إرثٌ معقّد:
لماذا تتّسع الفجَوات بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينيّة؟
21 أكتوبر، 2025
غريغ غراندين
عَرْض: منى أسامة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
في يناير 2025، وَقَّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سلسلة من الأوامر التنفيذية، كان من أبرزها أمرٌ يقضي بتغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أمريكا". ويعكس هذا القرار تصوّراً راسخاً بأن اسم "أمريكا" حِكْرٌ على الولايات المتحدة وحدها، وبأنّ نشأتها وتطوّرها جرَت في مسار استثنائي ومُنْفَصِل عن بقيّة جيرانها؛ ومن ثمّ يتجاهل هذا التصوّر تاريخاً طويلاً ومعقّداً من التفاعلات المُتبادَلة بين دول أمريكا الشمالية والجنوبية؛ تاريخ يكشف عن ترابط عميق يتجاوز الحدود والاعتقادات السائدة. لقد شكَّلت الأحداث الكبرى، مثل الغزو الأوروبي، وحروب الاستقلال، والحروب الأهليّة، والانقلابات السياسية، مَلامِح هذه المنطقة القاريّة المشتركة.
وفي هذا السياق، يُقَدّم المؤرّخ غريغ غراندين في كتابه "أمريكا، أمريكا: تاريخ جديد للعالَم الجديد" قراءة جديدة لهذا التاريخ؛ حيث يُشَدّد غراندين على ضرورة توسيع منظورنا لفهم العلاقات بين الأمريكتين، ويُظهِر كيف أن أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية قد شكّلتا بعضهما بعضاً، على مدى خمسة قرون، من خلال الغزو والحرب والتنافس، وأحياناً التعاون. ويرى أن لهذه العلاقة القاريّة تأثيراً عميقاً ليس فقط في مصير نصف الكرة الغربي، بل في تشكّل العالَم الحديث بأسْره؛ إذ يرى المؤلّف أن الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية ساهمتا معاً في صياغة القوانين والمؤسّسات والمُثُل التي تحكُم العالَم الآن.
الغزو الإسباني والاستيطان الإنجليزي:
تناوَل هذا الجزء من الكتاب الغزو الإسباني للمنطقة خلال الفترة (1532 – 1572). وفي هذا السياق، أشار المؤلّف إلى كتابات الراهب الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس، والذي يُعَدّ أحد أبرز شهود العيان على ما تعرّض له السكّان الأصليّون من مجازر وموت جماعي خلال هذه الفترة. ففي قرية كاوناو الكوبية، روى لاس كاساس كيف أقدَم الجنود الإسبان على ذبح وتمزيق آلاف الرجال والنساء والأطفال الذين ركعوا أمام الغُزاة في صمت، ورؤوسهم مُنْحَنِيَة استسلاماً.
وفي سياقٍ موازٍ، لاقَت ترجَمات شهادات لاس كاساس صدىً واسعاً بين خصوم إسبانيا البروتستانت؛ إذ مثّلت أداة دعائيّة قويّة ضدّها. وفي هذا الصدد يُشير المؤلّف إلى أن: "الإنجليز شعَروا بسُمُوّهِم الأخلاقي عند قراءة روايات لاس كاساس عن قسوة الإسبان، فصوّروا أنفسهم معتَدلين في مواجهة وحشيّة إسبانيا". ويرى أن الولايات المتحدة وَرِثَت هذه النظرة الإنجليزية عند مُقارَنة نفسها بدول أمريكا اللاتينية؛ بمعنى آخر الترويج إلى فكرة التفوّق الأخلاقي الأنجلو أمريكي ضمن الخطاب الغربي السياسي والثقافي.
وبخلاف هذه النظرة الإنجليزية، يُشير الكتاب إلى أن الإنجليز لم يقتصروا في قسوتهم على مستعمراتهم في الأمريكتين، بل استعمَلوا ذريعة الانتقام لمقتل "عشرين مليوناً من الهنود" على يد إسبانيا لتبرير ارتكاب فظائع ضدّ الكاثوليك في أيرلندا. وفي البداية، تأثّرت مُعامَلَة الإنجليز للسكّان الأصليّين في مستعمراتهم الأمريكية بأفكار العدالة الاجتماعية التي طَرَحها فُقَهاء مدرسة سلامانكا، مثل فرانسيسكو دي فيتوريا، الذي رأى أن غزو الولايات المتحدة الأمريكية لا يحقّق شروط "الحرب العادِلة"؛ ومن ثمّ فهو غير قانوني؛ لكن هذه المبادئ سُرعان ما انهارت بعد هجوم مُفاجئ شَنّته قبائل بوهاتان الأصليّة في عام 1622 على المستعمرة الإنجليزية في جيمستاون بولاية فرجينيا، حين اعتبَر بعض المستوطنين أن الوقت قد حان لغزو أراضي السكّان الأصليّين وتدميرهم؛ ومن ثمّ نتجت عن الهجوم سلسلة من الحروب بين الإنجليز وسكّان البوهاتان الأصليّين.
تباين حول التقدّم والاستقلال:
في أوائل القرن التاسع عشر، حين نالَت دول أمريكا اللاتينية استقلالها عن إسبانيا، لم يكن مفهوم "التقدّم" لديها مُرادِفاً للغزو أو التوسّع الإقليمي. ففي عام 1837، عَرّف الكاتب الأرجنتيني إستيبان إتشيفيريا التقدّم بأنه "الرغبة في التحسين، والأمل، والعمل الإبداعي"، مؤكّداً أنه ليس أمراً حتمياً أو مساراً لا مَفَرّ منه. وسار على النهج نفسه الفيلسوف والمفكّر التشيلي فرانسيسكو بيلباو، الذي شهِد ثورات أوروبا عام 1848 ورفض خطاب "أنبياء التقدّم" الذين برّروا العبوديّة والإبادة باعتبارها جزءاً من خطّة إلهيّة. ودعا بيلباو إلى نضال سياسي دائم لمُواجَهة البُنى الفكرية والسياسية المَوروثة من العصور المَلَكِيّة والدينيّة والأبَوِيّة. ويُنسَب إليه غالباً أنه أوّل من استَخدَم مُصطَلح "أمريكا اللاتينية" عام 1856 في خطابٍ بباريس، حيث وصَف المنطقة بأنها فضاء مشترك يجمع مختلف الأعراق - السود، والهنود، والبيض - ومن كلّ جهات العالَم.
على النقيض، في الولايات المتحدة، ارتبط مفهوم "التقدّم" بفكرة التوسّع الإقليمي؛ أي الغزو المستمر والعنيف لأراضٍ جديدة ودفع موجات الاستيطان نحوها. وقد تمّ هذا التوسّع تحت غطاء أيديولوجيّات مثل "القدَر المتجلّي" التي اعتبرت السيطرة على القارّة أمراً طبيعياً وضرورياً.
وفي هذا الإطار، يرى الكتاب أن هذه الفجوة في الرؤية انعكست على مواقف المنطقتين من الحدود بعد الاستقلال. ففي حين اتّبعت أمريكا اللاتينية مبدأً قانونياً رومانياً يُعرَف بـ uti possidetis أو "كما تملك، تظل تملك"، والذي صاغَه الدبلوماسي الكولومبي بيدرو غوال عام 1822 للحفاظ على الحدود الإدارية الموروثة من الحُكم الإسباني وتجنّب النزاعات التوسعيّة، انخرَطت الولايات المتحدة في حروب وتوسّعات مُتَواصِلَة دامت لسنوات، لفَرْض سيطرتها على أراضٍ جديدة، انطلاقاً من اعتقادٍ لديها بأن الحدود أرض بلا مالك مُتاحَة لكلّ من يستطيع الاستيلاء عليها، بحسب الكتاب.
وبهذا، شكّلت أمريكا اللاتينية مشروعاً قائماً على قِيَم الوحدة الإنسانية والتعاون القارّي - "أمريكا للإنسانية" - في مواجهة الشعار الأمريكي المُهَيمِن "أمريكا للأمريكيين" الذي خدَم مصالح الولايات المتحدة وحدها، بحسب المؤلّف.
وبحُلول عام 1825، كانت معظم دول أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى قد نالَت استقلالها، وكان سكّان هذه المناطق يعتبرون أنفسهم أمريكيين، بينما كان جيرانهم في الشمال يرون الأمر بشكل مختلف. ففي عام 1848، ومع توقيع معاهدة غوادلوب هيدالغو التي أنهَت الغزو الأمريكي للمكسيك وأجبَرت الأخيرة على التنازل عن أراضٍ واسعة، أصبح عدد كبير من سكّان كاليفورنيا من ذوي الأصول الأوروبية، المُتَعَلّمين، وملّاك الأراضي "مواطنين بموجب المعاهدة" في الولايات المتحدة.
لكن سُرعان ما اكتشف هؤلاء أن الحقوق التي منحَتهم إيّاها المعاهدة لن تُحترم أمام موجات المستوطنين. كما أدرَكوا أن هؤلاء المستوطنين، حين كانوا يصِفون أنفسهم بـ"الأمريكيين" بلهجتهم المُتَعالِية، إنّما كانوا يستخدمون هذا المصطلح لتمييز أنفسهم عن السكّان الأصليين الذين عاشوا في كاليفورنيا من آلاف السنين؛ وكذلك عن الكاليفورنيين الذين لم يمض على وجودهم هناك سوى بضعة أجيال.
أمريكا اللاتينية كمُوازِن للهيمَنة الأمريكيّة:
يؤكّد الكتاب أن أمريكا اللاتينية، في مرحلة ما بعد الاستقلال، شكّلت قوّة مُوازِنة مُحتَملَة للاندفاع العسكري والاقتصادي الجامح للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، عقَدت دول أمريكا المستقلّة خلال القرن التاسع عشر سلسلة من الاجتماعات الإقليمية، بدءاً من مؤتمر بنَما الذي دعا إليه سيمون بوليفار عام 1826، وكان إلغاء العبوديّة على جدول أعماله؛ خاصّة وأن ثوّار أمريكا اللاتينية كثيراً ما ساووا بين الاستعمار والعبوديّة، وألغوا العبوديّة مع نَيْلِهم الاستقلال. ومن جانبه، أراد الرئيس الأمريكي آنذاك، جون كوينسي آدامز، أن تُرسِل الولايات المتحدة مُمَثّلاً؛ لكن قوبل ذلك بمعارضة داخلية شديدة؛ ومن ثمّ لم تَحضر الولايات المتحدة.
وفي اجتماعات متعدّدة الأطراف لاحقة، وضَع الأمريكيون اللاتينيون مجموعة من مبادئ القانون الدولي تؤكّد عدم وجود "أرض بلا مالِك" في الأمريكتين؛ وتدعو إلى احترام مبدأ "الحيازة الجارية"؛ وتؤكّد أن جميع الدول مُتساوية أمام القانون، بغضّ النظر عن حجمها أو ثروتها؛ وتسعى إلى معاهدات تحكيم مُحايِدة لتجنّب اللجوء إلى قوّة السلاح. ففي عام 1844، أطلَق الفقيه الأرجنتيني خوان باوتيستا ألبردي على هذه المجموعة من الأفكار اسم "القانون الدولي الأمريكي" (Derecho Internacional Americano)؛ وأصبح هذا المُصطَلح أساسياً في تطوّر ما يُعرَف اليوم ببساطة بالقانون الدولي.
وفي سياقٍ موازٍ، استُدعي دبلوماسيّون من جميع أنحاء نصف الكرة الأرضيّة إلى واشنطن العاصمة عام 1889، لحضور ما أسمَته الولايات المتحدة المؤتمر الأمريكي الأوّل، ووصلوا مُسبَقاً مُسلّحين بهذه المبادئ. وحافظت دول أمريكا اللاتينية على جبهة موحّدة بشكلٍ مُثير للإعجاب عند التصويت على قرار يُجَرّم الغزو. فالولايات المتحدة، التي لم تتمكّن بعد من منْح نفسها حقّ النقض (الفيتو) في مثل هذه المسائل، سجّلت التصويت "لا" الوحيد، وغادَر مُمَثّلو الولايات المتحدة القاعة غاضبين.
وهكذا بدأ "تقليد طويل من وقوف واشنطن ضدّ الأغلبيّة في الاجتماعات متعدّدة الأطراف". ومع ذلك، يرى المؤلّف أن النصف الأوّل من القرن العشرين كان الفترة التي استفادَت فيها الولايات المتحدة على أفضل وجه من "الوظيفة التقييديّة" لأمريكا اللاتينية. لقد كان تحالف الدول الأمريكية هو ما مَكّنَ الرئيس الأمريكي في هذا الوقت، وودرو ويلسون، من تحقيق طموحه بإنشاء عصبة الأمم.
أما الرئيس فرانكلين روزفلت، فقد حسّن العلاقات مع العالَم ونصف الكرة الأرضيّة من خلال "سياسة حُسن الجوار"، التي أعلَن عنها خلال خطاب تنصيبه الأوّل عام 1933، وواصَلها مبعوثه إلى مؤتمر مونتيفيديو بالأوروغواي في وقتٍ لاحق من ذلك العام.
عودة الإمبرياليّة الأمريكيّة:
بمجرّد هزيمة الفاشيّة في أوروبا خلال الحرب العالَميّة الثانية، يُشير الكتاب إلى أن التحالف القويّ بين الأمريكتين قد انتهى. فعلى الرّغم أن هذا التحالف هو من أسهَم في هزيمة الفاشيّة؛ فإنّ الولايات المتحدة أيّدت صعود الفاشيّة في عدد من دول أمريكا اللاتينية؛ وهو ما تبِعه عودة الإمبريالية والتدخّل الأمريكي في الشؤون اللاتينية، بحسب الكتاب. فعلى سبيل المثال، طالَب المواطنون اللاتينيون في أعقاب الحرب العالَميّة بزيادة الرواتب، وتعزيز الرعاية الاجتماعية، وتوسيع الحقوق المدنيّة. وأيّد قادة، مثل الكولومبي خورخي غيتان، هذه المَطالِب؛ وقد تمّ اغتياله بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر بوغوتا الذي ضمّ مُمَثّلين من جميع أنحاء الأمريكتين، برئاسة وزير الخارجية الأمريكي حينها جورج سي. مارشال. وبينما كانت الاحتجاجات تُشعِل المدينة، سارَع الجيش الكولومبي، المُدَرّب والمَدعوم من الولايات المتحدة بموجب سياسة حُسن الجوار، إلى نقل الدبلوماسيين الزائرين إلى مواقعهم.
ورَوّجت الولايات المتحدة بعد هذا الحدَث إلى أن ما تحتاجه أمريكا اللاتينية ليس خطّة تنمية وإنعاش مُماثِلة لتلك المُقَدّمة لأوروبا، بل جبهة أمنيّة مُوَحّدة مع الولايات المتحدة ضدّ خطَر الشيوعيّة العالَميّة. فعلى سبيل المثال، صرّح هنري كيسنجر لوزير الخارجية الأرجنتيني عام 1976 خلال حملة إرهاب الدولة: "انظر، موقفنا الأساسي هو أنّنا نريدك أن تنجح".
ختاماً، تُدرِك شعوب أمريكا اللاتينية أن الطريق لهزيمة الفاشيّة يَكمُن في الجمع بين الليبرالية السياسية وأجندة قويّة للحقوق الاجتماعية. ويؤكّد الكتاب أن خط الترسيم الحقيقي في نصف الكرة الغربي لا يمرّ فقط على طول نهر ريو غراندي، بل يفصل بين من يسعون إلى الديمقراطية والازدهار المشترك، وبين من يُناصِرون الاستبداد والأوليغارشية الإقطاعية الجديدة. اليوم، يعيش أكثر من 480 مليون شخص في المنطقة تحت أنظمة ذات طابع اجتماعي ديمقراطي، في مُواجَهة نظرة غربية مُتَوَجّسة ترى في أمريكا اللاتينية إمّا تهديداً أو غنيمة مُستَقبليّة. وفي ظلّ هذا المَشهَد، لا يتردّد بعض السّاسة، بحسب المؤلّف، في حذف اللغة الإسبانية من المواقع الحكومية، أو إرسال من يشاؤون إلى معسكرات العمل القسري في السلفادور، بلا مُحاكَمة أو أمل في العودة.
المصدر:
Greg Grandin. America, América: A New History of the New World. Penguin Press, 2025.
2025-10-27 12:57:14 | 64 قراءة