التصنيفات » ندوات

التحوّلات الدولية في ظلّ تراجع الهيمنة الأميركية (آفاق الصعود المصري) -د. جمال واكيم-



عقِدت في مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية في بيروت، بتاريخ 19/1/2017، ندوة سياسية حاضر فيها الدكتور جمال واكيم، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، حول (التحولات الدولية في ظلّ تراجع الهيمنة الأميركية ـ آفاق الصعود المصري)، وذلك بحضور نخبة من الأساتذة الجامعيين والشخصيات الفكرية والسياسية والإعلامية.
وكان من بين المشاركين في الندوة، إضافة إلى رئيس مركز باحث للدراسات الدكتور يوسف نصرالله، كلّ من: المستشار السياسي للسفارة الإيرانية في بيروت السيد إلهي، الدكتور عماد رزق، الدكتور سلام الأعور، الدكتور محمود العلي، الدكتورة صفيّة أنطون سعاده، الدكتور عبد الملك سكريّة، الأستاذ رياض عيد، الأستاذة مريم مرتضى، الأستاذ حسن شقير، الأستاذ علي نصّار، الأستاذ محمود إبراهيم.
في البداية عرّف الأستاذ محمد أيوب بالمحاضِر وبموضوع المحاضرة، مركّزاً على أهمية فهم ثوابت ومتغيّرات السياسة الأميركية وأهدافها في المنطقة والعالم، خصوصاً مع وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة خلفاً لباراك أوباما، والذي اعتمد استراتيجية (القيادة من الخلف) خلال السنوات الأخيرة من عهده، ليتفادى التورّط المباشر والمكلِف في صراعات المنطقة، من دون أن يتراجع عن أهداف أو ثوابت بلاده المعروفة في تأمين إمدادات النفط الخليجي للغرب وحماية الكيان الإسرائيلي ومكافحة ما يُسمّى الإرهاب وامتلاك الدول المعادية لأميركا لأسلحة دمار شامل!
بدأ الدكتور جمال واكيم كلامه، بعد شكره إدارة مركز باحث للدراسات على رعاية هكذا ندوات، بأن دخوله إلى عالم أو اختصاص الجغرافيا السياسية كان بالصدفة، والذي كان منبوذاً في الحرب العالمية، ليكتشف الجميع لاحقاً أهميته في السياسة والحروب والصراعات الدولية والإقليمية.
وبعد تأكيده على موقعية بلاد الشام المركزية في الصراعات التي شهدتها المنطقة، أشار إلى تأثير كل من العراق ومصر (وامتداداتهما الجيوسياسية) في هذا الإطار، لينتقل في عرض تاريخي مسهب إلى تحليل أبرز التحولات التي شاركت فيها بلاد الشام أو تأثّرت بها خلال العقود الماضية، ودور كلٍ من أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي (روسيا في ما بعد) والصين في تلك التحوّلات والنزاعات على النفوذ السياسي والعسكري، والسيطرة على الممرّات والمضائق وعقد المواصلات البحرية، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
وتالياً مقتطفات رئيسية من محاضرة الدكتور جمال واكيم، والتي تلتها مداخلات واستفسارات من قِبل بعض المشاركين في الندوة.



النفوذ المصري في بلاد الشام
في آب/أغسطس من العام 2015 قام الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي بشقّ قناة السويس الجديدة الموازية لقناة السويس القديمة. وقارنت وسائل الاعلام المصرية بين افتتاح القناة الجديدة وتأميم جمال عبد الناصر للقناة في العام 1956، والذي أطلق مصر كالقوّة الإقليمية الأولى في منطقة الشرق الأوسط بين عامي 1956 و1979، ما يجعلنا نستنتج أن هذا حصل في إطار عزم مصر مرّة جديدة على لعب الدور الريادي الأول في المنطقة. فمنذ فجر التاريخ ارتبط صعود القوّة المصرية بازدهار خط التجارة ما بين شرق المتوسط والمحيط الهندي؛ وهذا يفسّر الاهتمام التاريخي لمصر بمدّ نفوذها على بلاد الشام، التي يمكن عبر السيطرة على سواحلها تأمين الهيمنة على شرق المتوسط. هذا إضافة إلى كون برّ الشام كان في كثير من الأحيان منطلق الغزوات التي تعرّضت لها مصر، ما يفسّر إعلان الرئيس السيسي في مقابلة مع شبكة سي.إن.إن قبل ذلك بأشهر عدّة أن الحلّ في سورية لا يمكن أن يكون إلاّ سياسياً، مشدّداً على ضرورة الحفاظ على مؤسسة الجيش السوري لأنه يقاتل الإرهاب الذي تحاربه مصر في الوقت ذاته. وهو أكد أنه يمكن "التوفيق في التعامل ما بين الرئيس السوري بشّار الأسد والمعارضة". وهذا الموقف يؤكد أهمية بلاد الشام بالنسبة لمصر من منطلق جيوسياسي بالدرجة الأولى.
وكان فقدان مصر لهيمنتها على هذا الخط التجاري قد جعلها عرضة للاحتلال العثماني في العام 1517. ولمدّة ثلاثة قرون وقعت مصر تحت الهيمنة العثمانية، لكنها حافظت على وحدتها ووضعها كولاية ذات حكم ذاتي في إطار الدولة العثمانية تحت حكم المماليك. وفي العام 1768 شنّ الروس حرباً على العثمانيين في جنوب أوكرانيا والقرم وانتصروا عليهم، ما مكّن الأسطول الروسي من الوصول إلى شرق المتوسط لأول مرّة في تاريخه. وهذا شجّع علي بيك الكبير في العام 1770 على التمرّد على العثمانيين وإقامة الصلاة باسمه لا باسم السلطان العثماني، وتوقّفه عن دفع الأتاوة للباب العالي. وكان هذا بمثابة إعلان الاستقلال عن الدولة العليّة لأول مرّة منذ العام 1517. وقد اتصل الروس بعلي بيك الكبير وشجّعوه على هذه الخطوة، كما شجّعوا حاكم الجليل في فلسطين ظاهر العمر على شقّ عصا الطاعة. لكنّ أفق العمليات الروسية اقتصر في ذلك الوقت على احتلال شبه جزيرة القرم وتأمين موطىء قدم ثابت على البحر الأسود، ما أدّى إلى وقوع علي بيك الكبير وظاهر العمر فريسة الإنتقام العثماني. وفيما تمّ قتل علي بيك على يد معاونه أبو الذهب في العام 1773، تمّ التخلص من ظاهر العمر في العام 1775 على يد أحمد باشا الجزّار.





بريطانيا وأسرة محمد علي
 تجلّى ضعف الدولة العثمانية في قدرة نابوليون بونابارت على احتلال مصر من دون تدخل من الباب العالي في العام 1799. وكانت فرنسا في ظلّ حكم الثورة تحاول تحدّي التفوّق البحري البريطاني الذي تحقق خلال حرب السنوات السبع. وكان نابوليون يهدف الى الانطلاق من مصر إلى الهند؛ لكن أحلامه توقفت عند أسوار عكّا. بعد ذلك ولّى العثمانيون محمد علي باشا على مصر، الذي أعاد اكتشاف عناصر الأمن القومي المصري؛ لذلك أرسل بعثة لاكتشاف مصادر نهر النيل، قبل زمن طويل من إرسال البريطانيين لبعثتهم لنفس الغرض. إضافة إلى ذلك، سيطر محمد علي باشا على شرق ليبيا لضمان أمن حدوده الغربية، وسيطر على اليمن والحجاز لضمان تجارة البحر الأحمر، خصوصاً بعد تمكّنه من تدمير الوهّابيين وعاصمتهم في العام 1818. وفي العام 1831، قام محمد علي بإرسال قوّة من جيشه يقودها ابنه ابراهيم لاحتلال بلاد الشام، والذي تمكّن من احتلال دمشق ثم حلب، لتصل قوّاته بعد ذلك إلى جبال طوروس، وتعبر منها إلى قلب الأناضول باتجاه العاصمة العثمانية اسطنبول، في محاولةٍ منه للإطاحة بالسلطان العثماني وإعلان نفسه سلطاناً على كلّ الدولة العثمانية، لولا تدخل الدول الغربية حينها لمنعه من ذلك.  
وفي العام 1839، نجح البريطانيون في تكوين تحالف من القوى الأوروبية، تمكن من الضغط على فرنسا الداعمة لمحمد علي وتحييدها. ثم عمل على إرغام محمد علي على الانسحاب من بلاد الشام والحجاز واليمن والاكتفاء بحكم مصر، على أن يكون حكمها وراثياً في عائلته.  وقد فشلت أول محاولة لتحديث مصر في التاريخ الحديث بسبب وقوف القوّة العظمى في ذلك الوقت، وهي بريطانيا، ضدّ صعود نجم مصر. وفي العام 1869 تمّ افتتاح قناة السويس، ما كان من شأنه تعزيز تجارة المحيط الهندي مع شرق المتوسط، وتهديد طرق المواصلات البريطانية، ما جعل بريطانيا تعارض شقّ القناة. وبعد الافتتاح بقيت بريطانيا تناور حتى فرضت هيمنتها على القناة ثم احتلّت مصر في العام 1882. وقد دامت هذه الهمينة البريطانية على مصر لمدّة سبعين عاماً.  

مصر الجمهورية وعبد الناصر
قاد المصريون نضالاً طويل الأمد ضدّ البريطانيين لنيل استقلالهم. لكنّهم لم ينجحوا في ذلك إلاّ بعد ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر. وكانت بوادر الضعف ظهرت جليّة على الإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، حين لم تتمكن من الوقوف لوحدها في مواجهة ألمانيا، واضطرّت لأن تلعب دوراً ثانوياً خلف الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي، اللذين خرجا قوّتين عظميين بعد الحرب. وأدّت الحرب إلى استنزاف الإقتصاد البريطاني، ما أضعف قدرة بريطانيا على لعب دور القوّة العظمى، كما كانت تفعل قبل ذلك. وبدا ذلك جلياً خلال الحرب الأهلية اليونانية (1946 – 1949)، حين طلبت بريطانيا من الولايات المتحدة التدخل لوقف انتصارات الشيوعيين اليونانيين المدعومين من الاتحاد السوفياتي؛ ومثّل ذلك ضربة قاصمة لصورة بريطانيا كقوّة إمبراطورية مهيمنة في شرق المتوسط. وقد استفاد عبد الناصر الذي سيطر على السلطة في العام 1952 من تراجع هيمنة بريطانيا في شرق المتوسط وصعود نجمي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ليضغط باتجاه التخلص من الاحتلال البريطاني. وهو ما تحقّق في العام 1956 بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر. 



حتى العام 1965، كان بإمكان جمال عبد الناصر أن  يلعب على التناقضات بين الشرق والغرب ليبني قوّة مصر ويعزّز من دورها الإقليمي والعالمي. لكن هذا الوضع بدأ بالتغيّر بدءاً من العام 1965. وقد شعرت مصر بهذه الضغوط الأميركية، حين أفشلت محاولة تمرّد نظّمها (الأخوان المسلمون) بدعمٍ من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وفي العام 1967، دعمت الولايات المتحدة "إسرائيل" في عدوانها على مصر وسورية والأردن، والذي أدّى إلى احتلال "إسرائيل" لسيناء والضفة الغربية وغزّة والجولان. وتلا ذلك حرب استنزاف بين العرب و"إسرائيل" دامت حتى العام 1970.
في 28 أيلول/سبتمبر من ذلك العام توفّي جمال عبد الناصر، وخلفه أنور السادات الذي اختار طريقاً مغايراً للذي اتبعه سلفه. ونتيجة شعوره بأن الدعم السوفياتي لمصر لا يرقى للدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، إضافة إلى ميله إلى المعسكر الغربي، اختار السادات أن يسير في خيار الحلّ السلمي مع "إسرائيل" برعاية أميركا. وجاء الاختراق على هذا الطريق بعد حرب أكتوبر 1973. ففي أوائل العام 1974 كان السادات قد قطع علاقاته نهائياً بالاتحاد السوفياتي، معلناً أن 99 بالمئة من أوراق الحل في الشرق الأوسط هي في يد الأميركيين! وتمكنت الولايات المتحدة بعد ذلك التاريخ في أن تصبح القوّة الأولى في شرق المتوسط، في مقابل تراجع نفوذ السوفيات هناك. ولأربعة عقود لاحقة، ستقع مصر تحت الهيمنة الأميركية مشكّلة قاعدتها الأساسية في الشرق الأوسط.

ربيع مصر في القرن 21
مع حلول الألفيّة الجديدة، كان على الأميركيين أن يضعوا أنفسهم في موقع تفضيلي في مواجهة القوى المحتملة لمنافستهم، وتحديداً تلك التي يمكن أن تنشأ في آسيا، وأوّلها الصين ومن ثمّ روسيا وبعدها إيران (الإسلامية)، والتي كانت تتقارب فيما بينها لمواجهة الهيمنة الأميركية. وكانت واشنطن تريد منع قوى البرّ الأوراسي من الوصول إلى طرق الملاحة البحرية، ومنها منطقة شرق المتوسط. وبما أن دولتي "الاعتدال العربي"، مصر والمملكة العربية السعودية، لم تنجحا في وقف التمدّد الإيراني، كان لزاماً على الولايات المتحدة إضافة قوّة إقليمية جديدة على الساحة، وهي تركيا، وإقامة مثلّث من ثلاث عواصم سنّية هي: أنقرة، الرياض، والقاهرة، من أجل منع إيران من الوصول إلى شرق المتوسط. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، كان على (الإخوان المسلمين) أن يصلوا إلى السلطة في مصر حتى يكون الإسلام السياسي السنّي هو العنوان الإيديولوجي لهذا المثلّث. فدور العثمانية الجديدة كان احتواء إيران. ولهذا السبب دعمت الولايات المتحدة وصول "الإسلاميين" إلى السلطة في مصر وتونس وليبيا واليمن، كما دعمتهم في محاولة قلبهم لنظام الحكم في سورية. وكان أخطر ما قام به الرئيس "الإسلامي" الأسبق محمد مرسي هو قبوله إدخال مصر تحت المظلّة التركية، ما أثار حفيظة الجيش المصري، لما في ذلك من تهديد للأمن القومي المصري.




الخلاصة
 بناء على ما تقدّم، يمكننا الاستنتاج بأن صعود نجم عبد الفتاح السّيسي كان في جزءٍ منه رداً على تآكل عناصر الأمن القومي المصري، وأهمها محاولة (الإخوان المسلمين) إعادة مصر إلى المظّلة التركية تحت مُسمّى العثمانية الجديدة. وكان على القيادة الجديدة أن تواكب التحدّيات الجديدة، وأهمها انتقال العالم من عالم أحاديّ القطبية إلى عالم متعدّد الأقطاب. وبرزت بوادر صعود الهيمنة الاقتصادية للمحيط الهندي مرّة جديدة، مع ما يرتّبه ذلك من فرصٍ لصعود دور مصر كصلةٍ للوصل بين المحيط الهندي وشرق المتوسط يمهّد لتفلّت مصر من الهيمنة الأميركية؛ وبالتالي الإضرار بقدرة الولايات المتحدة على التحكم بطرق المواصلات البحرية. كذلك، فإن العلاقة المستجدّة بين مصر برئاسة السيسي وروسيا هدّدت بجعل مصر منطلقاً لروسيا نحو المحيط الهندي. لذلك، وجدت الولايات المتحدة أنه من الواجب عليها السيطرة على بوّابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي؛ وهذا ما يفسّر جزئياً الحرب السعودية على اليمن. والبارز هنا الخبر الذي أوردته وكالة "فارس نيوز"، في شباط/ فبراير 2016، عن سيطرة الولايات المتحدة على جزيرة سوقطرة اليمنية، التي تتحكم ببحر العرب المطلّ على باب المندب، وذلك لجعلها قاعدة عسكرية أميركية. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة و"إسرائيل" تدعمان صعود الدور الأثيوبي في منطقة القرن الإفريقي لحصار الدور المصري، بما يبرّر دعمهما لمشروع سدّ النهضة الإثيوبي على النيل، والذي تعتبره مصر تهديداً لأمنها القومي.




وفي الختام، فإن موقعية مصر كانت ولا زالت ترجّح كفّة أوراسيا (تجمع بين شرق أوروبا وغرب آسيا)، أو الغرب، بحسب سياساتها لحفظ أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية والتجارية، لوجودها (كأطول واجهة بحرية) على البحر المتوسط والبحر الأحمر، ولتشكّل بذلك أول قوّة بحرية في العالم، مقابل العراق (المنافس) الذي كان يُعتبر أول القوى البريّة في العالم.


2017-01-23 14:41:25 | 6603 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية