التصنيفات » مقالات سياسية

أزمة مُمتدّة: كيف تُفَسّر السّمات الفكرية والشخصية خلافات ترامب ونتنياهو؟

أزمة مُمتدّة: كيف تُفَسّر السّمات الفكرية والشخصية خلافات ترامب ونتنياهو؟

سعيد عكاشة

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
(22/5/2025)

ليس من قبيل الاختزال أو التبسيط المُخِل، تقييم ما يجري من تفاعلات بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" مؤخّراً، من منظور الخصائص الشخصية التي تجمع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. فعلى الرغم من أن النّظم الديمقراطية عادةً ما تمنح السلطتين التشريعية والقضائية صلاحيّات رقابيّة على السلطة التنفيذية، بما يؤدّي إلى ترشيد قرارات الأخيرة، ويمنع انحرافها عن تحقيق مصالح الدولة العليا؛ فإنّ الحقائق التي أظهَرتها الفترة الطويلة لنتنياهو كرئيس للحكومة الإسرائيلية منذ عام 2009 (مع انقطاعات قليلة لم تزد عن عام واحد)، والولاية الرئاسية الأولى لترامب، قد جسّدت واقع التأثير القوي للجانب الشخصي في تكوين كلٍ من ترامب ونتنياهو في عملية اتخاذ القرار، في السياستين الداخلية والخارجية للبلدين.
وعندما تَتشابه خصائص شخصيتين قياديّتين في بلدين مختلفين، في تصوّراتهما عن كيفيّة إدارة السياسات العامة لبلديهما، وهو ما ينطبق على ترامب في واشنطن ونتنياهو في تل أبيب؛ يُصبح السؤال عن تأثير هذا التشابه في العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية، له مُبرّراته ووَجاهته. ولكن، ما حدود التوافق والاختلاف حالياً بين ترامب ونتنياهو في الملفّات التي تهم مصالح البلدين معاً، وهل هذا التوافق أو الاختلاف مؤقّت أم دائم؟ وأخيراً، ما مستقبل تلك العلاقة بينهما في المدى المنظور؟
عوامل شخصية:
من خلال تتبّع السيرة الذاتية لكلٍ من ترامب ونتنياهو، يُلاحَظ أن ثمّة أوجه تشابه بينهما في أسلوب التفكير، تتّضح في الآتي:
1- جيل الحروب: ينتمي كلٌ من ترامب ونتنياهو إلى جيل واحد، شهد أوْج انتصار بلديهما في حروبهما الخارجية، حيث ولِد ترامب عام 1946 عقب صعود الولايات المتحدة كقوّة عظمى، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945، فيما ولِد نتنياهو عام 1949 بعد الانتصار على التحالف العربي الذي استهدف منع إقامة الدولة اليهودية عام 1948؛ ممّا عزّز قناعتهما بأن القوّة وحدها هي السبيل لتحقيق الأهداف القومية لبلديهما.
2- القوّة في مواجهة الخصوم: على الرغم من تعرُّض الولايات المتحدة للانكسار في حرب فيتنام، واضطرارها إلى الانسحاب من هناك عام 1975، وتعرُّض "إسرائيل" للهزيمة في حرب أكتوبر عام 1973، وما ترتّب عليها من انسحاب إسرائيلي من أجزاء من الأراضي العربية التي احتلّتها عام 1967؛ فقد بقِي ترامب ونتنياهو، حتى من قَبل دخولهما لعالم السياسة، على قناعتهما بأن القوّة وحدها، والنجاح في فرض إرادتهما على الخصوم والأصدقاء على حدٍ سواء، هو ما يُحَقّق الأهداف المَرجوّة، وليس الحوار أو الحلول الوسط؛ لذلك اتّبع ترامب، في ولايته الأولى، سياسة "الصفقة" عوضاً عن "التفاوض"، بحيث يتم وضع الخصوم أمام أحد خيارين: إما قبول الصفقة المعروضة من جانبه دون تعديل، أو مواجهة العقوبات الشديدة وصولاً إلى استخدام القوّة ضدّهم. وهذا ما اتّبعه أيضاً نتنياهو في مُعالجة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث عمل على إفشال حلّ الدولتين عملياً (بالرغم من قبوله كمناورة سياسية عام 2009)؛ واستخدم القوّة المفرطة ضدّ الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، عارضاً بديلاً واحداً، وهو حكم ذاتي للفلسطينيين غير مُرَشّح للوصول إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلّة مستقبلاً.
3- الشخصيّة وليس المؤسسيّة: لا يؤمن ترامب ونتنياهو بالعمل المؤسّسي، ويحاول كلاهما تطويع مؤسّسات الدولة لإرادته الشخصية، حيث عبّر ترامب، في ولايته السابقة، عن ازدرائه لمؤسّسات الدولة العميقة، مثل أجهزة الاستخبارات، وعلى رأسها وكالة الاستخبارات المركزية CIA؛ كما هاجم الكونغرس والمحكمة العليا في مواقف عديدة، مُتّهماً إيّاهما بعرقلة مشاريعه لاستعادة "العظَمة الأمريكية". وقبل عودته إلى البيت الأبيض، حَوّل ترامب شعار "جعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى" إلى مؤسّسة تقوم على المؤيّدين لرؤيته بشكل مُطلق، واختار معظم أعضاء إدارته الحالية ممّن ينتمون لتلك المؤسّسة، أو المؤمنين بنفس الشعار من خارجها.
وعلى نفس النهج، دَخَل نتنياهو، خلال فترة تولّيه رئاسة الحكومة الإسرائيلية لسنوات طويلة، في صدام مع مؤسّسات "الدولة"، خاصةً الجيش والأجهزة الأمنية ووزارة الخارجية. كما أنه حَوّل حزب الليكود إلى مؤسّسة خاضعة بالكامل لنفوذه، بعد نجاحه في إقصاء كلّ مُنافسيه على رئاسة الحزب.
4- تفضيل "الصدَمات": يؤمن ترامب بأن أسلوب "الصدَمات" هو الأمثل في معالجة قضايا السياسة الخارجية، عبر عرض حلول تتّسم بعدم الواقعية لمعالجة هذه القضايا، مثل حديثه المتكرّر عن ضم كندا للولايات المتحدة، أو ترحيل سكّان قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا شرق أوسطية". ومن ناحيته، يعتقد نتنياهو أن "صدمة" العنف المُفرط الذي مارسته إسرائيل ضدّ سكّان غزة عقب هجوم حركة حماس عليها في 7 أكتوبر 2023، والدمار الشامل الذي ألحقته بالقطاع؛ لن يؤدّيا فقط إلى خروج الفلسطينيين بشكل طوعيّ من هناك، بل سَيُنهيان للأبد إمكانية قيام دولة فلسطينية مُستقبلاً، وسيُعَجّلان في الوقت نفسه بإقامة علاقات طبيعية مع معظم البلدان العربية والإسلامية، من وجهة نظره.
وبالتالي، أفضَت أوجه التشابه تلك في التكوين الشخصي والفكري لكلٍ من ترامب ونتنياهو، إلى نوع من العلاقة التي تتّسم بثنائيّة تحتوي على النقيضين؛ التوافق والاختلاف. وكنتيجة طبيعية لاعتبار كليهما أن القوّة وفارق القدرات هي المُحدّد لنوع العلاقة بين أيّ طرفين، تَوافق ترامب ونتنياهو على مُمارسة الضغوط المشتركة على الجهات التي تُعارض سياستيهما، ولم يحسب نتنياهو أن نفس المعادلة يمكن أن تنطبق عليه عندما يظهر الخلاف بينه وبين ترامب؛ وهو ما يمكن مُلاحظته بوضوح في الولاية السابقة لترامب، وما مضى من ولايته الحالية حتى اليوم.
التوافق والاختلاف:
خلال ولاية ترامب السابقة، كانت سِمَتا التوافق والاختلاف حاضِرتين بجلاء، وإن تغلّب عنصر التوافق فيما يتعلق بالموقف الأمريكي من القضايا التي تمس المصالح الإسرائيلية؛ وهو ما ظهَر في الاستجابة للمَطلب المُلِح من جانب نتنياهو للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، وزيادة الضغط الأمريكي لمنع إيران من تصنيع أسلحة نووية عبر الانسحاب من اتفاق عام 2015 وإعادة فرض العقوبات المُشَدّدة عليها؛ فضلاً عن خلق مسار السلام الإبراهيمي لتوسيع اتفاقيات السلام بين العرب و"إسرائيل".
وعلى الرغم من المكاسب التي حقّقها نتنياهو من سياسة التوافق الأمريكي - الإسرائيلي؛ فإنّ الصراع المكتوم بينه وبين ترامب كان واضحاً أيضاً في عدّة ملفّات؛ بل في الملفّات المُتَوافق عليها أصلاً، وهو ما توضحه النقاط التالية:
- عدم رضا إسرائيل عن احتواء ما سُمّي بـ "صفقة القرن"، التي قَدّمها ترامب عام 2020، على نص يقرّ بضرورة إقامة دولة فلسطينية في نهاية مرحلة انتقالية محدودة.
- قبول "إسرائيل" على مَضض بسياسة "الضغط الأقصى" التي أعلنها ترامب عام 2018 ضدّ إيران؛ إذ كانت تنتظر من الولايات المتحدة استخدام القوّة، وليس منح طهران فرصة أخرى لزيادة مخزونها من المواد اللازمة لتصنيع أسلحة نووية.
- رفض ترامب لمُخَطّط إسرائيلي يدفع في اتجاه الإعلان عن ضم الضفة الغربية رسمياً لإسرائيل، رداً على رفض السلطة الفلسطينية لـ"صفقة القرن".
ومع نهاية ولاية ترامب الأولى، تدهورت العلاقة بينه ونتنياهو، بعد أن بادَر الأخير بتهنئة جو بايدن بفوزه في السباق الرئاسي في نوفمبر 2020، في الوقت الذي كان فيه ترامب يُعلن عن عدم اعترافه بنتائج هذه الانتخابات. واعتبر ترامب حينها أن موقف نتنياهو تجاهه قد اتّسم "بالخيانة ونكران الجميل".  
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، بدا أن الاختلاف قد يكون هو الأكثر هيمنة في علاقة ترامب مع نتنياهو، ليس فقط لرغبة الأوّل في الانتقام من نتنياهو بعد تهنئته لبايدن عام 2020؛ بل لأن ترامب تحوّل نحو التشدّد في فرض إرادته، ليس على الخصوم فقط؛ بل أحياناً على الأصدقاء أيضاً، ومنهم "إسرائيل"، للإسراع بتحقيق وعوده الانتخابية، وعلى رأسها وقف الحروب في العالم، والتركيز على دعم الاقتصاد الأمريكي، كتأكيد لاستعادة الولايات المتحدة مكانتها كقوّة عظمى وحيدة في العالم.
وفي بداية ولايته الحالية، قَدّم ترامب لتل أبيب حوافز عديدة مُقابل موافقتها على هدنة مع حركة حماس، حيث رفَع الحظر الذي كانت إدارة بايدن قد فرضته على بعض الذخائر والأسلحة التي تطلبها "إسرائيل". كما رفَع العقوبات التي فرَضها بايدن على بعض قيادات الاستيطان في "إسرائيل"، وأعلن بوضوح أن الولايات المتحدة لن تقبل ببقاء "حماس" في حكم القطاع، وضغَط على مصر والأردن في مُحاولة للقبول بتهجير سكّان غزة نحو أراضيهما؛ وهو ما قُوبل بالرفض من جانب البلدين.
ولم تدم تلك السياسة طويلاً؛ إذ تَحَوّل ترامب، مع انهيار الهدنة بين "حماس" و"إسرائيل" في مارس الماضي، نحو مُمارسة سياسة "الضغط الأقصى" على تل أبيب من أجل وقف الحرب على غزة، والبحث عن اتّباع وسائل أخرى لتحقيق نفس أهدافها. وتمثّل هذا الانقلاب من التوافق إلى الاختلاف في التطوّرات التالية:
1- إعلان ترامب عن بدء المفاوضات بين واشنطن وطهران للتوصّل إلى اتفاق جديد مع إيران، بالمُخالفة لما كان نتنياهو يُطالب به باستخدام القوّة لتفكيك المشروع النووي الإيراني بأكمله، وليس الاكتفاء بمجرّد خفض مُعَدّلات التخصيب في مفاعلاتها.
2- رفض ترامب استثناء "إسرائيل" من الدول التي تمّ فرض تعريفات جمركية مُرتفعة على صادراتها إلى الولايات المتحدة.
3- قيام ترامب بجولة ناجحة في الشرق الأوسط، شملت السعودية ودولة الإمارات وقَطَر، وتجاهله ضم "إسرائيل" للجولة؛ بل وتوقيعه اتفاقيات مع دول الخليج الثلاث، شملت مبيعات سلاح متطوّر لها، دون ربط ذلك، كما كان الأمر في السابق، بمُوافقة "إسرائيل". وتجاهَل ترامب طلَب تل أبيب بأن تكون تنمية العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين واشنطن ودول الخليج مَرهونة بإقامة الأخيرة علاقات مع "إسرائيل".
4- الضغط على "إسرائيل" للسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، بعد انقطاع دام أكثر من شهر ونصف، وهَدّد بحدوث كارثة إنسانية في القطاع، وذلك من دون الربط بين تلك الخطوة والإفراج عن الرهائن لدى "حماس".
مسارٌ مُحتمل:
على الرغم من غلَبة الاختلاف على التوافق في العلاقات التي تجمع ترامب مع نتنياهو مؤخّراً؛ فإنّ ذلك لا يعني تحوّلاً استراتيجياً في العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية، بقدر ما يعكس الأزمة المتوقّعة بين ترامب ونتنياهو نتيجة الخصائص المشتركة في شخصيّتيهما. ويمكن للأزمة الحالية، إذا ما مَسّت العلاقة بين البلدين، أن تنتهي بعد رحيل أيٍ منهما عن السلطة في بلاده. ويبدو أن الأقرب للخروج من المشهد هو نتنياهو الذي يتعرّض لضغوط داخلية هائلة، وتهديدات من جانب الدول الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على "إسرائيل" إذا ما استمرّت في حربها على غزة، من دون أن تجد حلاً لحماية المدنيين من العمليات العسكرية وتوفير الإمدادات الغذائيّة والطبيّة لهم.
وقد يتّجه ترامب نفسه للاستثمار في الانقسام الداخلي في "إسرائيل"، كي يتخلّص من نتنياهو؛ وهو ما فعَلته إدارة الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، عندما دعمت خصم نتنياهو في انتخابات عام 1999 (إيهود باراك - زعيم حزب العمل آنذاك)؛ واتّهم نتنياهو حينها كلينتون بأنه تآمَر مع بعض الأحزاب المُشاركة في ائتلافه للخروج من الحكومة، وإسقاط الائتلاف. ويبدو أن ترامب قد وصل حالياً إلى نفس الاستنتاج الذي سبق لكلينتون الوصول إليه، وهو استحالة الحفاظ على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط من دون التخلّص من نتنياهو؛ لذلك لن يكون من المُستبعَد قيام ترامب بفتح قنوات مع بعض أحزاب الائتلاف الذي يقوده نتنياهو لدفعهم إلى مغادرته وإسقاط الحكومة الحالية، خاصةً أن الأحزاب الحريدية المشاركة في ائتلاف نتنياهو تُهَدّد بالانسحاب منه بسبب شروع الكنيست في مُناقشة مشروع قانون يقضي باستدعاء أبناء هذه الطائفة للخدمة العسكرية، بينما هي ترفض الخدمة في الجيش، لأسباب عقائدية. 
ولكن، حتى لو نجَح ترامب في إسقاط الائتلاف الحالي، أو بادَر نتنياهو نفسه إلى حلّ الحكومة والكنيست؛ فإن نتنياهو سيبقى بحكم القانون الإسرائيلي رئيساً لحكومة انتقالية (حكومة تصريف أعمال) حتى أكتوبر المُقبل (إذا ما تم حلّ الائتلاف في يوليو المقبل حسب تهديد الحريديم)؛ ويعني ذلك تمديد فرصة نتنياهو في الاستمرار في الحرب على غزة لبضعة أشهر أخرى. ولن يكون أمام ترامب سوى الضغط على نتنياهو بحرمانه من صادرات السلاح والذخائر، وهو ما سيُشَكّل حينها أزمة عميقة في العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، قد تمتد إلى ما بعد حقبة حكم نتنياهو، خاصّةً في ظلّ موقف الرأي العام الإسرائيلي الذي يريد استعادة "الرهائن" من خلال وقف الحرب مؤقّتاً، ثم استئنافها مُجَدّداً لتحقيق الهدف النهائي، وهو القضاء على "حماس"، حتى لو اقتضى ذلك الدخول في مُواجهة سياسية مع الإدارة الأمريكية.

2025-05-28 13:10:19 | 38 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية