التصنيفات » مقالات سياسية

الحرب الإسرائيلية – الإيرانية: بين الحسابات الإقليميّة والمصالح السياديّة

الحرب الإسرائيلية – الإيرانية: بين الحسابات الإقليميّة والمصالح السياديّة 

شاكر البرجاوي

15/6/2025


تتّخذ الحرب المُستَترة والمُعلَنة بين "إسرائيل" وإيران أبعادًا تتجاوز حدود المواجهة الثنائية لتُلامس جوهر التوازنات الإقليمية والدولية. فمنذ عقود، تخوض "الدولتان" حربًا هجينة، تتراوح بين: عمليات استخباراتية، اغتيالات، ضرَبات جويّة، وحمَلات سيبرانية. لكن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلًا نوعياً في طبيعة هذه المواجهة، وخصوصًا بعد دخول الجغرافيا اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية على خط التماس.
وفي هذا السياق، تُطرَح تساؤلات جوهرية: هل هي حرب دفاعيّة أم توسعيّة؟ ومن يَخدم استقرار المنطقة؟ وما موقع السيادة والمقاومة في هذا الصراع؟ وهل فعلاً المشروع الإيراني يُهَدّد المنطقة، أم أنه يُستَخدم كذريعة لحروب استباقيّة تخدم "إسرائيل"؟

إيران: مشروع إقليمي بديل أم تهديد وجودي؟

تَتّهم "إسرائيل" إيران بأنها تسعى إلى "تطويقها" عبر وكلاء وأذرع عسكرية في لبنان (حزب الله)، وسوريا، وغزة، واليمن. لكن هذه القراءة تُغفِل السياق الذي دفَع إيران إلى هذا التمدّد الدفاعي. فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، وضِعت إيران تحت طائلة العقوبات والعزلة، وتعرّضت لمُحاولات مُتكرّرة لإسقاط نظامها، بدءًا من الحرب العراقية - الإيرانية، إلى الدعم الأميركي والإسرائيلي المُستمر لأنظمة مُعادية لها في الخليج.

وعملياً، فإن "حزام المقاومة" الذي بنَته طهران ليس مشروعًا توسعياً بقَدر ما هو سياسة ردع استراتيجية في وجه مشروع أميركي -إسرائيلي كان يستهدف تفكيك الجمهورية الإسلامية ومُحاصَرتها. وبالتالي، فإن التوصيف العادل للدور الإيراني هو أنه مُحاولة لإقامة توازن ردع إقليمي في وجه تفوّق إسرائيلي مَدعوم بلا حدود من الغرب.

"إسرائيل": دفاع أم مُبادرة؟

على الضفة الأخرى، تُرَوّج "إسرائيل" لمَقولة أنها تُدافع عن نفسها ضدّ "التهديد الوجودي الإيراني". لكنها في الواقع تقود استراتيجية هجومية مُتواصلة، من خلال الضربات الجويّة على الأراضي الإيرانية، واستهداف قيادات الحرس الثوري، وكذلك علماء عاملين في البرنامج النووي الإيراني السلمي؛ ومن دون أن ننسى اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده والهَجَمات السيبرانية ضدّ منشات نووية كـ "نطنز".

هذه الأعمال العسكرية والاستخباراتية تَتجاوز مفهوم الدفاع المشروع، وهي تُشكّل وفق القانون الدولي انتهاكاً لسيادة دولة مستقلّة. و"إسرائيل" تخوض حرباً استباقية، لا تهدف فقط إلى تعطيل البرنامج النووي السلمي الإيراني، بل إلى كسر الحضور الإيراني بكلّ الوسائل، حتى لو كان الثمن تفجير المنطقة بأكملها. وهذا ما يجعل الموقف الإيراني أكثر انسجاماً مع منطق "الردّ لا المُبادرة"، و"الردع لا الغزو”.

المقاومة كخيار استراتيجي

تمتلك إيران شبكة حلفاء إقليميين، أبرزهم حزب الله في لبنان، وحركات فلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي،  و"الحشد الشعبي" في العراق، و"أنصار الله" في اليمن. وهذه الشبكة، التي يُطلِق عليها البعض "محور المقاومة"، ليست أدوات فارغة، بل تعبير عن خيار شعبي في العديد من الساحات التي ترفض التطبيع والخضوع للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.

في لبنان مثلاً، يُعتبَر حزب الله قوّة عسكرية وسياسية راكَمت شرعيّتها من مواجهتها الاحتلال الإسرائيلي، ثم صدّ العدوان عام 2006. وفي فلسطين، لم يكن بإمكان حركات المقاومة أن تصمد أمام آلة الاحتلال لولا الدعم الإيراني بالسلاح والمعرفة والخبرة.  وبالتالي، فإن الرؤية الإيرانية للمقاومة ليست فقط أداة جيوسياسية، بل مشروع فكري وأيديولوجي يتقاطع مع قضايا التحرّر ورفض الاحتلال.

النووي الإيراني: بين الحق والسيطرة

يُمَثّل الملف النووي أحد أبرز مَلامح المواجهة بين إيران و"إسرائيل". الأولى تصر على حقّها المشروع في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، وتُخضِع منشآتها للرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، بينما الثانية، أي "إسرائيل"، ترفض التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، وتمتلك ترسانة نووية سريّة يُقَدّرها البعض بمئتي رأس نووي، ومن دون أيّ رقابة دولية.

هذا التناقض الفاضح يكشف حجم الكيل بمكيالين الذي تُمارسه الدول الغربية؛ وهو ما يدفع إيران إلى التمسك بحقّها المشروع في تطوير قدراتها العلمية من دون أن تتحوّل إلى رهينة للابتزاز الغربي الأميركي والأوروبي أو الإسرائيلي.

سيناريو كارثي للجميع

رغم تعدّد ساحات الاشتباك المباشر، فإن خطَر الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة لا يزال قائماً، خصوصًا مع تصاعد الاستفزازات الإسرائيلية ومحاولات الولايات المتحدة فرض عقوبات خانقة على إيران. لكن مثل هذه الحرب لن تكون نزهة لإسرائيل، بل قد تفتح أبواب الجحيم في منطقة مُترابطة ومُتداخلة.

إيران، بما تمتلكه من قدرات صاروخية، وحلفاء فاعلين على حدود "إسرائيل"، قادرة على خلق مُعادلة الدم بالدم؛ وهي مُعادلة ردع لا يمكن الاستهانة بها. حتّى وإن لم تسع طهران لحرب مفتوحة، فإنها تمتلك الوسائل لمنع الآخرين من شنّها دون ثمن باهظ.

البُعد الدولي روسيا، الصين، والمصالح الكبرى

لا يمكن فهم هذا الصراع  بمعزل عن السياق الدولي. فإيران اليوم لاعب مهم في التوازنات الآسيوية، ولديها شراكة استراتيجية مع الصين، وتنسيق عسكري مع روسيا، ما يضعها في قلب التوازنات العالمية الجديدة، في مواجهة أحاديّة قطبيّة أميركية - إسرائيلية في طَور التراجع.

هذا التموضع الإيراني في عالم مُتعدّد الأقطاب يمنحها هامشاً أوسع في المناورة، ويجعل كلفة ضربها دوليًا أعلى ممّا يعتقد البعض. وهي تُدرك أن الزمن تغيّر، وأن السياسات الإمبراطورية لم تعد قادرة على فرض إرادتها من دون مقاومة.

لذلك، فإن الحرب الإسرائيلية - الإيرانية الجارية ليست مجرّد صراع نفوذ، بل هي تَجَلٍ للصراع بين مشروعين: مشروع يدافع عن استقلال القرار الإقليمي، ويرفض الهيمنة الغربية، ويقف إلى جانب قضايا التحرّر؛ ومشروع آخر يقوم على الاحتلال والتوسّع والابتزاز النووي والدعم غير المشروط من الغرب.

والمصلحة الإيرانية، في هذا السياق، ليست فقط في حماية نظامها، بل الإسهام في بناء شرق أوسط أكثر توازناً، حيث لا تتفرّد "إسرائيل" بالتسيّد على المنطقة. وربما آن الأوان لأن يُعادَ النظر في سرديّة "التهديد الإيراني"، لصالح قراءة أعمق وأشمل، تعترف أن الخطر الحقيقي على الاستقرار الإقليمي هو الاحتلال الإسرائيلي، لا الدولة الإيرانية التي تدفع ثمن خياراتها السياديّة منذ عقود.

2025-06-16 14:29:26 | 11 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية