التصنيفات » مقالات سياسية

محمود عباس والقرار الفلسطيني المستقل!
 
     شدّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعلى وقع توجهات "الرباعية العربية"، الجديدة على أهمية القرار الفلسطيني المستقل. وهو أعلن بصراحة: كفى تدخلاً بالشأن الداخلي الفلسطيني، وكفى لعباً بالورقة الفلسطينية؛ وعليكم احترام قرارنا مثلما نحترم قراراتكم. وعليكم عدم العبث في شأننا الداخلي كما لا نتدخل نحن في شؤونكم الداخلية.
 قد لا تكون المرّة الأولى التي يُطلق فيها عباس مثل هذه المواقف، ولكن هذه المرّة جاءت بشكل علني وواضح، في ظلّ تنامي دور عربي إقليمي تحت عنوان "الرباعية العربية"، والتي تتشكّل من (السعودية و مصر والأردن والإمارات المتحدة). كما جاءت في ظلّ الحديث عن قرار إقليمي بضرورة تحقيق المصالحة مع القيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان  الذي يحظى برعاية عربية قوية!
    هذا التهديد أطلقه عباس في مواجهة تلك التدخلات التي لا تخدم القضية الفلسطينية. بل هي تزيد من تعقيد وصعوبة الأوضاع الفلسطينية الداخلية التي تعاني من الانقسام والتشتت والتيه، ومن خطر الاستهداف الحقيقي الذي تقوده قيادة العدو لطمس الهوية الفلسطينية وتغييبها، وهروباً من الإستحقاقات المترتبة على استمرار سلطة عباس في مطالبتها بدولة فلسطينية. وهنا يُثار تساؤل: هل تمتلك القيادة الفلسطينية في هذه الظروف  عوامل القوّة التي تمكّنها من الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني المستقل والدفاع عنه(؟!) وهي التي تراوح في أضعف دائرة تمرّ بها في تاريخها، بعد الاضطراب السياسي والأمني الحاصل في المنطقة، والإنشغال العالمي بأولويات أخرى دفعت بالقضية الفلسطينية إلى أدنى درجات الاهتمام الإقليمي والدولي.
     لقد أثبت "القرار الفلسطيني المستقل" في عدّة محطّات أنه قادر على مواجهة كلّ الأخطار الدولية والإقليمية التي تواجهه، بقدرات ذاتية وبدعم( أصدقاء) على الصعيدين الإقليمي والدولي. وفي كثير من الأحيان استلزم الأمر حصل دفاع مستميت لحماية هذا القرار المستقل، وكانت الوحدة الوطنية طوق نجاة للجميع.  لكننا اليوم أمام حالة من الترهل والتناحر  والانقسام،  مع كادر قيادي غير مدرك أو غير قادر على فهم المعادلات وخطورة الخطط التي تُحاك ضدّ فلسطين ومستقبلها فإما أن تتخلّى بعض الفصائل الفلسطينية عن حالة  والتجاذب والانبطاح هنا وهناك، وإما أن تبقى على حالها المرتهنة بقراراتها للخارج، والمترنحة على طاولات القرار الخارجي، طمعاً في كسب مصالح ذاتية وحزبية ضيّقة.
  إن الواقع الفلسطيني مأزوم حقيقة بسبب الفشل في إنجاز التسوية على أساس البرنامج السياسي لمنظمة التحرير، وتراجع فرص التقدّم حتى بالحدّ الأدنى على هذا الصعيد، في ظلّ الظروف والإهتمامات الدولية والإقليمية، لإجبار الفلسطينيين على القبول بالأمر الواقع الذي فرضه الإحتلال طوال السنوات الماضية.
  واستمرار هذا الواقع هو الذي سمح بالتدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني، كما حصل عندما فُرِض الحصار على ياسر عرفات، وفرض عليه برنامج "الرباعية الدولية" لإصلاح السلطة. والتدخل الخارجي في هذه المرحلة سيزيد من صعوبة الوضع الفلسطيني المأزوم والمعقّد والمتعثر في كافة الملفات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة في ظلّ انسداد الأفق السياسي وتهرّب حكومة نتنياهو من كلّ التزاماتها، كما من الدعوات الدولية، والتي كان آخرها الجهد الفرنسي والروسي المبذول في إطار تحريك "عملية السلام". فبدلاً من أن تكون تلك الأطراف داعمة للموقف الفلسطيني، وبدلاً من سعيها لبذل جهد مضاعف لإعادة الوحدة الوطنية وإنهاء حالة الانقسام، نجد لديها التقاعس، كما نجد بعض التدخلات التي تؤثّر سلباً ولا تخدم المصلحة الوطنية ولا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني. ولهذا كانت الدعوة إلى وقف تلك المحاولات ومواجهتها بكلّ السبل تحقيقاً للمصالح الوطنية وترسيخاً لمبدأ الاحترام والاحترام المتبادل.
     إن ما يُسمّى  بمحور (الاعتدال العربي) يسعى اليوم إلى لعب دور "الرباعية الدولية" تحت عنوان إصلاح السلطة، علىّ ذلك يساعده للخروج من أزمته. فهذا المحور يعيش في ظلّ مأزق سياسي إقليمي متصاعد، وهو يفقد السيطرة أو النفوذ على العديد من الدول التي باتت عملياً خارج تأثير الجامعة العربية، من العراق إلى سورية ولبنان. وهذا المحور ورّط نفسه في معارك خاسرة تمتدّ من سورية والعراق إلى اليمن مروراً بسيناء.
 وفي إطار البحث عن السند الإقليمي لهذا المحور في مواجهة محور الممانعة، وفي طليعته الجمهورية الإسلامية وقوى المقاومة،  ولأن فرصة التحالف مع تركيا  مستبعدة  خشية تزعم  الأخيرة  لمحور الاعتدال العربي المذكور، اتجه محور (السعودية، مصر، الإمارات، والأردن ) إلى "إسرائيل" الحاضر الدائم في المعادلة، من أجل التصدّي للجمهورية الإسلامية وحلفائها وتركيا معاً، بزعم أن إيران لديها أطماع  في المنطقة العربية وتشكّل تهديداً للأنظمة العربية، فيما تركيا تريد مبادلة المياه بالنفط!
 لذلك اتجهت هذه الأطراف العربية للتعجيل بالتطبيع والتحالف مع "إسرائيل"، بما أن "إسرائيل" غير راغبة  في التفاوض مع الفلسطينيين بشكل يؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينية، وتفضّل الحلّ الإقليمي. وهذا الهدف يمكن التوصل إليه عبر تحويل "الرباعية العربية" إلى  وصيّة على الفلسطينيين، والتي أبدت مؤخراً الاستعداد الواضح للتنازل عن سقف  منظمة التحرير الفلسطينية  وبرنامجها المرحلي، القاضي بإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، فقط  من أجل أن يخرج  "محور الاعتدال العربي"  من مأزقه الإقليمي .
 لذلك، وعوضاً عن طرح هذا المحور خطّته للتحرّك أمام الجامعة العربية  كما جرت العادة،  بدأ تحرّكه أولاً من داخل الملعب الفلسطيني، لإضعافه حتى يهبط بسقفه، تمهيداً لفتح الباب الفلسطيني أمام تطبيع عربي متهالك مع "إسرائيل"، وبلورة منظومة إقليمية تكون "إسرائيل" الرأس والقائد والموجّه الحقيقي لها.
    لقد جرى  توزيع أو تسريب خطّة "الرباعية العربية" لتفعيل وتحريك الملف الفلسطيني إلى وسائل الإعلام، بعد ما قاله الرئيس محمود عباس عن نيّته قطع الامتدادات الفلسطينية التابعة للعواصم الخارجية إذا لم يقم أصحابها بقطعها، ليدخل الوضع الفلسطيني في مرحلة أكثر خطورة  .
      وكما أعلِن، تهدف خطّة "الرباعية" إلى توحيد حركة "فتح" واستنهاضها، وتحقيق المصالحة الوطنية، وتحريك "عملية السلام" على أساس المبادرة العربية؛ إضافة إلى دعم الشعب الفلسطيني وإسناده في الداخل والشتات. ويبدأ ذلك بعودة المفصولين من "فتح" والسلطة، ومعالجة الملفات القضائية، وعودة محمد دحلان إلى عضوية مركزية "فتح"، ووضع الخطط والبرامج لتفعيل منظمة التحرير.
وتقول الخطّة العربية: في حال رفض أحد أطراف حركة فتح تحقيق المصالحة، فلا يعني ذلك التخلّي عن تقديم الدعم للحركة، وإنما يصبح من الواجب البحث عن آليات دعمها بعيدًا عن الطرف المعرقِل للمصالحة! وفي حال عدم توصل الفصائل الفلسطينية إلى اتفاق ترتضيه كلّ الأطراف يصبح من واجبنا دعوة الجامعة العربية للتدخل بهدف فرض اتفاق يضع مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته فوق مصالح الأحزاب والفصائل المتناحرة!
لكن أخطر ما جاء في الخطة. هو تأكيدها على أنه في حال لم يقم الفلسطينيون بما عليهم واستمرّوا في الانقسام على أنفسهم، فستضطرّ بعض الدول العربية لدراسة بدائلها الخاصة في التعاطي مع ملف الصراع العربي – الإسرائيلي!
ويأتي تحرّك "الرباعية" العربية هذا في سياق "تأهيل" الجانب الفلسطيني للانخراط في تسويةٍ ما للقضية الفلسطينية، من ضمن التسويات التي يسعى اللاعبون الدوليون والإقليميون لفرضها لمعالجة أو إطفاء الأزمات المشتعلة في المنطقة.
وقد جاء هذا التحرّك تحت عنوان الحيلولة دون المزيد من التدهور داخل "فتح"، وتآكل الشرعية الفلسطينية، والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية، من أجل استئناف ما سمِّي "عملية السلام"؛ والأهم هو تحضير الوضع الفلسطيني لخلافة "أبو مازن"، لأن غيابًا مفاجئًا له من دون تهيئة الوضع للمرحلة الانتقالية، في ظلّ الانقسام وغياب أوتغييب مؤسسات المنظمة، يمكن أن يدفع الوضع الفلسطيني نحو الفوضى والانهيار؛ وهذا آخر ما تحتاجه المنطقة، نظرًا لمكانة القضية الفلسطينية ذات التأثير الكبير إقليمياً بالرغم من التدهور الذي أصابها في السنوات الأخيرة.
      إن النظام السياسي الفلسطيني برئاسة "أبو مازن" يتحمل المسؤولية عمّا آل إليه الوضع الفلسطيني، بعد وصول الإستراتيجيات التي اعتمدها إلى طريق مسدود، مع الاستمرار في الالتزامات المجحفة المترتبة على "اتفاق أوسلو"، ودون اعتماد استراتيجيات جديدة، أو معالجة الانقسام، أو تجديد وتغيير وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف الأطياف، أو على الأقل إصلاحها بمكوّناتها الراهنة.
    كما يتحمل هذا النظام، وتحديدًا الرئيس محمود عباس، المسؤولية عن  الغرق في سياسة الانتظار والتكلّس في مواقع السلطة، مع تغييب الشعب الفلسطيني والقوى الفلسطينية ومنظمة التحريرعن دوائر صنع القرار، في ظلّ الإمعان في الحكم الفردي بعيدًا عن قواعد وقوانين المساءلة والمحاسبة والمراقبة والشفافية، إلى جانب رفض وضع ترتيبات الخلافة، من خلال عدم عقد مؤتمر "فتح" السابع، وعدم عقد المجلس الوطني "الحالي أو بتشكيلة جديدة"، وعدم إجراء انتخابات عامة؛ لا بل حتى التراجع عن إجراء الانتخابات المحلية، ممّا عرقل ولايزال إمكانيات الشعب والفصائل في إبداع بدائل كفاحية تسهم في الخروج من حالة الانتظار  وجمع الجهود، في سياق تحقيق هدف إنهاء الاحتلال وإنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لقد فتح هذا الوضع السيّئ كلّ الأبواب أمام شتّى أنواع التدخلات العربية، والإقليمية، والإسرائيلية (وهي الأخطر)، والدولية، والتي باتت تهدّد الكيان الناشئ ووحدانية التمثيل والقرار الفلسطيني المستقل، لدرجة أصبحت عودة محمد دحلان عند "الرباعية العربية" هي العصا السحرية لفتح كلّ الأقفال "الفتحاوية" والوطنية، بينما غابت أو تراجعت، إلى حد كبير، القضايا ذات الأولوية عن أجندة العمل اليومي للرئيس الفلسطيني والقيادة الفلسطينية.
       فهل يتم التدخل العربي اليوم للمساعدة في الخروج من الوضع القائم منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، أم من أجل الدفع نحو المزيد من التنازلات الفلسطينية إنسجاماً مع الوقائع والمتغيرات الجديدة، الإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية، والتي لم تصب يوماً في مصلحة القضية الفلسطينية؟!
      إن مسار إحياء المسيرة السياسية، في ظلّ المعطيات الراهنة، والدفع لإحياء المفاوضات الثنائية عبر عقد قمّة فلسطينية-إسرائيلية، يشكّل خدمة خالصة لحكومة نتنياهو، وهو سيهدر المزيد من الوقت، وربما يشجّع على التطبيع العربي مع "إسرائيل" من البوّابة الفلسطينية، ويغطّي على ضياع المزيد من الأرض والحقوق، ويمكن أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى حلٍ يصفي قضية فلسطين مؤقتاً، ويدفع بها نحو تيه جديد، بانتظار نهوض عربي وفلسطيني مختلف عمّا هو قائم وعمّا سبق، وبعيداً عن ارتهان بعض الأنظمة العربية عند أيّ محطة، وحيث تقدّم التنازلات من الحصّة الفلسطينية على الدوام!

محمود إبراهيم
باحث فلسطيني


 



2016-09-10 14:02:28 | 3133 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية