التصنيفات » مقالات سياسية

يوم القدس العالمي..ونهضة الأمّة




        الصراع بين منهج الحقّ ومنهج الباطل ماضٍ إلى يوم الدين. والذي يحصل في منطقتنا منذ عقود هو وجهٌ من وجوه هذا الصراع. فخطّة الغزو الغربي الصهيوني للعالم الإسلامي جاءت على خلفية السيطرة عليه والتحكم بمقدّراته؛  وكانت أولى الخطوات تشويه الوعي وتغييب الدين عن الساحة للبحث عن النهضة بعيداً عنه ، وحتى يذهب الجميع لتقليد الغرب بشكل أعمى؛ وهكذا أمكن وضع حجر الأساس في عملية الغزو، التي بدأت ثقافياً، ومن ثم جاءت الحلقات التالية بالتجزئة وتقسيم المنطقة إلى دويلات، وتنصيب أدوات الغرب في المنطقة حكّاماً، وتكريس غرس الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي. ولكي تُستكمل أدوات السيطرة أنشأ الغزاة مدارس فقهية وفكرية، وعملوا على تعميق الانتماءات الإقليمية والمذهبية على حساب الانتماء الأساس للأمة.
     وقد تمكّن الغزاة الغربيون من إفشال كلّ محاولة لتحدّي الكيان الصهيوني، وبالتدريج، عبر عمل متواصل نفّذت فيه أدواتهم المحلّية دورها الوظيفي بإتقانٍ مكّن من إيصال بعض نُظم المنطقة إلى القبول بالكيان الصهيوني وإبرام اتفاقات تسوية مذلّة معه، والضغط على المقاومة الفلسطينية لتغيير أهدافها، بالترغيب والترهيب، ومحاولة دمجها في سياسات "النظام العربي" الذي وصل إلى قناعة بعدم إمكانية تحرير فلسطين وضرورة التوجه للتعايش مع الكيان الصهيوني! وفي تلك المرحلة التاريخية التي خرجت فيها مصر من معادلة الصراع مع كيان الاحتلال، وأبرمت اتفاق كامب ديفيد معه، جاءت الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني (قدس)، لتشكّل العدوّ الحقيقي للكيان، والذي يحمل مشروع نهضة إسلامية تشكّل النقيض المطلق للسيطرة الغريبة على العالم الإسلامي، من موقع عقائدي أصيل ومدرك لوجهة الصراع منذ البداية  نحو عدو الأمّة، الذي يعرقل أي إمكانية لتحقيق نهضة  حقيقية للأمّة، ويسعى لاستكمال عملية تدميرها. ومن هنا جاء الموقف الجذري لإيران من الكيان الصهيوني، واعتباره غدّة سرطانية، تحت شعار (الموت لأميركا الموت لإسرائيل)، نتيجة فهم دقيق وعميق لأعداء الأمّة .  
      ولمواجهة هذا التحدّي الشامل، استنهض الأعداء أدواتهم مجدّداً،  وأثيرت النزعات القومية  في سياق عدوان طويل ومتشعّب شُنّ على الجمهورية الإسلامية، بهدف إجهاض مشروعها التغييري. لكن نموذجها الثوري النقي أزهر في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، حيث تعزّزت مناخات النهضة، وتصلّبت في الأمّة روح التحدّي  والممانعة مجدّداً، و برزت فصائل المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين في وجه الغزو الصهيوني، لتوسّع من دوائر المواجهة بشكل غير قابل للمساومة؛ وقد سجِّلت انتصارات غير مسبوقة في مواجهة العدو الصهيوني، بداءاً من العام 2000، حيث أجبر هذا العدو على الانسحاب من لبنان دون  شروط؛ وفي الحروب التي تلت ذلك، كعدوان تموز 2006 على لبنان وسلسلة الحروب التي تتالت على قطاع غزة. وللتغلب على هذا التحدّي، أخرِجت الأدوات الاحتياطية للمشروع الغربي لاستخدامها  بشكل متواتر، بهدف تحويل مسار الصراع عن وجهته الحقيقية في فلسطين وضدّ العدو الصهيوني الذي يحتلها. وقد جاءت ورقة الجماعات التكفيرية مؤخراً لإثارة النزاعات المذهبية لتفتيت قوى الأمّة وتشتيت طاقاتها بعيداً عن مواجهة الكيان الصهيوني .
      إن المعركة مع أعدائنا هي معركة على الوعي. فالقوى المستعمرة عملت منذ زمن بعيد على تشويه الوعي لدى البعض منّا واحتلّته، وجعلته يرى أن الخصم أو العدو هو الجمهورية الإسلامية وقوى الممانعة والمقاومة بدل العدو الصهيوني. ونحن من جانبنا يجب أن يكون هدف معركتنا تضييق مساحة احتلال أعدائنا لوعي أمّتنا، حتى تتوجّه بوعيها إلى العدو الحقيقي. إن المعارك التي يفتعلها العدو باستمرار ويستهلك فيها أدواته ويكشفها بهذا الشكل السافر، من أنظمة إلى مجموعات مختلفة، تعني أنه يعيش المأزق الأخير في الدفاع عن مشروعه العنصري والاستعماري، خاصة مع انفضاح تلك الأدوات، والسعي المحموم من قِبل أطراف هذه المنظومة المعادية إلى ما يُسمّى السلام الإقليمي، الذي يكرّس اصطفاف العدو وأدواته في مواجهة مشروع النهضة الإسلامية التي بدأت مع انتصار الثورة الإسلامية. وأبرز ما يمكن أن يوسّع دوائر الوعي لدينا ويقلّص مساحات الوعي التي احتلّها العدو في عقولنا هو سلاح  توجيه بوصلة الصراع نحو الكيان الصهيوني وتحرير القدس؛ والأمور هناك باتت واضحة، والعدوان عليها واضح؛ وقد جاء الإعلان التاريخي عن (يوم القدس العالمي) في آخر يوم جمعة من شهر رمضان من كلّ عام كشعار أساسي يهدف لإعادة تشكيل الوعي الجمعي بالعدو لدى الأمّة، ولتوجيه البوصلة باستمرار نحوه، لأن ذلك هو اتجاه النهضة الحقيقي. كما أن إحباط أو إفشال الغزو الغربي الصهيوني للعالم الإسلامي، يمرّ أيضاًً من خلال توسيع دائرة الفعل الإسلامي المقاوم، داخل فلسطين وحولها.
ونحن في ذكرى حرب تموز 2006 ومناخات يوم القدس العالمي، نؤكد بأن البوصلة الحقيقية للصراع ما تزال في مكانها، وهي تؤتي ثمارها بحول الله، حيث يلعب يوم القدس دوراً رائداً في هذا الإطار. وفي كلّ عام  يتّسع هذا الوعي، الذي يتعمّق أيضاً من خلال استمرار العدو في اعتداءاته التي تساهم في إعادة الوعي المسلوب إلى الحقيقة التي لا يمكن إغفالها، بأن الكيان الصهيوني هو غدّة سرطانية يجب استئصالها، وأنه عبر المقاومة وتعزيز قدراتها وتطوير الفعل المقاوم وإبقاء حالة الاشتباك مع العدو يتعمّق الوعي أكثر فأكثر بوجهة الصراع مع هذا العدو.
       وفي الختام، يمكن القول إن الغزو الأجنبي لبلادنا، بعد أن تكرّس عبر الغزو الثقافي وخطط التجزئة وإقامة الأنظمة التي تحمي الكيان الصهيوني، وصولاً إلى احتلال القدس، قد أصبح في أوج انتصاره وفي هذه المناخات بدأ العدو يستثمر في هذا الانتصار ليدخل مرحلة التطبيع مع الأدوات المطيعة، على أنقاض هزيمة إرادة الأمّة، بهدف تكريس اتفاقات الهزيمة والعار. لكن مخطّطه لم يُكتب له النجاح كما كان يرغب؛ فقد ظهرت قوىً حيّة من الأمّة تتحدّى تلك المخطّطات وتجهضها. وهي لاتزال تخوض معركة الممانعة لتراكم في قدرات الأمّة وتستنهضها، ولاتجعل العدو ينفرد في رسم وعي أجيالنا. ونحن اليوم في خضم معركة جديدة يخوضها العدو ضدّنا وعنوانها التطويع لإنجاز التطبيع؛ أي تطويع ما تبقّى في الأمّة من مواقع ممانعة، لكي لايعترض أحد عملية التطبيع؛ ولكن، بالوعي والمقاومة وتوسيع دوائر المواجهة، "سيُهزم الجمع ويولّون الدبر"، بحول الله وقوّته.


الباحث الفلسطيني
محمود ابراهيم

2016-07-23 09:46:30 | 2740 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية