التصنيفات » مقالات سياسية

أوروبا بين ترامب وبوتين..واليمين الصاعد




وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض الأميركي كان بمثابة "تسونامي" سياسي هزّ أسس وأركان أوروبا ، وجعل ساستها يتخبطون أمام مجموعة من التساؤلات والشكوك المقلقة التي فرضت نفسها عليهم، حيث التوجهات السياسية للرئيس ترامب نحو إعادة النظر في العلاقة مع أوروبا أصبحت حقيقة واقعة وليست شعارات انتخابية. وهي باتت تلقي ظلالها على الاتحاد الأوربي الذي يعاني أساساً من توترات بسبب أزماته الاقتصادية المتلاحقه وأزمة اللاجئين وانسحاب بريطانيا من عضويته، إلى انقسامات كبيرة في صفوف الدول الأعضاء..ويظهر من وقع الصدمة أن قادة الاتحاد الأوروبي  لم يتوقعوا أبداً وصول ترامب للبيت الأبيض.
وتتّضح الصدمة الأوروبية جليّة من خلال مجموعة من التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الأوروبيين، مثل تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت، الذي وصف  ما شهدته واشنطن بالزلزال السياسي، ولا يمكن أن يغمض لأوروبا جفن بعد خروج بريطانيا وبعد انتخاب دونالد ترامب ، مضيفاً: "يجب أن تتّحد أوروبا بشكل أكبر وأن تكون أنشط وأن تأخذ بزمام المبادرة بشكل أكبر، حتى لوكان ذلك لحماية نفسها فقط".
وكذلك جاءت دعوة وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم التعويل على أميركا بعد انتخاب دونالد ترامب ، خصوصاً في مجالي السياسة الخارجية والأمن. وقال شتاينماير: "من المهم لبرلين والاتحاد الأوروبي أخذ زمام المبادرة الذاتية في قضايا السياسة الخارجية والأمن". وأضاف أن الأوروبيين أصبحوا أمام خيارين بعد انتخاب ترامب: "إمّا عدم الوقوف مذعورين كالفأرأمام الثعبان المتأهب لالتهامه...، وإما تقبّل ما سيأتيهم من إدارة واشنطن الجديدة".ولفت أيضاً إلى عدم تواصل أيٍ من مستشاري الرئيس ترامب مع أوروبا طوال حملته الانتخابية، معتبراً ذلك "مخالِفاً للمتعارف عليه أميركياً، من تقديم ممثّلين للمرشّحين الرئاسيين الأميركيين قبل الانتخابات خطوطاً عريضة لسياستهما الخارجية إلى الحلفاء الأوروبيين". وتوقع شتاينماير مضيّ واشنطن في طريق خاص بها في مجال السياسة الخارجية.
إضافة إلى ما قاله رئيس الجمهورية الألمانية يواخيم غاوك -في تصريحات صحفية في برلين- "تقلقنا عدم القدرة على توقّع ما سيفعله الرئيس الأميركي الجديد".
كما وصف نائب المستشارة الألمانية ترامب بأنه "رائد حركة دولية جديدة استبدادية ومغالية في القومية" إلى قمّة هرم السلطة في الولايات المتحدة.
وكذلك ما قاله مانفريد فيبر، حليف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، الذي يقود كتلة المحافظين في البرلمان الأوروبي: "هذه صيحة تنبيه أخرى، وأن الأمر عائدٌ لأوروبا الآن. علينا أن نكون أكثر ثقة بالنفس ونتحمّل قدراً أكبر من المسؤولية".
فيما اعتبر ديدييه رايندرز، وزير خارجية بلجيكا، أن البيت الأبيض في ظلّ ترامب "قد يساعد البعض في أوروبا على إدراك الحاجة لتعزيز التعاون الدفاعي بين الأوروبيين".
وهناك الخوف الذي يسود دول شرق أوروبا الأعضاء في الاتحاد، من أن يستغلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهّد ترامب بتحسين العلاقات مع موسكو، المفروض عليها عقوبات أوروبية وأمريكية، من أجل بسط نفوذ روسيا سياسياً وفعلياً عليهم ، كما حدث في أوكرانيا. وهذا تخوّف مشروع في ظلّ ما كشفه ترامب عن نيّته تقديم عرض لروسيا، وهو إنهاء العقوبات المفروضة على روسيا لضمّها شبه جزيرة القرم مقابل اتفاق لخفض الأسلحة النووية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولا يستبعد مراقبون أن يقوم ترامب بتوقيع معاهدة (يالطا-2) مع الكرملين، بما يعني أن روسيا انتزعت اعترافاً أميركياً بأنها عادت دولة عظمى مرّة أخرى. وقد علّق رئيس وزراء السويد ووزير الخارجية السابق كارل بيلت، على ذلك بقوله: " لو حصل هذا فعلاً سيكون «استهتاراً بمصالح الحلفاء الأوروبيين ومواقفهم".
إن وجهة النظر الغربية للعلاقات الدولية التي سادت منذ عام 1991 تقوم على سعي الدول الكبرى لتحقيق مصالحها بطريقة غير عدائية وضمن شبكة من العلاقات الثنائية. والدول الصغيرة بالمقابل تبقى لها كلمتها إزاء ما يحصل. أما النزاعات فتُحلّ عبر المفاوضات، أو في قاعات المحاكم دون اللجوء إلى قوّة السلاح. لكن الأمور الآن في الكرملين مختلفة؛ ولا يمكن لموسكو قبول هذه المبادئ التي ترى روسيا أنها وضِعت في فترة كانت فيها ضعيفة ومفتّتة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وتعتقد موسكو أنها الدولة الأكبر حجماً في العالم من حيث المساحة واعتبار نفسها قوة عظمى. وقد اختبرت مدى صبر الغرب عام 2007 عندما شنّت هجوماً إلكترونياً على إستونيا، وكذلك خلال حربها مع جورجيا عام 2008، وبعد ضمّها شبه جزيرة القرم عام 2014، وما تبع ذلك من زعزعة في الثقة داخل التحالف الأطلسي تسبّبت بها موسكو، عبر استثمارها لاستضافة إدوارد سنودن، المنشقّ عن وكالة الأمن القومي الأمريكية. وهي لم تواجه عقوبات كبيرة بسبب تلك التصرفات، وباتت الآن أمام رئيس أمريكي جديد لا يؤمن بضرورة معاقبتها أصلاً.
أما موقف الرئيس دونالد ترامب بأن حلف الناتو "تخطّاه الزمن"، وليس بجديد. فهو أعرب عن تشكيكه بفاعلية هذا الحلف في كتابه الصادر عام 2000 تحت عنوان "أمريكا التي نستحقّها" حيث كتب ترامب قائلاً إن على دول شرق أوروبا أن تحلّ مشاكلها الإقليمية القديمة وحدها دون تدخل أمريكي. وفيما التهديد الذي يشكّله بوتين على أوكرانيا يُقلق أوروبا، غير أن ترامب لا يبدو أنه يشعر بنفس القلق، حتى أنه عبّر خلال حملته الانتخابية عن موقفه من حلف الناتو بقوله إن أمريكا عليها ألاّ تُدافع إلاّ عن الدول التي تدفع حصّتها المالية في الحلف بالكامل.
 ولم يُخف ترامب رغبته بتفكّك الاتحاد الأوروبي عندما وصفه "كعربة لألمانيا"، مع توقّعه أن يصوت المزيد من أعضاء الاتحاد على الانسحاب منه كما فعلت بريطانيا .وما يؤكد وجود رغبة لدى الإدارة الأمريكية الجديدة في تفكّك الاتحاد الأوروبي ، ما قاله  سفير الولايات المتحدة إلى الاتحاد، أنتوني غاردنر، للصحفيين في بروكسل بأنه سمع أن مسؤولي الفريق الانتقالي مهتمّون بمعرفة “أيّ بلد على وشك الخروج بعد المملكة المتحدة؟!”؛ وأضاف غاردنر الذي سيغادر عمله : إنه من “الجنون” للولايات المتحدة تشجيع تفكّك الاتحاد الأوروبي، وأن نكون ممّن يشجّعون على مزيد من الخروج. إنه تصاعد في الحماقة. لهذا جاء تصريح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) النرويجي الجنسية "بأن ترامب لا يمكنه التراجع فيما يخصّ الضمانات الأمنية"..
وبالتالي هذا الوضع المستجد سوف يدفع الدول الأوروبية للبحث عن طرق لحماية نفسها،  بعد التحذيرات الأمريكية العديدة لها من مغبّة عدم الإنفاق على الدفاع.
وكذلك فإن ارتدادات زلزال وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض سوف تصل لليمين السياسي المتطرف الصاعد في أوروبا، والذي وجد في فوز ترامب داعماً قوياً له وحافزاً للوصول إلى السلطة. ولم يتأخر ترحيبه بفوز ترامب وبشكل اضح. فقد قال جان ماري لوبان، مؤسّس حزب الجبهة الوطنية الفرنسي (يمين)، ووالد زعيمة الحزب مارين لوبان: "اليوم الولايات المتحدة وغداً فرنسا".
وفي ألمانيا، وصف السياسي الألماني (ماركوس برتسل)، المنتمي لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، فوز ترامب بأنه "حقبة جديدة في تاريخ العالم". وفي بلجيكا، هنّأ حزب المصلحة الفلمنكي - الداعي للانفصال عن أوروبا والمناهض للمسلمين، ترامب قائلاً إن فوزه غير المتوقع في الانتخابات يمكن تكراره في أوروبا. ومن جانبه، قال "اليميني المتطرف" الهولندي خيرت فيلدرز:"لقد استعاد الأمريكيون أرضهم"، وأضاف أن أوروبا تشهد "ربيعاً قومياً".
ويتضح من قراءة  الخطاب السياسي الصادر عن قادة اليمين الأوروبي بعد فوز ترامب، أنهم يعتبرون أن عصرهم أصبح قاب قوسين أو أدنى ، وأن فوز ترامب سيعجّل بفوزهم. وحيث أن التصويت البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي كان بداية لانتصار اليمين الأوروبي، فإن فوز ترامب اعتبروه تأكيداً على إمكانية وصولهم للسلطة في أوروبا وبأسرع من تصوّر الكثيرين.
وهذا ما سوف يكون على المحك في الانتخابات المزمع إجراؤها هذا العام، والتي من المتوقع خروجها بنتائج مدمّرة للمشروع الأوروبي، في فرنسا، وألمانيا، وهولندا، وربما إيطاليا. والشعور بالقلق مبرّر بسبب الدعم المعنوي لأتباع النزعة الوطنية اليمينية من طرف الذين لا يروق لهم  التكامل الأوروبي والاتحاد الأوروبي في الإدارة الأميركية الجديدة. وعليه، فإن نصراً مفاجئاً للجبهة الوطنية اليمينية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري في نيسان/ أبريل المقبل، سيعني دخول مشروع الاتحاد الأوروبي والتكامل الأوروبي في موت سريري.
وبناءاً على ما سبق، يتضح أننا أمام مرحلة جديدة في العلاقات الأوروبية الأمريكية ستكون مختلفة عن سابقاتها، وأن أوروبا تواجه إدارة أمريكية لا تؤمن بالتكامل والوحدة لأوروبا... وهي المبادئ والأسس التي تربط العلاقة بين ضفّتي الأطلسي؛ ويبدو أنها ستعتمد أفكار منظّري المحافظين الجدد للتعامل مع أوروبا، والتي لم يطبّقها أو لم يتمكن من تطبيقها الرئيس جورج بوش الابن.
كتب روبرت كيغان، أهم منظّري المحافظين الجدد، والعقل المدبّر لسياسة اليمين المحافظ الأميركي تجاه أوروبا، والأب الشرعي لهذه الاستراتيجية ، يقول في كتابه – الفردوس والقوّة – : "يجب أن نكفّ عن اعتبار أن الأوروبيين والأمريكيين لا يزالان يحملان رؤية مشتركة للعالم، أو حتى أنهما ما زالا يعيشان في نفس الكوكب..!
وفي سياق وصفه للقوّة الأمريكية التي وصفها كمرتكز أساسي للإستراتيجية الأمريكية، يؤكد كيغان أن الأمريكيين بقدر ما يؤمنون بالقوة، يؤمنون بضرورة إبقائها وسيلة لخدمة مبادئ حضارة ليبرالية. وهو يعتبر أن النظام الدولي المستقرّ والناجح الوحيد، الذي يستطيع الأمريكيون أن يتصوّروه، هو نظام تشكّل الولايات المتحدة مركزه ومحوره..., وهنا يطلب من الآخرين(..) أن يقرّوا بالقيادة الأمريكية المبنيّة على القوّة واتّباعها كيفما يريد الأمريكان، على أساس أنه لولا هذه القوّة الأمريكية لما كانت أوروبا الآن كما يسمّيها الأوروبيون "الفردوس" ..!


 منيرإبراهيم أبو شمالة
باحث فلسطيني

2017-01-31 13:55:23 | 2509 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية