الاستراتيجيّة الأمنيّة التي تُحَرّك "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر
تُظهِر عمليّات الاغتيال التي نفّذتها "إسرائيل" ضدّ كبار القادة في إيران ولبنان وقَطَر وأماكن أخرى أن "إسرائيل" لم تَعُد تلتزم بالخطوط الحمراء التي اعتقَد جيرانها أنها لن تتجاوَزها أبدًا...
مئير بن شبات وأشر فريدمان (فورين أفيرز) | ترجمة، بتصرّف: أنس أبو سمحان
تحرير:عرب 48
24/11/2025
مُقَدّمة المُتَرجِم:
تأتي هذه المقالة المنشورة في مجلّة «الشؤون الخارجيّة» الأميركية مَكتوبة من مئير بن شبات، والذي كان مُستشارًا للأمن القومي الإسرائيلي ورئيسًا لمجلس الأمن القومي خلال الفترة 2017-2021، وكان له دور كبير في توقيع الاتفاقيّات الإبراهيميّة. كما ساهم في كتابتها أشر فريدمان، رئيس مؤسّسة الاتفاقيّات الإبراهيميّة للسلام. وكما سيتّضح للقارئ، فإن المقالة قد صيغَت بالكامل من وجهة نظَر إسرائيلية، وتقدّم التوصيات الأمنيّة حول ما يجعل حدود إسرائيل آمِنة، دون أيّ اعتبار لأيٍ من الفاعلين في المنطقة. كما أن هذه التوصيات مُتَطابقة حاليًا مع السياسات الإسرائيلية وتُوَضّح ما تطمح إليه إسرائيل، عبر إظهار أسنانها الاستعماريّة في المنطقة العربية كاملة، بحيث أنها ستَفعل كلّ ما بإمكانها لحماية مُواطِنيها، بما فيها التعدّي على حدود الآخرين وإخماد السكّان الأصليين وإخضاعهم؛ وهو ما يؤكّد طريقة نظَر الإسرائيليين إلى أنّ المشكلة ليست فقط مع الفلسطينيين، وإنّما مع كلّ المُحيط العربي. كما يؤكّد استمراريّتها بوصفها مُستَعمَرة أوروبية تمشي على خطى سلفها في كلّ خطوةٍ من خطواتها.
المقالة
لقد هزّت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 إسرائيل إلى صميمها. لقد أوضَح الهجوم الوحشي الذي شنّته حماس لقادة إسرائيل ومُواطِنيها على حدٍ سواء أن إسرائيل لا بدّ وأن تغيّر نهجها في التعامل مع أمنها القوميّ لضمان بقائها. أظهَر السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل بالنسبة للعديد من الإسرائيليين أن من المستحيل احتواء جماعات مثل حماس أو قبول وجودها على طول حدود إسرائيل من دون المساس بسلامتها.
وتخلّى صنّاع القرار في إسرائيل في العامَيْن التاليين عن النماذج الأمنيّة القديمة لصالح استراتيجيّات جديدة. وعلى الرّغم من أن إسرائيل تمتلك منذ فترة طويلة أقوى جيش في المنطقة وخاضت نزاعات خارج حدودها، فإنها سعَت بالعموم إلى الحدّ من أفعالها إلى الحدّ الأدنى الضروري لإزالة التهديدات المباشرة واستعادة الهدوء. غير أن إسرائيل اليوم لم تَعُد راضية بإضعاف خصومها بدَلًا من هزيمتهم. وأصبح القادة الإسرائيليون أكثر استعدادًا لاستخدام القوّة العسكرية من أجل صياغة نظام جديد يحمي مصالحهم الوطنية استباقيًا.
وعلى الرّغم من مُعارَضة بعض النّخب التقليدية في إسرائيل، بما في ذلك بعض المسؤولين الأمنيين السابقين، فإن تصرّفات إسرائيل في مختلف أنحاء المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل تُثبِت أن هذه الاستراتيجيّات الجديدة بدأت تتجذّر. وبالإضافة إلى مُواصَلة حربها البريّة في قطاع غزة، شنّت إسرائيل حملة لتقويض قدرات طهران النووية والصاروخية الباليستيّة، واغتيال العديد من كبار مسؤوليها الأمنيين وعُلمائها النوويين. كما ضرَبت إسرائيل أهدافًا في لبنان لمنع إعادة تسليح حزب الله، وأنشأت وجودًا عسكريًا في سوريا، وتدخّلت مُباشَرةً لدعم المجتمع الدرزي ضدّ القوّات المتحالفة مع النظام السوري، وشنَّت غارة جويّة استهدفت مسؤولين من حماس في قَطَر.
وتُظهِر عمليّات الاغتيال التي نفّذتها إسرائيل ضدّ كبار القادة في إيران ولبنان وقَطَر وأماكن أخرى أن إسرائيل لم تَعُد تلتزم بالخطوط الحمراء التي اعتقد جيرانها أنها لن تتجاوزها أبدًا. لن تمنح إسرائيل الحصانة لأيٍ من زعماء الجماعات المُعادِية، بغضّ النظر عن مَناصبهم السياسية أو مواقعهم، إذا اعتقدت إسرائيل أنهم مُتَوَرّطون في أنشطة إرهابية. في الماضي، كانت إسرائيل عادة تقوم بهذه الأعمال على نطاقٍ مُنخفض التأثير، أو أنها كانت تُحاول إخفاء دورها فيها، لكن قادتها الآن يحتضنون هذه التحرّكات علانية.
وقد فَسّر البعض الاستراتيجيّة الإسرائيلية الجديدة باعتبارها سعيًا إلى الهيمَنة الإقليمية. في واقع الأمر، ورغم كونها القوّة العسكرية الأقوى في المنطقة، فإن إسرائيل ليست قوّة مُهَيمِنة إقليمية، ولا تسعى إلى أن تصبح كذلك. إذ لا يمثّل الاقتصاد الإسرائيلي إلّا حصّة غير مُتناسبة من الناتج المحلّي الإجمالي الإقليمي، ولا تستطيع إسرائيل أن تُشَكّل أحاديًا الترتيبات الاقتصادية في المنطقة لصالحها. وتتمتّع إسرائيل، التي ليس لديها سوى عدد قليل من الحُلفاء الطبيعيين في المنطقة، بقدر ضئيل نسبيًا من القوّة الناعمة بين جيرانها.
لا تُريد إسرائيل الهيمَنة على النظام الإقليمي. لكنها تسعى إلى تشكيل هذا النظام بدرجة أكبر من أيّ وقتٍ مضى. ويشمل ذلك الدفاع عن أصولها وحُلفائها، والاحتفاظ بالأراضي، وتعديل الحدود عندما يكون ذلك ضروريًا من الناحية الاستراتيجيّة، وتشكيل تحالفات متنوّعة حول المصالح المشتركة، ومنع أيّ عدوٍ مُحتمل من تطوير قدرات من شأنها أن تهدّد وجودها أو أمنها. كما إن إسرائيل مستعدّة لوضع أهداف حربيّة أكثر طموحًا بكثير من تلك التي سعَت إلى تحقيقها في الماضي، حتى لو كان تحقيق هذه الأهداف مُكلِفًا ويتطلّب عملًا عسكريًا مُستَدامًا أو متعدّد الجبهات.
ويعتقد عدد مُتزايد من صنّاع القرار في الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب مُحَلّلين خارجيين (بما في ذلك نحن الاثنان)، أن هذه الاستراتيجيّة من المرجّح أن تؤدّي إلى استقرار المنطقة وضمان أمن إسرائيل مُقارَنةً بالاستراتيجيّات السابقة، التي اعتمَدت في المقام الأوّل على الردع. ويجب على إسرائيل أن تتجنّب تقديم تنازلات أمنيّة بناءً على رؤى السلام التي تتجاهل الكراهيّة ضدّ إسرائيل والآراء المتطرّفة التي ترسّخت بين الفلسطينيين وغيرهم من السكّان العرب. ولا ينبغي لإسرائيل أن تستَبدل انتصاراتها الملموسة والموضوعية على الأرض بوعود دبلوماسية مشكوك فيها مع شركاء غير موثوق بهم. إنّ أيّ مفاوضات سلام يجب أن تنطلق من فهم المخاوف الأمنيّة الإسرائيلية والاستعداد لتوفير الترتيبات اللازمة لتخفيف هذه المخاوف.
ويعتقد القادة الإسرائيليون اليوم أن جاذبيّة بلادهم بوصفها شريك وحليف دبلوماسي تنبع من قوّتها. لا تؤدّي التنازلات في المصالح الأساسيّة إلّا إلى التقليل من قيمة إسرائيل بصفتها حليفًا إقليميًا: فبمجرّد أن تقترح إسرائيل تسوية من أجل السلام، فإنّ الدول المُعادِية لإسرائيل تنظُر إلى ذلك باعتباره دليلًا على أن البلاد سوف تنهار تحت الضغط. ومن اللافت للنظر أن الدول العربية التي طبّعت العلاقات مع إسرائيل كجزء من اتفاقيّات إبراهيم عام 2020 ، استمرّت في الشراكة معها في الدبلوماسية والدفاع والتجارة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل بسبب فوائد التعاون مع إسرائيل القويّة.
وسيكون الاختبار النهائي لهذه الاستراتيجيّة هو الحرب في قطاع غزّة. ورغم أن إصرار إسرائيل على القضاء على حماس كان مُكلِفًا، فقد أدّت أفعالها إلى تدمير البنية الأساسية في القطاع وأدّت إلى مقتل كثيرين، من المُقاتلين والمَدنيين على حدٍ سواء، فإن هذا الهدف حيويّ لمستقبل إسرائيل؛ وبالتالي فإن هذا النهج ضروري. ومن المؤسف أن وجهات النظر تجاه إسرائيل في العديد من البُلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، أصبحت سلبيّة على نحوٍ مُتزايد منذ بدء الحرب في قطاع غزّة. ولكن في اللحظة الراهنة، يتعيّن على إسرائيل أن تُعطي الأولويّة لأهداف حربها، حتى ولو على حساب الانتقادات الخارجيّة. إن السماح لحماس بالبقاء القوّة العسكرية والحكومية المُهَيمِنة في غزة، سواء بحُكم القانون أو بحُكم الأمر الواقع، أمرٌ غير مقبول. إن نزع السلاح الكامل من قطاع غزّة، والذي يتطلّب استخدام القوّة العسكرية، هو السبيل الوحيد للحفاظ على أمن إسرائيل الحقيقي.
المُناوَرة في التنافس
إن أحد الركائز الأساسيّة للاستراتيجيّة الأمنيّة الجديدة هو الاستعداد الأكبر لاستخدام القوّة لمنع الأعداء من تطوير قدرات تُهَدّد إسرائيل. وتُشَكِّل جهود إيران لتطوير الأسلحة النوويّة وإنتاج آلاف الصواريخ الباليستيّة بعيدة المدى تحدّيًا وجوديًا لإسرائيل. ورغم أن إسرائيل نفّذت عمليّات سريّة تستهدف البرنامج النووي الإيراني في الماضي، فإنها أطلَقت في يونيو/حزيران الماضي عمليّة عسكرية غير مسبوقة بهدف إضعاف برامج طهران النوويّة والصاروخيّة الباليستيّة، وتأخير تطويرها بصورة كبيرة. وشَنّت إسرائيل هذه العمليّة رغم إدراكها للثمن الذي قد تدفعه في حال الردّ الإيراني، واحتمال أن تؤدّي ضرَباتها إلى إشعال حرب إقليميّة.
ولم يُغَيّر القادة الإسرائيليون هدفَهم المتمثّل في منع إيران من إعادة بناء قدراتها النووية والباليستيّة بعد حملة يونيو/حزيران ووقف إطلاق النار الذي أعقبَها؛ فإسرائيل مستعدّة لضربة أخرى إذا لزِم الأمر، حتى لو أدّى ذلك إلى جولات أخرى من القتال. وتُصِرّ الحكومة الآن على ترتيبات إنفاذ من شأنها أن تمنع إيران من تخصيب اليورانيوم على أراضيها، أو السيطرة على دورة الوقود النووي، أو تعزيز قدراتها النووية في مجال الأسلحة. وتُريد إسرائيل أيضًا منع إيران من إنتاج الصواريخ الباليستيّة والأسلحة الدقيقة التي قد تشكّل بكميّات كبيرة تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. إن أيّ اتفاق يجب أن يتضمّن تدابير إنفاذ فعّالة؛ ويُدرك القادة الإسرائيليون أن التنفيذ دون اتفاق أفضل من اتفاق رسمي يفشل فعليًا في وقف إيران.
ورغم أن تغيير النظام في إيران ليس هدَفًا صريحًا لاستراتيجيّة إسرائيل، فإن إيران ستظلّ تُشَكّل تهديدًا طالما ظلّ أيّ نظام ديني يستَرشد برؤية آية الله روح الله الخميني يمتلك السلطة في طهران. إنّ الاقتصاد والنظام السياسي في إيران ضعيفان بالفعل؛ لذا تأمل إسرائيل في تشجيع الولايات المتحدة والدول الأوروبية على إعادة فرض العقوبات الاقتصادية الكبرى على إيران، بما في ذلك تجميد الأصول الإيرانية في الخارج، وحظْر السفر للأفراد الإيرانيين، ومنع نقل الأسلحة أو التكنولوجيا العسكرية إلى إيران. والهدَف هو عزل النظام الإيراني على نحوٍ أكبر، ومنعه من أن يشكّل تهديدًا استراتيجياً للمنطقة.
لا للتوقّف
وتعني الاستراتيجيّة الإسرائيلية الجديدة أيضًا أن قيادة إسرائيل لم تعُد تقتصر على النماذج التقليدية لكيفيّة التعامل مع الحرب المستمرّة في قطاع غزّة والنزاع المُتصاعد في الضفة الغربية. وفي نهجها الجديد، لا يوجد سوى طريق واحد لإنهاء النزاع في القطاع حقًّا: إزالة حماس باعتبارها القوّة المُهَيمِنَة ونزع السلاح من القطاع، من خلال تطهيره من الأسلحة في أيدي الجهات المُعادِية؛ وقتْل أو أسْر أو نفْي الغالبيّة العظمى من قادة ومُقاتلي العدو؛ وتفكيك أيّ بنية أساسيّة تسمح لحماس بتصنيع الأسلحة أو الحفاظ على حُكمها.
ويعتقد القادة الإسرائيليون أنه إذا خرجت حماس من الحرب وهي لا تزال تُسَيطِر على قطاع غزّة، فإنّ حُلفاء الحركة الإقليميين سوف ينظرون إلى حماس باعتبارها المُنتصرة. وسوف يشجّع هذا الجماعات الجهاديّة الأخرى، التي سوف تعتقد أنها هي الأخرى قادرة على مُهاجَمة إسرائيل وتحقيق النصر.
وهذا ما يفسّر استراتيجيّة إسرائيل في القطاع؛ إذ يرى صنّاع القرار في إسرائيل أنهم يجب أن يكونوا مُستعدّين للاستيلاء على الأراضي في قطاع غزّة والاحتفاظ بها، حتى تتمكّن إسرائيل من تحييد الغالبيّة العظمى من المُقاتلين المتبقّين وتدمير أنفاق حماس وأسلحتها وورش العمل. ومن هذا المنظور، يتعيّن على إسرائيل أن تحتفظ بالسيطرة على أجزاء من قطاع غزة، وخاصّة في الشمال وعلى طول المحيط الحدودي مع إسرائيل، لضمان عدم قدرة حماس على مُهاجَمة المجتمعات الحدودية الإسرائيلية أو إعادة بناء قدراتها. وعلى المدى الأبعد، يتعيّن على إسرائيل أن تحتفظ بالقدرة على استخدام القوّة للقضاء على الإرهابيين، حتى ولو تَوَلّت الجهات الفاعلة المحليّة والدوليّة مسؤوليّة الإدارة المدنيّة اليوميّة في قطاع غزّة.
ولكي تتمكّن إسرائيل من هزيمة حماس هزيمة كاملة، يتعيّن عليها أن تمنع المجموعة من السيطرة على تدفّقات الإمدادات التي تستخدمها لتغذية مُقاتليها وملء خزائنها وتشغيل أنفاقها. ويجب على إسرائيل أن تُسَهّل وتُعَزّز توزيع الغذاء والدواء بطُرُق تمنع وقوع هذه الإمدادات في أيدي حماس. وفي المستقبل، فإن الطريقة الوحيدة أمام إسرائيل لضمان وصول المساعدات إلى المدنيين وليس إلى حماس هي تقديم المساعدات في الأماكن التي لا تخضع لسيطرة حماس. ويجب على الجيش الإسرائيلي أن يسمح للمدنيين في غزة بالانتقال إلى مناطق بعيدة عن مُتناول حماس، وتقديم المساعدات في تلك الأماكن. وبينما تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية في تطهير المزيد من أجزاء قطاع غزّة من حركة حماس، فإنّ إسرائيل والمنظّمات الإنسانية تستطيع تقديم المزيد من المساعدات وزيادة عدد مواقع التوزيع التي يمكن للمدنيين الوصول إليها.
مُتَجَذّرة في الواقع
ورغم أن بعض المُراقِبين دعوا إلى إنهاء الحرب واقترحوا تمكين جماعات بديلة لإدارة قطاع غزّة، فإن هذه المقترحات سوف تفشل طالما ظلّت حماس القوّة الأقوى في القطاع. وإذا لم تُزَح حماس باعتبارها القوّة المُهَيمِنَة، فإن حكومة تكنوقراطيّة مكوّنة من إداريين وطنيين مستقلّين لن توفّر سوى واجهة يمكن لحماس من خلالها إعادة بناء قدراتها العسكرية. كما أن القادة الإسرائيليين لا يستطيعون أن يثقوا في أنّ أيّ قوّة حفظ سلام أجنبيّة سوف تكون راغبة أو قادرة على القيام بالعمل الصعب المتمثّل في مُكافَحة القدرات المتبقّية لدى حماس، أو منع المجموعة من إعادة بناء قوّتها العسكرية.
إن التحدّي الكبير المتمثّل في كيفيّة بناء نظام ما بعد الحرب في قطاع غزّة، والذي من شأنه أن يوفّر لإسرائيل الأمن الذي تحتاج إليه، دفع العديد من صنّاع القرار السياسي الإسرائيلي إلى الاستنتاج بأن أفضل فكرة هي تشجيع الهجرة الطوعيّة من غزة. ومن شأن هذا أن يسمح للمدنيين بمُغادَرة منطقة الحرب، كما يجعل من الأسهل والأسرع والأقلّ تكلفة بالنسبة لإسرائيل تحديد وتدمير جميع أنفاق حماس والبنية التحتية العسكرية المتبقّية؛ وهو أمر ضروري لتمكين إعادة إعمار القطاع. على الرّغم من أنّ العديد من زعماء العالَم رفضوا اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الهجرة الطوعيّة باعتباره غير واقعي أو خطير، فإنه يظلّ أحد الأفكار القليلة لحلّ النزاع المُستَعصي الذي يرفض المعتقدات التقليدية الفاشلة في الماضي. وتُشير استطلاعات الرأي التي أجرَتها مراكز أبحاث فلسطينية ودولية قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، إلى أن ما بين 30 و50 في المئة من سكّان غزة سيُهاجِرون إذا أتيحَت لهم الفرصة. ويجب على إسرائيل وجيرانها أن يعملوا على تهيئة الظروف التي تسمح بمثل هذه الهجرة الطوعيّة، بما في ذلك تمكين الخروج الحرّ والآمن للمدنيين إلى دول ثالثة.
ورغم أن مصر والأردن غير راغبين في قبول أعداد كبيرة من سكّان القطاع، فإنّ دولًا عربية وإسلامية أخرى قد تكون على استعداد للقيام بذلك. وبإمكان الولايات المتحدة تسهيل هذه العمليّة من خلال جعل الاستثمار الأميركي في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا مشروطًا بنقل الحكومة السورية للغزيين لديها وتوظيفهم للقيام ببعض العمل. وعلى المدى الطويل، بمجرّد القضاء على حماس وتجريد قطاع غزّة من السلاح وإعادة بنائها، فإن المدنيين الفلسطينيين الذين يرغبون في العودة إلى قطاع غزّة يمكنهم أن يفعلوا ذلك، طالما احتفظت إسرائيل بالمسؤولية الأمنيّة على المنطقة.
تعترف استراتيجيّة الأمن القومي الإسرائيلية الجديدة بالدور المركزي الذي تلعبه الأيديولوجيّة في تحفيز أعدائها. في الماضي، قلّلت النخب العلمانيّة في إسرائيل إلى حدٍ كبيرٍ من أهميّة الأيديولوجيّات الإسلامية المتطرّفة. لقد فشلت هذه المحاولة؛ ولذلك، فإن القادة الإسرائيليين اليوم يُصَمّمون نهجهم الجديد على أساس أن أيديولوجيّة حماس قد شكّلت بعمق النظرة العالميّة لكثير من سكّان قطاع غزّة. وإذا أخَذنا في الاعتبار أن متوسّط الأعمار في غزة هو 18 عامًا، وأن حماس سيطَرت على غزة قبل 18 عامًا، فإن نصف السكّان على الأقل نشأوا في ظلّ حُكم حماس واستوعبوا رسالة المجموعة من خلال المدارس والمساجد والمنافذ الإعلاميّة التي تسيطر عليها حماس.
ويجب على إسرائيل أن تسعى إلى تنفيذ برنامج طويل الأمَد لمكافحة التطرّف، بما في ذلك إدخال مناهج تعليميّة جديدة، ومنع الزعماء الدينيين أو الشخصيات الإعلامية من الترويج للإرهاب، وتمكين الزعماء الجُدُد الذين يروّجون للتعايش. وسوف تحتاج إسرائيل إلى الإصرار على أن يكون الفاعلون المسؤولون عن الإدارة المدنيّة في غزة مُلتَزمين بتعزيز ثقافة السلام والاعتدال وليس ثقافة الإرهاب والتطرّف.
وينبغي أن تنطبق مبادئ مُماثِلة على نهج إسرائيل في التعامل مع الضفة الغربية. لقد فشلت اتفاقيّات أوسلو، التي كانت تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، في حلّ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني؛ وبدَلًا من ذلك، أشارت إلى الزعماء الفلسطينيين بأن إسرائيل ضعيفة ويمكن الضغط عليها للتنازل عن بعض الأراضي. والآن، تتّخذ إسرائيل موقفاً أكثر حزمًا لمنع الجماعات المُعادِية من العمل على حدودها وتهديد مُواطِنيها. لا يثق الإسرائيليون بالسلطة الفلسطينية، التي تُدير الضفة الغربية، بسبب الفساد المنهجي فيها ودعمها للإرهاب. بدَلًا من تقديم تنازلات أمنيّة في محاولة لمنع انهيار السلطة الفلسطينية لمجرّد أن السلطة الفلسطينية أفضل من حماس، فإنّ النهج الأمني الجديد لإسرائيل يدعو إلى تكثيف العمليّات العسكرية في عمق الضفة الغربية، ومنع الفلسطينيين من بناء البنية الأساسيّة المخصّصة لدعم الإرهاب، والحفاظ على وجود عسكري طويل الأمَد في المناطق التي تعمل فيها الجماعات الإرهابيّة.
أصبح معظم الإسرائيليين يعتقدون بعد هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل أنّ السلطة الفلسطينية ليست شريكًا للسلام قادرًا على ضمان أمن إسرائيل. ولا يمكن تطبيق حلّ الدولتين لأن قادة السلطة الفلسطينية والعديد من الفلسطينيين يُواصِلون رفض شرعيّة وجود إسرائيل. وأظهَر استطلاع للرأي أجرِي في مايو/أيار 2025 أن ما يقرب من نصف الفلسطينيين في الضفة الغربية يعتقدون أن الكفاح المسلّح هو أفضل وسيلة للوصول إلى الدولة الفلسطينية. إنّ أيّ نوع من الحلول الدائمة المقبولة بالنسبة لإسرائيل سوف يتطلّب من الفلسطينيين رفض الإرهاب قولًا وفعلًا، والالتزام بقبول إسرائيل كدولة يهوديّة ذات سيادة.
يتعيّن على إسرائيل اليوم من أجل المضي قُدُمًا في الضفة الغربية أن تُطَبّق رسميًا قوانينها المحليّة، وليس القوانين العسكرية، على وادي الأردن، الذي يشكّل ما يصل إلى 30% من الأراضي ويقع في معظمه تحت السيطرة الإسرائيلية. ونظَرًا للأهميّة البالغة التي يمثّلها وادي الأردن بالنسبة لأمن إسرائيل، فإنّ مثل هذه الخطوة من شأنها أن توضِح أن إسرائيل تنوي الاحتفاظ بهذه المنطقة في إطار أيّ اتفاق سياسي مستقبلي؛ وهو الموقف الذي يحظى بإجماع واسع في إسرائيل. ورغم أن بعض المُنتَقِدين قد يزعمون أن هذه الخطوات من شأنها أن تنتهك القانون الدولي، فإن إسرائيل تنظر على نطاق واسع إلى الضفة الغربية باعتبارها أرضًا مُتَنازع عليها، وأن إسرائيل تملك قضية قانونية ودبلوماسية وتاريخية قويّة للسيطرة السياديّة عليها. ولذلك ينظُر القادة الإسرائيليون إلى هذه القضية باعتبارها مُطالَبة سياديّة مشروعة وليس مُحاوَلة لضم أراضي الآخرين.
شركاء خارج الحدود
كانت مذبحة السابع من أكتوبر بالنسبة للإسرائيليين بمثابة تذكير مؤلم بأن إسرائيل لا تزال تُقاتِل من أجل وجودها. الاستنتاج الذي توصّل إليه صنّاع القرار، والذي يؤيّده الكثير من الجمهور، هو أن إسرائيل يجب أن تتبنّى نهجًا أمنيًا جديدًا مبنيًا على القوّة، وإبراز النفوذ، والجهود الاستباقيّة لضمان سلامتها. سيتطلّب التزام إسرائيل بإظهار قوّتها منها تغيير نهجها تجاه الشراكات لحماية استقلاليّتها الاستراتيجيّة.
ويؤمِن القادة الإسرائيليون بالتعاون مع الدول العربية والإسلامية؛ ولكنهم لن يفعلوا ذلك على حساب المصالح الأمنيّة الحيويّة. وتلتزم إسرائيل بتعزيز الاتفاقيّات الإبراهيميّة والعمل مع أيٍ من شركائها الحاليين، بما في ذلك البحرين ومصر والأردن والمغرب والإمارات العربية المتحدة، لتعزيز التنمية الإقليمية ومواجهة إيران والجماعات الإسلامية السنيّة. وتهتم إسرائيل أيضًا بتعزيز المبادرات متعدّدة الأطراف، مثل المَمَرّ الاقتصادي الهندي-الشرق الأوسط-أوروبا، وهو طريق تجاري مقترح يمتد من الهند إلى أوروبا. ولكن القادة الإسرائيليين يظلّون حذِرين في العمل مع الزعماء الإقليميين الذين قد يحملون أيديولوجيّات جهادية مُعادِية لإسرائيل، مثل الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كان ينتمي في السابق إلى أحد فروع تنظيم القاعدة.
وتظلّ الولايات المتحدة الحليف الأكثر أهميّة لإسرائيل، وتستمر في تأديّة دور مركزي في النموذج الأمني الجديد لإسرائيل. ولكن يتعيّن على إسرائيل إعادة مُعايَرة أجزاء من علاقتها مع واشنطن لخلق المزيد من المساحة للاستقلال الاستراتيجي. أظهَرت تصرّفات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لمنع أو إبطاء بيع بعض المعدّات العسكرية لإسرائيل، والدعم المستمر من بعض المُشَرّعين الأميركيين لفرض قيود أخرى على مبيعات الأسلحة لإسرائيل، حاجة إسرائيل إلى توسيع إنتاجها العسكري المحلّي، وتنويع شراكاتها العسكرية، وتعزيز سلاسل التوريد الخاصّة بها. وعلى الرّغم من أن ترامب دعَم إسرائيل وزوّدها بالمساعدات العسكرية، فإن القادة الإسرائيليين يُدرِكون أنهم يجب أن يُطَوّروا شراكات وقدرات جديدة خارج الولايات المتحدة.
ولتحقيق هذه الغاية، يتعيّن على إسرائيل أن تستثمر بكثافة على مدى العقد المقبل في تعزيز قدراتها في البحث والتطوير والتصنيع العسكري. وتستطيع إسرائيل أيضًا أن تُعَزّز مَكانتها في شراكتها الاستراتيجيّة مع الولايات المتحدة، من خلال التحوّل تدريجيًا بعيدًا عن الاعتماد المُفرط على التمويل العسكري الأميركي نحو المشاريع المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. تُقَدّر إسرائيل عاليًا تحالفها مع الولايات المتحدة، بما في ذلك في مجال التكنولوجيا المتقدّمة وتبادل المعلومات الاستخباراتيّة؛ ولكن في نهاية المطاف، فإن النهج الإسرائيلي الجديد يتطلّب أن تكون إسرائيل قادرة على التصرّف بمُفردها إذا لم يكن أمامها خيار آخر.
ومن خلال تبنّي استراتيجيّة تُعطي الأولويّة للمخاوف الأمنيّة الحقيقية على الدبلوماسية المُتَمَنّيَة والتدخّل الاستباقي على ضبط النفس التفاعلي، فإن إسرائيل تجعل نفسها أقوى، وليس أضعف. لن تتمكّن إسرائيل من تحقيق الازدهار إلّا إذا أصبحت حدودها آمِنة، وأزيلت التحدّيات الوجوديّة من محيطها، وأصبحت شراكاتها الإقليميّة أكثر عمقًا. ورغم سعي إسرائيل إلى تحقيق السلام، فإنها يجب أن تُدرِك الحاجة المستمرّة إلى العمل العسكري في مواجهة التهديدات الإقليميّة. وما دام القادة الإسرائيليون يُواصِلون تبنّي هذا النموذج الجديد، فسوف يحمي إسرائيل ويخلق الظروف اللازمة لشرق أوسط أكثر استقرارًا وازدهارًا في المستقبل.
* المقال مُتَرجَم عن موقع "فورين أفيرز" ولا يُعَبّر بالضرورة عن رأي عرب 48.
2025-11-25 00:14:07 | 50 قراءة