التصنيفات » مقالات سياسية

مُؤتمر اسطنبول، واستراتيجية تَعبئة الفراغ المُستقبلة

ناصر دمج (*)
ما تقوم به القيادة الفلسطينية من ردود متتالية على محاولات التدخل الخارجية في الساحة الفلسطينية، مثير للسخرية، لقصوره في التعامل البنّاء مع هذه الحالة، والمتميز بعدم التعاون المنتج مع مبادرات خصومها السياسيين وحلفائهم في دول الجوارين العربي والإقليمي.
وهو ما تصفه القيادة الفلسطينة على الدوام بأنه تدخل سافر في الشؤون الفلسطينية، فيما يصفه آخرون بأنه مسعى سياسي مشروع لتعبئة الفراغ الذي تسبّبت بنشوئة قيادة (م. ت. ف) بعد هجرانها لمهمّات أساسية في مسيرة كفاح الوطنيين الفلسطينيين لنيل استقلالهم.
عدم مراجعة استراتيجية عدم التدخل
أخطأت القيادة الفلسطينية بعدم إدراكها لـتـآكل استراتيجية عدم التدخل التي اعتنقتها في سبعينات القرن العشرين، والقائمة على لانكفاء الإيجابي داخل البيت الفلسطيني. ويمكن القول بأن هذه الاستراتيجية تعاملت بنجاح مع محاولات التدخل العربية في شؤون (م.ت.ف)؛ لكن علينا أن لا نغفل بأن هناك أسباباً أخرى ساعدت في نجاح هذه الاستراتيجية، ومنها حالة الاستقرار الداخلي للدول العربية، من سبعينات القرن العشرين إلى نهاية تسعينياته تقريباً، الأمر الذي وفّر لـ "ياسر عرفات" فرصة "الفرار" من حرج التدخل العربي في شؤونه الداخلية، والتنقل بحريّة وترحاب أيضاً بين الدول العربية، وهذا ما نفتقده الآن.
لكن غزو "صدّام حسين" لدولة الكويت في شهر آب من عام 1990م، وطرده منها فيما بعد بالقوّة أسّس لعهد جديد من تدخلات الدول العربية بشؤون بعضها البعض. ومنذ ذلك الوقت نما هذا المتغير أطواراً، كان أخطرها عام 2011م، حيث بدأ عهد التدخلات البينية العربية الصاخبة، ليس عبر الطرق الدبلوماسية، بل من خلال الطائرات المحمّلة بالقنابل.
وهذا المتغيّر أفقد الثابت الفلسطيني أحد مسبّبات فلاحه الرئيسة. وإذا ما غيّر وبدّل الآخرون في طرق ووسائل عملهم وتصارعهم، وفي مقدّمتهم (إيران وتركيا)، فالبضرورة سيمسّ هذا التغيير بطريقة أو بأخرى فلسطين ومن يقودها. وتجاهل هذا التطور المستقبل من المجهول ستكون له عواقب غير متوقعة بالكليّة.
ويمكن القول بأن الاستراتيجية التي رسمها "ياسر عرفات"- وكانت مكوّنة من مقطعين، الأول: عدم التدخل في شؤون الدول العربية، والثاني: إلاّ بمقدار ما تتدخل في الشأن الفلسطيني- منعت الفلسطينيين من خاصيّة التعامل بالمثل مع الذين يسعون لتحقيق مآرب محدّدة داخل الساحة الفلسطينية. ووصل خطر هذه المساعي إلى بعثرة وحدة التمثيل الفلسطيني التاريخي للفلسطينيين، بعد رسوخ الفراغ الذي شجر بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو أكبر خطر يهدّد الوجود الفلسطيني ما لم تتمّ تسوية أسبابه؛ وبعد أن تخلّت القيادة الفلسطينية عن التصدي العسكري لخطر استمرار الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أعاد احتلال المناطق التي انسحب منها (1994 – 1996م) ودمّر اتفاقية أوسلو واستبدلها باتفاق أمني صرف.
ولأن ما تمّ تركه لا يحتمل الفراغ، ولا ينتظر المستنكف حتى يعود، تصدّرت قوى فلسطينية جديدة واجهة المشهد السياسي الفلسطيني؛ بعد اعتناقها لمنهج الصدام مع المحتلّ الإسرائيلي، بالمقابل، واصلت القيادة الفلسطينة تواريها عن الأنظار، رغم تربّعها على رأس السلطة التنفيذية في الضفة الغربية. وتجلّت خسارتها الدراماتيكية بفقدانها للمجالس المحلية في انتخابات عام 2005م والتشريعية في عام 2006م.
ورويداً رويداً أحاطت بصدقية تمثيل السلطة للفلسطينيين المزيد من الشكوك، بعد نفاذ المدّة القانونية لولاية الرئيس محمود عباس وكذا المجلس التشريعي. وبسبب عدم تمكن حركتي (فتح و حماس) من إتمام المصالحة بينهما، سمح العديد من الأصدقاء والخصوم لأنفسهم، وهم من المحيطين بفلسطين، التقدم بما لديهم من خطط تزيد من فاعلية حضورهم داخل الساحة الفلسطينية؛ وهي وظيفة تشبه زيادة حظوظ المرشّحين الأمريكيين للفوز بكرسي الرئاسة كلّما زادوا من دعمهم لإسرائيل بسبب المعتقدات البروتستانتية لـ 80% من المسيحيين الأمريكيين الذين يعتقدون بأن (إسرائيل) هي دولة الرب، وأن علاقتهم بها كعلاقة المثلّث بقاعدته. بالمقابل، نجد لدى العديد من شعوب دول الجوار العربي، وخاصة (تركيا وإيران) معياراً قوامه أن قرب رؤسائها من فلسطين أو عدمه يرفع أو يخفّض من درجة صدقيتهم وقربهم من الله والإسلام.
ولعلّ هذه الحقيقة هي الباعث الرئيس للاهتمام العربي بفلسطين والقدس. وعليه، يمكن الجزم بأن كلّ مشكلة في المنطقة الواقعة بين باكستان شرقاً إلى سواحل الأطلسي غرباً ستكون (إسرائيل) وفلسطين المتسبّبتان بها!
لهذا لم يكن من المصادفة انعقاد (المؤتمر الدولي السادس لدعم الانتفاضة 2017م) بتاريخ 22 – 23 شباط في طهران، و(المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج) في تركيا، بمشاركة خمسة آلاف فلسطيني توافدوا من خمسين دولة، بالإضافة إلى الجالية الفلسطينية في تركيا، بتاريخ 25 – 26 شباط 2017م.
وكلاهما حمل ما هو أكبر من موقف وأبعد من استراتيجية تدخّل في الشأن الفلسطيني، وهو ما يُنظر إليه من قِبل الدولتين الصاعدتين عالمياً بأنه جزء من دورهما تجاه قضية المسلمين الأولى.
أمام ذلك ما الذي بمقدور القيادة الفلسطينية أن تفعله باستراتيجيتها القائمة على عدم التدخل، والتي تُقرأ من أحد جوانبها بأنها تعني عدم التعاون البنّاء مع الدول العربية والإسلامية المرتبطة دينياً وتاريخياًً بفلسطين.
يعني ذلك بأن قادة دول الجوار الإقليمي والعربي، ومن يؤيّدهم سيبحثون عن كلّ طريق تمكّنهم من الوصول إلى مآربهم، للقيام بما يعتقدون بأنه جزء رئيس من واجبهم تجاه فلسطين.
إن عدم التسليم بهذه الحقائق والعمل على أساسها، سيقود إلى حالة من الندم المقيم الذي لا يمكن استدراكه من قِبل القيادة الفلسطينية، والتي تعتقد بأنها تحمي الوطنية الفلسطينية من مخاطر التدخل، وهي في الحقيقة تقودها إلى الاضمحلال؛ لأن المنطقة تغلي فوق مراجل صهر الحدود التي أنتجها (سايكس و بيكو)، تمهيداً لإدخال (العرب) في مرحلة ما بعد القومية أو ما بعد العرب، التي بشّر بها ودعاء اليها (برنارد لويس-  Bernard Lewis). يعني ذلك بأن الحديث عن الوطنية الفلسطينية بمعزلٍ عن قوة المتغيرات المحيطة وتأثيرها عليها، ينمّ عن غياب البصيرة السياسية الثاقبة لتقدير الخطر المحدق بها.

استنتاج
يُستفاد من كل ذلك بأن الدفاع عن الذات الوطنية يلزمه تراصٌ قومي وديني متين. وبغير ذلك لن يتمكن معتنقو الوصف القديم للفكرة النبيلة من اجتياز المرحلة بسلام، لأن المخاطر كبيرة وقادرة على سحق عظام الدول غير المحميّة بحلف جيوسياسي يمكّنها من الحفاظ على وجودها بشكل مستدام. وهذا يعني بأن علاقة سليمة وقوية مع (إيران وتركيا) ستخدم الوطنية الفلسطينية وتؤمّن الغلاف الضروري لديمومة الوجود الفلسطيني.

وضع جديد بخصائص مختلفة
ما حدث في اسطنبول يذكّرنا بخطأ سابق للرئيس "أبو مازن"، عندما امتنع عن حضور قمّة (اجتماع غزة) في الدوحة بتاريخ 17 كانون الثاني 2009م، والتي حملت اسم غزة؛ وهو الجزء المستلب من سيادته ويطالب باسترداده. ولعلّ هذين النمطين من الأداء يذكّراننا بآخر مغاير لهما، وهو مسلك الرئيس "عرفات" في التعامل مع التجمّعات والمحافل الإقليمية والدولية التي كانت تناقش الشأن الفلسطيني بمستويات مختلفة؛ فكان يحرص على التواجد والمشاركة في تلك اللقاءات، هو أو من ينوب عنه، لكيلا يكون الغياب سبباً في نشوء حالة فراغ في التمثيل والحضور الفلسطينيين حتى في ساحات أمريكا اللاتينية أو أفريقيا وآسيا، ممّا هذا الفراغ سيشكّل مدخلاً للمسّ بشرعية التمثيل الفلسطيني، وخاصة إذا كان الظرف المحيط يحمل مثل هذه النذر. وأخيراً يمكن الطلب من صانع القرار السياسي الفلسطيني:
1-    عدم التغيّب عن المحافل والتجمعات الإقليمية، لأن ذلك يعني جلوس آخرين مكان الغائبين.
2-    التفاهم مع حركتي المقاومة الفلسطينية حماس والجهاد لإدارة الشأن السياسي.
3-    إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بأسرع وقت.
4-    تبريد الخصومات الفلسطينية الداخلية.

*باحث ومؤرّخ، مختص في الصراع العربي- الإسرائيلي، وقضية الأسرى الفلسطينيين العرب والأسيرات، وله العديد من المؤلفات المنشورة، ومئات الأبحاث والدراسات السياسية.



2017-03-03 10:51:11 | 3806 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية