سيناريوهات مُحتملة: إلى أين يتّجه التنافس التركي - الإسرائيلي على سوريا؟*
*الكاتب: إسلام المنسي
- مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
22/4/2025
تُشَكّل سوريا ساحة للتنافس المُحتدِم بين تركيا و"إسرائيل". ومع تفاقم الخلافات، لجَأ الطرفان إلى إجراء مُباحثات لتجنّب وقوع صدام عَرَضي بينهما داخل الأراضي السورية؛ وأُجرِيت الجولة الأولى من هذه المباحثات في أذربيجان في 9 إبريل 2025؛ بهدف التوصّل إلى صيغة تفاهمات واضحة لتفادي تصعيد التوتّر بين البلدين؛ ولكنّها لم تُسفر عن شيء ملموس. ومن جانبه، أجرى رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، يوم 20 إبريل الجاري، جولة ميدانية في المناطق التي يحتلّها جيشه في سوريا، برفقة عدد من قيادات الجيش، مؤكّداً الخطط الموضوعة للحفاظ على السيطرة في تلك المناطق؛ وهو ما يُثير تساؤلات عن مستقبل التنافس التركي - الإسرائيلي في سوريا.
أهداف مختلفة:
تتباين أهداف الطرفين التركي والإسرائيلي في التعامل مع الوضع الراهن في سوريا. فمن جهتها، تسعى تركيا إلى دعم الإدارة الجديدة وتقوية جيشها، ليتمكّن من فرض سيادته على كامل تراب بلاده، بما يشمل الحد من النفوذ الكردي في شمال وشرق البلاد؛ ومن ثمّ إضعاف القوى الانفصالية الكردية في جنوب شرق تركيا، وتحويل سوريا إلى عمق استراتيجي لتركيا وليس مصدر تهديد.
كما تضع أنقرة عينها على عملية إعادة الإعمار التي تنطوي على فرص اقتصادية كبيرة، فضلاً عن تحسين الأوضاع في سوريا؛ ممّا يشجّع عودة مواطنيها اللاجئين في تركيا؛ ومن ثمّ يرفع عبئاً سياسياً كبيراً من على عاتق حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويُقَوّي موقفه داخلياً في مواجهة خصومه؛ لذا تشعر أنقرة بقلق شديد تجاه التدخّلات الإسرائيلية في سوريا، وتعتبرها تهديداً لأمنها القومي.
وفي المقابل، تهدف "إسرائيل" إلى إنشاء مناطق واسعة منزوعة السلاح على حدودها الشمالية في سوريا ولبنان، وفرض حريّة تحليق طائراتها في أجواء المنطقة؛ كما تريد إقامة علاقات دبلوماسية مع دمشق، وشرعنة الأوضاع التي فرضتها واقعاً بقوّة السلاح، من خلال إبرام اتفاق يعترف بتغيير خط الحدود والمنطقة منزوعة السلاح، والعلاقة الخاصة بين "إسرائيل" والدروز، ويمنع استضافة دمشق للفصائل الفلسطينية، ويُقَلّص النفوذ التركي في سوريا، ويفرض قيوداً على علاقاتها الخارجية، ويعوق أي تنسيق إقليمي يتعارض مع المصالح الإسرائيلية، على غرار الآليّة الإقليمية المشتركة التي تُحاول أنقرة إقامتها، وتضم العراق وسوريا ولبنان والأردن؛ بهدف التصدّي للدور الإسرائيلي المُزَعزع للاستقرار في المنطقة.
أدوات الضغط:
تُحاول تركيا و"إسرائيل" توظيف الأوراق التي بحوزتهما في مواجهة بعضهما على الساحة السورية، وتستخدمان أدوات مختلفة في هذا السياق التنافسي، كالتالي:
1- الأدوات التركية: تتمتّع أنقرة بمميّزات حصريّة في سوريا؛ إذ تملك العديد من أدوات الضغط التي لا تملكها تل أبيب، وتحاول توظيفها في مواجهة محاولات تمدّد النفوذ الإسرائيلي في الساحة السورية. ومن أبرز تلك الأدوات ما يلي:
أ- الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع القادة السوريين: لا تخفى العلاقة الوثيقة التي تجمع الأتراك بقادة سوريا الحاليين، سواء المدنيين أم العسكريين. كما أن قطاعاً مهماً من الجيش السوري تَشَكّلَ من عناصر الجيش الوطني السوري الذي أسهمت تركيا في تأسيسه عام 2017، وتولّت تمويله وتدريبه وتوجيهه. واليوم يتولّى القادة السابقون في الجيش الوطني مناصب عسكرية رفيعة، وبعضهم ينتمي إلى المُكَوّن التركماني.
ب- الوجود العسكري المباشر: تحتفظ تركيا حتى اليوم بقواعد عسكرية في الشمال السوري. ومن المُقَرّر أن يزيد وجود العسكريين الأتراك عبر تولّي مهام تسليح وتدريب الجيش السوري الجديد. فأنقرة أقرب حليف للدولة السورية، التي تبدو في أمسّ الحاجة إلى الدعم الخارجي لإعادة بناء قوّتها العسكرية المُنهارة. وهناك خطّة لإبرام اتفاقية دفاع مشترك؛ فخلال زيارته لتركيا في 4 فبراير الماضي، صَرّح الرئيس السوري، أحمد الشرع، بأن علاقات البلدين تتحوّل إلى شراكة استراتيجية في جميع المجالات. وفي اليوم نفسه، أفادت وكالة "رويترز" بأن الشراكة ستَشمل تحالفاً دفاعياً، وتدريباً بقيادة تركية للجيش الجديد، وقواعد جويّة. كما زار عسكريون أتراك المطار الرئيسي في حماة، وقاعدتي "تي فور" و"تدمر" الجويّتين في حمص، لتقييم حالة المنشآت والبنية التحتية المطلوبة قبل نشر القوّات والمعدّات هناك، في إطار اتفاقية الدفاع المشترك المُرتقبة؛ وناقشوا خططاً لتجهيز بعضها بأنظمة دفاع جوّي وطائرات مُسَيَّرة مُسَلّحة؛ لذا شنّت "إسرائيل" غارات جويّة في مطلع إبريل الجاري استهدفت المطارات الثلاثة.
ج- توظيف الدبلوماسية: تُقدّم أنقرة دعماً دبلوماسياً كبيراً لدمشق في مواجهة "إسرائيل". ويعمل الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، على استغلال علاقته الجيّدة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لمُوازنة الضغوط المُعاكسة التي يُمارسها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ومؤيّدوه في واشنطن. وفي حال نجاح أردوغان في إقناع ترامب بسحب كلّ قوّاته من الشرق السوري؛ فإن ذلك سيُمثّل ضربة للمخطّطات الإسرائيلية المتعلّقة بسوريا. كما أن الجهود الدبلوماسية التي تبذلها أنقرة لرفع العقوبات عن دمشق تُعَدّ أحد وسائل تجريد "إسرائيل" من ورقة ضغط مهمّة على حكومة الشرع.
وقبيل أولى جلسات التفاوض مع "إسرائيل"، عَمَد الأتراك إلى توصيل رسائل رمزية استباقية، عبر منع طائرة الوفد الإسرائيلي المُفاوض من عبور أجواء بلادهم؛ بهدف إفهام خصومهم أنهم ليسوا في موقف ضعف لتقديم تنازلات. وبالرغم من تأكيدات أنقرة أنها لا تنوي الدخول في نزاع مع "إسرائيل" في سوريا؛ فإن الفترة الأخيرة شهدت تصعيداً كلامياً بين الجانبين، وحذّر أردوغان من أن بعض الأطراف تختبر صبر أنقرة في سوريا، داعياً إيّاهم إلى تقدير صداقة بلاده، وأن يتصرّفوا كدولة لا كمنظّمة. كما حذّر من أنّ من يُريدون إثارة الفتن في سوريا سيَجدون أنقرة في مواجهتهم، مُشَدّداً على عدم السماح بتقسيم الأراضي السورية.
2- الأدوات الإسرائيلية: تمتلك تل أبيب أوراق قوّة تعمل على توظيفها لتحقيق مصالحها وإضعاف نفوذ تركيا ودفعها شمالاً بعيداً عن الجنوب السوري، وترسيخ الواقع الميداني الجديد. ومن أبرز تلك الأدوات ما يلي:
أ- الأدوات العسكرية: خلال ما وُصِفت بأنها "أكبر عملية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي"، تمّ تدمير القدرات العسكرية السورية عقب سقوط نظام بشّار الأسد. وحتى اليوم تتواصل الهجمات العسكرية بهدف ترسيخ واقع استمرارية استباحة الأجواء السورية. كما تعمل "إسرائيل" على توسيع مساحة الأراضي التي تحتلّها، حتى صارت قريبة من العاصمة دمشق. وكذلك تتواصل التوغّلات البريّة وعمليات المُداهَمة والتفتيش في المناطق الجنوبية القريبة من الجولان. وأعلنت "إسرائيل" منطقة أمنيّة بعمق 15 كيلومتراً، تضم تسع قواعد عسكرية، فضلاً عن منطقة نفوذ بعمق 65 كيلومتراً داخل الأراضي السورية. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، قد صرّح سابقاً بأن قوّات بلاده ستبقى بالمنطقة العازلة في سوريا لفترة غير محدّدة.
ويسعى الإسرائيليون لمنع تركيا من توسيع عمقها الاستراتيجي وملء الفراغ الذي ترَكته إيران في سوريا. فعقب الحديث عن نيّة أنقرة إرسال قوّاتها إلى قواعد جويّة في سوريا؛ استهدفت "إسرائيل" المطارات المقصودة كرسالة واضحة لتركيا بأنها لن تسمح بتقييد عملياتها؛ لأنه إذا تمّ إنشاء قواعد جويّة تركية في سوريا، فإنّ ذلك سيقيّد حريّة العمل العسكري الإسرائيلي.
ب- ورقة الأقليّات: تلعب "إسرائيل" بورقة الأقليّات لإضعاف دمشق، بحيث تعجز عن تحدّي الهيمنة العسكرية لإسرائيل. فوجود سوريا موحّدة وقويّة ليس في صالح "إسرائيل"؛ لذا حاولت توظيف الورقة الكردية للضغط على أنقرة ودمشق. إلّا أن الاتفاق الذي عقَده الرئيس الشرع مع قائد قوّات سوريا الديمقراطية "قسَد" في 10 مارس الماضي، أسهم في تثبيط تلك المَساعي.
كما حاولت "إسرائيل" إشعال التوتّر بين الدروز والحكومة المركزية لتبرير تدخّلاتها بذريعة حمايتهم. وهدّد نتنياهو بضرب سوريا إذا تعرّض الدروز للأذى؛ وأمَر وزير الدفاع الإسرائيلي جيشه بالاستعداد لذلك. وتحدّث وزير الخارجية، جدعون ساعر، علَناً عن وجود علاقات واتصالات مع الطائفة الدرزية في سوريا، وأعلن في مارس الماضي عن توزيع مساعدات إنسانية عليهم؛ وتمّ تنظيم زيارة لوفد من مشايخ الطائفة إلى "إسرائيل" لأوّل مرّة منذ 50 عاماً. وسبَق أن دعا ساعر، في أوّل خطاب له ألقاه خلال حفل تنصيبه في نوفمبر الماضي، إلى بناء "حلف أقليّات" بين إسرائيل والدروز والأكراد وغيرهم من الأقليّات.
ج- الضغوط الدبلوماسية: وَظّفت "إسرائيل" علاقاتها الدولية النافذة للضغط على دمشق، وعمَدت إلى الاستقواء بواشنطن، والدفع باتجاه إبقاء العقوبات الدولية بعد سقوط نظام الأسد. وذكَرت وكالة "رويترز"، في 28 فبراير الماضي، أن نتنياهو حثّ الولايات المتحدة على عدم التواصل مع حكومة الشرع بحجّة أنه يجب إبقاؤها ضعيفة. وبحسب جيمس جيفري، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، والسفير السابق لدى تركيا، فإذا كانت إسرائيل تريد إضعاف سوريا وإبقاءها مُنقسمة، فإن الولايات المتحدة هي الأقدر على فعل ذلك؛ فمُجَرّد بقاء العقوبات والسياسات الأمريكية الحالية تجاه دمشق كفيل بتحقيق هذا الهدف، مُبَيّناً أن سياسة إدارة ترامب تجاه سوريا لا تزال غامضة؛ فبعض مسؤوليها يَتبنّون الخطاب الإسرائيلي، ولا يحظى الرئيس أردوغان بشعبيّة في هذه الإدارة، ربما باستثناء ترامب نفسه؛ لكنّه يُرَجّح أن تتبنّى واشنطن في النهاية خيار الانفتاح على دمشق تاركةً "إسرائيل" معزولة.
وفي هذا الإطار، جاءت المحاولات الدبلوماسية الإسرائيلية لحلّ الخلافات مع أنقرة على مائدة التفاوض، لرسم خرائط النفوذ على قاعدة إعطاء "إسرائيل" منطقة نفوذ واسعة في سوريا، والإقرار ببعض النفوذ التركي خاصةً في الشمال؛ وهو ما لم يتم التوافق بشأنه.
أربعة سيناريوهات:
ممّا لا شك فيه أن الانسحاب الأمريكي المُرتقب من مناطق الأكراد يُقَوّي موقف حكومة دمشق، ويزيد شهيّة تركيا للتمدّد داخل سوريا، ويُسَهّل مُهِمّتها في هذا الصدد، ويُضعف الموقف الإسرائيلي الذي راهن على استخدام الأقليّات، وخاصةً الأكراد، لابتزاز أنقرة ومُساومتها. وقد سَحبت واشنطن جزءاً كبيراً من قوّاتها بالفعل مؤخّراً؛ لكن "إسرائيل" تضغط لعدم إتمام عملية الانسحاب الكامل.
ويُمَثّل نشر القواعد التركية في وسط سوريا خصماً مُباشراً من النفوذ الإسرائيلي؛ إذ يضمن توسيع العمق الاستراتيجي لتركيا داخل الأراضي السورية وحرمان الطيران الإسرائيلي من حريّة التحليق في مساحة واسعة؛ وكذلك يهدّد نشر الدفاعات الجويّة التركية سمعة السلاح الإسرائيلي؛ وهو ما ألمَح إليه أردوغان في أغسطس الماضي، حين تحدّث عن مشروع الدفاع الجويّ التركي "القبّة الفولاذيّة" باعتباره مُنافساً لـ "القبّة الحديديّة" الإسرائيلية؛ إذ يُخَطّط الجيش التركي لدَمج أنظمته الدفاعية في شبكة واحدة شديدة التحصين. كما يُنظَر إلى الدور التركي في سوريا على أنه قاعدة لدور أوسع في الإقليم لا يُتَوَقّع أن يصب في صالح تل أبيب.
ويبقى الواقع الميداني الذي فَرَضته "إسرائيل" في الجولان عصياً على الإلغاء أو التراجع. كما أن العقوبات المفروضة على سوريا ورقة ضغط مؤثّرة قد تدفع دمشق إلى تقديم تنازلات في صالح "إسرائيل". كما تبقى أوضاع الأقليّات الدينية في سوريا نقطة ضعف للنظام الحالي، وخاصّةً فيما يخص العلاقة التي أعلَنتها "إسرائيل" مع بعض الدروز.
وفي ضوء مُعطيات الواقع السوري المُلتبس، والذي يتّسم بديناميكيّة واضحة ويرتبط بسياقات دولية وإقليمية؛ يبدو من الصعب الجزم بما ستؤول إليه الأوضاع في ظلّ التنافس بين تركيا و"إسرائيل". لكن بالنظَر إلى المُعطيات المُتوَفّرة، يمكن رسم عدّة سيناريوهات مُحتمَلة فيما يخص مآلات وتداعيات التنافس التركي - الإسرائيلي في سوريا. وفيما يلي أبرز هذه السيناريوهات:
1- تقاسم مناطق النفوذ: من المُحتمَل تقاسم مناطق النفوذ بين تركيا و"إسرائيل"، كما كان الوضع بين الروس والأمريكيين في عهد نظام الأسد، وذلك عن طريق التوصّل إلى تفاهمات مُحكَمة وموثوقة، تضمن التنسيق بين الطرفين ورسم خرائط النفوذ بما يُبعد احتمال وقوع أيّ خطأ غير مقصود، يؤدّي إلى نشوب مواجهة لا يرغب بها الجانبان التركي والإسرائيلي.
وقد انطلقت المُباحثات في أذربيجان بغرَض التوصّل إلى صيغ مُرضِية تُلَبّي الحدّ الأدنى من التوافق بين الطرفين. وتبدو إدارة ترامب داعمة لمثل هذا السيناريو، ومُستعدّة للوساطة بين الجانبين من أجل تمريره، وفقاً لما أعلنه ترامب في لقائه مع نتنياهو يوم 7 إبريل الجاري، حين أكّد له استطاعته حلّ أي خلاف مع أردوغان حول سوريا اعتماداً على علاقته القويّة بالأخير. ويُفترَض في هذه الحالة أن يُراعي الأتراك مخاوف "إسرائيل"، وأن يكونوا ضامنين لعدم تحوّل سوريا إلى قاعدة لأيّ عمليات عسكرية ضدّها؛ وقد يتم منحها حريّة التحليق وفق تفاهمات ونطاقات يتم التوافق عليها.
2- تمدّد تركيا وتقلّص النفوذ الإسرائيلي: من المُحتمَل نجاح تركيا في مد نفوذها في سوريا على حساب النفوذ الإسرائيلي، ويمكن أن يتم ذلك على المدى القصير عبر إبرام اتفاقية دفاع مشترك مع دمشق والإشراف على تسليح الجيش السوري،. وقد يشمل ذلك نشر قواعد عسكرية تركية جنوباً، أو نصب منظومات دفاع جويّ لمَنع الطيران الإسرائيلي من انتهاك المجال الجوّي؛ ومن ثمّ إفشال مُخَطّط المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح؛ ولا يتعارض ذلك مع بقاء القوّات الإسرائيلية في مُرتفعات الجولان، أو حتى المنطقة العازلة التي استولَت عليها بعد سقوط نظام الأسد.
وقد يتم اللجوء إلى إبقاء الوضع الحالي كما هو عليه دون أي تغيير جوهري على المدى القصير. وفي هذه الحالة سيكون الترقّب سيّد الموقف، ويبقى كلّ طرف في انتظار تغيّر الظروف لانتهاز أقرب فرصة لإمالة الكفّة لصالحه. وقد يصب هذا الوضع في صالح أنقرة على المدى البعيد؛ إذ يشعر الأتراك أن الوقت في صالحهم بالنظر إلى أن كلّ يوم يمر يزداد فيه رسوخ الإدارة السورية الحالية، والنفوذ التركي بالتبعيّة.
3- الصدام بين تركيا و"إسرائيل": في ظلّ تداخل ساحات النفوذ، بات من الوارد وقوع صدام عسكري بين الأتراك والإسرائيليين بسبب زيادة مساحات الاشتباك. وقد أوصَت لجنة "ناجل" الإسرائيلية لفحص ميزانية الدفاع واستراتيجية الأمن، في يناير الماضي، بالاستعداد لمواجهة عسكرية مُحتمَلة مع تركيا؛ وحذّرت من أنّ التهديد القادم من سوريا قد يُصبح أخطر من التهديد الإيراني، وأنّ طموحات تركيا قد تؤدّي إلى نشوب صراع مع "إسرائيل".
وهناك أصوات في تل أبيب ترى أن المواجهة مع أنقرة على الأراضي السورية أمرٌ لا مفرّ منه، نتيجة محاولة أردوغان المساس بحريّة العمل الإسرائيلية. لكن هذا السيناريو يبدو غير مُرَجّح، لأن الطرفين يرفضانه كونه ليس في مصلحة أيٍ منهما. بَيْد أنه من الوارد أن تحدث مواجهة عسكرية غير مباشرة بين الطرفين، وذلك عن طريق دعم أنقرة للسوريين في مواجهة الجيش الإسرائيلي. فقد حذّر تحليل نشره مركز "ألما" الإسرائيلي للأبحاث، في فبراير الماضي، من أنّ الأتراك قد يُقدّمون دعماً مباشراً للجيش السوري الجديد في أي مواجهة محتملة ضدّ "إسرائيل"؛ ممّا يستدعي منها إعادة تقييم حساباتها العسكرية.
4- تطبيع سوريا العلاقات مع "إسرائيل": في حال أقامت سوريا علاقات مع "إسرائيل" سيكون ذلك على حساب النفوذ التركي. فدمشق تسعى جاهدة لرفع العقوبات المفروضة عليها، وتأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار وعودة ملايين اللاجئين من الخارج؛ و"إسرائيل" تستطيع المساهمة في كلّ ذلك. ومن المُحتمَل أن تتولّى الولايات المتحدة زمام المبادرة للتوسّط في هذا المجال.
ومن شأن الحوار الإسرائيلي المباشر مع الحكومة الانتقالية في دمشق، أن يُسفِر عن إطار جديد للعلاقات الثنائية، يتضمّن مثلاً إنهاء حالة الحرب الدائمة، والاتفاق على مجالات التنسيق في منطقة الجنوب السوري، والتعاون ضدّ محاولات إيران وحزب الله للعودة إلى سوريا ولبنان، والاعتراف بأن مزارع شبعا كانت تابعة لسوريا قبل احتلالها؛ الأمر الذي سيُضعف شرعية سلاح حزب الله اللبناني، ويساعد على تسهيل المفاوضات التي استؤنفت مؤخّراً حول ترسيم الحدود الإسرائيلية- اللبنانية.
ويُسيطر الجيش الإسرائيلي الآن بالفعل على 460 كيلومتراً مُرَبّعاً خلف خط الفصل. وتعهّد نتنياهو بفرض نزع السلاح على منطقة شاسعة تمتد حتى طريق دمشق - السويداء السريع، على بُعد 65 كيلومتراً من موقع انتشار جيشه حالياً.
وعلى الرغم من حديث ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، عن احتمال تطبيع سوريا مع "إسرائيل"؛ فإنّ الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا منذ ديسمبر الماضي أضعفت بشدّة أي احتمالية لذلك، على الأقل في المدى القريب؛ إذ أسهمت في حشد الرأي العام السوري بسرعة ضدّ "إسرائيل". ومع عدم احتماليّة تطبيع سوريا العلاقات رسمياً مع "إسرائيل"، يبقى من المُحتمَل تطوير تفاهمات ثنائية تشمل إنهاء حالة الحرب فعلياً، والاتفاق على مجالات تنسيق في جنوب سوريا، بما يحد من وصول النفوذ التركي إلى تلك المناطق.
ختاماً، يمكن القول إنه في ظلّ وجود سوريا كمنطقة صدام بين "إسرائيل" وتركيا، تَتعارض مواقف الطرفين وأهدافهما في هذه الساحة بشكل مُتزايد. فتركيا تريد سوريا مستقرّة ومركزيّة، وتهتم بنجاح المشروع السياسي الحالي؛ و"إسرائيل"، على العكس من ذلك، تريد إضعافها وتقسيمها؛ ويملك كلّ طرف العديد من أوراق القوّة ويستخدمها لفرض إرادته؛ لذا فإن التناطح التركي -الإسرائيلي في سوريا سيكون من أهم المحدّدات التي ستَرسم ملامح مستقبل الدولة السورية الوليدة.
ويبدو صراع النفوذ في سوريا غير مُتكافئ. فبينما تتمتّع أنقرة باليد العليا في تلك الساحة، تتبنّى "إسرائيل" سياسة يَصفها البعض بـ"إطلاق النار في كلّ الاتجاهات"، وتُحاول فعل أقصى ما يُمْكِنها لإيجاد توازن في ميزان القوّة، يُمَكّنها من تقاسم النفوذ مع الأتراك. وتستخدم في هذا الصدد علاقتها القويّة مع واشنطن. لكن الموقف الأمريكي لا يبدو مؤيّداً لها بشكل واضح، في ظلّ العلاقة الخاصة التي تربط أردوغان بترامب. فإسرائيل لا تسعى من الأساس لإزاحة أنقرة عن الساحة السورية والحلول محلّها، وإن كانت تتمنّى ذلك بالتأكيد؛ لكنه غير ممكن وغير منطقي؛ لذا تسعى إلى تقاسم "الكعكة السورية" مع أنقرة، وتكوين حزام أمني يضمن لها بسط نفوذها على الجنوب السوري، لتحصين مناطقها الشمالية ودعم مخطّطاتها في لبنان؛ ومن ثمّ ترفض امتداد الوجود العسكري التركي إلى وسط سوريا وجنوبها، بينما تتجاهل هذا الوجود في محافظتي إدلب وحلَب الشماليّتين. وعليه، فإن الفترة المُقبلة ستَشهد صراعاً للنفوذ بين تركيا و"إسرائيل"، وسيكون الجنوب السوري الساحة الرئيسية لهذا الصراع؛ ممّا يُقَوّض الاستقرار في تلك المنطقة، وستُصبح الأحداث المحليّة هناك محط اهتمام إقليمي ودولي.
2025-05-29 12:43:37 | 56 قراءة