التصنيفات » دراسات

اميركا اليوم

                   
بقلم :العميد المتقاعد اللياس فرحات


   الفصل الاول      

           

                الوضع السياسي:استمرار القطب الاوحد ام بروز التعددية القطبية     

تختلف نظرة السياسيين والمحللين الى النظام العالمي القائم ,البعض يعتبر انه ما زال احادي القطبية منذ انشائه وان الولايات المتحدة ما زالت قائدة العالم تتحكم بمصيره, ولا يعيراهمية للتراجعات التي شهدتها السياسة الاميركية مؤخرا. يعزو هذا البعض معظم الاحداث والتطورات الى رغبة اميركية بحدوثها وبأن الاليات تغيرت ويفسر, من ضمن تفسيراته للاحداث ,الربيع العربي بانه يجري وفق التخطيط الاميركي وأن الامور ممسوكة اميركيا. في المقابل يعتبر البعض الاخر ان النظام العالمي احادي القطبية المسمى جديدا قد انتهى اوهوعلى شفير النهاية وان الولايات المتحدة تتراجع كقوة عظمى وحيدة في العالم لمصلحة قوى اخرى ,وأن نفوذها  تراجع فعلا ويعزو ذلك الى الحروب التي تخوضها في العراق وافغانستان و الحرب ضد الارهاب والتي جاءت نتيجتها على غير ما يشتهيه القادة الاميركيون, اي اما الهزيمة, اوعدم النصر, اوعدم تحقيق الاهداف. لا تبدو هاتان النظرتان متعارضتين تماما لأن ثمة تقاطعات معينة تشهدها السياسة الاميركية, فهي صارمة وقاطعة تجاه دولة مثل ايران, واقل حسما في كوريا الشمالية ,ومتساهلة ومتخبطة في باكستان. لكي نحدد ما اذا كان النظام العالمي احادي القطبية ما زال قائما ,او انه يترنح ويذوي علينا أن نعرض لمظاهر قوة هذا النظام وأين اصبحت في خضم التطورات المتسارعة في غير مكان في العالم .
في عام 1992وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي اعلن الرئيس الاميركي جورج بوش الاول بداية النظام العالمي الجديد احادي القطبية والذي اصبحت فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم .انفردت اميركا بالسلطة الدولية وبدأت تسلك سلوكا شبيها بالامبراطورية الرومانية مع فوارق التطورات الحضارية. تحولت وزارة الخارجية الاميركية والمؤسسات المكملة لها من استخبارات وامن قومي واستخبارات وزارة الدفاع الى مركز لصناعة القرار الدولي ,وخلق الازمات ومعالجتها, واجراء ترتيبات جغرافية وسياسية واقتصادية في معظم انحاء العالم . لم تشكل نهاية الاتحاد السوفياتي ضمانة للولايات المتحدة من اجل بقائها كقوة وحيدة في العالم, فسعت لسلسلة خطوات من اجل اكمال الهجوم على وريث الاتحاد السوفياتي اي الاتحاد الروسي, كما ان رد الفعل الاوروبي على نفوذ الولايات المتحدة الذي تمثل بتعزيز اواصر الاتحاد الاوروبي وانشاء منطقة عملة جديدة هي اليورو تنافس الدولارالاميركي, حفز الاميركيين على التنبه الى ما قد يجرتوحيد العملة الاوروبية من مخاطر اقتصادية تأتي من حلفائها. ان ابرز مؤشرات استكمال السيطرة الاميركية على العالم هي:
 -الهيمنة على الامم المتحدة :
 شملت الهيمنة الاميركية كل منظمات الامم المتحدة وخصوصا مجلس الامن. واستخدمت الولايات المتحدة المنظمة الدولية واجهزتها من اجل ايجاد قاعدة قانونية دولية لتدخلاتها وحروبها واجراءاتها ومواقفها السياسية من مجمل الازمات العالمية. ان الالتزام بالقانون الدولي هو قاعدة قانونية واخلاقية طالما استخدمتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. الى جانب استخدامها لحق الفيتو الذي تتمتع به اصلا كونها عضوا دائما في مجلس الامن ,تفرض الولايات المتحدة ضغوطا على الدول الاعضاء من اجل تمرير القرارات التي تتماشى مع سياستها ومنع صدور اي قرار لا يدور في فلكها السياسي . تمسك الولايات المتحدة بالامور في مجلس الامن بسبب انكفاء الدول الاعضاء الدائمين عن معارضتها اي الصين وروسيا وخضوع معظم الاعضاء غير الدائمين, فيما تمارس ضغوطا كبيرة على الدول الاعضاء في الجمعية العامة من اجل تشكيل غالبية تحتاجها توصيات الجمعية وقراراتها.
 - انهاء مجموعة دول عدم الانحياز:
 اعادت الولايات المتحدة ترتيب الوضع في البلقان بعد انهيار يوغوسلافيا مستفيدة من تصاعد الشعورالاثني . تدرج التدخل الاميركي من التدخل السياسي لتقسيم  المنطقة الى دول صغيرة حسب اثنيتها بغض النظرعما اذا كانت تمتلك مقومات الدولة ام لا, واضعاف هذه الدول  وانهاء ذاكرة يوغوسلافيا التي كان لها دور اساسي في النظام العالمي السابق من خلال مجموعة دول عدم الانحياز التي شكلت منذ الخمسينات حتى الثمانينات  اي في فترة الحىب الباردة قوة ضغط دولية ضد الولايات المتحدة .عمدت ايضا الى ادخال قوات الامم المتحدة باسم "قوة الحماية الدولية" لتكريس التقسيم وحمايته تحت شعار حماية المدنيين من المجازر التي اعادت ذاكرة الحرب العالمية الثانية ومجازرها واثارت مخاوف من ان تتجدد في اوروبا التي يحفل تاريخها بنزاعات بين دولها.انطلقت شرارة النزاعات الطائفية والاثنية داخل كل مناطق يوغوسلافيا السابقة الى ان تكتلت كل مجموعة  اثنية وسعت الى بناء دولة خاصة بها . في بعض الاحيان كان الانقسام حبيا لكنه في احيان كثيرة كان دمويا. ووصل عام 1999 الى تدخل عسكري من الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي تمثل في قصف جوي على يوغوسلافيا لحين ضمان انفصال اقليم كوسوفو واستقلاله وانهاء ما تبقى من حلم الدولة القوية المهيمنة في البلقان .انفصلت كوسوفو بالقوة العسكرية الاطلسية ولحقتها الجبل الاسود باخراج ديموقراطي نتيجة لاستفتاء حتى اقتصرت يوغوسلافيا على صربيا. تم تغييرالنظام بالقوة واقتيد الرئيس اليوغوسلافي الصربي ميلوسوفيتش الى المحاكمة الدولية .
- ضبط انتشار الاسلحة النووية:
 كان لا بد للولايات المتحدة ان تضبط انتشار الاسلحة النووية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وان تضمن عدم وقوعها بايدي غير مسؤولة تهدد بها الامن الدولي. لم تسع الى نزع سلاح روسيا النووي لان روسيا دولة كبرى ورثت الاتحاد السوفياتي وقوته ومكانته الدولية ولا يعقل ان يطلب منها مثل هذا الامر,بل توجهت الى الجمهوريات السوفياتية السابقة التي كانت تمتلك على اراضيها اسلحة نووية تخضع لسيادتها وهي اوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان.في 23 ايار1992 وفي مدريد وقع زعماء هذه الدول بالاضافة الى الولايات المتحدة وروسيا اتفاقية تهدف الى تحويل الدول الثلاث من دول نووية الى دول غير نووية في اقصر وقت ممكن(1). اصرت اوكرانيا في البداية على الاحتفاظ بقوتها النووية لكن الرئيس ليونيد كوشما تمكن عام 1994 من اقناع البرلمان بالتخلص من 1800 رأس نووي وكافأه الرئيس الاميركي في حينه بيل كلينتون بمساعدة بقيمة 200مليون دولار "لاتخاذه خطوات نحو تحرير الاسواق وللتخلص من الاسلحة النووية(2)
-استيعاب اوروبا الشرقية:
في اوروبا اسرعت الولايات المتحدة الى استيعاب دول اوروبا الشرقية وادخلت معظمها في حلف شمال الاطلسي وجرت تسوية النزاع التشيكي- السلافي بتقسيم حبي لتشيكوسلوفاكيا الى دولتين :تشيكيا وسلوفاكيا .رمت هذه الدول نفسها في احضان الولايات المتحدة التي هيمنت عليها وبنت سياسات من خلالها وحاولت اميركا ان تجد فيها منافسا او متحديا لدول اوروبا الغربية القديمة التي اسماها وزير الدفاع الاميركي الاسبق دونالد رامسفيلد اوروبا العجوز.
-التدخل ضد روسيا:
اندفعت الولايات المتحدة  باتجاه الداخل الروسي  وبقيت تنظرالى روسيا بارتياب وخشية من محاولتها اعادة بناء دور لها على الصعيد الاوروبي والدولي, وسعت لمحاولة اضعافها ما امكنها ذلك ,وحرصت على عدم استعادتها لنفوذها السابق بحيث تبقى وحدها منفردة في قيادة العالم . دعمت الولايات المتحدة حركات الانفصال في الشيشان ,وحركت الاضطرابات في جمهوريات القوقاز الاسلامية في الداغستان وتتارستان .في اسيا الوسطى اقامت الولايات المتحدة روابط وثيقة مع هذه الدول (اوزبكستان,طاجكستان, قرغيزستان,تركمانستان ,كازاخستان)واقامت قواعد عسكرية وجوية في اوزبكستان وقرغيزستان. رغم التغييرالذي حصل في روسيا, واعلان انتهاء الشيوعية, واعتماد الديموقراطية فانها ما زالت بالنسبة للولايات المتحدة تشكل تحديا كبيرا لنفوذها العالمي.
- بين تحييد الصين ومحالفتها:
 انحنت الصين للعاصفة القوية التي هبت اثر سقوط الاتحاد السوفياتي وانكفأت عن السياسة الخارجية وحسنت علاقتها مع الولايات المتحدة وركزت نشاطها على التنمية الاقتصادية الشاملة والتجارة العالمية والدخول الى اكبر عدد ممكن من الاسواق العالمية .تخلت الصين عن الايديولوجيا لصالح تحسين معيشة المواطن الصيني وبناء منشات تحتية واسعة في البلاد من محطات كهرباء وسدود وطرقات ومطارات وشبكات اتصال .لم تتدخل الصين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة, والتزمت الصمت في مجلس الامن والمحافل الدولية الاخرى .
لم تكتف الولايات المتحدة بهذه المواقف الصينية ففعلت بالصين مثلما فعلت بروسيا .تدخلت الولايات المتحدة بشكل واضح في قضية التيبت واستمرت بتقليد استقبال الرئيس الاميركي للدالاي لاما الزعيم الروحي في التيبت وشجعت سكان تلك المنطقة على المطالبة باستقلالهم وحصلت انتفاضات عديدة لكن قوى الامن الصينية كانت تقمعها بشدة . كما شجعت اقلية الايغور التركية الاصل والمسلمة في اقليم تشينغ شانغ في الشمال على المطالبة بحقوقهم وكما فعلت في التيبت ,تصدت قوات الامن الصينية بقوة وقمعت الاحتجاجات واعادت الاستقرار للمنطقة.
بذلك يكون الجو قد خلا للولايات المتحدة في العالم من دون اي قطب اخر يشاركها القرار اويتجاذب معها النفوذ.لكن النزاعات الاقليمية استمرت ولم تبادر الولايات المتحدة الى حلها واهم هذه النزاعات هو النزاع العربي الاسرائيلي الذي يؤرق الرؤساء الاميركيين والنزاع بين الهند وباكستان حول كشمير الذي يشكل عامل عدم استقرار مزمن في اسيا .في التسعينات شهدت ادارة الرئيس بيل كلينتون خرقا كبيرا في النزاع العربي الاسرائيلي وذلك في التوصل الى اتفاق اوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والذي كان يؤمل منه انهاء هذا النزاع القديم واحلال السلام الدائم في منطقة الشرق الاوسط .الا ان تمنع اسرائيل عن التنفيذ الجدي لهذه الاتفاقات والاكتفاء بما يلبي مصلحتها السياسية والامنية وغياب اي نص واضح ,وكثرة النصوص الملتبسة ,وتأجيل القضايا الاساسية, وهي الحدود والقدس واللاجئين, افقد هذا الخرق المزعوم قيمته السياسية, وباتت اتفاقات اوسلو موادا خلافية فلسطينية-فلسطينية اضافة الى النزاعات الفلسطينية الاسرائيلية المسلحة المتجددة. لم يحقق وجود سلطة فلسطينية مستقلة على ارض فلسطين اهداف الشعب الفلسطيني لان السلطة كانت مكبلة امنيا وسياسيا واقتصاديا .لم تتحمل اسرائيل اي مظهر من مظاهر الدولة الفلسطينية لا الحكومة لا المطار ولا المرفأ فالغتها ودمرت بعضها وسرعان ما تحولت السلطة الى مجموعة اجهزة امنية وخدماتية تحت الهيمنة الاسرائيلية.
اذا كانت الولايات المتحدة اعتبرت ان التوصل الى حل لمشكلة ايرلندا الشمالية بواسطة موفدها جورج ميتشل او حل مشكلة جزر تيمور الشرقية واندونيسيا انجازا دوليا فان واقع الحال ان هذه النزاعات ليس لها امتدادات تاريخية وثقافية وحضارية ودينية مثل النزاع العربي الاسرائيلي, وليس لها ايضا الاهمية الاستراتيجية مثل النزاع حول كشمير. لذلك لم يحقق القطب الاوحد انجازه التاريخي المطلوب والسبب هو تركيبة السلطة داخل اميركا حيث تتخذ مواقف منحازة لاسرائيل من دون اي اعتبار للقوانين الدولية ولا للمصلحة الاميركية ,فقد تقدمت المصلحة الاسرائيلية كما يراها الاسرائيليون وتحديدا المتطرفون منهم على اي مصلحة اواعتبار اخر بما فيه المصلحة الاميركية .هذا الفشل قيد الولايات المتحدة وحد من سلطتها وهيبتها فشهد العالم تراجعات كبيرة اثرت سلبا على هيمنة القطب الاوحد واخذ يترنح شيئا فشيئا.
-على صعيد الامم المتحدة ورغم ان الولايات المتحدة تهيمن بشكل فاضح عليها نرى ان هيبتها تتراجع واول تراجع كبير كان بين الحلفاء انفسهم اذ رفضت فرنسا عام 2003 الموافقة على قرار من مجلس الامن يسمح بالحرب الاميركية على العراق وهدد الرئيس الفرنسي في حينه جاك شيراك بالفيتو فما كان من الرئيس الاميركي الى ان هاجم العراق من دون قرار دولي .لم تعمر هذه الانتفاضة الفرنسية          طويلا فقد وافقت فرنسا على قرار من مجلس الامن يشرع الاحتلال الاميركي للعراق هو القرار رقم 1483 تاريخ 22 ايار 2003 (3).ولعل الحدث الاهم هو تجرؤ روسيا والصين على اعلان فيتو ثنائي لاول مرة في تاريخ الامم المتحدة على مشروع قرار اوروبي بتأييد من الولايات المتحدة ضد سوريا في مجلس الامن. احدث هذا الفيتو انعطافا هاما في وضع المنظمة الدولية وشكل بداية لتراجع الهيمنة الاميركية عليها .رغم ذلك لا يمكن القول ان اميركا فقدت سلطتها على الامم المتحدة لان سلطتها لا تزال موجودة وقوية انما ما جرى هو بمثابة كسر جدار الهيمنة الاميركية ويحتاج الى عدد اخر من مثل هذه القرارات من اجل القول ان الوضع عاد الى ما كان عليه من توازنات كانت قائمة اثناء الحرب الباردة.
-على صعيد الاسلحة النووية .ادى فشل الولايات المتحدة في حل النزاعات الاقليمية الاساسية الى افلات بعض الدول من الضوابط النووية .في 18 ايار 1998 اعلن رئيس الوزراء الهندي فاجباي وهو من الحزب الهندوسي المتشدد اجراء ثلاثة تفجيرات نووية ناجحة, وبذلك دخلت الهند النادي النووي الحربي.اثار هذا التفجير حفيظة باكستان التي كان يتولى السلطة فيها رئيس الوزراء نواز شريف وهو من الحزب الاسلامي المتشدد الذي سارع  في 28 ايار 1998 اي بعد نحو ثلاثة اسابيع من تفجيرات الهند الى الاعلان عن اجراء خمسة تفجيرات نووية واعلن انه بذلك قام بتصفية الحساب مع الهند.اطلق على القنبلة النووية الباكستانية اسم القنبلة الاسلامية في اشارة الى ان باكستان هي اول دولة نووية اسلامية. وبالانتقال الى كوريا الشمالية فقد اجرت تفجيرا نوويا عام 2006 واعلنت دخولها النادي النووي بعد فشل الجهود الاميركية في حل المسألة الكورية .
وما هي الا سنوات قليلة حتى برز الى العلن الملف النووي الايراني. وعلى عكس سلوك الولايات المتحدة واوروبا المتفرج على التفجيرات النووية الهندية والباكستانية والكورية الشمالية فانها وقفت بشدة في وجه ايران لتمنعها من حيازة السلاح النووي .استخدمت الولايات المتحدة المفاوضات بين ايران ومجموعة 5 زائد واحد (اي الدول الاعضاء الدائمون في مجلس الامن والمانيا) للتفاوض واتخذت قرارات في مجلس الامن بفرض عقوبات اقتصادية على ايران من اجل الضغط عليها في الملف النووي .وعلى عكس ما جرى في الهند وباكستان وكوريا الشمالية من اعلان التفجيرات وتباهي حكومات تلك الدول بها فان ايران اعلنت انها لا تنوي بناء سلاح نووي وانها وقعت على معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية وهي ملتزمة بها. ولفت ان مرشد الثورة الايرانية السيد علي خامنئي اعلن ان اسبابا دينية تمنع ايران من بناء سلاح نووي لانه اعتبره من المحرمات.
بدلا من ان تسيطر الولايات المتحدة على السلاح النووي وتضبطه كونه اكبر خطر يهدد البشرية في التاريخ وبعد ان بذلت جهودا في سبيل ضبط الترسانة النووية السوفياتية وتدمير وتعطيل المخزون النووي نرى ان السلاح النووي عاد وانتشر في مناطق متوترة تشوبها نزاعات قديمة وتهدد بنشوب حروب فيها. المواجهات الهندية الباكستانية لم تتوقف باشكال متعددة ومن يدري فقد يكون السلاح النووي يوما ما اداة في تلك المواجهات .والامر مماثل بالنسبة لكوريا الشمالية ونزاعها مع كوريا الجنوبية واليابان.اما في منطقة الشرق الاوسط فلم يعد سرا ان اسرائيل تمتلك سلاحا نوويا وهوعامل خلل في التوازن بينها وبين العرب.هذا الفلتان النووي ما هو الا مظهر من مظاهر تداعي الهيبة الاميركية وتراجع نفوذ اميركا كقوة عظمى وحيدة في العالم .
-بدلا من مجموعة دول عدم الانحياز التي كانت تشكل اكثرية في الجمعية العامة للامم المتحدة, والتي تلاشت بعد انتهاء الحرب الباردة, بدأت تظهر تجمعات اقليمية اقتصادية وسياسية تقلق الولايات المتحدة وتزعزع سلطتها ومنها تجمع شانغهاي ومجموعة "بريك" المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وانضمت اليها لاحقا جنوب افريقيا ,اضافة الى ان اميركا اللاتينية خرجت من العباءة الاميركية بعد ان وصلت الى الحكم احزاب اشتراكية مناهضة لسياسة الولايات المتحدة وخصوصا في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل والارجنتين ومعظم دول اميركا الجنوبية ما عدا كولومبيا. يشكل صمود كوبا اخر حصن للشيوعية على مقربة من الولايات المتحدة رغم سقوط الشيوعية المدوي في الاتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية ظاهرة هامة تستحق التنويه ,وهذا ما اعطى دفعا كبيرا للتغيرات التي حصلت في دول المنطقة رغم معارضة الولايات المتحدة . نشير هنا ان هذه المتغيرات حصلت وفقا للقيم التي روجت لها الولايات المتحدة وهي الحرية والديموقراطية وعبر الانتخابات الحرة وليس وليدة ثورات او انقلابات عسكرية.
- لم يستطع  الاتحاد الاوروبي الارتقاء الى مستوى قوة عالمية تنافس الولايات المتحدة كما كان البعض يهدف من انشائه ,وجاء انضمام دول اوروبا الشرقية الى الاتحاد ليوسع مساحته الاقليمية لكنه اضاف اعباء اقتصادية على تلك الموجودة اصلا, وزاد من تعقيدات عملية الوحدة الاوروبية. وكشف توسع الاتحاد الاوروبي عن جملة عيوب متفاقمة ابرزها:
أول نقاط الضعف في الاتحاد الاوروبي انه لا يمتلك قوة ردع  مشتركة ومؤلفة من الدول الاعضاء تضمن له هيبة وقوة للحفاظ على مصالحه في العالم ,اذ انه يلجأ الى حلف الاطلسي في مجال الدفاع حيث القرار أميركي  بوضوح. كما فشل الاتحاد الاوروبي في تشكيل قوة تدخل سريعة خاصة به مؤلفة من قوات مجهزة باسلحة تقليدية  تكون جاهزة لمواجهة التحديات الطارئةعلى أمن اوروبا وأمن رعاياها في مختلف انحاء العالم.
ومن نقاط الضعف التعثر الواضح في التعامل مع مسألة الاقليات.بعد 11 سبتمبر 2001 تصاعدت موجة الخوف من الاسلام المعروفة اسلاموفوبيا, واستيقظت الروح العنصرية لدى بعض القوى الاوروبية, وبدأنا نشهد سياسة التمييز وردود الفعل عليها من قبل الاقليات, وخشي بعض الاوروبيين من عودة النزاعات العنصرية والاثنية التي مزقت اوروبا في القرون الماضية وتسببت بحربين عالميتين في القرن الماضي .تتخذ مسألة الاقليات بعدا هاما وهي تزداد , وتسبب المزيد من المشاكل ولا تبدو في الافق المنظور اي حلول مرتقبة لها .
على الصعيد الاقتصادي والمالي يبدو التعثر اكثر وضوحا وخطورة ويهدد جديا مصير الاتحاد. من المعروف ان الاتحاد الاوروبي يعمل وفق صيغة تنظم العلاقات بين اغنياء اوروبا في الغرب والشمال وفقرائها في الجنوب والوسط والشرق . ومع انفجار ازمة اليونان المالية التي استدعت الدول الاعضاء الى الايفاء بالتزاماتها في الوحدة النقدية الاوروبية لانقاذ هذا البلد من الافلاس,جرى التوافق على حزمة سياسات وضمانات مالية تنقذ اليونان وتحفظ استقرار اليورو . ومع ظهور تراجع واضح في اقتصاد البرتغال وايطاليا وايرلندا واسبانيا تجددت نقاشات الاوروبيين حول كلفة اندماجهم في منظومة الاتحاد الاوروبي وحدود مبدأ التضامن الناظم لعلاقة دول الاتحاد مع بعضها البعض.
من نقاط الضعف ايضا هو التخبط الثقافي في دول الاتحاد . تعذر التقريب بين الثقافات الاوروبية المختلفة بين من يصرعلى العلمانية ومن يطالب بالمسيحية (اسماء بعض الاحزاب الحاكمة تتضمن كلمة المسيحي, الحزب الديموقراطي المسيحي في المانيا مثلا), ومن يتخوف من الاسلام الدين الذي يعتنقه نحو 50 مليون اوروبي, وهذا السبب بالاضافة الى اسباب اخرى عرقل التوصل الى دستور اوروبي موحد. ومع ذلك تبقى العلمنة النمط الغالب في الثقافات الاوروبية مهما اشتدت الخلافات. يحول تعدد اللغات  بين الشعوب الاوروبية دون توحيد  هذه الشعوب وانبثاق اوروبا الواحدة .الولايات المتحدة الاميركية لغتها واحدة هي الانكليزية والصين لغتها المهيمنة هي الصينية وفي الهند تسيطر لغة واحدة هي الهندية.
ان نقاط الضعف هذه حولت اوروبا من مشروع قوة منافسة الى مشروع اتحاد يحمل بذور نزاعات ومشاكل وازمات اقتصادية ومالية وان ارتباط الاقتصاد الاوروبي بالاقتصاد العالمي من خلال الاقتصاد الاميركي سيجعل من هذا الاتحاد عبئا على الولايات المتحدة يزيد من ثقلها في مواجهة الاقتصادات الصاعدة في الصين والهند والقوية في اليابان ومن مشاكلها العالمية وتاليا يحد من نفوذها في اوروبا الذي نلاحظ انه يتراجع بوضوح . ومن مظاهره الراهنة تقدم اوروبا ,رغم عجزها, في المواجهة العسكرية مع ليبيا والتي ادت الى اسقاط نظام القذافي وتقدمها ايضا في التدخل في الازمة السورية القائمة حيث بدت اميركا في الخلف واوروبا في المواجهة .من المفيد الاشارة الى ان تدخل اوروبا في ليبيا لم يؤد الى مقتل جنود اوروبيين بل الى كلفة باهظة لغارات الطيران ,(ورد ان دول الخليج تكفلت بها) ,ثم ان هناك كعكة النفط الليبي التي سوف يتقاسمها الاوروبيون.
-روسيا تتقدم:
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لحقت الانهيارات روسيا الى داخلها,فحاولت جمهوريات داخل الاتحاد الروسي الانفصال وتهديد وحدة روسيا وابرزها الشيشان واندلع قتال عنيف بين الحكومة الروسية والانفصاليين الشيشان المدعومين بمقاتلين عرب ومسلمين الامرالذي اضفى على المواجهة طابعا روسيا- اسلاميا .لم تتهاون روسيا في الشيشان واستعملت القوة المفرطة من اجل منع الانفصال والحفاظ على وحدتها .فهمت روسيا ان الولايات المتحدة هي التي تدخلت في الدول المجاورة لها اي اوكرانيا وجورجيا, وهي التي تتدخل في الشيشان ,فقضت على التمرد الشيشاني ثم انطلقت الى خارج حدودها لتحافظ على مصالحها الحيوية ودخلت قواتها العسكرية عام 2008 الى جورجيا بالقوة العسكرية لاول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة في عملية محدودة الاهداف, لم تستطع الهيبة الاميركية المتراجعة ردعها.ادت العملية الى استقلال اقليمي ابخازيا واوسيتيا الجنوبية عن جورجيا واعتراف روسيا بهما كدولتين مستقلتين  وبذلك حققت روسيا تقدما كبيرا في الحفاظ على امنها الاقليمي بعدما كان شبه مستباح ,هذا التقدم من دون شك جاء على حساب القوة العظمى اي الولايات المتحدة.
-الصين الدائنة:
بلغت قيمة الديون الصينية للولايات المتحدة عن طريق سندات الخزينة 1,2 تريليون دولار(4)وهذا ما دفع العلاقة الصينية الاميركية الى وضع جديد :دولة دائنة مع دولة مدينة مع ما يرتب ذلك من تعقيدات في العلاقة بينهما والتي اكدت تحرر الصين من الهيمنة الاميركية واقترابها من ان تصبح قوة عالمية في وقت لم يعد بعيدا وعندما ترى ذلك ملائما لمصلحتها .لم تتورط الصين بحروب ونزاعات وركزت جهودها على التنمية الاقتصادية وحققت اعلى معدلات نمو في العالم. وفيما كان اقتصادها يتقدم كان الاقتصادان الاميركي والاوروبي يتراجعان حتى اصبحا على حافة الانهيار, وباتت الصين عنصر استقرار عالمي لانها وضعت على عاتقها الجهود من اجل الحؤول دون انهيار الاقتصاد العالمي .حسمت الصين بسرعة ازماتها الداخلية في تشينغ شانغ والتيبت ولم تسمح للخارج الاميركي بالتدخل في شؤونها الداخلية  تحت شعارات حقوق الانسان وتقريرالمصير. بدأت الصين تظهر تمردا على الولايات المتحدة في مجلس الامن عندما شاركت مع روسيا في اعلان الفيتو على مشروع قرار اوروبي مدعوم من الولايات المتحدة ضد سوريا.
القطب المتعثر:
انطلاقا من الوقائع السياسية والاستراتيجية المذكورة اعلاه يمكن القول ان الولايات المتحدة لم تتمتع لوقت طويل في منصب القوة العظمى في العالم .بعد نحو 10 سنوات من اعلان النظام العالمي الجديد ضرب الارهاب في واشنطن ونيويورك الامرالذي لم يحصل في الولايات المتحدة منذ بيرل هاربر, وانطلقت بعدها الحرب على الارهاب وغزو افغانستان والعراق وما تزال في حالة عداء مع ايران  منذ  استلام الثورة الاسلامية للسلطة عام 1979 من دون ان تحقق تغييرا في النظام السياسي واكتفت  بالحصار الاقتصادي والسياسي. تعرضت صورة الولايات المتحدة  للضعف بعد نتائج الكارثية للحرب على افغانستان التي يبدو ان الطالبان سوف تكون القوة المهيمنة بعد الانسحاب الاميركي عام2014 ,وبعدما تأكد للساسة الاميركيين ان ايران ستكون اللاعب الاول الخارجي في العراق بعد الانسحاب الاميركي نهاية العام الجاري .
هل تبقى الولايات المتحدة القطب الواحد ام يشهد العالم قطبا جديدا او عدة اقطاب؟من شبه المؤكد ان الولايات المتحدة لن تستطيع  في المستقبل القريب املاء سياستها وارادتها على العالم .جاء الفيتو الثنائي الاميركي الروسي لوقف الهيمنة الاميركية في الامم المتحدة  تتويجا لجهود من دول كبيرة متضررة من الهيمنة الاميركية بدأت بتشكيل تجمعات اقتصادية ثم تتطورالى التنسيق السياسي. وابرز هذه التجمعات منظمة شنغهاي التي بدأ تأسيسهاعام 1996 وكانت تضم دول أسيا الوسطى وروسيا والصين, ومن ثم الهند وإيران. بدأ التعاون
بين روسيا والصين بعد نهاية نظام القطبية الثنائية, وانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.
جاءت فكرة اجتماع شنغهاي ردا على صلف الولايات المتحدة وتفردها وتماديها في اخضاع أية دولة تعارض سياستها  ,وكانت أحداث صربيا , وما رافقها من تقسيم يوغسلافيا السابقة, وسلخ إقليم كوسوفو عن صربيا ,وقصف السفارة الصينية في صربيا,أسبابا دفعت الصين وروسيا للالتقاء وتأجيل خلافاتهما, لمواجهة الهيمنة الأميركية .
كان هدف اجتماع شنغهاي الأول  توجيه رسالة الى الولايات المتحدة بان لا تتعرض الى مصالح الصين وروسيا , وهي بذلك تنطلق من دافع " ردعي ", ورسالة اخرى إلى دول الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي , بان هذا التجمع الذي يشكل نحو ثلث سكان العالم , صار حاضرا في الساحة الدولية , ولن يسمح بالتعرض لمصالحه . وعلى شكل حكومة مصغرة بدأ عام 2001 الكلام عن مجموعة بريك المؤلفة من اربعة دول :البرازيل وروسيا والصين والهند التي تشكل مجموعة اقتصادية ضخمة وهي اعضاء في مجموعة العشرين الدولية كما بدات بتشكيل نفوذ سياسي كون اثنان من اعضائها عضوين دائمين في مجلس الامن وثلاثة  اعضاء منها دول نووية. انضمت جنوب افريقيا مؤخرا الى اجتماعات بريك وبذلك امتد تأثيرها الى افريقيا.
إن تطور العلاقات بين دول شنغهاي واختصارها الى مجموعة بريك  يفضي إلى شكل من أشكال التعاون السياسي والاقتصادي والأمني ,ويسهم في صياغة نظام دولي متعدد الأقطاب في المستقبل على حساب القطب الاميركي الواحد. وتشير مواقف بريك من الازمة السورية المختلفة عن مواقف الولايات المتحدة واوروبا الى ان زمن القطب الواحد بدأ بالافول لمصلحة قطبين بدأ الثاني منهما وهو مجموعة بريك بالتبلور واظهار نفوذه السياسي الدولي.
الا ان ذلك لا يعني في اي حال من الاحوال ان الولايات المتحدة اصبحت ضعيفة او مستضعفة لان عناصر القوة في الاقتصاد الاميركي ما زالت قائمة وتفوقها كبير في المجال التكنولوجي والمعلوماتي والبحثي والصناعي, وكذلك الامر فهي ما زالت الدولة الوحيدة  التي تستطيع تحريك قواتها العسكرية الى اي مكان في العالم ناهيك عن التفوق العسكري الواضح على باقي دول العالم.


                    الفصل الثاني

                    الوضع الاستراتيجي الاميركي في العالم   

جاء في نشرة استراتيجية الامن القومي الاميركية الصادرة عن البيت الابيض :"في مطلع القرن الواحد والعشرين تواجه الولايات المتحدة جملة تحديات لامنها القومي ,وكما نجحت في المساعدة على تحديد مسار القرن العشرين فانها سوف تبني مصادر القوة والنفوذ وتحدد النظام العالمي القادرعلى التغلب على تحديات القرن الواحد والعشرين "(5). بعد مضي عقدين على انتهاء الحرب الباردة يبدو مشهد العالم المتغير كما يلي :نمو كبير في الاقتصاد العالمي ,التجارة الدولية تتحكم بمصير معظم الدول,توسعت دائرة الدول الديموقراطية, تراجع خطر المواجهة النووية ,الديموقراطية تنتشر وبات عدد الشعوب التي تتحكم بمصيرها اكبر. في المقابل هناك مشاكل كبيرة تواجه هذا العالم ابرزها ان الحرب على الايديولوجيات تراجعت لتحل مكانها الحروب الدينية والاثنية والقبلية,ارتفعت مخاطر الانتشار النووي ,ازداد عدم الاستقرارالاقتصادي وتراجعت المساواة بين الشعوب. يتشارك الجميع مخاطر تلوث البيئة وتأثيرها على الغذاء والصحة العامة. يمكن القول ان ادوات بناء الدول نفسها يمكن ان تستخدم لتدميرها .ازاء هذا المشهد جاءت هجمات 11 ايلول لتفتح صفحة جديدة في خيارات الاميركيين وهي محاربة الارهاب وما يترتب عليها من سياسات و استراتيجيات جديدة ومكلفة . وضع البيت الابيض استرتيجية ثابتة للولايات المتحدة تخدم مصالحها الامنية والسياسية والاقتصادية والثقافية انطلاقا من التحديات التي يفرضها الواقع الدولي الراهن في اوائل القرن الواحد والعشرين ومن الفرص التي يؤمنها النظام العالمي الجديد لتحقيق اهداف ومصالح اميركا.
حدد البيت الابيض اربعة اهداف ثابتة للاستراتيجة الاميركية هي الامن ويقصد به امن الولايات المتحدة ومواطنيها وحلفائها وشركائها.والازدهاراي تحقيق اقتصاد اميركي قوي ومتطور وخلاق ضمن نظام دولي يوفر الفرص وسبل التقدم . والقيم اي احترام القيم العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها والحفاظ على النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الذي يحقق السلام والامن ويوفر الفرص من اجل تعاون اقوى لمواجهة التحديات العالمية.
في القوة العسكرية تعتبر الولايات المتحدة من دون نقاش الاقوى عسكريا في العالم فهي سيدة البحار باساطيلها المنتشرة في جميع البحار والمحيطات واقمارها الاصطناعية في الفضاء تراقب الكرة الارضية باكملها وقواتها البرية منتشرة في نحو 550 مكانا في العالم وهي الدولة الوحيدة القادرة على التدخل العسكري التقليدي في جميع انحاء العالم.
تتمتع الولايات المتحدة بدبلوماسية ناشطة متحركة لا تهدأ. ترى الدبلوماسيين يأتون من واشنطن وينضمون الى السفراء في المناطق الساخنة ويتابعون ادق التفاصيل ويمسكون بملفاتهم ويعالجونها بجدية ويحرصون على استمرارها عند كل تغيير للاشخاص المسؤولين .على الصعيد الاستخباري يوجد في الولايات المتحدة 17 جهاز استخبارات تنضوي تحت امرة  رئيس المجموعة الاستخبارية(استحدث هذا التنظيم الرئيس بوش الثاني بعد 11 ايلول) واهم الاجهزة وكالة المخابرات المركزية و وكالة الامن القومي ووكالات الدفاع والجيش والقوات الجوية والبحرية ومكتب التحقيق الفدرالي وغيرها.
حققت الولايات المتحدة تقدما اقتصاديا مذهلا جعلها تتربع على عرش الاقتصاد العالمي وتهيمن على اقتصادات العالم وتحول الدولار الاميركي الى عملة دولية.عام 1972 اعلن الرئيس نيكسون وقف الارتباط بين الدولار والذهب,معتبرا ان قوة الاقتصاد الاميركي هي مصدر قوة الدولار ,وبعدها طرحت اوراقها النقدية من دون تغطية . لم يتأثر الاقتصاد الاميركي الا قليلا نتيجة احداث 11 ايلول وبعد الاعصارات التي اجتاحت مناطق عديدة ابرزها اعصار كاترينا الذي زادت خسائره على 100 مليار دولار. حتى الازمة المالية العالمية الاخيرة  الناتجة عن افلاسات المصارف الكبرى وتدهور سوق العقارات استطاعت الولايات المتحدة مواجهتها باعمال تحفيز وهي كناية عن طرح مبالغ مالية هائلة في الاسواق وتعويم البنوك من اجل تحريك الاقتصاد والتغلب على عدو الاقتصاد الاول وهو الجمود.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه اضحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم والسلطة التي تتحكم في مصير الدول والشعوب.مع كل ذلك اوقعت الولايات المتحدة نفسها في حربين تقليديتين في افغانستان والعراق استنزفتا مواردها وامكاناتها العسكرية والاقتصادية .وبدا ان هاتين الحربين سوف تنتهيان بهزيمة واضحة للولايات المتحدة بسبب عدم تحقيق اهدافها بل على العكس تحققت اهداف اعدائها . يضاف الى هاتين الحربين الحرب على الارهاب التي بدأت بعد 11 ايلول 2011 ولم تنته بعد ولا يقدر ان تنتهي في المستقبل القريب.
شكل قرار الولايات المتحدة الانسحاب من العراق في نهاية 2011 والانسحاب من افغانستان في نهاية 2014 شبه هزيمة عسكرية وسياسية,وقد املت المعطيات السياسية و الاقتصادية على الادارة اتخاذ هذا القرار ووافق عليه الكونغرس بسبب تفهمه للكلفة العالية للحربين.تمتد استراتيجية الولايات المتحدة الى مختلف مجالات السياسة والامن والدفاع والاقتصاد والثقافة وغيرها ,وما يهمنا هو استراتيجية الامن لانها الاساس في المواجهة مع الهيمنة الاميركية.
نعرض للوضع الاستراتيجي الاميركي بالاستناد الى الاستراتيجية التي اعدها البيت الابيض والمشار اليها انفا .يتميزعرض الاستراتيجية بتفصيل كل المواضيع وكأنها اجندة عمل ,لا عجب, فتلك هي البراغماتية الاميركية البعيدة عن الادبيات المطولة. 
اعتبر البيت الابيض ان التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة تغيرت بشكل دراماتيكي خلال السنوات العشرين الماضية,فبدلا عن خصم نووي واحد اي الاتحاد السوفياتي السابق ,تتعرض لتهديد انتشار اسلحة نووية ووصولها الى ايدي متطرفين لا يمكن ردعهم عن استعمالها. وبدلا من التعامل مع امبراطورية كبيرة توسعية, تواجه الولايات المتحدة عددا من الدول التي تعتبرها متطرفة ومارقة عن الشرعية الدولية او دول تتهاوى وتشكل خطرا جراء تفككها. بالاضافة الى مواجهة اعدائها في الميدان التقليدي تواجه اميركا خطر الحرب غير المتماثلة (الحرب الثورية والارهاب) وخطر حرب المعلوماتية. تبقى مسؤولية الولايات المتحدة حماية مواطنيها والاضطلاع بمسؤولية الحفاظ على السلام والامن الدوليين .الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على نشر قوات عسكرية مقاتلة في جميع انحاء العالم وتحتفظ بقدرات عسكرية متفوقة تمكنها من الحاق الهزيمة باي عدو, وردع اي تهديد وتأكيد مصداقيتها تجاه حلفائها وشركائها. في الداخل تعمد الادارة على تكامل جهود الامن الوطني مع كل متطلبات الامن القومي وتعزيز جهوزية الوحدات المختصة ومرونتها في العمل .في الخارج,تعزز الادارة تحالفاتها وتقيم شراكات جديدة وتستخدم ادوات القوة الاميركية من اجل تحقيق اهدافها ومن ضمنها استخدام الدبلوماسية و تقوية القواعد والنظم الدولية من اجل عزل الحكومات التي لا تلتزم بها وحشد التعاون الدولي ضد اللاعبين- غيرالدول الذين يعرضون امنها للخطر.
تتمثل تدابيرالامن في الاستراتيجية الاميركية النقاط التالية:
-تعزيز الامن والمرونة في العمل على الجبهة الداخلية:
تواجه الولايات المتحدة الاخطار المهددة لمواطنيها وهي الارهاب والكوارث الطبيعية والهجمات الالكترونية المعلوماتية وانتشار الاوبئة .ولهذه الغاية يجري تعزيز التدابيرالامنية في الداخل لردع اي هجمات وحماية البنى التحتية والموانىء البحرية والجوية والنقاط الحدودية والسواحل والاجواء وتنسيق الجهود الفدرالية والمحلية والاهلية لتحقيق هذه الاهداف.
- اتخاذ تدابير فعالة لمواجهة حالات الطوارىء: تقوم الادارة ببناء كل الامكانات المطلوبة من اجل مواجهة الكوارث والتخفيف من اضرارها ,والتأكد من توحيد كل الجهود والمؤسسات المعنية بعمليات الانقاذ والاغاثة تطوير ,وتعزيز الامكانات التقنية والاتصالات وتخطيط برامج العمل على مختلف المستويات الحكومية من اجل سرعة المواجهة ونجاحها.
- تحصين المجتمع ضد الراديكالية: حصلت مؤخرا اعمال ارهابية قام بها متشددون اعدوا انفسهم للعمل في داخل البلاد وخارجها وتبين انه قد تم تنشئتهم في داخل البلاد. تقوم الحكومة الفدرالية باتخاذ تدابير لتوعية العائلات والمجتمعات والمؤسسات .تخصص الحكومة الفدرالية جهودا استخبارية من اجل تفهم هذا التهديد وحث المجتمعات على مواجهته واعداد برامج لهذه الغاية. وتقوم ايضا بناء على خبرة الوكالات الحكومية ومواردها, بالاصغاء الى هواجس المجتمع ومنع الهجمات على الداخل الاميركي واعداد سياسات تتماشى مع اهتمامات المجتمعات للحفاظ على التعددية واعتبارها مصدر قوة اميركيا.
- تحسين الليونة في العمل من خلال شراكة بين القطاعين الخاص والعام: عند حصول حوادث يجب ان تظهر الادارة مرونتها في  الخروج من الوضع الاستثنائي والاسراع في العودة الى الحياة الطبيعية. يجب الاهتمام بالقطاع الخاص لانه يمتلك معظم موارد البلاد وبناها التحتية ويلعب دورا هاما في اعمال الاغاثة. يجب ايجاد حوافز للحكومة والقطاع الخاص من اجل وضع هيكليات ومخططات وانظمة تخفف من التعرض للاضرار, و تشجيع الاستثمار في التحسينات على البنى التحتية.
- التعامل مع الجماعات والمواطنين:  يجب التاكيد على واجب الافراد والجماعات في توفير المعلومات المطلوبة المتعلقة بالاخطار الطارئة والتشديد على اتخاذ خطوات عملية تمكن جميع الاميركيين من حماية انفسهم وعائلاتهم و جيرانهم ومجتمعهم.
تفكيك وضرب تنظيم القاعدة والتنظيمات المتطرفة العنيفة التابعة له في افغانستان وباكستان جميع انحاء العالم:
تشن الولايات المتحدة حربا واسعة على تنظيم القاعدة من اجل القضاء عليه وتعتمد في هذه الحرب استراتيجية الحماية في الداخل والمحافظة على الاسلحة الفتاكة, ومنع وصولها الى القاعدة, ومنع القاعدة من الحصول على ملاذ امن في العالم . وتعمل على بناء شراكات ايجابية مع الجماعات الاسلامية في جميع انحاء العالم. تلحظ الاستراتيجية الاميركية في محاربة القاعدة اجراءات عديدة هي :
- منع الهجمات على الاراضي الاميركية وداخلها: من اجل منع العمليات الارهابية على الاراضي الاميركية يجب تضافر جهود الاستخبارات والضابطة العدلية وجهاز الشرطة والامن الداخلي وان تتشارك جميعها المعلومات الاستخبارية وتوصلها الى مسؤولي الاستخبارات والمحللين وضباط مكافحة الارهاب. يجب التنسيق مع الشركاء في الخارج من اجل تحديد مصدر تمويل الارهاب وتعقبه والوصول اليه. يجب تعزيز التعاون الثنائي مع الدول ومن خلال المنظمات الاقليمية والدولية لتنسيق الجهود الدولية لمنع العمليات الارهابية.
- تقوية الامن الجوي: من المعروف ان الطيران الدولي هو هدف اساسي لتنظيم القاعدة والتنظيمات التي تدور في فلكه. تقوم الولايات المتحدة بتعزيز الامن الجوي في العالم بالتركيز على جمع المعلومات وفحص الركاب واجراءات التفتيش واستخدام اجهزة المسح المتطورة وتعزيز قواعد الامان في الطيران الدولي.
- منع الارهابيين من الوصول الى اسلحة الدمار الشامل: من اجل منع وقوع اسلحة الدمار الشامل بيد الارهابيين تتخذ الولايات المتحدة حزمة اجراءات لتكثيف الجهود لحماية جميع المواد النووية وفق برنامج زمني حتى نهاية العام 2013 ومنع انتشار الاسلحة النووية. كما تتخذ اجراءات لحماية الامكانات والمعلومات في العلوم الكيميائية التي تؤدي الى اساءة استعمالها.
- منع القاعدة من تهديد الولايات المتحدة ومواطنيها وشركائها وحلفائها ومصالحها في جميع انحاء العالم:  تعمل الولايات المتحدة على منع القاعدة او اي من حلفائها من ان تكتسب اي قدرة على تخطيط وتنفيذ هجمات ارهابية خصوصا ضد الولايات المتحدة .يعد تنظيم القاعدة في باكستان الاخطر في العالم ومع ذلك تواجه الولايات المتحدة تهديدات من اماكن اخرى في العالم وتسعى السلطات الاميركية الى منع القاعدة والمنظمات التابعة لها من التخطيط والتدريب للارهاب وتطويع الارهابيين وتمركزهم في جميع بلاد العالم ومن ضمنها اوروبا واميركا الشمالية.
- باكستان وافغانستان: يعتبر هذان البلدان مركز الثقل لتنظيم القاعدة. في افغانستان تسعى الولايات المتحدة لمنع القاعدة من اي ملاذ امن, ومنع طالبان من الاطاحة بالحكومة الافغانية, ودعم قوات الامن الافغانية والحكومة, لتتمكن من تولي المسؤولية في البلاد.في باكستان تعمل مع الحكومة الباكستانية لمواجهة التهديدات المحلية والاقليمية والدولية من الارهابيين.تتحقق هذه الاهداف من خلال الخطوات الثلاث التالية:
   1-تتابع القوات الاميركية وقوات حلف شمال الاطلسي "ايساف" استهداف المتمردين وحماية المدن والتجمعات السكنية وزيادة دعم تدريب القوات الافغانية من اجل انتقال المسؤولية في المستقبل الى الحكومة الافغانية.
    2- العمل مع الشركاء في الامم المتحدة والحكومة الافغانية من اجل توفير خبرة ودراية في الحكم.تدعم الولايات المتحدة الرئيس الافغاني و الحكومة والوزارات والمحافظين والحكام المحليين لمكافحة الفساد وتقديم الخدمات اللازمة للمواطنين والتأكيد على المحافظة على حقوق الانسان لدى الشعب الافغاني – رجالا ونساء. تؤكد الولايات المتحدة على استقرار افغانستان وازدهارها. 
    3-تعزيز العلاقة مع باكستان استنادا الى المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. من اجل التغلب على الارهابيين الذين يهددون البلدين  ستعزز الولايات المتحدة قدرة باكستان على استهداف الارهابيين داخل اراضيها وتقدم لها مساعدات امنية. كما ستقدم مساعدات لسد احتياجات الشعب الباكستاني من اجل بناء شراكة استراتيجية وتقوية التعاون في مجالات عديدة.
- حرمان القاعدة من الملاذات الامنة وتقوية الدول المهددة: ستواجه الولايات المتحدة تنظيم القاعدة في اي مكان يقيم فيه ملاذا امنا مثل اليمن والصومال والمغرب والساحل الافريقي الغربي بكل الضغوط .وستقوي شبكة حلفائها من اجل تعطيل القدرات البشرية والمالية والمخططات,واحباط مخططات العمليات الارهابية قبل تنفيذها. ستتركز الجهود على تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون في التحقيقات وخلق ممارسات جديدة من التعاون لمواجهة الاعداء المشتركين.
- اعتماد معايير العدالة الثابتة والحاسمة: اعتماد مقاربات قانونية تنسجم مع القيم الاميركية في احتجاز المتهمين واستجوابهم. يجب جلب الارهابيين الى العدالة والالتزام بحكم القانون .
- مقاومة الخوف والمبالغة في ردود الفعل: من المعروف ان هدف الاعمال الارهابية هو بث الذعر فاذا اعترانا الخوف نكون قد حققنا هدف الارهابيين.ان المبالغة في ردود الفعل على العمليات الارهابية تؤدي الى شرخ بين الولايات المتحدة وبعض المناطق والاديان وستؤدي الى تقويض عمل القيادة الاميركية وتجعل الولايات المتحدة اقل امنا.
- التباين بين نوايا القاعدة بالتدمير وايمان الولايات المتحدة بالبناء: فيما تعمد القاعدة على التدمير سوف توضح الولايات المتحدة نواياها في بناء الجسور بين الشعوب من مختلف المناطق والمعتقدات وسوف تستمر بالعمل لحل النزاع العربي الاسرائيلي الذي يعتبر مصدر توتر منذ زمن طويل. وستقف الى جانب حقوق كل الشعوب بمن فيهم الذين تختلف معهم .وتقيم شراكات مع مجموعات اسلامية في جميع انحاء العالم.
في مجال الصحة والتعليم والابتكارات,وفي مجال التأكيد على العلاقة مع المسلمين ستؤكد على التزامها بدعم تطلعات الشعوب لتحقيق الامن وخلق الفرص. واخيرا ترفض الولايات المتحدة الكلام عن ان القاعدة تمثل اية سلطة دينية. وتعتبرانها ليست القيادة الدينية بل مجموعة من القتلة لان الاسلام مثل سائر الاديان لا يرضى بقتل الابرياء.
منع انتشار الاسلحة البيولوجية والنووية والمحافظة على المواد النووية:
ان اخطر ما يواجه الشعب الاميركي هو هجوم ارهابي باستخدام السلاح النووي, كما يؤدي انتشار الاسلحة النووية الى تهديد للامن والسلام الدوليين .بعد انتهاء الحرب الباردة ازداد خطر الهجوم باستخدام الاسلحة النووية. بقي مخزون الاسلحة النووية على حاله وامتلكت مزيد من الدول السلاح النووي .واستؤنفت التجارب النووية .شهدت السوق السوداء الاتجاربالاسرار والمواد النووية وظهر تصميم الارهابيين على شراء السلاح النووي او صنعه او سرقته .ستبذل الولايات المتحدة اقصى جهودها من اجل احتواء المواد النووية ,ولهذه الغاية تقوم بما يلي:
- متابعة تحقيق هدف "عالم خال من الاسلحة النووية": علما ان هذا الهدف لن يتحقق في ولاية هذه الادارة .تلتزم الولايات المتحدة استنادا الى معاهدة الحد من انتشار الاسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية ان تتعاون مع روسيا والدول الاخرى من اجل زيادة المصداقية في محاسبة الاخرين على التزامهم بموجبات المعاهدة .طالما ان الاسلحة النووية موجودة فان الولايات المتحدة تلتزم  بالاحتفاظ بترسانة نووية كافية من اجل ردع خصومها والتأكيد لحلفائها على احترام التزاماتها الامنية. وقعت الولايات المتحدة مع روسيا معاهدة "ستارت" للحد من انتشار الاسلحة الاستراتيجية والتي تحدد عدد الرؤوس النووية ووسائل الاطلاق وطرق المراقبة. الولايات المتحدة بصدد تخفيف الاعتماد على الاسلحة النووية في مقاربتها الامنية والتاكيد على عدم استعمال الاسلحة النووية ضد الدول التي لا تمتلكها وتلتزم بموجبات معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية وبعدم انتاج سلاح نووي .وستتابع مصادقة الدول على معاهدة منع اجراء التجارب النووية.
- تقوية العمل بمعاهدة منع انتشار الاسلحة النووية: ان جوهر معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية هو ان الدول التي تحوزعلى هذه الاسلحة تتجه الى نزعه والدول التي لا تمتلك هذا السلاح تمتنع عن حيازته ولجميع الدول حق الحصول على الطاقة النووية السلمية.من اجل تقوية هذه المعاهدة يجب ان تسعى الى مزيد من الصلاحيات والموارد في اعمال التفتيش .يجب التأكد من ان جميع الدول تفي بالتزاماتها في هذه المعاهدة و ان تتخذ تدابير ضد الدول غير الملتزمة.
- تقديم خيار واضح لايران ولكوريا الشمالية: تسعى الولايات المتحدة الى ازالة السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية ومنع ايران من حيازته.انه ليس استفرادا لدول لكن اذا تخلصت كوريا الشمالية من السلاح النووي وامتنعت ايران عن بناء سلاح نووي فهذا يؤدي الى تكاملهما مع المجتمع الدولي .اما اذا لم يحصل ذلك فان هناك وسائل اخرى لزيادة عزلهما لحين موافقتهما على التخلص من هذه الاسلحة.
- المحافظة على الاسلحة والمواد النووية المعرضة لسوء الاستخدام: في عام 2010 وبمبادرة اميركية اجتمعت قمة الامن النووي العالمي بحضور 47 دولة بهدف المحافظة على المواد النووية من خطر سيطرة الارهابيين عليها .في نهاية عام 2013 سوف تسعى الولايات المتحدة الى التركيز على قيام جهود دولية من اجل التأكد من المحافظة على المواد النووية المعرضة لسوء الاستخدام وتعزيز حمايتها واجراء مساءلات عنها بالتعاون مع المؤسسات الدولية ,واقامة شراكات جديدة لاقفال هذا الموضوع. ستقوم الولايات المتحدة باطلاق مبادرة امن انتشار الاسلحة النووية , والمبادرة العالمية لمحاربة الارهاب النووي, من اجل البحث عن المواد النووية واعتراضها اثناء نقلها ومنع الاتجار بالتكنولوجيا النووية.
- دعم الطاقة النووية السلمية: فيما تتحرك بعض الدول لانتاج الكهرباء من الطاقة النووية يجب التحقق من ان تلك الدول تطور بنى تحتية من اجل ضمان انتاج الطاقة بسلامة وامان. تسعى الولايات المتحدة من اجل توفيرالهيئات المختصة وتدريب الموظفين المعنيين وتعميم قواعد الامان لمنع العمليات الارهابية في المجال النووي وتامين التعامل بسلامه مع الوقود النووي في اول العمليات واخرها .
- مواجهة التهديدات البيولوجية: ان انتشار العوامل البيولوجية القاتلة في المناطق السكنية يؤدي الى موت اعداد كبيرة من السكان ويؤثر على الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. تعمل الادارة الاميركية مع شركاء في الداخل والخارج للحماية من التهديدات البيولوجية بنشر قواعد الصحة العامة الدولية, وتعزيز تدابير الامان والاطلاع الدائم على المخاطر الحالية والمرتقبة وتعزيز القدرات من اجل منع الهجمات البيولوجية ,وتوقيف من يقوم بهذا العمل, وتامين الاتصال مع المعنيين بالاخطار البيولوجية ,واطلاق حوار دولي حول التهديدات البيولوجية.
دفع عملية السلام والامن وتحقيق الفرص في الشرق الاوسط الكبير
تملك الولايات المتحدة مصالح هامة في الشرق الاوسط الكبير تتضمن:
- التعاون في مجالات عديدة مع "صديقتها المقربة اسرائيل" والالتزام الثابت بامنها.
- تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في اقامة دولته,واتاحة الفرص امامه ,وتحقيق طموحاته المميزة.
- وحدة العراق وامنه ودعم الديموقراطية فيه واعادة تكامله مع محيطه.
- تحويل السياسة الايرانية بعيدا عن سعيها لامتلاك الاسلحة النووية ودعمها "الارهاب وتهديد الدول المجاورة".
- منع انتشار الاسلحة النووية والتعاون في مكافحة الارهاب,واستكشاف موارد الطاقة وتكامل المنطقة في الاسواق العالمية.
ان علاقة الولايات المتحدة مع اصدقائها الاسرائيليين والعرب تتجاوز الالتزامات الامنية نحو التجارة والتبادل والتعاون في مسائل عديدة.
اهم القضايا الاستراتيجية امام الولايات المتحدة  في الشرق الاوسط الكبير هي:
- مع نهاية الحرب في العراق انهاء مرحلة انتقالية جادة:تعتبر الولايات المتحدة ان الحرب على العراق تشكل تحديا كبيرا لها وللمجتمع الدولي وللشعب العراقي وللمنطقة بكاملها,وهي تهدف الى عراق سيد مستقل معتمد على نفسه ,وتسعى الى قيام حكومة عراقية تمثل الشعب, وتخضع للمساءلة وتمنع الارهابيين من الحصول على ملاذ امن في البلاد. تسعى الولايات المتحدة لتحقيق هذه الاهداف باعتماد استراتيجية تتالف من ثلاثة مكونات:
      أ-امن المرحلة الانتقالية: سوف تسحب الولايات المتحدة قواتها من العراق التزاما بالاتفاقية المعقودة مع الحكومة العراقية .سوف تستمر بتدريب وتجهيز قوات الامن العراقية وتقديم المشورة لها وتنفيذ مهمات محددة لمكافحة الارهاب,وسوف تنقل المسؤولية الامنية بكاملها الى الحكومة العراقية.
     ب-دعم المؤسسات المدنية: مع تحسن الوضع الامني سوف تتوسع  المساعدات المدنية الاميركية للعراق وسوف تحافظ الولايات المتحدة على نشاطها السياسي والدبلوماسي والمدني من اجل حل الخلافات بين العراقيين ,وتكامل اللاجئين والمهجرين العائدين في المجتمع, وتطوير مؤسسات ديموقراطية خاضعة للمساءلة. ستعمل الولايات المتحدة مع الحكومة العراقية لتطبيق اتفاقية الاطار الاستراتيجي ,مع الحرص ان تتولى وزارة الخارجية الاميركية زمام القيادة. تتضمن هذه الاتفاقية التعاون في مجالات الدفاع والامن والدبلوماسية والسياسة والتعليم والصحة والعلوم وحكم القانون.
    ج-الدعم في مجال الدبلوماسية الاقليمية والتنمية: سوف تتابع الولايات المتحدة نشاطها في المنطقة للتأكد من ان انسحاب القوات الاميركية من العراق يوفر فرصة لتثبيت الاستقرار والتنمية المستدامة في العراق ودول المنطقة.ستحافظ الولايات المتحدة على وجود مدني في المنطقة يؤمن مصالحها الاستراتيجية في العراق والمنطقة.
- متابعة عملية السلام العربية الاسرائيلية: تعتبر الولايات المتحدة انها واسرائيل والفلسطينيين والدول العربية لها مصلحة في تحقيق تسوية سلمية للنزاع العربي الاسرائيلي تقوم عل تحقيق امال الاسرائيليين والفلسطينيين في الحفاظ على امنهم وكرامتهم, ويحقق لاسرائيل السلام الاّمن والدائم مع جميع جيرانها. تسعى الولايات المتحدة الى حل دولتين تعيشان جنبا الى جنب بسلام وامن: دولة يهودية تعيش في امن حقيقي ومقبولة ويتمتع الاسرائيليون فيها بجميع حقوقهم ودولة فلسطينية في الاراضي المجاورة  وانهاء الاحتلال الذي بدأعام 1967 و تحقيق امال الشعب الفلسطيني .سوف تستمر الولايات المتحدة بالعمل مع من وصفتهم بالشركاء الذين اعتبرت بان  "لهم ميولنا وعقليتنا"في المنطقة من اجل مسائل الوضعية الدائمة وهي: امن اسرائيل والفلسطينيين, والحدود, واللاجئين, والقدس. وتسعى ايضا الى الحصول على دعم دولي لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية ودعم التنمية الاقتصادية. تعتبر الولايات المتحدة ان السلام العربي الاسرائيلي لن يكون دائما الا اذا انتهى التدخل الاقليمي "المؤذي". فيما تسعى الولايات المتحدة الى سلام فلسطيني اسرائيلي فانها تعمل ايضا على سلام اسرائيلي- لبناني واسرائيلي-سوري وسلام شامل مع كل جيرانها. وتتعاون الولايات المتحدة لهذه الغاية مع مبادرات اقليمية ومشاركات متعددة الاطراف ومفاوضات ثنائية.
- السعي لتحويل ايران الى دولة مسؤولة:  تعتبر الولايات المتحدة ان ايران منذ عقود عرضت الامن في المنطقة وفي الولايات المتحدة للخطر وفشلت في الالتزام بمسؤولياتها الدولية. بالاضافة الى برنامجها النووي الغامض ,فانها تستمر بدعم الارهاب وتقويض السلام بين اسرائيل والفلسطينيين وحرمان شعبها من حقوقه الانسانية. مضت سنوات عديدة على مقاطعة ايران ولم تغيرسلوكها,وعلى العكس اصبح هذا السلوك يشكل تهديدا. يمكن اجراء الحوار مع ايران من دون وهم ,ويمكن ان يقدم لايران طريق نحومستقبل اذا كان القادة الايرانيون جاهزين لذلك ومستعدين لتغيير سلوكهم واستعادة ثقة المجتمع الدولي بهم واوفوا بالتزاماتهم الدولية. واذا اصرت الحكومة الايرانية على رفض الالتزامات الدولية فانها سوف تواجه المزيد من العزل.
تشكل الفقرات اعلاه دليل عمل لاجهزة الادارة الاميركية في التعامل مع الازمات والمشاكل وفقا للخطوط العامة. لكن لا يمكننا بكل بساطة القبول بان هذه هي الاستراتيجية الاميركية رغم انها رسمية ومعتمدة في الادارة . تشير تطور الاحداث الى ان هناك استراتيجية غير معلنة تتضمن سلوكا استخباريا يؤدي الى تطورات سياسية تتم معالجتها وفقا للاستراتيجية المعلنة .صدرت عدة كتب لعملاء سابقين في وكالة الاستخبارات الاميركية تحدثوا فيها عن عمليات اغتيال وتحريض وقلب انظمة ورشاوى قامت بها الادارة الاميركية في عدد كبير من دول العالم وابرزها كتاب "ارث الرماد" تأليف تيم وينر صادر عام 2009 وكتاب "الحجاب" لبوب وودورد صادر عام 1988. وهذا ما يدفعنا للاعتقاد ان هناك استراتيجية موازية تتضمن استخدام جميع السبل من اجل مواكبة تنفيذ الاستراتيجية المعلنة.ومثلا على ذلك تواكب نشاطات اجهزة الاستخبارات التدابير الاستراتيجية المعلنة تجاه ايران .في قضية الغموض النووي ,تشن عمليات استخبارية من اجل التعرف على البرنامج النووي ووقفه عند حد معين ,وفيما يتعلق بالارهاب تدفع الولايات المتحدة بكل طاقاتها من اجل شن عمليات استخبارية لمكافحة ما تعتبره الارهاب في ايران والعالم .ينطبق هذا على استراتيجية الولايات المتحدة في النزاع العربي الاسرائيلي في تكريس الجهد الاستخباري لما تسميه مكافحة الارهاب والتدخلات الاقليمية المؤذية لعملية السلام.
بعد انسحاب القوات العسكرية الاميركية من العراق وافغانستان ستتغير قواعد اللعبة ,لن يكون هناك تدخل عسكري جديد للولايات المتحدة على نمط التدخل في العراق وافغانستان ,ويحضر المثل الليبي للتدخل عن بعد باستخدام التكنولوجيا في الطيران الحربي الحديث وربما صواريخ كروز التي تطلق من الغواصات او السفن الحربية لكن امكانية مواكبتها بعمليات برية لم تعد واردة . سوف تحرص الولايات المتحدة على عدم الزج بقواتها البرية في احتلالات ونزاعات جديدة .
كيف تحقق الولايات المتحدة اهدافها ؟ بغياب اي احتمال لضربات عسكرية مرفقة بعمليات برية يمكن للولايات المتحدة اعتماد احد الخيارات التالية:
- خيار القصف الجوي والبحري المدمر ضد دولة تعارض سياستها بغية ارغامها على العودة الى الحظيرة الاميركية. وهنا يبدو المثل الايراني حاضرا امامنا. هل توجه الولايات المتحدة ضربة عسكرية الى ايران؟ تتجه التقديرات الى استبعاد مثل هذه الضربة لعدم اقتصارها على القصف وتوفر امكانية عالية لتوسع الحرب الى مواجهات برية وتهديدات للمصالح الاميركية الامر الذي يحتم عليها التدخل البري والتورط مجددا في حرب لن تنتهي الابخسارتها ,فضلا عن ان الاقتصاد الاميركي المأزوم لن يتحمل مثل هذا التدخل.
- خيار مساندة اسرائيل في توجيه ضربة الى ايران : ليس سرا ان الادارة الاميركية الحالية وحتى السابقة لا تحبذ اية ضربة اسرائيلية الى ايران لانها لاترى فيها بوادر النجاح في وقف البرنامج النووي ,ويحضرنا هنا قول وزير الدفاع الاميركي ليون بانيتا في محاضرة له في معهد بروكنغز(6) حضرها نخبة مؤيدي اسرائيل في الولايات المتحدة," ان الضربة العسكرية لايران توقف البرنامج النووي سنة او اثنين على الاكثر وانه يفضل استخدام الدبلوماسية والاقتصاد لارغام ايران على التخلي عن مشروعها النووي".
- بما ان كلا الخيارين صعب الى درجة الاستبعاد فان الولايات المتحدة لجأت الى نوع جديد من الحرب وهو الحرب الناعمة  وهي الحرب باستخدام السياسة والدبلوماسية والاقتصاد والمال والاعلام والاستخبارات والعمليات السرية  من اجل القضاء على النظام الحاكم في الدولة المعارضة وتقويض اللاعبين من غير الدول .هذه الحرب هي جارية حاليا وتخوضها الولايات المتحدة بكل امكاناتها وقدراتها الذكية وعلى جميع الجبهات المذكورة. انها تستهدف نقاط الضعف البنيوية في الدول المعارضة من تركيبتها الاثنية والدينية والمذهبية والقبلية الى امكاناتها الاقتصادية والموارد الضرورية والطاقة والاوضاع المالية الى العلاقات السياسية والدبلوماسية مع المجتمع الدولي ودول الاقليم واوضاع الحريات والديموقراطية والثقافات والاوضاع الاجتماعية .تلعب الحرب الناعمة على هذه الانقسامات وتستحضر من التاريخ الوقائع والحروب والنزاعات التي تلهب الحماس فيما تغيب اطول مراحل التاريخ  التي شهدت تعايشا وسلما بين مختلف الفئات. اذا عدنا عقدين من الزمن للخلف نرى ان الاتحاد السوفياتي السابق قد  انهزم في هذه حرب  كهذه وسقط  وتفكك ولم تحن له الفرصة لاستخدام السلاح النووي ولا التقليدي للدفاع عن نفسه . واليوم تشكل الحرب على سوريا نموذجا للحرب الناعمة فقد شهدنا استخدام سلاح الاعلام والسياسة والدبلوماسية والاقتصاد بشكل علني وفاضح ضد سوريا .مثل هذه الحرب تماما هو ما تسعى اليه الولايات المتحدة وما بدأته بالاشتراك مع اسرائيل منذ زمن طويل ضد حركات المقاومة  في لبنان وفلسطين ,حزب الله وحماس وغيرها.تختلف الحرب الناعمة عن الحرب الباردة لان الاخيرة كانت تعتمد حروبا اقليمية طاحنة وثورات وقلب انظمة بديلا عن المواجهة بين القوتين العظميين نفسيهما.تتميز هذه الحرب انها غير مكلفة مثل الحرب العسكرية وانها لا تلفت انتباه المواطن الاميركي الذي يتحسس لمقتل جنود وخسارة مئات المليارات من الدولارات وهذا لا يحصل في الحرب الناعمة حيث تكون الكلفة المالية محدودة ويسهل تحملها.



                    الفصل الثالث



الوضع العسكري في الشرق الاوسط وتأثيرات الانسحاب من العراق وافغانستان على النفوذ الاميركي


بدات العلاقات الاميركية في المنطقة العربية قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية حين اجتمع الملك السعودي عبد العزيز ال سعود بالرئيس الاميركي روزفلت(7) على متن المدمرة الاميركية كوينسي في البحيرات المرة قرب قناة السويس في مصر في 14 شباط 1945 وتباحثا في "شؤون دولية وعربية" ,في الوقت الذي كانت فيه منطقة الشرق الاوسط تخضع لانتداب بريطانيا وفرنسا ونفوذهما.من المعروف ان الهدف الاستراتيجي الاميركي من الانتشار في منطقة الشرق الاوسط هو حماية مصالح الولايات المتحدة في الحرب الباردة وضمان امن اسرائيل وامن تدفق النفط الى الاسواق الاميركية والعالمية .عام 1958 حدث اول تدخل عسكري اميركي مباشر في المنطقة عندما انزلت الولايات المتحدة قوات من الاسطول السادس على الشواطىء اللبنانية على خلفية الانقلاب الذي اطاح بالنظام الملكي في العراق وتخوف الغرب من انضمام العراق الى  الوحدة بين مصر وسوريا والخشية من اسقاط الرئيس اللبناني كميل شمعون وكلام الرئيس الاميركي عن ملء الفراغ الناتج عن تراجع الوجود الفرنسي والبريطاني في المنطقة واحتمال انحياز الدول العربية الى الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة.

الانتشار العسكري الاميركي في الخليج

عام 1971 وبعدما نالت البحرين استقلالها استأجرت  البحرية الاميركية من بريطانيا قاعدة الدعم اللوجستي في البحرين وتغير اسمها الى وحدة دعم البحرية الاميركية عام 1999 .وفي عام 1995  كلف الاسطول الخامس وبحرية المنطقة الوسطى بقيادة الوحدات البحرية الاميركية المتمركزة في مهمات في الخليج والقادمة من المحيطين الهندي والهادىء وفي عام 2002 اعلن عن تشكيل قيادة القوات البحرية المشتركة في البحرين. توسع الانتشار العسكري في الخليج وجاءت حرب افغانستان والعراق لتصبح المهمة قتالية بعدما كانت ردعية دفاعية وذلك على الشكل التالي:
البحرين: وهي مقر الأسطول البحري الأميركي الخامس في المنامة, يعمل فيه 4200 جندي أميركي, ويضم حاملة طائرات أميركية وعددا من الغواصات الهجومية والمدمرات البحرية وأكثر من 70  طائرة مقاتلة, إضافة لقاذفات قنابل ومقاتلات تكتيكية وطائرات التزود بالوقود المتمركزة بقاعدة الشيخ عيسى الجوية.
السعودية:
اثر عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت نشرت القوات الاميركية مركزا لقيادة القوات الجوية الأميركية الإقليمية داخل قاعدة الأمير سلطان الجوية في الرياض ويضم 5000 جندي تابعين للجيش والقوات الجوية الأميركية وأكثر من 80  طائرة مقاتلة استخدمت هذه القاعدة في إدارة الطلعات الجوية لمراقبة حظر الطيران الذي كان مفروضا على شمال العراق وجنوبه خلال فترة تنفيذ العقوبات الدولية, كما كان المركز يعمل للتنسيق بين عمليات جمع المعلومات والاستطلاع والاستخبارات الأميركية في المنطقة. لكن ومنذ أواسط العام 2003 تقريبا، انتقل نحو 4500 جندي أميركي إلى دولة قطر المجاورة, وبقي  في السعودية نحو 500 جندي أميركي متمركزين فيما يعرف بـ"قرية الإسكان" وبذلك انتهى الوجود العسكري الاميركي في قاعدة الأمير سلطان الجوية  في الرياض.
قطر:
انتقلت وحدات من القوات الأميركية من السعودية إلى دولة قطر بعد حرب العراق وانتقل إليها كذلك 600 عنصرتابعين لمركز القيادة العسكرية الأميركية الوسطى في تامبا - فلوريدا. وتوجد في قطر قاعدة العديد الجوية التي تشمل مدرجا للطائرات يعد من أطول المدارج في العالم, وهي قادرة على استيعاب أكثر من 100 طائرة على الأرض .وهذه القاعدة هي مقر مجموعة 319 للاستطلاع  الجوي التي تضم قاذفات ومقاتلات وطائرات استطلاع إضافة لعدد من الدبابات ووحدات الدعم ومخزون من العتاد والتجهيزات العسكرية المتطورة ما جعل بعض الخبراء يعتبرونها أكبر مخزن إستراتيجي للأسلحة الأميركية في المنطقة.
الكويت:
تنتشر في الكويت الفرقة الثالثة المحمولة جوا من الجيش الاميركي في معسكر الدوحة,و وتضم تجهيزات متنوعة من دبابات وعربات مدرعة و طائرات هليكوبترو اكثر من 80 طائرة مقاتلة ووحدات من القوات الخاصة سريعة الانتشار. انتقلت بعض الوحدات من العراق الى الكويت اثر انسحاب القوات الاميركية من العراق مما رفع عدد القوات المنتشرة في الكويت حاليا الى 23 الفا.
عمان:
تستخدم الولايات المتحدة في عمان ثلاثة مواقع  متعددة المهام لخدمات دعم جسر جوي, وتأمين جميع المستلزمات اللوجستية  لثلاث قواعد جوية من وقود واليات وخدمات طبية وصيانة واصلاح وتغذية .
الامارات العربية المتحدة:
تستخدم الولايات المتحدة قاعدة جوية ومستودعات متعددة للدعم اللوجستي اضافة إلى ميناءين هامين يطلان على مياه الخليج كما  تستخدم  جميع الموانىء لاغراض التموين ولرسو السفن العسكرية الكبيرة . كما تعتمد على انبوب من الفجيرة الى جبل علي لنقل النفط في حال اقفال مضيق هرمز.
تستفيد الولايات المتحدة تسهيلات عسكرية في الاردن ومصر. اما العراق فقد انسحبت القوات الاميركية مؤخرا منه بعد احتلاله منذ اذار 2003 ويقتصر الوجود العسكري الاميركي على حماية السفارة والمراكز القنصلية .(8)

مهمات القوات المنتشرة:

كانت مهمة القوات الاميركية المنتشرة في الشرق الاوسط مماثلة لباقي القوات المنتشرة في سائر انحاء العالم وهي العمل كقوة ردع ودعم للحلفاء في فترة الحرب الباردة. وما ان انتهت هذه الحرب حتى تبلورت مهمة القوات في الشرق الاوسط وهي ضمان امن اسرائيل وامن تدفق النفط .لم تتأثر هاتين المهمتين بنهاية الحرب الباردة اذ ان النزاع العربي الاسرائيلي لم يصل الى تسوية , وما زالت الولايات المتحدة تعتبر ايران القوة الكبيرة على الضفة الشرقية للخليج, دولة معادية وترى انها تشكل خطرا على مصالحها وعلى حلفائها .لم تظهر دول الخليج اية استعدادات عملية للتفاهم مع ايران حول أمن المنطقة, وما فتىء قادة الخليج يعربون في غير مناسبة عن تمسكهم بالحماية الاميركية وعدم ثقتهم بايران رغم اقامة عدد من هذه الدول علاقات صداقة وتعاون مع ايران "بالتجزئة" مثل قطر وعمان والكويت.
منذ عام 2002  كانت مهمة القوات الاميركية التحضير لعملية الهجوم على العراق وبعدما دخلت هذه القوات الى العراق تحولت المهمة الى مساندة الوجود العسكري في العراق.
يشكل أمن تدفق النفط احدى مهمتي القوات الاميركية في الشرق الاوسط وتجوب  البحرية الاميركية مياه منطقة الخليج و ويحلق الطيران في اجوائها للتأكد من امن حركة نقل النفط . تعتبر الولايات المتحدة ان التهديد الذي يواجه النفط هو ايران بالدرجة الاولى واحيانا تهديدات القاعدة اذ سبق وان تعرضت ناقلة نفط يابانية الى عملية ارهابية في مياه الامارات. ان عديد وتجهيز القوات المنتشرة حاليا يكفي لمهمة حفظ امن النفط لكنه لا يكفي لشن عملية عسكرية ضد ايران. تستوجب العملية العسكرية, وهي في الغالب ضربات جوية وصاروخية, حشدا بحريا لحاملات طائرات وقوة عمل بحرية مؤلفة من مدمرات وغواصات ومراكب انزال ومساندة يجري احضارها من القوات البحرية المنتشرة في المحيطين الهادىء والهندي.
لا يبدوان هناك في الوقت الراهن خطرا على تدفق النفط لان لا مصلحة ايرانية بذلك وهي التي يعتمد اقتصادها على النفط بشكل اساسي. لكن القادة الايرانيين تحدثوا مرارا عن احتمال اقفال مضيق هرمز امام الملاحة وربطوا ذلك بتعرض ايران لعمل عسكري اميركي او اسرائيلي ومؤخرا تحدثوا عن اقفاله في حال توقيف صادرات النفط الايرانية .اما تهديدات القاعدة فهي تعالج بالاساليب الامنية وليس بالانتشار العسكري.

امن النفط بعد الانسحاب من العراق وافغانستان :وضع نفطي جديد

يطل على ضفاف الخليج اكبر تجمع لدول منتجة للنفط والغاز:السعودية ,الكويت,قطر الامارات العربية, العراق, ايران وبنسب اقل البحرين وعمان .وتمر امدادات النفط عبر مضيق هرمز الى بحر العرب والمحيط الهندي ومنه الى الاسواق العالمية. تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي نحو 45% من احتياطي النفط الثابت في العالم إلى جانب 20% من الغاز العالمي(9). وتنتج هذه الدول في الوقت الحاضر 15 مليون برميل يومياً من النفط أي 20% من اجمالي انتاج العالم يضاف اليها انتاج ايران الذي يبلغ نحو 4 ملايين برميل يوميا ( الدولة الثانية بعد السعودية )وانتاج العراق الذي يبلغ مليوني برميل وهو قابل للارتفاع عند اعادة تأهيل قطاع النفط في ذلك البلد.
في عام 2002 أشار رئيس مركز الخليج للطاقة والدراسات الاستراتيجية في السعودية عيد الجهني إلى أن النفط الخليجي شكل 40% من واردات العالم النفطية عام 1999. واعتمدت الولايات المتحدة على الواردات لتغطية نسبة 60% من احتياجاتها النفطية.هذا ما دفع  الولايات المتحدة للاهتمام اكثر بامن تدفق النفط لانها اعتبرت انه يمس بالامن القومي الاميركي ولهذا كانت اولوية الانتشار كما اسلفنا امن تدفق النفط . لكن وبعد نحو 10 سنوات قال الرئيس الامريكي باراك اوباما في ايار 2010 في حديث اذاعي إن الولايات المتحدة ستسعى لرفع انتاجها المحلي من النفط في محاولة لتقليل اعتمادها على النفط المستورد و اشار اوباما في كلمته إن انتاج الولايات المتحدة من النفط في عام 2010 وصل الى اعلى مستوى له منذ سبع سنوات ولكنه اضاف "اعتقد ان علينا المضي قدما في التوسع بانتاج النفط في الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه نواصل الارتقاء بمعايير السلامة في القطاع النفطي" واضاف ان ادارته قررت بيع عقود ايجار الحقول في محمية الاسكا النفطية بشكل سنوي, بينما سيتم التعامل مع الحقول الواقعة في المحيط الاطلسي كأولوية.
في عام 2008 حصل تطور دراماتيكي في مسألة النفط في الولايات المتحدة عندما كشف تقرير لوزارة الداخلية الاميركية – ادارة المسح الجيولوجي عن وجود مخزون من النفط في ولايتي داكوتا الشمالية ومونتانا يبلغ من 3 الى 4.3 بليون برميل اي اكثر ب25 مرة من تقديرات عام 1995 (10) ,لكن المفاجأة المذهلة كانت في العام 2011 عندما كشفت ادارة المسح الجيولوجي عن وجود مخزون هائل في ولاية وايومنغ يقدر ب 969 بليون برميل في مناطق غرين ريفر وحوض واشاكي في جنوب غربي الولاية(11).هذا وتقدراحتياطالنفط في دول الخليج(السعودية وايران والعراق والكويت والامارات ب715 بليون برميل.(12)
هذه الاكتشافات تجعل الولايات المتحدة في نهاية العقد الحالي او في العقد القادم مستقلة تماما في الطاقة النفطية ولا تحتاج الى انفاق المال على الاساطيل وانتشار القوات من اجل امن تدفق النفط. سوف تعمد البراغماتية الاميركية الى الانسحاب العسكري من الخليج بعدما بات لا يعنيها امن النفط وتترك للمستفيدين امر تدبره.لن يكون هذا الانسحاب مفاجئا و سريعا لكن يرجح حصوله بعد دخول الانتاج النفطي الاميركي الى الاسواق الاميركية وخلال عقد من الزمن.
نحو اسيا والباسيفيك
في تشرين الثاني 2011 كتبت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون مقالا في مجلة فورين بوليسي بعنوان "قرن اميركا الباسيفيكية"(13) .اعلنت كلينتون  في هذا المقال عن سياسة  جديدة للولايات المتحدة في المحيط الهادىء, واعتبرت ان مستقبل السياسة العالمية سوف يتقرر في اسيا وليس في افغانستان ولا في العراق, وان الولايات المتحدة ستكون في قلب الحركة السياسية هناك. وفيما الحرب في العراق على وشك نهايتها ,اعتبرت ان الولايات المتحدة تقف في نقطة مفصلية وهي تستعد لسحب قواتها من افغانستان .في السنوات العشر الماضية خصصت اميركا موارد ضخمة لهاتين الحربين وفي السنوات العشر القادمة تحتاج الى ذكاء ومنهجية في استثمار الوقت والطاقة لتضع نفسها في وضع تحافظ فيه على ريادتها وقيادتها وتحفظ مصالحها وقيمها. واضافت ان زيادة الاستثمار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في اسيا والمحيط الهادىء هي الاعلى في سلم اولويات السياسة الاميركية في العقد القادم .اعتبرت كلينتون ان منطقة اسيا- المحيط الهادىء هي محرك اساسي للسياسة الدولية.انها تمتد من شبه القارة الهندية الى السواحل الغربية للولايات المتحدة ومن على مدى المحيط الهادىء والمحيط الهندي اللذين يتحكمان بالملاحة والاستراتيجية. انها تتسع لنحو نصف سكان العالم وتضم المحركات الاساسية للاقتصاد العالمي وهي اكثر المناطق باعثة للغازات التي تسبب للاحتباس الحراري في العالم .انها تضم عددا من اكبر حلفاء الولايات المتحدة, بالاضافة الى قوى صاعدة مثل الصين و الهند واندونيسيا.
اشارت كلينتون الى انه مع تفاقم الازمة الاقتصادية في الداخل الاميركي ودخول العراق وافغانستان في الفترة الانتقالية تدعو بعض القوى السياسية الاميركية  الادارة للعودة الى الداخل الاميركي ,وتسعى لتخفيض حجم القوات العسكرية المنتشرة في الخارج وزيادة الاهتمام بالشؤون الداخلية. واعتبرت انه يمكن تفهم هواجس هؤلاء, لكنهم ليسوا بالضرورة على حق , ان مفتاح الامن والازدهار الاميركي هو توسيع الاهتمامات الخارجية ,من خلق اسواق جديدة ,الى السيطرة على الانتشار النووي ,الى المحافظة على حرية الملاحة والتجارة .لقد بدأت الادارة الاميركية فعلا بالتحرك باتجاه المحيط الهادىء وبلغ عدد زيارات الوزيرة كلينتون الى المنطقة سبعا ناهيك عن زيارات الدبلوماسيين المعاونين ووفود الاختصاصيين من اجل المباشرة باعتماد هذه السياسة.من المنطقي ان يترافق الاهتمام الاميركي باسيا والباسيفيك مع تراجع الاهتمام بالشرق الاوسط خصوصا مع انحسار الاعتماد على النفط من تلك المنطقة. يبقى ان تجد الولايات المتحدة وسيلة لضمان امن حليفتها اسرائيل ولا تغادر المنطقة تماما الا بعد تيقنها من ذلك.
اين امن اسرائيل؟
من الزاوية الجغرافية ان التدخل الاميركي العسكري لدعم اسرائيل يأتي حكما من البحر الابيض المتوسط وهذا ما حصل فعلا عام 1973 عندما انزل الاميركيون اليات وعتادا عسكريا للجيش الاسرائيلي لدعمه في حرب تشرين في مواجهة القوات المصرية التي عبرت قناة السويس واندفعت في سيناء قبل ان توقفها القوات الاسرائيلية بعدما تلقت الدعم الاميركي .ثم ان التدخل الاميركي في لبنان عام 1958 وعامي 1982 و1983 جاء من الاسطول السادس الذي يجوب مياه البحر المتوسط و لهذا فان انسحاب القوات الاميركية مستقبلا لن يؤثر من ناحية المساندة العسكرية على امن اسرائيل.
لا شك ان الادارة الاميركية تسعى لاحلال السلام في المنطقة وتسوية النزاع العربي الاسرائيلي, لكن, ولتاريخه وفقا للشروط الاسرائيلية التي رفضها الفلسطينيون والتي يتعذران يقبلوا بها مستقبلا.احدثت هذه الشروط  ضيقا في الادارة الاميركية التي ترغب برؤية مفاوضات تجري بين الفلسطينيين والاسرائيليين كي تقنع العرب انها كا زالت تحترم وعودها في السعي لحل للقضية الفلسطينية. الا ان الادارة الاميركية تكتفي, وخصوصا في فترة الانتخابات, بالكلام عن مفاوضات فلسطينية اسرائيلية من دون ان تورط نفسها بعمل دبلوماسي . لعل اصدق تعبير عن هذا الضيق هو كلام وزير لدفاع الاميركي ليون بانيتا في معهد بروكنغز –مركز صبان امام نخبة من قادة اليهود ومؤيدي اسرائيل حين قال:عودوا الى الطاولة الملعونة(يقصد طاولة المفاوضات)  في دعوة صريحة من اجل استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين(14).ان التراخي العربي في دعم الفلسطينيين في المقاومة وفي المفاوضة معا , اراح السياسة الاميركية تجاه اسرائيل ووفر على الادارة عناء تحقيق انجاز مطلوب في عملية السلام لا يبدو ان العرب يسعون وراءه بشكل جدي في الوقت الراهن . لقد تراجعت القضية الفلسطينية بشكل مثير في الاهتمامات العربية سواء على الصعيد الرسمي او الشعبي لمصلحة الربيع العربي الذي لم تتضح نتائجه بعد,فيما انتقل الاهتمام الاميركي الى متابعة احداث هذا الربيع للتغطية ما امكن على الفشل في عملية السلام التي روجت الولايات المتحدة لها كثيرا.
لا تبدو اسرائيل في الوضع الراهن في دائرة الخطر ,لكن هناك احتمال كبير لحصول تغييرات في موازين القوى في المنطقة وفي مواقف الدول العربية منها وبالتالي فان امن اسرائيل يبقى هاجسا اميركيا يحتاج الى تدابير من اجل تبديده يمكن اتخاذها بواسطة الاسطول السادس عند الحاجة.
استنتاج:
من المرتقب ان تسحب الولايات المتحدة قواتها من افغانستان بعدما اكملت انسحابها من العراق,وخلال العقد الحالي والعقد القادم يتحقق الحدث الكبير وهو الانسحاب من الخليج (نضع هنا قرار مجلس التعاون الخليجي بالتحول لصيغة الاتحاد في اطار الهواجس من انسحاب اميركي من الخليج في المستقبل) وربما استطاعت احدى الادارات الاميركية القادمة تحقيق تسوية للنزاع العربي الاسرائيلي, لكن موازين القوى مقبلة على تغيير كبير لغيرصالح اسرائيل التي لن يعود لها ان تفرض شروطا تعجيزية مثل التي تفرضها حاليا , وستضطر الى اقامة سلام بغير شروطها اذا تغيرت سياسة مصر تجاهها .اما اذا تغيرت سياسة الاردن فان انقلابا حقيقيا سوف يحصل في موازين القوى يحشر الدولة العبرية في زاوية ضيقة ويبقى للاسرائيليين خيار البقاء داخل دولة ينتهي فيها تفوقهم العسكري والاقتصادي وبين عودة من يرغب الى اوروبا وبالنتيجة انهاء دور ووظيفة اسرائيل في المنطقة.

                    الفصل الرابع
 


الازمة الاقتصادية وتأثيراتها الداخلية(حركة وول ستريت تطالب باسقاط الرأسمالية باسرها)



عام 2008 انهار احد اكبر المصارف في الولايات المتحدة  ليمان بروذرز واعلن افلاسه  ما ادى الى سلسلة افلاسات مصرفية وانهيار كبيرفي القطاع العقاري واعلان الازمة المالية الاميركية التي اصبحت عالمية نظرا لارتباط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الاميركي.بات واضحا ان الولايات المتحدة تعيش ازمة حقيقية في الاقتصاد وان المديونية تلقي ثقلها على قطاعات كثيرة في البلاد وتؤدي الى تداعيات خطيرة على الاوضاع الداخلية وسياسة الولايات المتحدة الخارجية. ومن المعروف ان الولايات المتحدة تتمتع باقتصاد كبير وقوي يهيمن على الاقتصاد العالمي وان الناتج القومي الاميركي كبيرجدا ولديه امكانات للسيطرة على المصاعب الاقتصادية, لكن هذه الازمة كبيرة جدا وتتخطى الازمات السابقة وتنذر بعواقب وخيمة .

مظاهر الازمة الاقتصادية الاميركية :

يمكن متابعة مظاهر الازمة الاقتصادية في الولايات المتحدة بالمديونية العالية للاقتصاد والعجز في الموازنات والبطالة والفقر وترهل البنى التحتية وحاجتها الماسة الى اعادة تأهيل جذرية.

المديونية:

ترزح الولايات المتحدة تحت عبء مديونية عالية جدا ويكفي لو نظرنا الى ساعة عدادات الدين والانفاق التي تصدرها الحكومة الاميركية رسميا (15)لنرى اول ملاحظة وهي ان الدين الوطني  العام للولايات المتحدة يبلغ نسبة 100%من الناتج القومي وقيمته 15 تريليون دولار وان معدل الدين على كل مواطن اميركي يبلغ 48.427 دولارا والمعدل لكل دافع ضرائب 134.395 دولارا.تبلغ الديون الخارجية 4.6 تريليون دولار والدائن الاول هي الصين وتبلغ قيمة ديونها 1.16 تريليون دولار تليها اليابان 912 مليار وبريطانيا 346.5 مليار(16) .الا ان الديون الشخصية في الولايات المتحدة تبلغ حجما مذهلا, ففي القطاع العقاري تبلغ الديون 13.5 تريليون دولار جراء الرهونات العقارية, و تبلغ ديون المستهلكين 2.4 تريليون دولار, وديون بطاقات الائتمان787.8 مليار دولار. يمكن القول بانه في الولايات المتحدة الكل يرزح تحت الديون, الحكومة والمواطنون , ولتسديد هذه الديون يتوجب ان يبقى الاقتصاد في حالة متحركة اي ان يزيد الاستهلاك ليزيد الانتاج وتتحرك عجلة الاقتصاد . لكن الديون تزداد بشكل مضطرد وتدخل البلاد في دوامة مالية قد تصل في يوم ما الى ازمة مشابهة لازمة الانهيار الكبيرعام 1929 .
وفي مجال العجز, بلغ عجز الموازنة الفيديرالية 1.3 تريليون دولار فيما بلغ عجز الميزان التجاري709 مليار دولار والعجز التجاري مع الصين وحدها 308 مليار دولار,وهذه ارقام تنذر بتراكم الديون وتردي الوضع المالي والاقتراب من الانهيار العام .والمفاجأة غير المحسوبة كانت عندما اعلنت وكالة ستاندردز اند بورز للتصنيف الائتماني في 7 اب 2011 عن تخفيض درجة الدين العام للولايات المتحدة لمرة الاولى في تاريخها مقدار درجة واحدة من ايه ايه ايه الى ايه ايه+ مبررة ذلك "بمخاطر سياسية" امام رهانات العجز في الميزانية وارفقت الوكالة هذا الخفض بتوقعات "سلبية" ما يعني ان ستاندرد اند بورز تعتقد ان التغيير المقبل الذي سيطرأ على هذا التصنيف سيكون للاسوأ وهذا ما يشير الى حالة التردي في الوضع المالي للولايات المتحدة.


البطالة والفقر:

وصلت معدلات البطالة الى 10% حسب المعلومات الصحافية لكن ساعة العداد تشير الى ان عدد القوة العاملة في الولايات المتحدة يبلغ140.5 مليون فيما يبلغ العدد الفعلي للعاطلين عن العمل 23.8 مليون اي ان نسبة البطالة تصبح نحو 17%من عديد القوى العاملة وهو رقم اعلى من المعلن رسميا من مصادر الادارة الاميركية. بعد حساب نسبة العاطلين عن العمل ,تبلغ نسبة الفقر  15.1% و ويبلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر 43 مليون شخصا..ذكرت كاترينا فاندن هافل في مقال لها في واشنطن بوست (17) ان" واحدا من  اصل سبعة مراهقين سود فقط يجد عملا.هناك جيل من الاطفال ينشأون في شوارع خطرة ويعيشون حياة بائسة ويعانون من الجوع والتفكك الاسري و البطالة والمخدرات والجريمة". هذا الواقع المخيف يتطلب من الادارة اجراءات لانهاء ظاهرة الفقر والحد من ازدياد عدد الفقراء  خشية انحرافهم  ونزوعهم الى الجريمة, واحداث خلل اجتماعي كبير يصيب بنية المجتمع الاميركي بالصميم ويقضي على القيم والمثل الديموقراطية.

البنى التحتية:

في مقالها المشار اليه انفا اضافت كاترينا فاندن هافل:" باتت البنية التحتية القديمة والمتداعية تشكل خطرا واضحا .نتكبد خسائرفي الأرواح حين ينهار جسر في مينيابوليس أو تتشقق السدود في نيو أورلينز. فضلا عن ان  أنظمة الصرف الصحي المتداعية تبتلع السيارات في نيويورك, ويرتاد الأولاد مدارس تشكل خطرا على صحتهم. بالإضافة إلى ذلك, تضيع ساعات طويلة حين تتعطل القطارات الهرمة وتنهار أنظمة الصرف  والمجاري وتتفاقم زحمة السير. حتى أسس الحياة المدنية, مثل الحصول على مياه نظيفة, صارت مهددة بسبب أنظمة الصرف الصحي البالية . علاوة على ذلك, تعجز شبكتنا الكهربائية ونظاما الانتاج والنقل عن مجاراة ما يتمتع به منافسونا حول العالم."
يفصل موقع البنى التحتية الاميركية (18) اوضاعها من جسور وسدود وكهرباء ومياه شرب ومدارس وخطوط سكك الحديد والطيران وشبكات الصرف الصحي والطرقات وغيرها ويشير الى ان الولايات المتحدة بحاجة الى استثمارات في البنى التحتية في السنوات الخمس المقبلة تبلغ قيمتها 2.2 تريليون دولار. يشير الموقع الى ترهل البنية التحتية للاقتصاد الاميركي والى وجوب الاسراع في اعادة تأهيلها من اجل الحفاظ على عجلة دوران الاقتصاد و تلبية احتياجات المواطنين وتأمين سلامتهم من اخطار الخلل والاعطال في بعض البنى مثل سكك الحديد والسدود والجسور.
على صعيد الجسور ,يبلغ عددها في الولايات المتحدة 600905 جسور ومتوسط عمرها 43 سنة حسب تقرير وزارة النقل واعتبارا من كانون الاول 2008 اعتبر 72868 منها مصابا بعيب بنيوي (نسبة12.1%) و89024 مصنفة على انها مترهلة وبالغة القدم (نسبة14.8%) .
اما على صعيد السدود فقد اشار فيلق الهندسة في الجيش الاميركي في تقاريره ان عدد السدود ازداد الى اكثر من 85 الفا لكن الحكومة الفدرالية تملك او تشرف على 11% منها فقط وبقية الجسور تملكها وتشرف عليها سلطات الولايات التي يقع على عاتقها مسؤولية تأمين سلامتها. هناك ولايات عديدة ليس لديها برامج للحفاظ على سلامة السدود ولا الموارد اللازمة للاعتناء بها ولا الطواقم اللازمة لمراجعة اجراءات السلامة .على سبيل المثال ولاية تكساس لديها 7 مهندسين وموازنة 435 الف دولار للاشراف على اكثر من 7400 سد! .ارتفع عدد السدود المصنفة غير امنة من 3500 عام2005 الى4095 عام 2007  وضمن هذا الرقم ارتفع عدد السدود البالغة الخطورة من 1367 عام 2005 الى 1819 عام 2007 .
اما فيما يتعلق بمياه الشرب فانها تواجه عجزا سنويا يبلغ 11 مليار دولار من اجل استبدال المنشات القديمة التي هي على مشارف انتهاء صلاحيتها للعمل باخرى تلبي شروط ومواصفات تعليمات السلامة الفدرالية.لا يدخل في هذا الرقم حساب زيادة الطلب على مياه الشرب في السنوات العشرين القادمة ,كما تشير التقارير ان التسرب في انابيب نقل المياه يؤدي الى خسارة 7 مليارات غالون من المياه النظيفة الصالحة للشرب يوميا.
على صعيد الكهرباء ازداد الطلب على الطاقة الكهربائية منذعام 1990 بنسبة 25% فيما تراجع بناء محطات توليد الطاقة بنسبة 30%.هناك حاجة لتوظيفات مالية كبيرة في توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها  والتي تبلغ  خلال العقدين المقبلين لغاية 2030  ما بين 1.5 و2 تريليون دولار.

مشكلة في الاقتصاد الاميركي


تشير الوقائع والارقام والشهادات المذكورة اعلاه الى وجود مشكلة حقيقية في الاقتصاد الاميركي .اما اسباب المشكلة فهي موضع  خلاف .لا شك ان الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة بشكل دائم كبدتها نفقات كثيرة .منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تتوقف الولايات المتحدة عن خوض الحروب .فورانتهاء  تلك الحرب  بدأت حرب كوريا  في الخمسينات ,ثم حرب فيتنام في الستينات والسبعينات, وتدخل عسكري في لبنان وغرانادا وباناما في الثمانينات, و حرب تحرير الكويت وحرب كوسوفو في التسعينات, وصولا الى الحربين الكبيرتين في افغانستان والعراق في مطلع القرن الواحد والعشرين,فضلا عن الانتشار العسكري في اوروبا واليابان  وكوريا الجنوبية ومناطق اخرى.هناك من يعزو الاسباب الى طبيعة النظام الرأسمالي الوحشي في الولايات المتحدة ,والتوجه الى تعزيز القطاع الخاص الذي يهدف الى  فقط الى تحقيق الارباح على حساب القطاع العام الذي يوفر السلامة العامة والتطوير المستمر وخصوصا في البنى التحتية .لقد توسعت الخصخصة بشكل جنوني حتى وصلت الى قطاع الامن وهو قطاع سيادي, وانتشرت بعد احداث 11 ايلول الشركات الامنية الخاصة واصبح لها امتدادات عالمية وكانت القوات المسلحة ,ولسخرية الاقدار, من اهم زبائنها. كما تابع قطاع التأمين هيمنته على الاقتصاد وبات الموجه والمرشد لكل النشاطات الاقتصادية  حيث لا يجرؤ احد على القيام بخطوة من دون موافقة التأمين.
اما النظام المالي فهو يتربع على عرش الاقتصاد وتعمل البنوك كمحرك للاقتصاد والتبادل واستطاعت البنوك ابتداع سياسة الديون الفردية وتوسيع ديون الاعمال وخصوصا في قطاع العقارات وابتداع  بطاقات الائتمان من اجل زيادة الاستهلاك وتوفير التسهيلات للمستهلك لان ينفق اكثر وتاليا يسهم بتحريك الاقتصاد.
يتحكم بالقرار الاميركي مجموعة من السياسيين والاستابلشمنت الصناعي والمالي وهو يستخدم قطاع الاعلام من اجل السيطرة على الجمهور وكسب تأييده او سكوته. في بلد تعتمد طريقة الحياة على العمل الشاق والدؤوب من الصباح الى المساء لا يجد المواطن الاميركي متسعا من الوقت امامه سوى مشاهدة شاشات التلفزيون لتخبره بما يحصل واذا اراد ان يتوسع يعمد الى قراءة الصحف وجميعها ممسوكة من المجموعة الحاكمة وتنفذ توجهاتها.هكذا كان الوضع حتى اعلن بنك ليمان براذرز افلاسه وذاب الثلج ولم يعد بالامكان تغطية المشاكل ولا اخفاءها .نعم ظهرت المشكلة وظهر الفقر والبطالة والعجز والمديونية ناهيك ان حربي العراق وافغانستان لم تحققا اهدافهما وغابت لافتات"المهمة انجزت" التي طالما افتخر الاميركيون بها .ما زال الاقتصاد قويا وما زالت الاستابلشمنت قوية لكن الاميركيين بدأوا بالتحرك تأثرا بما شاهدوه وسمعوه عن الربيع العربي .كان الاميركي يفهم من الاعلام وخصوصا المرئي ان العرب غير ديموقراطيين ولا ينشدون الاصلاح ولا التطوير,لكنه شاهد الشعوب تنزل الى الساحات والشوارع من اجل ازالة الاستبداد وتحقيق المساواة بين المواطنين .هذه الوقائع دفعت عددا من الشباب الاميركي الى احتلال رمز قوة المال في العالم وول ستريت وسميت حركة الاحتجاج "احتلوا وول ستريت".

حركة احتلوا وول ستريت :

عرفت حركة احتلوا وول ستريت عن نفسها في الموقع الرسمي لها(19) على انها حركة بقوة الشعب بدأت في 17 ايلول 2011  في ساحة ليبرتي في حي مانهاتن المالي ثم توسعت الى اكثر من مائة مدينة في الولايات المتحدة الاميركية والى اكثر من 1500 مدينة في سائر انحاء العالم. تكافح الحركة  دفاعا ضد الهجمات  الضارية للبنوك الرئيسية والشركات المتعددة الجنسيات على العملية الديموقراطية وضد دور وول ستريت في خلق انهيارمالي تسبب باكبر كساد منذ عام 1929 .لقد استلهمت الحركة مبادئها من الانتفاضات الشعبية في مصر وتونس هي تهدف الى القتال ضد طبقة ال1% الاغنى من الناس الذين يضعون القواعد غير العادلة للاقتصاد العالمي والتي تعيق تقدم الشعوب ومستقبلها. بدأت الحركة على شكل احتجاجات تطورت الى اعتصامات فرقتها الشرطة ثم انتقل المعتصمون الى حديقة زوكوتي المجاورة واصبحت معقلهم الرئيسي .حاول الناشطون التحرك بمسيرة الى مقر الشرطة في نيويورك لكن الشرطة اعتقلت 700 منهم بجرم عرقلة حركة المرور.استمرت الاعتصامات في نيويورك وواشنطن لكن الشرطة هاجمت الاعتصامات مجددا في 16 تشرين الاول واعتقلت 300 متظاهر. في المدن الاوروبية سجل تحول المظاهرات الى اشتباكات عنيفة مع الشرطة في روما.
في نيويورك تم ازالة مخيم الحركة بامر قضائي بعد ان اتخذت السلطات موقفا حازما منه وفضت بالقوة اعتصامات الحركة في بورتلاند واوكلاند ومانهاتن وغيرها بحجة تحول تلك المخيمات الى" بؤر تهدد الامن والصحة العامة". تحرك الناشطون في ذكرى شهرين على انطلاقة الحركة في 17 تشرين الثاني لكن عمدة نيويورك بلومبرغ  اصرعلى عدم السماح باحداث فوضى او خرق للقوانين مع ابداء حرصه على "احترام حق المتظاهرين بالتعبيرعن ارائهم". بدأت فعاليات ذلك اليوم الذي سمي "اليوم الوطني للتحرك" بمحاولة تعطيل بورصة نيويورك ومنع موظفيها من الوصول إلى أماكن عملهم. الا أن المحاولة اصطدمت بطوق أمني شديد فرض على المكان ,وتحولت الشوارع المحيطة بحي وول ستريت المالي الى ساحة معركة بين المتظاهرين وعناصر الشرطة الذين لم يتورعوا عن استخدام القوة ضد المحتجين, واكدت الحركة على موقعها على شبكة الانترنت اعتقال الشرطة 200 من مؤيديها  في الساعات الاولى للتحرك .وإلى جانب تعطيل البورصة, دعت الحركة إلى شل حركة المواصلات في المدينة عبر احتلال محطات المترو, بالإضافة إلى التظاهر باتجاه الجسور الرئيسية, لاسيما جسر بروكلين.
تتراوح مطالب المتظاهرين في حركة وول ستريت بين الحقوق الاقتصادية والحق  في مستوي معيشة افضل, ورفض الاستسلام لحكم " القلة " التي تحتكر السلطة والثروة, ورفض العيش في مجتمع يملك فيه 1 % كل شيء, فيما لا يمتلك 99 % من المجتمع شيئا يذكر,وهذا ما يذكرنا بمطالب ثورات  الربيع العربي  التي مزجت بين مطالب الكرامة الوطنية والإنسانية, وحق العيش الكريم في مجتمعات ديمقراطية ونظم عادلة . وقد لفتت حركة" احتلوا وول ستريت" الأنظار إلى خطورة المشكلة الاقتصادية وتداعياتها السلبية, وتوقع الكاتب الاقتصادي الأميركي بول كروغمان أن تتحول تظاهرات الشباب الغاضبين على المدى الطويل, الى " نقطة تحول " في الحياة السياسية الاميركية و الى حركة شعبية تصب جام غضبها علي الاتجاهات اليمينية الأميركية, مشيرا إلي أن " الحكمة ليست حكرا دائما علي من يعملون في وول ستريت, بل ليس لديهم على الأغلب سوي القليل من الحكمة ". تؤكد مصادر حركة "احتلوا وول ستريت " أنها ليست مجرد رد فعل مثل ماجرى في تونس على اثر احراق بوعزيزي نفسه, وانما جرى التحضير لها قبل أشهر من انطلاقتها, ومع ذلك فهي تحاول تقليد النموذج المصري في التظاهر والتجمع ونصب الخيام والتحضير لاعتصامات طويلة, وتنظيم حلقات لعرض المطالب ومناقشتها امام الجمهور, ورسم الشعارات والهتافات المعبرة عن مطالبها, وتزويد المعتصمين بوجبات طعام يومية مستمرة, وإقامة مركز طبي, ومطابخ ومركز إعلامي, وصولا إلي تنظيم حفلات سمرومناقشات ليلية على غرار ليالي السمر في ميدان التحرير, والاتفاق على مواعيد منظمة للنشاطات عبر وسائل الميديا الفيس بوك وتويتر- الخ.
ومثل كرة الثلج, تدحرجت الاحتجاجات الشعبية في نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو لتضم المزيد من المؤيدين الغاضبين من الاوضاع الاقتصادية , ودعاة السلام والمدافعين عن نظافة البيئة, ومنتقدي السياسة الخارجية الأميركية, والمحاربين القدامى, ونقابة عمال السيارات, ونقابة عمال النقل, واتحاد  المعلمين, ونقابة موظفي الكونغرس . جذبت الاحتجاجات غير المسبوقة في وول ستريت شخصيات معروفة منها المخرج السينمائي المعارض مايكل مور والمفكر الأميركي الرافض لسياسات  الادارة الأميركية نعوم تشومسكي . يؤكد  بول كروجمان" أنه هو شخصيا يشارك المتظاهرين غضبهم من مشهد ترف أغنياء أميركا ,الذين يعود سبب ثرواتهم إلى الضمانات الحكومية, ولذلك يرى انه من حق الشباب الغاضبين رفض النموذج الاستهلاكي الأميركي, ورفض الاستسلام لنفوذ أصحاب الثروات".


حددت حركة "احتلوا وول ستريت" مبادئها التي اعتبرتها عالمية وهي :

1- الانخراط في ديمقراطية شفافة قائمة على المشاركة المباشرة, وممارسة المسؤولية الشخصية والجماعية, والاعتراف بالمزايا المتأصلة في الأفراد .
2- الاتحاد ضد جميع أشكال الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإعادة تحديد قيمة العمل بشكل عادل.
3- احترام الحياة الخاصة الفردية .
4- الاقرار بأن التعليم حق من حقوق الإنسان .
5- وضع تصورات بديلة للانظمة السياسية والاقتصادية علي أساس توفير كل الامكانيات لتحقيق مبدأ المساواة .

احتلوا وول ستريت والاعلام

تجاهلت وسائل الإعلام الأميركية حركة احتلوا وول ستريت في بدايتها واشارت الى أنها مجرد أحداث شغب بفعل " قلة مندسة " وجرت محاولات إعلامية للتعتيم عليها من خلال التحالف بين أساطين المال والسياسة والإعلام, وتهكم بعض المسؤولين على المحتجين  وسخروا منهم  ووصفوهم بأنهم ليسوا سوى " بلطجية " وبان الحركة بلا رأس ولا قيادة ولا مضمون حقيقي. أما المرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني فقد أدان المظاهرات ووصفها بأنها " حرب طبقية ", وسخرت قناة سي ان بي سي من المتظاهرين ووصفتهم بأنهم غير جادين.
واتهمت مواقع على الانترنت وابرزها موقع قصة الحرية, الحركة بان عناصرها يرمون الزجاجات على الشرطة قبل ان يرد عناصر الشرطة عليهم, وبانها تثير الكراهية والعداء للسامية والعنف, وبان الاخوان المسلمين يشاركون بها, وانها تستخدم الاطفال لعرقلة المرور, وبانها احتلت قنصلية اسرائيل في بوسطن, وارهبت بائع هوت دوغ اميركي, وطالبت عمدة المدن بوضع حد لهذه الحركة(20)
وفي جانب اخر راحت بعض المواقع ووسائل الاعلام تثير انتباه جمهور الموقع الى التظاهرات التي تجري في موسكو ضد بوتين واعتبارها اولوية على ما يجري داخل الولايات المتحدة, وايد موقع احتلوا وول ستريت مطالب المتظاهرين الروس معلنا "اننا نحن 146%"في اشارة الى التزوير في الانتخابات الروسية حيث ورد انه سجل في احد الصناديق  نسبة اقتراع 146 %.  (21)

استنتاج

يتضح مما تقدم ان الاقتصاد الاميركي يعاني من مصاعب كبيرة جدا وانه ان الاوان كي تعالج الثغرات الكبيرة في هذا الاقتصاد .البطالة تزداد ولا امل بخلق وظائف جديدة تلبي الاحتياجات المقبلة لسوق العمل, كما ان المديونية ترتفع وترهق الاقتصاد , وقد اصبحت البنى التحتية  مترهلة ولا تلبي حاجات المواطنين ولا متطلبات الاقتصاد, كما تشكل في بعض الاحيان خطرا على السلامة العامة وتتطلب معالجة سريعة ومكلفة تزيد من الاعباء المالية والاقتصادية على الحكومة الفدرالية. النتائج الاجتماعية مقلقة, وهناك خوف حقيقي من ان يؤدي انتشار الفقر الى انتشار الفساد والانحراف والجريمة والى تغيير حقيقي في المجتمع الاميركي .
تنطلق حركة وول ستريت من عوامل عميقة الجذور و تحوز على تأييد كبير داخل الولايات المتحدة وفي الدول الصناعية وخصوصا في اوروبا حيث يتضرر القطاع الاكبر من الناس من الانظمة الاقتصادية القاسية ومن الرأسمالية الوحشية. في المقابل تتعرض هذه الحركة الى هجوم عنيف من الاستابلشمنت السياسية والاقتصادية الحاكمة وخصوصا الاعلامية في الولايات المتحدة والغرب عموما وتتعرض لحملة تشهير واساءة وتستغل اي هفوة اوخطأ, اوتنسب اي امر سوء اليها من اجل تقويض حركتها ووقف انتشارها او حرفها عن مسارها الاساسي نحو اهتمامات اخرى .تبقى الانتخابات هي الفيصل في هذا النزاع الناشب بين مؤسسات اميركية عريقة وحركة شعبية عميقة الجذور.مهما تكن نتائج هذا الحراك في المستقبل, فقد بات مؤكدا ان النظام الاميركي تعرض لهزة كبيرة جدا سوف تؤدي  حتما الى تغييرات جذرية في النظام الاقتصادي او الى بلوغ حالة من الانقسام الداخلي الحقيقي على اساس طبقي قد يطيح بالقيادة الاميركية للعالم ما لم تبادر الادارة ومعها المؤسسات السياسية والاعلامية الى تدابير حاسمة تنقذ البلاد من الانهيار. الصورة هي سوداء بالاجمال انما يبقى القرار الاميركي الجريء ضروريا من اجل وقف التدخلات المكلفة في العالم واجراء اصلاحات جذرية في الاقتصاد لتحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على اكبر واقوى دولة في التاريخ.


                     الفصل الخامس


اتجاهات الرأي لدى المجتمع الاميركي والبروباغاندا الاعلامية للحزبين الديموقراطي والجمهوري

ان عملية ادارة وتقييم الرأي العام وتحديد اتجاهه في الولايات المتحدة هي معقدة جدا نظرا للتعقيدات الموجودة اصلا في المجتمع الاميركي .لا يعتبر الاميركيون انفسهم ورثة تاريخ مجيد او عريق بل يرون انهم مجموعة من المستوطنين جاءوا الى العالم الجديد و قاموا ببنائه واعماره وانشأوا اقوى دولة في التاريخ مبنية على قيم الحرية ومجتمع خلق الفرص امام الاجيال والاعتماد على الفرد والمبادرات الفردية في الصناعة والاعمال والتجارة والمال.يعزو الاميركيون تقدم بلادهم الى دور الانسان الاميركي في تحقيق التقدم التكنولوجي والعلمي والاقتصادي وفي الابتكارات والاختراعات ولا يعترفون بدور الدولة سوى في توفير مناخ الحرية وتسهيلات العمل والانظمة الراعية لذلك.
في هذا الواقع الفريد يتوزع الشعب الى اكثرية من اصل انغلوسكسوني والى اقليات هي مجموعات اثنية مختلفة هاجرت في الغالب هربا من اضطهاد او فقر وملق او سعيا لفرص جديدة وتحقيق طموحات والوصول الى الحلم الاميركي وحازت على حرية لم تتمتع بها في بلدها الام الذي فانضوت في المنظومة الاميركية والتزمت بموجبات المواطنية الاميركية وتمتعت بحقوقها.
مؤثرات الرأي العام الاميركي:
المصالح الاقتصادية:
تشكل المصالح الاقتصادية حيزا اساسيا في تكوين الرأي العام الاميركي وموقفه من القضايا المطروحة.نلاحظ في الانتخابات على انواعها رئاسية او الكونغرس او حكام الولايات و مجالسها انه تطرح مواضيع خلق وظائف جديدة وخفض الضرائب واستحداث ضرائب جديدة او علاوات على الرواتب والحد الادنى للاجور والخدمات الطبية والتأمينات الاجتماعية وقضايا بيئية كعامل اساسي لجذب الناخبين اولابعادهم بين المتنافسين فرديا او بين الاحزاب المتنافسة. تتدرج المصلحة الاقتصادية من الفردية الى الجماعية الى المناطقية التي تشمل مدن او مناطق او ولايات بكاملها وتسحب مواقف التأييد والرفض على الجماعات طبقا لمصالحها.
العامل الديني :
يعتبر تأثير الديني في السياسي من الثوابت السياسية والثقافية والاجتماعية في المجتمع الاميركي .ورد في كتاب "بلاد الله" لوالتر راسيل ميد(22) الاستاذ في مجلس العلاقات الخارجية والذي نشرت مجلة فورين افيرز الواسعة الانتشار ملخصا عنه:"كان الدين دائما قوة رئيسية في الولايات المتحدة سياسة وهوية وثقافة .الدين يحدد سلوك الامة ويساعد على تشكيل افكار اميركا حول العالم ويؤثر على الطريقة التي تتصدى فيها للاحداث الواقعة ما وراء الحدود . ان الدين هو احساس الاميركيين بانفسهم كشعب مختار وايمانهم ان عليهم واجب تعميم القيم الاميركية في انحاء العالم."ويضيف انه بالطبع ليس كل الاميركيين يؤمنون بذلك لكن نسبة المؤمنين كافية من اجل فرض نفوذها على سلوك الادارة في الداخل والخارج. في السنوات الاخيرة اكتسبت معظم تيارات المحافظين البروتستانتيين الكثير من المؤيدين فيما تراجع عدد الليبيراليين البروتستانتيين وضعف اتجاههم .ان اي محاولة لفهم تأثيرالدين في السياسة الخارجية تتطلب القاء نظرة معمقة على صعود البروتستانتية المحافظة او الانجيليين المحافظين.ويطلق البعض عليهم لقب المسيحيين الصهاينة بسبب التصاقهم باسرائيل ودعمهم غير المحدود لها انطلاقا من ايمان ديني.
يشكل  البروتستانت من اتباع الكنيسة الانجيلية غالبية كبيرة وينتمون الى مدرسة في الفكر الديني المسيحي تشكلت معالمها في القرن التاسع عشر, وهي تعتمد التفسيرالحرفي لنصوص الكتاب المقدس(  العهدان القديم والجديد) وتقسم التاريخ إلى سبع مراحل ,تقع المرحلة الراهنة في نهاية السادسة وعلى اعتاب السابعة والأخيرة التي يظهر فيها المسيح مرة اخرى ويحكم العالم ألف سنة بعد أن ينتصرعلى الدجال في معركة أرماجدون.ان فكرة ظهورالمسيح هي الأساس في معتقد هذه المدرسة وتدورحولها باقي القضايا . وتعتقد بأن الظهور بات وشيكا وتؤكد ان العالم يعيش عصر الظهور وأن هذا الجيل, طبقا ل"هال لندسي" صاحب أكثر الكتب شهرة في هذا الموضوع, هو اخر جيل قبل الظهور. وترى ايضا بأنه تسبق ذلك علامات تهيئ لظهورالمسيح  وتبشربه,ومنها حدوث كوارث وحروب أشير لها في الكتاب المقدس . ولذلك فعندما تحصل مثل هذه الاحداث  لايساعد اتباعها على التخفيف من ماسيها  بل يفرحون بها ويسعدون لانها في نظرهم تبشر بقرب الظهور الثاني الذي ينتظرونه بفارغ الصبر.وهم يعتقدون بأنه كلما كثرت الكوارث وكبر حجمها ,اقترب الظهور. وعندما حدثت كارثة تسونامي وما تلاها من ماسي رأوا فيها  إحدى الكوارث الكبرى التي أشار إليها الكتاب المقدس من غير ان ينص عليها صراحة .
ينظرالمسيحيون المحافظون الصهاينة إلى المعاناة البشرية بعدم إهتمام ولا مبالاة . ويعتبرون الحروب من علامات الظهور و يشجعونها كما شجعوا الحرب على العراق( مثل المحافظين الجدد) بل زعموا إنهم وجدوا نبوءة لها في كتاب "رؤيا يوحنا" حيث تكرر سقوط بابل التي يشار بها إلى العراق, ثلاث مرات. كما يرى هؤلاء أن ما حدث من معارك قرب الفرات في بداية الإحتلال الأميركي للعراق يؤكد ما ورد في هذا الكتاب .وجدوا ما يفترضونه انه إشارة الى تقسيم العراق في إحدى عبارات كتاب الرؤيا "وصارت المدينة العظيمة ثلاثة أقسام" ولذلك فهم اليوم يشجعون على تقسيمه(اقر الكونغرس الاميركي توصية بتقسيم العراق الى ثلاثة كيانات اقترحها نائب الرئيس الحالي جو بايدن بناء لافكارهم عندما كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ). وتلتقي هذه الافكار مع أفكارالمحافظين الجدد وهم السياسيون القادمون من مراكز الدراسات والابحاث و الجامعات الكبرى والذي نشر كبيرهم المستشرق اليهودي المعروف والمستشار غير الرسمي للرئيس جورج بوش الثاني برنارد لويس كتابا في التسعينات" تنبؤات-مستقبل الشرق الاوسط" حول تقسيم منطقة الشرق الأوسط وذكر العراق بالذات .كما أنهم لايشجعون على تحقيق السلام لأنه برأيهم لن يتحقق قبل ظهور المسيح,ويعتبرون الدعوة الى السلام بدعة وهرطقة. وقد أشار إلى ذلك الواعظ التلفزيوني المعروف  بات روبرتسون الذي قال "إن الأمور في المجتمع يجب أن تسير نحو ألأسوأ وليس إلى الأحسن,وأن المسيحيين يجب أن يعملوا على عدم تأخير رجوع المسيح" .ومن هذا المنطلق فهم لا يهتمون بما تقوم به الأمم المتحدة من محاولات لاحلال السلام وتسوية النزاعات تماما كما لا يهتم بذلك المحافظون الجدد ايضا.
ينظر البروتستانت المحافظون الى القضايا السياسية والاجتماعية مثل نظرتهم الى الكوارث, ومنها النزاع العربي الاسرائيلي. يعتبرون ان جمع اليهود في فلسطين وانشاء دولة اسرائيل علامة من علامات الظهور. وقد بدأوا بالعمل على تحقيق ذلك منذ القرن التاسع عشر بل حتى  من قبل, من خلال الجمعيات والمنظمات التي أنشأوها . وبعد إنشاء دولة إسرائيل ازداد نشاطهم وما زالوا يعملون على هجرة اليهود إلى إسرائيل وهم يغرون من يتردد في الهجرة إليها بالمال والمساعدات واكتسبوا لقب المسيحيين الصهاينة بسبب دورهم في هجرة اليهود .وهم يؤكدون دائما على ضرورة وقوف الولايات المتحدة الى جانب اسرائيل من دون قيد أو شرط, ويعتقدون بأن الرب يبارك الولايات المتحدة لأنها تساند إسرائيل وتساعدها وتقف إلى جانبها ويؤكدون أن اليهود مازالوا شعب الله المختار على عكس مايراه باقي المسيحيين الذين يعتقدون بان اليهود شعب مغضوب عليه لأنه رفض المسيح .ويعتبرون الفلسطينيين الذين يناضلون ضد الإحتلال أعداء للرب ويطالبون اسرائيل باستعمال القوة ضدهم والحاق الأراضي المحتلة بها. كما أن ديك ارمي الرئيس السابق للأغلبية الجمهورية برر في مقابلة تلفزيونية التطهير العرقي ضد الفلسطينيين ودعا الى ترحيلهم إلى الدول العربية(23). وبعضهم مثل روب ريتشارد أعتبر الفلسطينيين أجانب واخرون اعتبروهم من "العماليق"وبعضهم مثل ديفيد هانت (24) ومؤخرا نيوت غينغريتش أنكروا وجودهم أساسا.
 بعد 11 ايلول  كثرت انتقاداتهم للاسلام فقد قال بات روبرستون عن الإسلام"إنه دين عنيف ويدعو الى تدمير العالم وإن الأميركيين المسلمين  شكلوا خلايا إرهابية لتدمير الولايات المتحدة" . وهم يدفعون الإدارة الأميركية  إلى ضرب إيران لأنها تعلن العداء لإسرائيل.انهم يريدون ايضا أن تكون حدود اسرائيل من النيل إلى الفرات, طبقا لما ورد في سفر التكوين: (لنسلك أعطي هذه الأرض من النيل إلى النهر الكبير الفرات). ولذلك يرفضون فكرة الأرض مقابل السلام, بل يعتبر بعضهم مثل مايك ايفانزعملية السلام مؤامرة عالمية لسرقة أورشليم من اليهود. كما يدعون إلى هدم  المسجدالأقصى كي يبنى مكانه الهيكل الثالث حتى يؤدي فيه المسيح فريضة الأضاحي. يقول ارفنغ بكستر إنه قبل حرب أرماجدون فإن الهيكل سيبنى في حياتنا وإن مسجد قبة الصخرة يجب أن يؤخذ إلى مكة. اعتبر بات روبرتسون(25) اصابة ارئيل شارون رئيس وزراء اسرائيل السابق بالمرض الذي لم يفق منه إلى ألان عقابا الهيا لأنه كما يقول" قسم أرض الرب وأنا أقول الويل لأي رئيس وزراء لإسرائيل يتخذ قرارا مثل هذا من أجل أن يرضي الإتحاد الأوربي والأمم المتحدة أو الولايات المتحدة الأميركية". وتتواجد غالبية المسيحيين المحافظين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ عددهم عشرات الملايين وهم ينشرون فكرهم من خلال الة إعلامية ضخمة يحركها عدد كبير من المنشورات وما يقارب من ألفي محطة راديو اذاعية ومئتين وخمسين محطة تلفزيونية!.
 هذه هي ابرزالقوى الدينية المؤيدة لاسرائيل وهي ما تزال شديدة النفوذ وتحبط اي تفكير بعملية السلام في فلسطين منطلقة من عقيدة دينية وقدرات اعلامية مذهلة تكاد تهيمن على عقول الاميركيين وتتجاوز تأييد اليهود الاميركيين لاسرائيل .وصل العديد من اتباع هذه الجماعة الى الكونغرس والادارة وكان الرئيس السابق جورج بوش الثاني واحدا منهم ولم يتردد الاعلان ان الله اختاره للرئاسة!وكان يطابق سياسته تجاه النزاع العربي الاسرائيلي مع عقيدته الدينية وعمد الى اصدار خريطة الطريق لتسوية النزاع بعد مخاض عسير وهو متأكد انها لا تحمل اية صيغة تنفيذية بغض النظرعن عدم عدالتها.يهيمن هذا التفكيرالاسطوري الخرافي  على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط فيما نرى البراغماتية تسيطر على منهج العلاقات مع اوروبا واسيا وباقي دول العالم.هذا التزاوج غير الطبيعي في التفكير لا يمكن ان يصل الى حسم حقيقي الا عندما تشعر الولايات المتحدة بالضرر من سياستها وخصوصا اذا تصدى لها العرب والمسلمون.لكن الواقع مرير, فمعظم الدول العربية والاسلامية تتبع سياستها من دون نقاش ولا تتساءل عن مصير الشعب الفلسطيني ولا  عن المقدسات الاسلامية في القدس والخليل ويبدون عدم اكتراث لما يعانيه الفلسطينيون من قمع وهيمنة عنصرية ومن اعمال التهويد المستمرة في القدس.تبسط هذه القوى نفوذها على السياسيين من الحزبين الجمهوري والديموقراطي رغم ان اتباعها هم تقليديا ينتمون الى الحزب الجمهوري كونه الاقرب اليهم ايديولوجيا باعتباره حزبا محافظا.
انطلقت بعض القوى المحافظة ومنها حزب الشاي الذي يسيطر على سياسته التفكير المحافظ  المتشدد المصلحي لتضع المصلحة الاقتصادية والوطنية الاميركية فوق الاعتبارات الايديولوجية .عند هؤلاء بدانا نشهد غلبة المصلحة على الايديولوجيا .يتجلى ذلك في سياسة المساعدات الخارجية التي يدعون الى وقفها ومنهم ريك بيري حاكم ولاية تكساس والمرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري الذي دعا الى انهاء المساعدات الخارجية  وتصفيرها بما في ذلك  المساعدات لاسرائيل (26)وتسبب بحملة شعواء عليه من المسيحيين الصهاينة عليه فيما انتقد المرشح الجمهوري الاخر السناتور ميت رومني الاستدانة من الصين من اجل تقديم المساعدات لغيرها (27) .ويتشدد المحافظون مثل جميع القوى اليمينية بقوانين الهجرة حتى ان ولاية اريزونا التي يسيطر عليها المحافظون المتشددون سنت قانونا متشددا للهجرة مما حدا بالمحكمة الفدرالية على اعادة النظر به كونه يخالف احكام الدستور.
المصالح السياسية:
يتنازع النفوذ السياسي في الولايات المتحدة الحزبان الجمهوري والديموقراطي فيما تشكل الاحزاب الاخرى اقليات صغيرة لا يتسنى لها دخول المجالس التمثيلية في كونغرس الولايات وكونغرس الولايات المتحدة.
الحزب الديموقراطي اصبح منذ عام 1932 وفي عهذ الرئيس فرانكلين روزفلت ممثلا للتيارات الليبيرالية وداعما للنقابات العمالية ومؤيدا لسياسة تدخل الحكومة في الاقتصاد ومرتبطا بالافكار التقدمية المتحررة .على الصعيد الاجتماعي يتسامح الديموقراطيون في مسائل الاجهاض والشذوذ الجنسي وزواج المثليين انطلاقا من ليبيراليتهم .ينتمي اكثرية السود والاقليات وخصوصا اليهود الى الحزب الديموقراطي الذي اوصل اول رئيس اسود في تاريخ الولايات المتحدة.
اما الحزب الجمهوري فهو حزب محافظ  وحزب الرأسمالية, يركز على تكافؤ الفرص والمساواة والحفاظ على العائلة وتماسكها ويرفض اي قوانين تحد من الروابط العائلية مثل زواج المثليين ويرفض زيادة الضرائب وتدخل الحكومة في الاقتصاد.عارض الحزب الجمهوري بشدة خطة الضمان الصحي التي قدمها الرئيس اوباما لانها تدخل الدولة في هذا القطاع واستطاع الديموقراطيون تمريره بصعوبة بالغة.
تاريخيا من المهم ان نذكر ان الحزب الديموقراطي كان يؤيد العبودية بينما رفضها الحزب الجمهوري وكانت هذه المسألة اساسية في نشوب الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب في اواخر القرن التاسع عشر والتي حسمت لصالح الشمال او الفدراليين وكان الرئيس ابراهام لنكولن الذي يعود اليه الفضل بتحرير العبيد من ابرز شخصيات الحزب الجمهوري التاريخية.
 يتخذ الحزب الديموقراطي الحمار شعارا له فيما يتخذ الحزب الجمهوري الفيل.
البروباغاندا او الدعاية والترويج:
في السياسة الداخلية تتوزع معسكرات الحزبين بشكل مبدأي كما يلي:
 بشكل عام ينضم الى الحزب الديموقراطي العمال ومحدود و الدخل والاقليات من السود والاسبانيين والفقراء  واليساريون والليبيراليون والتقدميون المتحررون  بينما ينضم الى الحزب الجمهوري المحافظون والمتدينون والرأسماليون والصناعيون ورجال المصارف والمال وكل من يتبعهم وتختلف الايديولوجيا بين الفريقين الا انها تتفق على احترام الدستور والقيم الاميركية والالتزام بالمثل والقوانين.
يلعب الاعلام وجماعات الضغط دورا اساسيا في الحياة السياسية الاميركية.من يملك الاعلام يملك القرار لذلك نلاحظ كثافة المحطات التلفزيونية والصحف والمواقع الالكترونية لمختلف الجماعات السياسية.تتمول وسائل الاعلام من الاعلانات وهنا تبرز العلاقة المتشابكة بين الاعلام والاعلان في بلد يعتمد الشفافية والمساءلة.لا يمكن لاي محطة تلفزيونية او اذاعية او صحيفة او موقع الكتروني ان تستمر من دون دعم مالي من واردات الاعلانات التي يتحكم بها اللوبي الصناعي المالي.لذلك تقع الوسائل الاعلامية تحت هيمنة الممول اي الشركات الكبرى العملاقة التي تختارما يناسبها من الوسائل وتمده بالاعلانات اي بالموارد المالية اللازمة. ومن هنا نرى ظاهرة ابراز اخبار واغفال اخرى في الاعلام بما يتناسب مع مصلحة القوى الممولة.حاصر الاعلام رؤساء جمهوية ووزراء ودفع بعضهم للاستقالة عند اثارة اي مخالفة او فضيحة.ان الحرية المطلقة للاعلام تجعل منه قوة لا يستهان بها.والملفت ان تسريب وثائق وزارة الخارجية الاميركية لم تجر ملاحقته قضائيا في الولايات المتحدة باعتباره عملا اعلاميا فيما اكتفت وزارة الدفاع بمعاقبة العريف برادلي ماننغز الذي سرب الملف الالكتروني للوثائق الى جوليان اسانج صاحب موقع ويكيليكس. 
في السياسة الخارجية:
 في الغالب  يتفق الحزبان على المواقف السياسية الخارجية ونادرا ما نشهد خلافات عميقة بينهما .تخضع السياسة الخارجية لقياس المصالح الاميركية من قبل الادارة والكونغرس معا ما عدا السياسة الاميركية في الشرق الاوسط التي تسيطر الايديولوجيا عليها من دون حساب للمصالح. تستطيع جماعات الضغط الدينية وخصوصا البرتستانتيون المحافظون استخدام نفوذهم للسيطرة على القرار الاميركي في الشرق الاوسط سواء كانت الادارة جمهورية او ديموقراطية .انها موجودة بين كل القوى السياسية مع انها تتركز في الحزب الجمهوري المحافظ .لم تستطع اي ادارة تحقيق اي تقدم ولو جزئي في تسوية النزاع العربي الاسرائيلي.رغم تنازلات العرب منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 الى مشروع ريغان ومؤتمر مدريد واوسلو ومفاوضات كامب ديفيد وواي ريفر الى خارطة الطريق ومهمة جورج ميتشل ,كما انها لم تستطع  فرض اي ضغط على اسرائيل لان القوى الدينية النافذة تقف بالمرصاد عبر الاعلام والكونغرس لاجهاض اي ضغط مهما كان المسألة عادلة مثل  المستوطنات.
ابرز مثل على تغليب الايديولوجيا الدينية على المصالح هو موقف الولايات المتحدة المعادي لايران منذ اكثر من ثلاثين سنة.لم تتعرض الولايات المتحدة من ايران لاي اعتداء سوى احتجاز عناصر السفارة لمدة سنة ثم افرج عنهم سالمين .في فيتنام مثلا خسرت الولايات المتحدة في حربها مع هذا البلد اكثر من خمسين الف قتيل ومئات الاف الجرحى وهي اليوم تقيم علاقات عادية بل جيدة معها,اما  باكستان فهي ما تزال دولة حليفة للولايات المتحدة رغم ان تنظيم القاعدة انطلق من حليفتها افغانستان ونفذ عمليات ارهابية داخل الولايات المتحدة وتبين ان باكستان كانت الملاذ الامن لزعيم القاعدة بن لادن.ما تزال الولايات المتحدة تقدم مساعدات سنوية لباكستان (على الرغم ان العلاقات بين البلدين تشهد توترا على خلفية غارات الطائرات الاميركية على المدنيين) .لم تكن ايران مثل فيتنام ولا هي مثل باكستان لكن العداء الاميركي ناتج عن موقفها المتشدد من اسرائيل والذي لا تتسامح به الجماعات الدينية الضاغطة ولا يغامر اي سياسي بالتمرد عليها.وما غزو العراق الا استجابة لضغوط هذه الجماعات لان العراق دولة تمتلك قدرات بشرية وموارد طبيعية من نفط ومياه وطبيعة تمكنها من اجل ان تكون دولة مؤثرة في المنطقة قد تشكل خطرا حقيقيا على اسرائيل .جرى تلفيق تهم مثل حيازة اسلحة الدمار الشامل والتعامل مع القاعدة من اجل غزو هذا البلد وتدميره.لقد تكبدت الولايات المتحدة في العراق خسائر استراتيجية كبيرة وكل ذلك لمصلحة جماعات المسيحيين المتشددين ومعتقداتها الغيبية.
استنتاج
بين الايديولوجيا والمصالح تتشكل السياسة الاميركية .تأتي الايديولوجيا بمعظمها من تأثير البروتستانتيين المحافظين المعروفين بالمسيحيين الصهاينة الذين يتمتعون بتأثير مذهل على الوسط السياسي والاعلامي الاميركي .ولا يخفى ان هناك تحالفات وتقاطع مصالح بينها وبين المجموعات الصناعية والمالية الذي يعرف بالاستابلشمنت الاميركي .تنطلق المصالح الاقتصادية للصناعيين والماليين لتتوافق مع الايديولوجيا الدينية وتخترق الحزبين السياسيين الوحيدين ,الجمهوري والديموقراطي من اجل ارغام الادارة مهما كان انتماؤها والكونغرس على تنفيذ مصالحها .يحرص هذا التحالف على تكبيل الادارة وذلك بافقادها السيطرة الكاملة على الكونغرس .من النادر ان يسيطر حزب ما على الادارة والكونغرس معا ومؤخرا فقد الرئيس اوباما ,الذي فازبالانتخابات وكان حزبه يسيطر على المجلسين اي الشيوخ والنواب, السيطرة على مجلس النواب عندما فاز الجمهوريون بالغالبية في الانتخابات النصفية التي جرت عام 2010 .الامر نفسه حصل حتى للرئيس جورج بوش الثاني عندما فاز الحزب الديموقراطي بالغالبية في الانتخابات النصفية 2006  الامر الذي كبل الادارة في اتخاذ قرارات في السياسة الخارجية وغيرها .ان ماعرضناه يتجاوز الصدفة الى ما يشبه الظاهرة والتي يضعها البعض في اطار نظرية المؤامرة.
ان حقيقة هيمنة المتشددين الدينيين على الحزبين ليست قابلة للشك وارتباطها بمصالح المجموعة الاقتصادية والمالية شبه مؤكد وتمويلها لوسائل الاعلام واضح لذلك سوف تبقى الولايات المتحدة محكومة من هذا المثلث الى ان تشعر بالم اقتصادي بالغ يدفعها الى البحث عن مصالحها .ولغاية الوصول الى ذلك الزمن تبقى البروباغاندا والاعلام والنشاطات السياسية للحزبين تعمل ضمن اطار المتشددين الدينيين والحرص على كسب رضاهم و مصالح المجموعة الاقتصادية التي تمول وسائل الاعلام للعمل لمصلحتها.  



(1)راجع ارث الاسلحة النووية السوفياتية       
             http://books.sipri.org/files/RR/SIPRIRR10.pdf
(2)صحيفة نيويورك تايمز الاميركية
  http://www.nytimes.com/1994/11/23/world/clinton-thanks-ukraine-with-200-million.html?scp=10&sq=ukrania%20nuclear%20weapons%20to%20be%20eliminated&st=cse
(3) نص قرار مجلس الامن رقم 1483  
http://www.iamb.info/pdf/unsc1483ar.pdf
(4)صحيفة الشعب الصينية       
     http://english.peopledaily.com.cn/90780/7574929.html
(5)نظرة عامة على استراتيجية الامن القومي الاميركية.البيت الابيض
          http://www.whitehouse.gov/sites/default/files/rss_viewer/national_security_strategy.pdf
(6)صحيفة واشنطن تايمز                                                                                                                                                                     
          http://m.washingtontimes.com/news/2011/dec/14/us-will-leave-iraqi-airspace-clear-for- strategic-i/
(7) موقع استعلامات العلاقات الاميركية السعودية
http://www.susris.com/2011/02/14/today-in-history-king-abdulaziz-and-president-roosevelt-meeting/
Global Security magazine(8)                                                                                                                                                    
(9)موقع شركة بترول ابو ظبي الوطنية
http://www.adnoc.ae/arabic/content.aspx?newid=306&mid=306
 (10) تقرير ادارة المسح الجيولوجي    http://www.usgs.gov/newsroom/article.asp?ID=1911
(11)تقرير ادارة المسح الجيولوجي
http://pubs.usgs.gov/fs/2011/3113/
(12)موقع وكالة المخابرات المركزية
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/rankorder/2178rank.html?countryName=Bahrain&countryCode=ba&regionCode=mde&rank=66#ba
(13) مجلة فورين بوليسي تشرين الثاني 2011
http://www.foreignpolicy.com/articles/2011/10/11/americas_pacific_century
(14) من شبكة سي ان ان كلام وزير الدفاع بانيتا
http://edition.cnn.com/2011/12/02/world/meast/israel-peace-talks/index.tml

         http://www.usdebtclock.org/(15)
http://www.usatoday.com/money/world/2011-07-19-china-debt-debate_n.htm(16)
http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2010/12/21/AR2010122102570.html (17)
(18) موقع البنى التحتية الاميركية
  http://www.infrastructurereportcard.org/
(19) موقع حركة احتلوا وول ستريت
http://occupywallst.org/about/
    (20) موقع قصة الحرية   
                                                                http://thestoryofliberty.intuitwebsites.com/The-problem-with-Occupy-Wall-Street.html?gclid=CKDHiJ62oK0CFYMXzQodHCzm_Q
     http://occupywallst.org/(21)
 (22)بلاد الله :مجلة فورين افيرزايلول2006
  http://www.foreignaffairs.com/articles/61914/walter-russell-mead/gods-country#
(23)
http://www.awitness.org/journal/palestinians_out.html
(24)
http://ldolphin.org/huntislam.html
(25)
http://mediamatters.org/research/200601050004
(26)
http://www.theblaze.com/stories/rick-perry-says-foreign-aid-in-his-administration-would-start-at-zero-even-for-israel/
(27)
 http://blogs.jta.org/politics/article/2011/11/23/3090427/wolfowitz-throws-down-the-gauntlet-on-foreign-aid




2017-05-19 11:16:43 | 7761 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية