التصنيفات » مقالات سياسية

سرديّات جدليّة: الدلالات الدينيّة والسياسيّة لتسميات الحروب الإسرائيليّة*

سرديّات جدليّة: الدلالات الدينيّة والسياسيّة لتسميات الحروب الإسرائيليّة*

*الكاتب: محمد محمود السيّد
-مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة 
30/4/2025

على الرغم من أن حروب التاريخ تحمل أسماءً مميّزة، أو حتى يتم ربطها بتواريخ محدّدة، فإن تسمية الحروب والعمليات العسكرية، بشكل نظامي، تُعَدّ مُمارسة حديثة نسبياً. وتُمارس "إسرائيل" بدورها هذا الأمر منذ عام 1948. ومع تعدّد حروب "إسرائيل" وعملياتها العسكرية، أصبح هناك عوامل يمكن أن تُفسِّر كيفيّة قيام "إسرائيل" بتسمية حروبها وعملياتها العسكرية.
مدخل تاريخي:
رأى الباحث الأمريكي في العلاقات الدولية، بيتر دبليو سينغر، أنه حتى القرن العشرين كان هناك عدد من الاتجاهات لتسمية الحروب التاريخية؛ أبرزها تسمية الحرب باسم المكان الذي اندلعت فيه، مثل حرب شبه جزيرة القرم (1853-1856)، والحرب الكورية (1950-1953). كذلك تسمية بعضها باسم الأطراف المُتحاربة، مثل الحرب الأمريكية - الإسبانية (1898)، والحرب الروسية - اليابانية (1904-1905). وكانت هناك حروب تتم تسميتها باسم جانب واحد من المُتحاربين، وغالباً ما يكون اسماً مميّزاً، مثل حرب الماو ماو (1952-1956)، وحرب البوير (1899-1902).
وهناك أيضاً اتجاه بارز في تسمية الحروب التاريخية وفقاً لتاريخ بدايتها، مثل حرب عام 1812 بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ومستعمراتها في أمريكا الشمالية، وكذلك حرب السادس من أكتوبر 1973 (حرب "عيد الغفران" وفق التسمية الإسرائيلية). وهناك حروب تمّت تسميتها بحسب فترة استمرارها، مثل حرب المئة عام (1337-1453)، وحرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، وحرب يونيو 1967 (حرب "الأيام الستّة" وفق التسمية الإسرائيلية). وأخيراً هناك حروب سُمّيت بأسماء رمزيّة إسقاطاً على بعض مشاهد الحرب أو فصولها، مثل حرب البرتقال (1801)، وحروب الموز (1898-1934)، وحرب أذن جينكينز (1739-1743).
ومن اللافت أن هناك بعض الحروب التي تغيّرت أسماؤها التاريخية في مراحل لاحقة، مثل الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتي عُرِفت في الفترة ما بين الحربين بـ"الحرب العظمى". ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، صارت الحرب الأولى في سلسلة الحروب العالمية.
ومع تطوّر الحروب في القرن العشرين، بدأت الدول والأطراف المُتحاربة في تسمية الحروب والمعارك العسكرية، كمُمارسة نظامية، سواء تمّ ذلك في بداية المعارك، أم أثناءها، أم في مراحل لاحقة بعد انتهائها. وقد تحدّث عن ذلك الأمر تفصيلاً الضابط الأمريكي، غريغوري سي. سيمنسكي، في دراسته "فن تسمية العمليات" (The Art of Naming Operations)، المنشورة عام 1995 في مجلة (Parameters) التابعة للجيش الأمريكي، حيث ذكر سيمنسكي أن مُمارسة تسمية المعارك نشأت مع الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، وذلك كوسيلة للتمييز بين العمليات المُتعاقبة، وللحفاظ على الأمن التشغيلي لتلك العمليات.
وخلال الحرب العالمية الثانية، ومع اتّساع جبهات القتال وتزايد عدد العمليات العسكرية بشكل كبير؛ كانت هناك حاجة أكبر لتمييز المعارك والعمليات العسكرية، فتوصّلت هيئة الأركان المشتركة الأمريكية ووزارة الحرب إلى "فهرس أسماء كوديّة سريّة"، يُوفِّر عشرة آلاف اسم وصفة يمكن إطلاقها على المعارك والعمليات؛ وقد تَجَنّبوا الأسماء الصحيحة للمواقع الجغرافية والسفن.
كذلك كان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، مَفتوناً بالأسماء الرمزيّة للمعارك. وبعد أن صادف العديد من الأسماء الرمزيّة التي اعتبرها غير مُناسبة، ذهَب إلى حد إصدار تعليمات لأحد مُساعديه بتقديم جميع الأسماء الرمزيّة المستقبلية له للمُوافقة عليها. ورأى تشرشل أنه لا ينبغي وصف العمليات التي قد يفقد فيها عدد كبير من الرجال حياتهم بكلمات رمزيّة تنطوي على مشاعر التفاخر أو الثقة المُفرطة؛ ولا ينبغي أيضاً إطلاق مُسمّيات تُضفي جواً من اليأس على الخطّة، أو وضع أسماء ذات طابع تافه. وأطلق تشرشل على عملية "نورماندي" (D-Day invasion of Normandy)، في السادس من يونيو 1944، اسم "عملية أوفرلورد" (Operation Overlord)، بعدما كان من المُفترض أن يُطلَق عليها أسماء أخرى، مثل "المطرقة الثقيلة" و"المطرقة المستديرة".
وجاء التطوّر التالي في هذا الصدد على يد الجنرال الأمريكي، دوغلاس ماك آرثر، الذي قاد القوّات الأمريكية في الحرب الكورية، فكان أوّل قائد عسكري يسمح بكشف أسماء العمليات السريّة ونشرها في الصحافة بمجرّد بدء العمليات، بدَلاً من الانتظار حتى نهاية الحرب؛ وذلك بغرض تعزيز الروح المعنوية لقوّاته، ومحاولة التأثير في تصوّرات العدو للحرب. وفي عام 1975، أنشأ الجيش الأمريكي نظام كمبيوتر يُسهِّل عملية اختيار وتنسيق استخدام أسماء العمليات العسكرية، وأُطلق عليه نظام NICKA؛ لكن في بعض الأحيان تجاهل القادة الأمريكيون اختيارات النظام، ووضعوا أسماءً أخرى لعملياتهم العسكرية؛ فكان من المُفترَض أن يُطلَق على عملية الولايات المتحدة في بنَما عام 1989 اسم "الملعقة الزرقاء"، بَيْد أنه تمّ تغييرها إلى "القضية العادلة".
بشكل عام، يمكن القول إن هناك أربعة مبادئ رئيسية ظهرت خلال القرن العشرين، ونَظّمت تسمية الحروب والمعارك العسكرية؛ أوّلها هو التركيز على أن يكون الاسم ذا معنى ودلالة قويّة وواضحة، تؤسّس لسرديّة الطرف الذي تبنّى هذا الاسم. وثاني المبادئ ارتبط بتحديد الجمهور المُستهدَف من هذه التسمية؛ وهو ما تَرتّب عليه أحياناً وجود أسماء رمزيّة للحروب تختلف عن مُسَمّاها الإعلامي؛ فضلاً عن اختلاف الاسم عند ترجمته من لغة إلى ثانية؛ وهو أمر ظهَر كثيراً في المُمارسة الإسرائيلية، حيث أُطلِق على حرب غزة في يوليو 2014 مُسمّى "الجرف الصامد" باللغتين العبرية والعربية؛ لكن عند ترجمتها إلى الإنجليزية صارت Protective Edge ، أي "الحافّة الواقية". والمبدأ الثالث هو الابتعاد عن نمَط التسميات الذي قد يتمتّع بشعبية مؤقّتة؛ ومن ثمّ يفقد زخمه مع تقدم الوقت. وهو أمر يرتبط بالمبدأ الرابع، الذي يُرَكّز على جعل اسم الحرب لا يُنسى.
جدل إسرائيلي:
تُعَدّ "وحدة الحرب النفسية" في الجيش الإسرائيلي هي المسؤولة عن اختيار الاسم الذي يتم إطلاقه على أي عملية عسكرية. وتختلف المُسَمّيات وفقاً لطبيعة العملية، وسقفها الزمني الذي تُحَدّده القيادتان السياسية والعسكرية. وفي بعض الحالات التاريخية، أسهمت القيادة السياسية في تسمية الحروب، خاصّةً تلك التي تمّت تسميتها في مراحل لاحقة بعد انتهائها.
وغالباً ما يتم توليد أسماء العمليات العسكرية، إمّا عن طريق نظام إلكتروني مشابه للنظام الأمريكي التي سبقت الإشارة إليه، أو عن طريق عسكريين داخل الجيش الإسرائيلي. ففي يوليو 2014، إبّان حرب غزة آنذاك التي أطلَقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد"، صَرّح أفيخاي أدرعي، رئيس قسم الإعلام العربي في وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، بأن "أسماء العمليات يتم اختيارها من خلال الحاسوب، وأحياناً من خلال أشخاص"، مُشيراً إلى أن الجيش خلال مرحلة اختيار الاسم "يجري فحصاً لمدى ملاءمته مع الرأي العام الإسرائيلي والدولي".
وفي بدايات الحرب على غزة في أكتوبر 2023، والتي أطلَقت عليها إسرائيل اسم "السيوف الحديدية"، تحدّثت تقارير عن أن المتحدّث السابق باسم الجيش الإسرائيلي، دانييل هاغاري، اختار هذا الاسم من بين مجموعة من الأسماء التي كان الجيش قد قام بتوليدها بشكل مُسبق. وقد صرّح المتحدّث الأسبق باسم الجيش الإسرائيلي، ران كوخاف، والذي تولّى المنصب في الفترة (2021-2023)، بأنه هو مَنْ توصل إلى هذا الاسم قبل أن يُغادر منصبه في إبريل 2023؛ أي قبل الحرب. لكنّه أشار إلى أن هذا الاسم كان يتناسب أكثر مع عملية عسكرية محدودة تستغرق يومين أو ثلاثة أيام، وليس حرباً طويلة؛ ورأى أنه تمّ "سحب اسم هذه الحرب من الدرج الخاطئ".
ولم تكن تصريحات كوخاف حول "السيوف الحديدية" سوى بداية لجدل استمر طويلاً حول هذا الاسم؛ وهو جدل تاريخي، غالباً ما كان ينشب مع كلّ حرب كبيرة في إسرائيل. ففي ديسمبر 2023، ذكَرت تقارير أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غير راضٍ عن الاسم الرسمي الذي أطلَقه الجيش على حرب غزة، ورأى أنه "غير مُناسبٍ وغير كافٍ لعملية عسكرية"، ودفَع نحو تغييره، واستبداله بمُسَمّى "حرب التكوين". وفي أكتوبر 2024، وبعد مرور عام على نشوب الحرب على غزة، جَدّد نتنياهو رغبته في تغيير مُسَمّاها، مُقترحاً اسماً جديداً، وهو "حرب الإحياء – تكوما"؛ ولكن معارضة بعض الوزراء لهذا الاسم، وإعراض الجيش والرأي العام عن مُناقشة هذا الأمر، حالا دون تغيير مُسَمّى الحرب.
وبَرّر نتنياهو رغبته في تغيير اسم الحرب بأنها "حرب وجوديّة" وتستحق اسماً أفضل، فيما رأى البعض أن نتنياهو يُحاول رسم صورة مُصَمَّمة بعناية للإرث الذي سيتركه خَلْفه. فالحديث عن حرب وجوديّة ربما يجعل الإسرائيليين مُستقبلاً يتناسون الفشل الاستراتيجي والعسكري الذي مُنِيَت به البلاد في عهد نتنياهو في السابع من أكتوبر؛ وقد رأى نتنياهو أن تغيير الاسم هو إحدى الخطوات المهمّة في هذا الصدد.
وتاريخياً، كانت تسمية الحروب في "إسرائيل" عمليّة جدَليّة. وبدأ هذا الجدَل منذ حرب عام 1948، وهي الحرب المعروفة عربياً بـ"النكبة"، وإسرائيلياً بـ"حرب الاستقلال". فبعد سنوات من هذه الحرب، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ، ديفيد بن غوريون، يُطلِق عليها "حرب الانتفاضة"، أو "حرب النهوض"؛ لكن مُسَمّى "حرب الاستقلال" هو ما ظلّ مُستقراً تاريخياً في "إسرائيل".
والجدل الأكبر، الذي كان المجتمع الإسرائيلي جزءاً منه، ظهَر في حرب لبنان الأولى عام 1982، وهي الحرب التي عارضتها شرائح كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي. ورأى المؤرّخون هناك أنها كانت أوّل حرب لأغراض هجومية استيطانية، وليست حرباً دفاعية مثل ما سبَقها من حروب، من وجهة نظَرهم. ولكي تَنفي الحكومة الإسرائيلية آنذاك هذه الفرضيّة، أطلَقت على تلك الحرب - والتي تَصَوّر القادة الإسرائيليون أنها ستكون موجزة- اسم "السلام من أجل الجليل". بَيْد أن المجتمع الإسرائيلي رفض هذا المُسَمّى، اعتراضاً على منطق وسبب الحرب من الأساس؛ لدرَجة أن أُسر بعض الضبّاط الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في هذه الحرب كتَبوا على مَقابرهم أنهم سقطوا في "حرب لبنان" وليس "السلام من أجل الجليل".
واستمرّ ذلك الجدل حتى اندلاع حرب لبنان الثانية في يوليو 2006، والتي أطلَق الجيش على عملياته خلالها مُسَمّيات "المكافأة العادلة" و"تغيير الاتجاه". لكن بعد سبعة أشهر من انتهائها، قامت اللجنة الوزارية للطقوس والرموز، التي كلّفها وزير الدفاع آنذاك، عمير بيريتس، بقياس مشاعر وسائل الإعلام والجمهور. وبناءً على تقريرها، تَبنّى الجيش الإسرائيلي رسمياً مُسَمّى "حرب لبنان الثانية"، في اعتراف بأن حرب 1982 كانت "حرب لبنان الأولى".
وخلال الحرب على غزة، التي اندلعت في يوليو 2014، كانت العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية رافضة للتسمية الرسمية للحرب "الجرف الصامد". وعمَد البعض إلى استبدال هذا المُسَمّى بـ"حرب غزة". وجاء هذا الأمر في ضوء الخسائر غير المتوقّعة والكبيرة التي مُنِي بها الجيش الإسرائيلي آنذاك، والتي كانت غير مُتناسبة مع مُسَمّى الحرب، من وجهة نظر الرأي العام في تل أبيب.
دلالات إسرائيلية:
من خلال تحليل مُسَمّيات حروب "إسرائيل" وعملياتها العسكرية منذ عام 1948، يمكن القول إن هناك أربع دلالات رئيسية لهذه المُسَمّيات، وهي كالتالي:
1- طغيان البُعد الديني: تُعَدّ الرمزية الدينية مُكَوّناً أساسياً من مُكَوّنات الواقع السياسي والعسكري في "إسرائيل" حالياً؛ وهو أمر يتصاعد كلّما زاد حضور المتديّنين في الحياة السياسية. ولم تكن مُسَمّيات الحروب بمنأى عن تلك الرمزية؛ بل كانت تاريخياً التجسيد الأكبر والأبرز لها، حيث تقول داليا غافريلي نوري، الباحثة بجامعة بار إيلان في "إسرائيل"، في خلاصة بحثها حول هذا الأمر: "إن ما يقرب من نصف العمليات العسكرية الإسرائيلية على مدى تاريخها له جذور توراتيّة".
وهذه المُسَمّيات الدينية تتم دراستها بعناية قبل أن تخرج إلى النور، وتُصَمَّم بحيث تكون مُحَرّكاً للجنود الإسرائيليين في مَهامهم العسكرية. فقد حمَل مُسَمّى "حرب الأيام الستّة" عام 1967، صدى توراتياً يتعلّق بالأيام الستّة للخلق. وتمسّكت "إسرائيل" بإطلاق مُسَمّى "حرب يوم الغفران" على حرب أكتوبر 1973، في إشارة إلى أن "إسرائيل" هُوجمت في اليوم الأكثر قدسيّة في التقويم اليهودي.
وحديثاً، أطلَقت "إسرائيل" على حرب غزة عام 2012، اسم "عمود السحاب"؛ وهو مُسَمّى يحمل إشارة توراتيّة. كما أن مُسَمّى "سهم باشان" الذي أطلَقته "إسرائيل" على عمليتها العسكرية في سوريا في ديسمبر 2024، هو اسم مُستوحى من التوراة، ويشير إلى المنطقة الواقعة جنوبي سوريا.
2- دلالات رمزيّة وقوميّة: يرى الكاتب اليهودي الشهير فيلولوغوس، في إحدى مقالاته بموقع "موزاييك"، أن الإسرائيليين يَميلون إلى رفض الأسماء الرمزيّة العسكرية. ومع ذلك، فإنهم يتبنّونها في بعض العمليات المحدودة. ففي أغسطس 2022، أطلَق الجيش الإسرائيلي على عمليته ضدّ "حركة الجهاد الإسلامي" في غزة مُسَمّى "الفجر الصادق"، في إشارة إلى أن "الفجر الذي سيجلبه الجيش الإسرائيلي سيخفي سواد رايات الفصائل الفلسطينية"، وفق ما نشَره الجيش الإسرائيلي في بيانه حول العملية. كذلك جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية ضدّ لبنان عام 2024، تحت مُسَمّى "السهام الشمالية"، وهو اسم يشير إلى عملية محدودة؛ بالنظر إلى أن السهام تُطلَق من مسافات بعيدة؛ واتجاه الشمال هو صوب حزب الله، خاصةً وأن الجيش الإسرائيلي أطلَق عليها رسمياً "عملية" وليست "حرب".
وبالتوازي مع ذلك، مالَ الجيش الإسرائيلي في بعض الأحيان إلى تبنّي مُسَمّيات لعملياته العسكرية، تحمل دلالات قوميّة؛ حيث أطلَق على حرب غزة (ديسمبر 2008 – يناير 2009) مُسَمّى "الرصاص المصبوب"، والذي جاء من قصيدة للشاعر اليهودي، حاييم ناحمان بياليك (1873-1934)، والتي يُغَنّيها الأطفال في عيد "حانوكا" اليهودي؛ حيث وصف في قصيدته أن لعبة "الدريدل" التقليدية التي يلعب بها الأطفال في عيد "حانوكا" كانت مصنوعة من الرصاص المصبوب. وقد انطلقت العملية الإسرائيلية تَزامناً مع أعياد حانوكا في ديسمبر 2008.
كذلك نجد أن مُسَمّى عملية "حارس الأسوار"، التي انطلقت في مايو 2021، مُستَوحى من اسم أُغنية عبرية قديمة، كُتِبَت على لسان جندي إسرائيلي "واصفاً ذكرياته وأحلامه بأن يكون حارساً لأسوار القدس العتيقة". وأخيراً، نجد أن مُسَمّى "السور الحديدي"، وهو اسم العملية التي أطلَقها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية في يناير 2025، مُستَلهم من مصطلح "الجدار الحديدي"، الذي وضعه زئيف جابوتنسكي، مؤسّس وزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية، عام 1923، وفيه تحدّث عن ضرورة تنفيذ المشروع الصهيوني خَلْف جدار من حديد يعجز السكّان العرب المحليّون عن هَدمه.
3- مواجهة الرواية والمُسَمّيات الفلسطينية: في دراسة منشورة في نوفمبر 2024، في مجلّة (Perspectives on Global Development and   Technology)  التابعة لقاعدة "بريل" للنشر الدولي، تحت عنوان "مُمارسات الفصائل الفلسطينية في التسميات العسكرية استجابةً للغارات والاعتداءات الإسرائيلية"؛ تستنتج مجموعة من الباحثين الفلسطينيين أن الفصائل الفلسطينية استخدمت بمهارة مُسَمّيات عملياتها العسكرية، في إطار استراتيجية لغوية محدّدة، للتأثير في التصوّرات العربية والدولية للحرب وكسب الدعم لأنشطتها. وتؤكّد الدراسة أن تلك المُسَمّيات يتم تصميمها بعناية لنقل رسائل محدّدة وتوسيع معنى قدراتها العسكرية. في المقابل، كانت "إسرائيل" تُركّز على مواجهة المُسَمّيات الفلسطينية بأخرى مُضادّة، ليس لدحض الرواية الفلسطينية فقط، لكن أيضاً لبث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين.
لذلك نجد عملية "الرصاص المصبوب" (ديسمبر 2008 - يناير 2009) في مُواجهة التسمية الفلسطينية "معركة الفرقان"، وعملية "عمود السحاب" (نوفمبر 2012) في مواجهة "حجارة السجّيل"، وعملية "الجرف الصامد" (يوليو 2014) في مُواجهة "العصف المأكول"، وعملية "حارس الأسوار" (مايو 2021) في مُواجهة "سيف القدس"، وعملية "الفجر الصادق" (أغسطس 2022) في مُواجهة "وحدة الساحات"؛ وأخيراً عملية "السيوف الحديدية" (أكتوبر 2023) في مُواجهة "طوفان الأقصى".
4- بناء السرديّة الإسرائيلية الخاصّة: تُدرك "إسرائيل" أن تحقيق النجاح في الحروب والعمليات لا يتوقّف فقط على القوّة العسكرية والمُناورات التكتيكيّة، لكن أيضاً على كيفيّة إدراك الجانب الآخر لقوّتك ومنطق تحرّكاتك؛ ومن ثمّ حاولت "إسرائيل"، من خلال مُسَمّيات حروبها وعملياتها العسكرية، التأثير في العوامل النفسية والإدراكية للأطراف المُواجهة لها. ففي حرب يونيو 1967، وبجانب الصدى التوراتي لمُسَمّى "حرب الأيام الستّة"، فإنه عَكَس من وجهة نظر "إسرائيل"، نجاحاً عسكرياً في إنهاء أهداف الحرب في ستّة أيام فقط. وكذلك حاولت "إسرائيل" تبرير حربها على لبنان عام 1982، خاصّةً للداخل، من خلال إطلاق مُسَمّى "السلام من أجل الجليل"؛ وذلك لإنكار فكرة الاعتداء من جانبها. وفي عام 2002، حينما أطلَقت "إسرائيل" على عمليتها العسكرية الأكبر في الضفة الغربية مُسَمّى "الدرع الواقي"، كانت تُحاول تأكيد رغبتها في إعادة السيطرة على المراكز السكانيّة الرئيسيّة في الضفة لتحييد الفصائل الفلسطينية هناك. 
إجمالاً، يمكن القول إن تسمية الحروب والعمليات العسكرية الإسرائيلية منذ عام 1948، تحمل تقاليد دينيّة ورمزيّة وقوميّة. ومع زيادة عدد هذه العمليات، وذيوع مُسَمّياتها بين مختلف وسائل الإعلام، وفي ضوء الجدَل الذي دار مؤخّراً حول مُسَمّى حرب "السيوف الحديدية"؛ ربما نجد اختلافاً مُستقبلياً في إجراءات تسمية الحروب. وربما تؤدّي القيادة السياسية في تل أبيب دوراً أكبر في اختيار تلك الأسماء والترويج لسرديّتها الخاصّة.

2025-05-29 12:41:43 | 48 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية