النكبة الفلسطينية ودورها في تجديد الهويّة الوطنيّة الفلسطينية بين 1948 و 2025*
*يحيى الدايخ: كاتب ومُحلّل سياسي
في 15 مايو 1948، وقَعت النكبة الفلسطينية، الحدَث الذي غيّر مصير شعب بأكمله، حيث تمّ تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني قسرًا من مُدنهم وقُراهم، وتدمير مئات البلدات الفلسطينية. ومع أنها شكّلت كارثة إنسانية كبرى، إلّا أن النكبة تحوّلت أيضًا إلى عامل جوهري ومحوري في تشكّل الهويّة الفلسطينية الحديثة، وأصبحت رمزًا للمظلومية، والمقاومة، والاستمرارية في النضال من أجل التحرّر والعودة.
*أوّلاً: النكبة كتحوّل تاريخي في الهويّة الوطنية
1. قبل النكبة:
كان الوعي الوطني الفلسطيني في طور التشكّل في ظلّ الانتداب البريطاني، والمقاومة ضدّ هجرة اليهود والاستيطان الصهيوني. وكانت الهويّة الوطنية الفلسطينية تتداخل مع الهويّات المحليّة والإقليميّة (عربياً وإسلامياً).
2. بعد النكبة:
تَركَّز الوعي الجماعي حول مفهوم "اللاجئ"، والذي أصبح قلب الهويّة الفلسطينية. لقد لعبت النكبة دورًا رئيسياً ومهماً في توحيد الفلسطينيين حول سرديّة مشتركة تتمحور حول "حق العودة" و"التحرّر من الاحتلال واستعادة الأرض".
3. النكبة والشتات:
أسهم الشتات الفلسطيني في حفظ والحفاظ على الذاكرة الجمعية الوطنية، من خلال الرواية الشفوية والتعليم؛ وكذلك المخيّمات التي أصبحت "خزّانات للهويّة الفلسطينية المتجدّدة". فتشكّلت منظّمات عسكرية-سياسية انضوت تحت مظلّة منظمة التحرير الفلسطينية بُعيد النكبة، مُستندة إلى رواية الظلم والحق التاريخي المُنتزع وحق تحرير الأرض.
*ثانيًا: النكبة كمنصّة لإعادة بناء الوعي المُقاوم
مثّلت النكبة بداية مرحلة لإعادة بناء الوعي المقاوم الفلسطيني من خلال:
1. من السقوط إلى النهوض:
برغم المأساة، أظهرت النكبة قدرة الفلسطينيين على التكيّف والنجاة. وبالتالي خرَج من رحم النكبة جيل جديد من الفدائيين والمُناضلين أكثر منعة ضدّ الاختراق الثقافي، وأشدّ صلابة في مقاومة الاحتلال (مثل انطلاق حركة فتح في الستّينيات؛ ومن ثمّ بعد اتفاقات أوسلو حركتي حماس والجهاد الإسلامي وباقي الفصائل الفلسطينية المقاومة والرافضة لاتفاقيات أوسلو).
2. النكبة في الخطاب السياسي والمقاوم:
لقد أصبحت "النكبة" مصطلحًا يحمل طابعًا ومفهوماً تعبويًا ونضاليًا، يظهر في الكتابات الروائيّة والقصصيّة والأشعار، والخطاب السياسي، وأدبيّات المقاومة؛ ممّا أسّس لربط النكبة بالنضال المعاصر، باعتبارها أصل كلّ الصراعات المُعاصرة بين الحق والباطل، بين المظلومين والمُستكبرين؛ وبالتالي فإنّ معالجتها هي مدخل لأي حلّ سياسي.
3. رمزيّة النكبة في الانتفاضات الفلسطينية:
خلال الانتفاضتين (1987، 2000) وحصار غزة، وصولاً إلى الحرب الأخيرة عليها، استُحضِرت النكبة كأداة لتوحيد الوعي، والتأكيد على الاستمرارية النضالية؛ فتلقّفتها أجيال لم تعش النكبة المباشرة، لكنها وُلِدت في سياقها واستلهمت منها الشرعية السياسية والميدانية لمواجهة الاحتلال.
*ثالثًا: تجديد الهويّة من خلال الثقافة والذاكرة الجمعيّة
1. المخيّمات كحاضنات هويّة:
لقد تحوّلت المخيّمات إلى فضاءات للحفاظ على السرديّة الفلسطينية، حيث يتم تعليم الأطفال عن قُراهم الأصلية رغم أنهم لم يروها، مع انتشار ظاهرة توريث مفاتيح البيوت للدلالة على حق العودة وحق تحرير فلسطين.
2. الفن والمقاومة الثقافية:
لقد نشأت حركة فنيّة وأدبيّة وثقافية واسعة عبّرت عن المأساة، لكنها أيضًا جسّدت الصمود، كأعمال غسّان كنفاني، محمود درويش، وناجي العلي.
3. المسيرات السنوية وإحياء ذكرى النكبة:
أصبحت مسيرات العودة، والفعاليات السنوية طقوسًا وموروثاً سياسياً وثقافياً، لتجديد الهويّة الوطنية، وتعزيز حق العودة كجزء لا يتجزّأ من أيّ حلّ مستقبلي.
*رابعًا: النكبة والانتصار الرمزي والمعنوي على الاحتلال
1. من السرديّة الإسرائيلية إلى السرديّة الفلسطينية:
في العقود الأخيرة، نجح الفلسطينيون في فرض روايتهم حول النكبة في الأوساط الأكاديمية الثقافية والاجتماعية والإعلامية الدولية، فأصبح مصطلح "النكبة" مُستخدمًا في أبحاث ومؤسسات عالمية، مُتحدّيًا الرواية والسرديّة الصهيونية حول قيام "إسرائيل".
2. النكبة كقوّة دافعة للنضال القانوني والحقوقي:
إن ملفّات: اللاجئين، والمُمتلكات المُصادرة، وحق العودة، أصبحت أدوات قانونية تُستخدَم في المحافل الدولية لإظهار الحق الفلسطيني. أما على الصعيد الأممي، فمؤسّسات حقوق الإنسان تُوثّق النكبة كمشروع تطهير عِرقي، ممّا أسهم في إحراج الكيان المؤقّت دبلوماسيًا، وإظهار كذب ادّعاءاته الأخلاقية.
3. النكبة كعنصر ثبات في الوعي المقاوم:
رغم محاولات التطبيع من السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية، ومحاولات تحويل الصراع من عربي - إسرائيلي إلى صراع فلسطيني - إسرائيلي، بقيت النكبة مركزًا للوعي الجمعي؛ بل تجدّدت بأشكال مثل "نكبة غزة حالياً"، ما يُرسّخ سرديّة الاستمرار والمقاومة والحق بالعودة وتحرير الأرض، لا الانقطاع والمُهادنة والاستسلام، ليتحوّل الصراع إلى صراع أممي يُعَبّر عن مظلومية الشعوب ضدّ الاحتلال والاستكبار العالمي.
إن أحداث السابع من أكتوبر 2023، والتي تمثّلت في عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، كانت نقطة تحوّل فارقة في مسار القضية الفلسطينية. لم تقتصر تداعيات هذه الأحداث على الجانب العسكري فحسب، بل امتدّت لتشمل تجديد الهويّة الوطنية الفلسطينية وتعزيز الإحساس بالانتصار، ليس عسكرياً فقط؛ بل بالانتصار الرمزي والمعنوي في مواجهة الاحتلال، وكشف هشاشته وإمكانية هزيمته وتحرير الأرض.
*خامساً: تجديد الهويّة الوطنية الفلسطينية
1.الهزّة في الوعي الجمعي:
لقد أدّت أحداث 7 أكتوبر إلى هزّة عميقة في الوعي الفلسطيني، حيث أعادت تعريف الفلسطيني كمُقاوم وفاعل في الساحة العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
2. تعزيز التلاحم الشعبي:
أسهمت النكبة وامتدادها، وصولاً إلى حرب غزة الحالية، في صنع تلاحم شعبي غير مسبوق بين الفلسطينيين في الداخل ( غزة، الضفة وأراضي 48) والشتات، ممّا عزّز الروابط الوطنية، ووحّد الصفوف في مواجهة التحدّيات.
*سادساً: الانتصار الرمزي والمعنوي (الاستراتيجي)
1. إبداع المقاومة عسكرياً:
أظهَرت المقاومة الفلسطينية تطوّرًا ملحوظًا في تكتيكاتها وأساليبها، ممّا عكَس نضجًا واستعدادًا عاليًا في مواجهة الاحتلال؛ وهذا ما دفَع الاحتلال إلى تغيير عقيدته القتالية من ردع القدرة إلى منع القدرة.
2. التأثير الثقافي والإعلامي:
من خلال ما تتعرّض له غزة من مجازر وإبادة وجرائم، حضرت فلسطين بقوّة في المَحافل الثقافية والاجتماعية والأكاديمية الدولية والعالمية، حيث استحوذت غزة على عناوين العديد من الكتب والفعاليات والمنتديات والأكاديميات الثقافية والاجتماعية، ما أسهم في تعزيز وإظهار ومساندة مظلوميّة وأحقيّة الرواية الفلسطينية عالميًا.
*سابعاً: مواجهة محاولات طمس الهويّة
1. سياسات الاحتلال في القدس والضفة:
بعد 7 أكتوبر، صعّدت سلطات الاحتلال من سياساتها الهادفة إلى تغيير الواقع الديموغرافي في القدس والضفة الغربية، من خلال التوسّع الاستيطاني والسيطرة على الأرض، ممّا يهدّد الهويّة الثقافية والاجتماعية للفلسطينيين في المدينة.
2. استهداف القطاع الثقافي:
لقد طال العدوان الإسرائيلي ليس الحجر والبشر فقط، إنما القطاع الثقافي والاجتماعي الفلسطيني، حيث وضع مناهج ثقافية تعليمية تدعم سرديّته، واغتال الكثير من الكتّاب والفنّانين، وأنتج العديد من الأفلام والمسلسلات التي تدعم روايته، ودُمّرت العديد من المؤسسات الثقافية والإجتماعية، ما يعكس محاولة الاحتلال لطمس الهويّة الثقافية الفلسطينية. وبالتالي، فإن أحداث السابع من أكتوبر 2023 لم تكن مُجَرّد مواجهة عسكرية، بل كانت علامة ومحطّة فارقة أعادت تشكيل الهويّة الوطنية الفلسطينية، وعزّزت من الإحساس بالانتصار الرمزي والمعنوي في مواجهة الاحتلال.
ورغم التحدّيات والعدوان المستمر، فقد أظهرت تلك الأحداث قدرة الفلسطينيين على الصمود والتجدّد، بما يؤكّد أن النكبة في سنة 1948 لم تكن النهاية، بل البداية لمسار نضالي مستمر نحو التحرّر والكرامة.
الخاتمة:
ليست النكبة هي نهاية القضية الفلسطينية، بل هي البداية لهويّة فلسطينية مُتجدّدة ومُتجذّرة في وجه محاولات المحو الإسرائيلية والأمريكية، وكذلك بعض الدول العربية التي تدور في الفلك الأمريكي-الإسرائيلي.
لقد أسّست النكبة لوعي جمعي فلسطيني مُوَحّد، تجاوز الجغرافيا، والسياسة، لتصبح النكبة ثقافة، وحوّل المأساة إلى مشروع نضال طويل الأمَد حتى التحرير.
وفي ظل التحدّيات الراهنة، لم تعد النكبة مجرّد ذكرى، بل باتت أداة سياسية عسكرية وثقافية واجتماعية مُتجدّدة، وتتطوّر باستمرار، لتأكيد حق الوجود الفلسطيني، وحق العودة، وحق تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، واستعادة الأرض المحتلّة وكل الحقوق، وتحقيق الانتصار على الاحتلال، ولو على المدى الطويل.
المراجع:
- [ذاكرة النكبة وتأثيراتها في تبلور الهويّة الفلسطينية – مركز دراسات الوحدة العربية](https://caus.org.lb/nakba-and-palestinian-identity/)
- [دور النكبة في تأسيس الهويّة الوطنية الفلسطينية – Fanack](https://fanack.com/ar/opinion/features-insights/nakbas-role-in-forming-the-pal
- اقتباسات:
1. عربي21: arabi21.com/story/1601032/%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-7-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1-2023-%D9%87%D8%B2%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A?utm_source=chatgpt.com
2. Wafa News Agency: www.wafa.ps/pages/details/105071?utm_source=chatgpt.com
3. Palestine Studies: www.palestine-studies.org/ar/node/1656385?utm_source=chatgpt.com
2025-05-21 12:36:17 | 105 قراءة