التصنيفات » مقالات سياسية

غزة: الحرب انتهت والمعركة على استئناف شروط الحياة بدأت

غزة: الحرب انتهت والمعركة على استئناف شروط الحياة بدأت

إنّ واجب ما بعد الحرب بات أكثر إلحاحاً ممّا سبق تجاه القطاع كلّه، في أن تستعيد غزة عافيتها وإسناد أهلها في استئناف شروط الحياة التي جاءت عليها الحرب.
علي حبيب الله
موقع عرب 48 
13/10/2025

بعد عامَيْن من القصف والنسف والهدم والقضم، والقتل والتنكيل والتدمير والتركيم، يَهبطُ غبار حرب إبادة غزة أخيرًا، مع بدء المرحلة الأولى من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُقِرّ مؤخّراً في شرم الشيخ، برعاية إقليمية ودولية، ولكنّها حرب ليست من نوع تلك التي تنتهي عن أهلها بمجرّد نفضِهم غبارها.
ولم يحدُث أن تَحَمّل وصمَد شعب في كلّ تاريخ الأمم الحديث، مثلما تحمّل الغزّيون على مدار العامَيْن الأخيرين. كما لم يسبق على مدار قرن من الصراع العربي - الإسرائيلي أن توحّشت أنياب الصهيونية بأحشاء الفلسطينيين مثلما فعلت بلَحم الغزّيين. تُعَدّ تضحيات الغزّيين ولا تُحصى، نحو 70 ألف شهيد وأكثر من 20 ألفاً في عداد المفقودين؛ وقائمة الجرحى والأسرى تطول، فيما معظم بيوت ومباني غزّة مَركومة على رَملها، ومئات آلاف النازحين الهائمين على وجوههم ما بين شمالي القطاع وجنوبه.
هذا وناهيك عن مسح كافّة مؤسّسات القطاع المدنيّة منها والأهليّة، المستشفيات والمدارس والجامعات، الزراعة والصناعة والحِرَف المحليّة، الجَوامع والمجمّعات التجارية، وكلّ مَرافِق الحياة العامّة، شبكات الماء والكهرباء، ومخازن الدقيق والغذاء، كلّها جاءت عليها حرب الإبادة انتقاماً من الغزّيين، وبما يَحول دون سُبل عيشهم؛ ومع ذلك تمكّن الغزّيون من النجاة.
وما يزال مصير غزة الإداري والسياسي مجهولًا؛ ولا نظن أن مراحل التفاوض المُقبِلة - إذا ما لم تَتعثّر - يمكنها أن تُجيب على سؤال مصير القطاع. والأهم أن أكثر من نصف القطاع ما يزال مُحتلًا، ما يعني أن الغزّيين سيُواجِهون تداعيات الحرب وآثارها، في ظلّ جغرافية باتت أضيق ممّا كانت عليه أصلًا من ضيق وكثافة سكانيّة قبل السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. هذا على الأقلّ في المدى المنظور، حيث ما تزال مئات العائلات الغزيّة النازحة إلى الجنوب ممنوعة من العودة إلى بيوتها المركومة في بعض مناطق شمالي القطاع، مثل بيت حانون وجباليا.
انتهت الحرب، بما تعنيه من إبادة وكثافة ناريّة غير مسبوقة في قذارتها ووحشيّتها؛ غير أن الرقابة الأمنيّة وسياسة الضبط والتحكّم الأمنيّين في حركة الانتقال والتنقّل داخل القطاع ما تزال مشروطة بأوامر وتعليمات جيش الاحتلال، الذي قد لا يتردّد سلاح جوّه، وكذلك برّه وبحره، في استهداف كلّ تحرّك أو مُبادَرة، لمجرّد شكّه بهما مستقبلًا، تماماً مثلما لا يتردّد يومياً في استهداف قرى جنوبي لبنان وأهاليها بالطائرات والمُسَيّرات، على الرّغم من قرار وقف إطلاق النار منذ مطلع كانون الأوّل/ ديسمبر العام الماضي.
انتَهت الحرب، لكنها ترَكت في غزة والغزّيين ما يجب مُواجَهته بليس أقلّ ممّا واجهوه في ظلّ الإبادة. فقد جاءت الحرب على بنية اجتماع الغزّيين على مدار سنتين من الحرب، عبر القتل والتشريد، والتدمير والتنزيح، والتجويع والابتزاز والترويع، ممّا مَسّ أواصر المجتمع الغزّي ووشائجه الأهليّة؛ وهذا ما لا يسهُل استعادته بمجرّد إعلان وقف إطلاق النار. بالتالي، فإن أيّ مظاهر تنم عن تحامل حمائلي، أو احترابٍ مجتمعيٍ قد يشهدهما القطاع المنكوب في الأيام المقبلة، على فُرَص التعافي من آثار الحرب؛ فهي امتداد لهذه الأخيرة ومن مخلّفاتها، مثل أيّ عبوة أو قنبلة أو مُفَخّخة يُخَلّفها الاحتلال في رِمال القطاع.
كان أقسى ما شعر به كلّ غزّي وغزّية على مدار سنتي الحرب هو الخذلان، وشعور الغزّيين بأنهم تُرِكوا وحيدين تحت نار ما انفكّت تَصلي لحم أطفالهم أمام أعينهم تحت قماش خيام النزوح. وإذا كان من واجب أخفَقت فيه معظم نُظُم وشعوب المنطقة في كفّ الإبادة عن غزة، فإن واجب ما بعد الحرب بات أكثر إلحاحاً ممّا سبق تجاه القطاع كلّه، في أن تستعيد غزة عافيتها وإسناد أهلها في استئناف شروط الحياة التي جاءت عليها الحرب.
لقد فشل الاحتلال في تحقيق أخطَر مهمّات حرب إبادته وأهدافها، المتمثّل في "التهجير". ولكن ما لا يجب أن يغيب من بال كلّ فلسطيني وعربي وحر في هذا العالَم هو أن مخاطر خروج الغزّيين طوعاً من القطاع ما تزال قائمة؛ وهذا ما قد تُعَوّل عليه حكومة نتنياهو وجيش احتلالها إذا لم تُسانَد غزة إسناداً فعلياً وعملياً في استئناف شروط الحياة فيها. نقول هذا، لأن كلّ وجهة غزة المستقبلية قياساً على غموضها وضبابيّتها كما تبدو اليوم، على المستويين السياسي والإداري، مَنوطة بمدى مدّ غزة ودعم أهلها في ترميم ما أمكن ممّا جاءت عليه سنتي الحرب.

 

2025-10-19 13:36:05 | 36 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية