التصنيفات » مقالات سياسية

الخروج من المأزق الفلسطيني... أفق الإصلاح الممكن

الخروج من المأزق الفلسطيني... أفق الإصلاح الممكن

بقلم: هاني المصري

المصدر: موقع العربي الجديد، 10/6/2025

يعيش المشروع الوطني الفلسطيني مأزقاً بنيوياً شاملاً، يُطاول الرؤية والمشروع السياسي والقيادة والمؤسّسات، في ظلّ أزمة غير مَسبوقة تُهَدّد الهُويَّة الوطنية والتمثيل الشرعي. ومع غياب أدوات التغيير الجذري الذي لم يَنضج ذاتياً، لا بدّ من اعتماد منهج التدرّج، والعمل بما هو مُمكن، وصولاً إلى إعادة بناء المشروع الوطني والحركة الوطنية ومؤسّسات منظّمة التحرير، لتكون، قَولاً وفِعلاً، المُمَثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
ثمّة من يرى أن المنظّمة والسلطة شاخَتا وفسَدتا وفشِلتا، وأن الحلّ يكمن في إطاحتهما، بالانتخابات أو الثورة الشعبية. ورغم وجاهة بعض حَيثيّاتٍ تستند إليها هذه الطروحات، إلّا أن الظروف الواقعية تُعاكسها؛ فالانتخابات غير مُمكنة في ظلّ استمرار جريمة الإبادة الجماعيّة وتحت الاحتلال والانقسام. فالاحتلال لاعبٌ رئيس، ويُساهم في عقد الانتخابات أو منع إجرائها، ومُصادرة نتائجها إذا جاءت بما لا تشتهي سُفُنه، وتقف بالمرصاد لكلّ من يُفَكّر في الثورة الشعبية، التي تَفتقر إلى الأدوات والبيئة الحاضنة. وأيّ دعوات إلى الإطاحة الفوريّة ستُواجَه بالقمع من الاحتلال أو السلطة أو كِليهما. 
من هنا، يصبح الوفاق الوطني والإصلاح التدريجي الشامل الخيار الواقعي الوحيد، رغم صعوبته. ورغم أنه لا يُلَبّي الاحتياجات الحقيقية، إلّا أنه يُقَلّل الخسائر والأضرار، ويُنقذ ما يمكن إنقاذه؛ وعدم الشروع فيه يزيد من احتمال استكمال تآكل (وانهيار) مؤسّسات النظام السياسي بمختلف مُكَوّناته، من دون تَوافر مُكَوّناتٍ أفضل؛ بل الطريق مَفتوح لما هو أسوأ. ويَتطلّب خيار الوفاق والإصلاح تشخيصاً عميقاً للواقع  الفلسطيني والعربي والدولي، الذي يُشير إلى أن القضية الفلسطينية، رغم أنها حَيّة وحاضِرة، إلّا أنها تواجه تحدّيات مصيرية ووجودية، خصوصاً في ظلّ تحوّل العوامل الخارجية فاعلاً رئيساً أكثر من السابق في تقرير مصير القضية ومن يُمَثّلها. فالتوافق الوطني وحده، على أُسس وطنية وديمقراطية وشراكة سياسية على القواسم المُشتَركة، يَحدّ من تأثير العوامل الخارجية؛ وكُلّنا نعرف أن التاريخ غَنيٌ بالتجارب التي تَوَحَّد فيها خصوم، وحتى أعداء، في مُواجهة خصوم وأعداء مُشتَركين.
يقوم الحلّ المُمكن فلسطينياً على توافق وطني ديمقراطي، يستند إلى الحقوق الوطنية المُقَرَّة بالقانون الدولي، وإعادة الاعتبار للبرنامج الوطني المُوَحّد.
يُغَذّي واقع الانقسام الفلسطيني حالة الجمود؛ القيادة الفلسطينية تُراهن على استعادة غزّة بشروط "أوسلو" والتزاماته المُجحفة، وتقول إنها لن تعود إلى غزّة على ظَهْر الدبّابات الإسرائيلية، وإنها ستعود إذا لم تُوَفَّر مظلّة الشرعية الفلسطينية للمقاومة ولحركة حماس تحديداً، رغم تخلّي الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة عن "أوسلو" منذ زمن بعيد؛ وبالتالي، تَخَلّيها عن السلطة  التي نَتجت منها؛ بينما تُراهن "حماس" على البقاء من خلال الصمود، وتقديم تنازلاتٍ في مُفاوضات التهدئة، كما ظَهَر في الحديث عن التهدئة طويلة الأمَد، التي يُمكن أن تصل إلى عشر سنوات وأكثر، والمُوافقة على التنازل عن الحكومة في مُقابل البقاء في الحُكم، وعلى إدارة قطاع غزّة بلجنةٍ مُجتمعيةٍ من شخصيات مستقلّة، تحت غطاء ودعم إقليمي ودولي.
أمّا الحلّ المُمكن، فيَقوم على توافق وطني ديمقراطي، يستند إلى الحقوق الوطنية المُقَرَّة بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ويشمل؛ إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني المُوَحّد، الذي يتضمّن إنهاء الاحتلال، وحقّ العودة وتقرير المصير لكلّ الشعب الفلسطيني، الذي يشمل (ويجب أن يُرَكّز في) حقّه في إقامة دولة فلسطينية مستقلّة في حدود 1967 وعاصمتها القدس، وبلورة استراتيجيّات جديدة قادرة على تحقيقه؛ تنظيم أشكال المقاومة بقرار من قيادة وطنية مُوَحّدة، مُستَندة إلى استراتيجية وطنية، مع التوصّل إلى هدنة طويلة مُتبادلة (كما طرَحت المقاومة في المفاوضات)، تَفرضها الشروط الراهنة، بعد جريمة الإبادة الجماعيّة والتدمير والتهجير، ومَشروطة بالسعي إلى إطلاق أفق سياسي جادّ، وبلورة خطّة مُقاومة شعبية سياسية وقانونية واقتصادية وإعلامية؛ توحيد السلطة والمؤسّسات في الضفة وغزّة، بما في ذلك الأجهزة الأمنيّة والسلاح، تحت قيادة شرعية واحدة؛ وهذا يُحَقّق حصريّة وتنظيم استخدام السلاح، لأنّ نزع السلاح من أيادي شعب مُحتَلّ مرفوض، لأنه يُجهض حقّاً أساسياً ويفتح شهيّة الاحتلال على المضي في طريق تحقيق أهدافه بسرعة أكبر وتكاليف أقلّ، وذلك استناداً إلى ما جاء في وثيقة الأسرى الفلسطينيين للوفاق الوطني، التي طالَبت بتشكيل جبهة مقاومة وطنية مُوَحّدة تُقَرّر لوحدها بشأن المقاومة والمفاوضات.
يشمل الحلّ المُمكن أيضاً تشكيل حكومة وفاق وطني من كفاءات مُستَقلّة، مَرجعيّتها منظّمة التحرير المُوَحّدة، تسعى إلى توحيد السّلطتَين في سلطة واحدة في الضفة والقطاع، مع مُراعاة الظروف الخاصّة في كلّ منطقة، وإلى معالجة آثار الانقسام، والتحضير لإجراء الانتخابات على كلّ المستويات. ويمكن للفصائل أن تخوض الانتخابات بمُسَمّياتها القديمة، أو عبر تشكيل أحزاب سياسية جديدة (على غرار ما جرى في تجارب عديدة لبلدان أخرى)، بما فيها "حماس" التي شَكّلت حزب الخلاص الإسلامي بُعيد تأسيس السلطة؛ تفعيل الإطار القياديّ المؤقّت للمنظّمة، وتوسيعه وانتظام اجتماعاته، حتى يقوم بتشكيل مجلس وطني جديد عبر الانتخابات أساساً، وحيثما يمكن إجراؤها؛ والتوافق حين لا يمكن إجراء الانتخابات، وعلى أُسس ومَعايير وطنية وموضوعية يُتَّفق عليها لضمان تمثيل الكلّ الفلسطيني؛ تعزيز صمود الشعب الفلسطيني وبقائه في أرض وطنه، خصوصاً في المناطق المَنكوبة والمُهَجّرة، والمُهَدّدة بالتهجير والمُصادرة والتهويد والاستيطان.
قد يبدو هذا السيناريو بعيد المَنال، لكنّه يتضمّن قيادة واحدة وبرنامجاً واحداً وسلطةً واحدةً وسلاحاً واحداً، ومنظّمةً تجسّد التعدديّة، من خلال ضمّ مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي؛ وهو سيناريو أقلّ كلفةً وأكثر واقعيةً من سيناريوهات مثل سيناريو توحيد وعودة السلطة إلى غزّة، الذي يَشتَرط (إذا افتَرضنا أن الاحتلال سيُوافق عليه) أن تستجيب للشروط الإسرائيلية كاملةً، وسيناريو بقاء سلطة "حماس" بشكل مُباشر أو غير مُباشر، واستمرار الانقسام وتعميقه، واستمرار الوضع الراهن، وما يعنيه من استمرار الإبادة الجماعيّة، أو العودة إلى الاحتلال المباشر، أو تصفية القضية عبر التدمير والإبادة والتهجير والضمّ. فهل نملك الوعي والإرادة لبدء هذا المسار؟ هذا ما ستُجيب عليه الأيّام المُقبلة؟

2025-06-11 13:15:30 | 44 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية