سبيل المثال)، أو تعويض بالمال والأرض، أو اتفاقٍ يقضي بالمحافظة على المواقع الأثرية/التراثية الرئيسة(195). وفي حال تحقيق السلام، يمكن أن ترتفع هذه المطالب على سلم الأولويات في جدول أعمال المجتمع "الإسرائيلي العربي".

لكن، إذا تعاطينا مع الموضوع من زاويةٍ أوسع، نجد أن معالجة المشكلة الفلسطينية-"الإسرائيلية" لن تحل مسألة هوية الدولة. فداخل "إسرائيل"، هناك شأن ديموغرافي مهم تقوم وراءه رغبة "إسرائيلية" في "الانفصال" عن الأراضي المحتلة. وهنا، يسأل البعض: <... إذا كان العرب وراء الخط الأخضر" يشكلون خطراً ديموغرافياً كامناً، فلماذا لا نقول: إن العرب الذين يعيشون داخل هذا "الخط" يشكلون خطراً مماثلاً؟>... ورداً على هذا التساؤل، يقول أحد المعلقين "الإسرائيليين" ان <... اتفاق السلام مع الفلسطينيين لن يحل مشكلة المحافظة على الطابع اليهودي للدولة ... بل يؤجل معالجتها فحسب...>(196).

ومن الممكن أيضاً أن يكون لاتفاق السلام تأثيرٌ حاسمٌ على "العرب الإسرائيليين" إذا نص هذا الاتفاق على "تبادل الأراضي"، كجزء من التسوية الإقليمية، كما هو متوقع. ومن البديهي أن يعمد "الإسرائيليون" –في هذه الحالة- إلى ضم المناطق التي تقوم عليها مستوطنات رئيسة متاخمة لحدود عام1967، مقابل إعطاء الفلسطينيين أراضٍ أخرى ليست محددةً بعد. وقد اقترح البعض -في هذا الصدد- أن تعوّض "إسرائيل" على الفلسطينيين ببعض المناطق التي تسكنها أكثريةٌ عربية غالبةٌ، داخل "المثلث الصغير"، على مقربةٍ من "الخط الأخضر". ويقول مؤيدو هذا الطرح ان ذلك يحل المشكلة الديموغرافية التي تواجهها "إسرائيل" (عن طريق إنقاص عدد المواطنين العرب)، ويرضي رغبة الفلسطينيين في تحقيق مقايضةٍ منصفةٍ، ويضع "الإسرائيليون العرب" (جزء منهم) تحت سلطة إخوانهم الفلسطينيين (الذين يعيشون في الأراضي المحتلة). غير أن الكثيرين من عرب "إسرائيل" يعارضون هذه الفكرة، ويرفضون "نقلهم" إلى حيز السيادة الفلسطينية للعيش في ظل سلطةٍ فلسطينيةٍ تفتقر إلى الكفاءة(197).

وفي الأراضي المحتلة، يردد الفلسطينيون أصداء ذلك، خوفاً من نشوب خلافٍ بينهم وبين أخوانهم داخل "إسرائيل"(198). وعلى حد تعبير البرلماني عبد الملك الدهامشة، "من القائمة العربية المتحدة" (وهو عضو بارز في الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية)، <... سوف يكون للفكرة تأثيرٌ سلبيٌ على المجتمع العربي في "إسرائيل" ... أنا مواطن "إسرائيلي"... ولا أرغب في مغادرة هذا المكان ... لأن في ذلك الكثير من الإذلال، ولأن مجرد اقتراح ذلك علينا يعبر عن مقت لنا يثير الاشمئزاز...>(199). وفي الفترة الأخيرة، ألمح رئيس الوزراء أرييل شارون إلى معارضته لهذا الطرح.

 

VII- خاتمة

ما زال "الإسرائيليون" يواجهون المشكلة المحيرة ذاتها، منذ ولادة دولة "إسرائيل": كيف يمكن أن تبقى الدولة "يهودية"، وأن تحترم حقوق أقليتها غير اليهودية، في آن؟ ومما لا ريب فيه أن اتفاق السلام مع الفلسطينيين سوف يقطع شوطاً معتبراً نحو تحسين الأوضاع القائمة؛ لكنه لن يعالج المشكلة معالجة كاملة. وفي غياب التخطيط المسبق والخطوات المبكرة التي من شأنها رفع المظالم الحالية، يمكن أن يؤدي اتفاق السلام إلى عرقلة الأمور، بدل معالجتها. إذ أن الفصل عن الفلسطينيين سوف يسلّط الضوء على المجتمع "الإسرائيلي العربي"، ويرغم سكان "إسرائيل العرب" واليهود على الإنصراف إلى صوغ العلاقة الطويلة الأمد بينهم.

وليس هناك حل سهل لهذه المشكلة؛ إذ أن المنظومتين السياسية والقانونية –في "إسرائيل"- ستظلان ترزحان تحت وطأة "الثقل الديموغرافي" و"الهوية الثنائية" للمجتمع العربي. وعلى نحو مماثل، سوف يظل الاستقرار "الإسرائيلي" يواجه تهديداً كامناً على المدى الطويل، إذا استمر التعامل مع الأقلية العربية على أنها "طبقةٌ من الدرجة الثانية".

وعلى المدى المنظور، يجب أن تسعى الحكومة "الإسرائيلية" إلى تشكيل هيئةٍ قانونيةٍ مهمتها الإشراف على تطبيق السياسات التي من شأنها إلغاء التمييز، والقضاء على حالة اللامساواة وإزالة العقبات البنيوية التي تواجهها مجتمعات الأقلية. وبوصفها وكالة شبه مستقلة، تستطيع هذه الهيئة أن تراقب الوضع وتحمّل الحكومة مسؤولية أعمالها(200).

أما على المدى الطويل، فتقترح نموذجين للخطوات اللازمة لإعادة تشكيل العلاقات بين المجتمعين العربي واليهودي:

 

v  النموذج الأول يقوم على أساسٍ فردي، يتعلق بالفرد، ويتم فيه توكيد الطابع "الإسرائيلي"، على حساب الطابع اليهودي؛ بحيث تكون نقطة الإنطلاق مجسدة في "المواطنة المشتركة" ويكون الهدف "بناء ثقافةٍ مدنية/أهلية شاملة". وفي الوقت نفسه، يكون الحرص على التقليل من شأن الانتماء المجتمعي/الفئوي، مع العمل على تعزيز إحساس المواطنين بالانتماء إلى وطنٍ "إسرائيلي" واحد(201). وبالمعيار السياسي التطبيقي، يعني ذلك بذل مساعٍ حثيثةٍ من أجل التوصل إلى اتفاقٍ بين ممثلي المجتمعات "الإسرائيلية" المختلفة (عرب- يهود- متدينون- علمانيون- مهاجرون روس...) بشأن مجموعةٍ من الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد. وكما أكد "الإسرائيليون" مراراً، يمكن تحقيق ذلك عن طريق تبني دستور للدولة(202).

v  النموذج الثاني هو نموذجٌ "مجتمعي"، تحافظ فيه "إسرائيل" على طابعها اليهودي، وينال فيه العرب اعترافاً رسمياً وقانونياً بوضعهم، "كأقلية وطنية". ومن الناحية العملية، سيكون هذا النموذج قائماً على فكرة "توكيد الاتجاهات الاجتماعية-السياسية" التي برزت في المجتمع منذ الثمانينيات؛ وكذلك، على تعميق الروابط المجتمعية التي تعيد تشكيل المشهد السياسي، الذي نجح فيه اليهود المتشددون والروس والعرب-إلى حد ما- في تحويل أنفسهم إلى قوى سياسية معتبرة. ويمكن هنا أن نتصور أشكالاً مختلفةً للاستقلالية الفئوية التي تسمح للجماعات إياها بالمحافظة على رموزها الدينية أو الثقافية، وعلى أساليب حياتها وأنظمتها وأعرافها الداخلية.

ويشير بعض القادة العرب إلى ترتيبات "الاستقلال الهشّ" التي تحكم العلاقات بين الدولة والمجتمع الديني (الحاريدي) المتشدد، كنموذج يُقتدى؛ حيث يدير اليهود المتدينون "الحاريديم" مؤسساتهم التعليمية المعترف بها من قِبَل الدولة، ويمولونها بهباتٍ حكومية؛ كما يديرون مؤسساتهم الدينية والثقافية. وعلى نحو مماثل، يمكن الاعتراف بالمؤسسات العربية التعليمية والدينية والثقافية. كمؤسسات شبه مستقلة، مدعومة ومموّلة من قِبل الدولة ويمكن في موازاة ذلك دعم المجالس المحلية العربية(203).

وأيّاً كانت الظروف التي تُسلك، من أجل إصلاح الأوضاع الحالية، ستبقى هذه الطريق أفضل من المقاربة الراهنة، الموسومة بالإهمال، والتهميش، والعمل انطلاقاً من مخاوف أمنية صرفة. وعلى الأقل لا بد من إيلاء احتياطات المواطنين "الإسرائيليين العرب" قدراً كافياً من الجدية والتركيز؛ فقد اكتشف فريق [ICG] أمراً مذهلاً في هذا الشأن؛ وهو أنه لا توجد مؤسسةٌ رسميةٌ، مسؤولةٌ ومفوضةٌ، ومركزيةٌ، تأخذ على عاتقها إدارة الجدل السياسي واتخاذ القرارات المناسبة في هذا الصدد. ومن الناحية النظرية، يُفترض أن تجسد "اللجنة الوزارية لشؤون القطاع غير اليهودي" هذه الهيئة؛ وكنا نأمل تحقيق تقدم ملموس على طريق معالجة هذه المشكلة عندما قرر رئيس الوزراء شارون أن يرأس اللجنة إياها. لكن الأخيرة عقدت عدداً قليلاً جداً من الاجتماعات؛ وتجاهلت القضايا المركزية؛ وتبنت سياسات متناقضة؛ وكان ذلك متوقعاً في ظل الافتقار إلى الهيئة المركزية الصانعة للقرار(204).

وكانت النتيجة فوضى عارمة. ومن جانبه، يرى مجلس الأمن القومي أن الموضوع يسترعي الانتباه ويستلزم اهتماماً عاجلاً؛ ويقتضي ردم الهوة الاجتماعية والاقتصادية، وإطلاق مشاوراتٍ واسعة النطاق مع الممثلين الحقيقيين للأقليات، ومنح المجتمع العربي عموماً حرية التعبير في "إسرائيل"(205). ولكن في الوقت نفسه، يُنكر مستشار الشؤون العربية في مكتب رئيس الوزراء وجود "اللامساواة" أو الثغرات السوسيو-اقتصادية؛ ويربط موضوع توزيع الموارد العامة بصدق الولاء للدولة؛ ويقول ان أولئك الذين يؤيدون الأشكال الجماعية للتعبير الوطني لن يجدوا مكاناً في "إسرائيل"(206).

وهناك هيئةٌ ثالثة –تابعة لمكتب رئيس الوزراء- تقف في مصاف دعاة التشدد؛ وهي وكالة الأمن العام، التي تحبذ محاربة "فكرة الاسترداد" ومن يقف وراءها، مستفزة بذلك المجتمع العربي وقادته عند "رادار الاستشعار الذي يرصد التهديدات"؛ في نفس الوقت الذي تنادي فيه باتباع سياسةٍ شاملةٍ تساهم في إزالة حالة اللامساواة(207).

من هنا، يمكن القول: إن أي تقدم على هذا الصعيد سيبقى مستبعداً، إلى أن تنجح الحكومة في عقلنة مقارباتها، وتختار اتجاهاً محدداً، وتقبل بالتعاطي الجدي مع قادة المجتمع العربي المتمتعين بقدرٍ معتبرٍ من الشعبية.

والحقيقة ان النظام السياسي "الإسرائيلي" يواجه امتحاناً صعبا؛ فعليه أن يثبت للأقلية العربية أنه قادرٌ على التحرك، وعلى أن يقرن القول بالفعل. فحتى الآن، مازال هذا النظام مقصّراً في نظر شريحةٍ معتبرةٍ من السكان. وإذا ما بقي كذلك، فسوف لن يؤدي الفشل إلا إلى تعزيز النزعة الاستردادية وزيادة المشاحنة والتوتر. وكما يقول إيلي ريخيس، المحلل في مركز موشي دايان، <... يجب أن لا نكون ساذجين في تفكيرنا، وأن لا نعتقد أن معالجة مشكلة الكبت الاجتماعي-الاقتصادي لدى السكان العرب يمكن أن تجعل الرسالة الوطنية كليلة الحدّ أو قليلة المضاء ... ومما لا شك فيه أن أية خطة عملٍ متكاملةٍ، تحمل المقومات الكفيلة بتحقيق إنجازات ملموسة، يمكن أن تقدم البديل المستحسن في نظر الكثير من المواطنين العرب الذين يبحثون عن مكانٍ لهم في دولة "إسرائيل" بعيداً عن أية مواجهة...>(208).

 

عمان/بروكسل، 4آذار/2004

2016-03-24 11:35:36 | 10530 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية