الاقتصاد العالَمي المُسَلّح
لقد اضطرّت واشنطن إلى إعادة بناء دولتها الأمنيّة الوطنيّة بعد أن نجَحت دول أخرى في تطوير القنبلة الذريّة؛ وعلى نحوٍ مُماثل، سوف تضطرّ إلى إعادة بناء دولتها الأمنيّة الاقتصاديّة في عالَمٍ يستطيع فيه الخُصوم والحُلفاء أيضاً تسليح الترابط - الاعتماد المُتبادَل.
بقلم: هنري فاريل وأبراهام نيومان (فورين أفيرز) | ترجمة: أنس أبو سمحان
تحرير:عرب 48
24/9/2025
عندما أعلَنت واشنطن عن «اتفاق إطاري» مع الصين في يونيو/حزيران 2025، كان ذلك بمثابة تحوّل صامتٍ في الاقتصاد السياسي العالَمي. ولم تكن هذه بداية عهد «التحرّر» الذي تَخَيَّله الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ظلّ العظَمة الأميركيّة أحاديّة الجانب، أو عودة إلى حُلُم إدارة بايدن في التنافس المُنَظّم بين القوى العظمى. ولكنّه كان بمثابة الانطلاقِ الحقيقي لعصر «الاعتِماد المُتبادَل» المُسلّح، والذي تكتشف فيه الولايات المتحدة كيف يكون الحال عندما يفعَل الآخرون بها ما فعلَته بحَماسٍ مع الآخرين.
وسوف يتشكّل هذا العصر الجديد من خلال أسلحة الإكراه الاقتصادي والتكنولوجي، أي العقوبات والهجمات على سلسلة التوريد وتدابير التصدير، التي تُعيد توجيه العديد من نقاط التحكّم في البنية التحتيّة التي تدعم الاقتصاد العالَمي القائم على الاعتماد المُتَبادَل.
سَلََّحت الولايات المتحدة، على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أحاديًا، نقاط الاختناق هذه في التمويل وتدفّقات المعلومات والتكنولوجيا، لتحقيق ميزة استراتيجيّة لنفسها. ولكن التبادل في السوق أصبح مُتَشابكًا على نَحْوٍ لا يُطاق مع قضايا الأمن القومي؛ ويجب على الولايات المتحدة الآن أن تُدافِع عن مَصالحها في عالَمٍ تستطيع فيه القوى الأخرى الاستفادة من نقاط الاختناق لديها.
ولهذا السبب اضطرّت إدارة ترامب إلى عقد صفقة مع الصين. ويعتَرف مسؤولون في الإدارة الآن بأنهم قَدّموا تنازلات بشأن ضوابط تصدير أشباه الموصلات مقابل تخفيف الصين للقيود المفروضة على المَعادن الأرضيّة النادرة التي كانت تعوق صناعة السيّارات في الولايات المتحدة. تستطيع الشركات الأميركية التي تُقَدّم برامج تصميم الرّقائق، مثل ، Synopsys وCadence
مرّة أخرى بيع تكنولوجيّتها في الصين. ومن شأن هذا التنازل أن يُساعد صناعة أشباه الموصلات الصينية على الخروج من المأزق الذي وجدَت نفسها فيه عندما بدأت إدارة بايدن في الحدّ من قدرة الصين على بناء أشباه الموصلات المتقدّمة. وتستطيع شركة إنفيديا Nvidia الأميركية مرّة أخرى بيع شرائح H20 لتدريب الذكاء الاصطناعي للزبائن الصينيين.
وفي خطابٍ لم يحظَ باهتمام كبير في شهر يونيو/حزيران 2025، ألمَح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى تبرير الإدارة الأميركية لهذا الصفقة، وقال إن الصين «قد احتكَرت سوق» المعادن النادرة، ممّا وضع الولايات المتحدة والعالَم في «أزمة». لقد أدرَكت الإدارة أن «قدرتنا الصناعية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على عدد من الدول القومية المُعادِية المُحتمَلة، بما في ذلك الصين، التي يُمكِنها مُقايضَتنا بها»، ممّا أدّى إلى تحوّل «طبيعة الجغرافيا السياسية» في «أحد التحدّيات الكبرى في القرن الجديد».
ورغم أن روبيو أكّد أنّ الاعتماد على الذات كَحَلّ، فإن اندفاع الإدارة إلى إبرام صفقة يُوَضّح حدود العمل المُنفَرِد. وتعمل الولايات المتحدة على تخفيف تهديداتها لإقناع خصومها بعدم شلّ أجزاء حيويّة من الاقتصاد الأميركي. وتُكافِح قوى أخرى أيضًا من أجل معرفة كيفيّة تعزيز مَصالِحها في عالَمٍ تَتَكاملُ فيه القوّة الاقتصادية والأمن القومي، ويتحوّل فيه التكامل الاقتصادي والتكنولوجي من وعدٍ إلى تهديد. لقد اضطرّت واشنطن إلى إعادة بناء دولتها الأمنيّة الوطنية بعد أن نجحت دول أخرى في تطوير القنبلة الذريّة؛ وعلى نحوٍ مُماثِل، سوف تضطرّ إلى إعادة بناء دولتها الأمنيّة الاقتصادية في عالَمٍ يستطيع فيه الخُصوم والحُلفاء أيضاً تسليح الترابط -الاعتماد المُتَبادَل. باختصار، تتكاثر الأسلحة الاقتصادية كما تكاثرت الأسلحة النووية، ممّا يخلق معضلات جديدة للولايات المتحدة والقوى الأخرى. لقد تكيّفت الصين مع هذا العالَم الجديد بسرعة ملحوظة، في حين واجهت قوى أخرى، مثل الدول الأوروبية، صعوبة في التكيّف. وسوف يتعيّن على الجميع تحديث تفكيرهم الاستراتيجي بشأن سُبُلِ تقاطُع عقائدهم وقدراتهم مع عقائد وقدرات القوى الأخرى، وسُبُل استجابة الشركات، التي لديها مصالحها وقدراتها الخاصّة.
المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن إدارة ترامب تستَنزف المَوارِد التي تحتاجها لتعزيز المَصالح الأميركية والحماية من التحرّكات المضادّة. وفي العصر النووي، وضعَت الولايات المتحدة استثمارات تاريخية في المؤسّسات والبنية الأساسيّة وأنظمة الأسلحة التي من شأنها أن تدفعها إلى تحقيق ميزة طويلة الأجَل. والآن يبدو أن إدارة ترامب تعمل بنشاط على تقويض مَصادِر القوّة هذه. وفي الوقت الذي تشنّ فيه الإدارة الأميركية حربًا شرِسة على الصين، فإنها تعمل على تمزيق أنظمة الخبرة اللازمة للتنقّل بين المُفاضَلات المُعَقّدة التي تُواجِهُها. تضطرّ كلّ إدارة إلى بناء طائرتها في أثناء طيَرانها؛ ولكن هذه هي أوّل طائرة تُمَزّقُ أجزاء عشوائيّة من مُحَرّكها وهي على ارتفاع 30 ألف قدَم.
ومع تكيّف الصين بسرعة مع الحقائق الجديدة عبر تسليح الاعتماد المُتبادَل، فإنها تعمل على بناء «مجموعة» بديلة خاصّة بها من الصناعات التكنولوجيّة الفائقة التي يُعَزّز بعضها بعضًا، والتي تُرَكّز على اقتصاد الطاقة. تُعاني أوروبا من التعثّر في الوقت الراهن؛ ولكن مع مرور الوقت، قد تتمكّن أيضًا من خلق مجموعة بديلة من التقنيّات الخاصّة بها. تتخلّى الولايات المتحدة، على نحوٍ مُدهِش، عن مزاياها المؤسّسيّة والتكنولوجيّة. إن فشل واشنطن في مُواكَبة التغيّرات في النظام الدولي لن يضّر بالمصالح الوطنية الأميركية فحسب، بل سيُهَدّد أيضاً صحّة الشركات الأميركية على المدى الطويل وسُبُل عيش المواطنين الأميركيين.
العالَم الذي صنعَته العولَمة
يأتي تسليح الاعتماد المُتَبادَل نتيجةً غير متوقّعة لعصر العولَمة العظيم الذي يقترب من نهايته. بَنَت الشركات بعد انتهاء الحرب الباردة اقتصادًا عالَميًا أساسه الاعتماد المُتَبادَل فوق البنية التحتيّة المُتمَركِزة في الولايات المتحدة. لقد نسجَت منصّات الولايات المتحدة التكنولوجية -مثل منصّات الإنترنت والتجارة الإلكترونية، وفي وقتٍ لاحق، وسائل الإعلام الاجتماعية- أنظمة الاتصالات العالَميّة معًا. كما تضافَرت الأنظمة الماليّة العالَميّة بفضل المَقاصّة بالدولار، حيث تَستَخدم الشركات الدولار الأميركي استخدامًا مباشرًا أو غير مباشر في الصفقات الدولية، والبنوك المُراسِلة التي تنفّذ مثل هذه المُعامَلات، وشبكة الرسائل الماليّة سويفت. لقد قُسِّم تصنيع أشباه الموصلات المُتَمَركِز في الولايات المتحدة إلى عدد لا يُحصى من العمليّات المتخصّصة في مختلف أنحاء أوروبا وآسيا. ولكن الملكيّة الفكريّة الرئيسة، مثل تصميم برمجيّات أشباه الموصلات، ظلّت في أيدي عدد قليل من الشركات الأميركية. يمكن فهم كلٍ من هذه الأنظمة على أنها «مجموعة» مستقلّة، أو مجموعات مُتَرابِطة من التقنيّات والخدَمات ذات الصّلة التي أصبحت تُعَزّز بعضها بعضًا، بحيث أصبح الشراء في الإنترنت المفتوح، على سبيل المثال، يعني على نحوٍ مُتَزايِدٍ الشراء في المنصّات وأنظمة التجارة الإلكترونية الأميركية أيضًا. في وقتٍ حيث كانت الجغرافيا السياسية تبدو وكأنها من مواد أفلام الإثارة القديمة التي تعود إلى الحرب الباردة، لم يكن هناك الكثير من القلَق بشأن الاعتماد على البنية الأساسية الاقتصادية التي تُوَفّرها بلدان أخرى.
وكان هذا خطأ ارتكبه أعداء واشنطن، وفي نهاية المطاف خطأ ارتكبه حلفاؤها أيضًا. بدأت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 باستخدام هذه الأنظمة لمُلاحَقة الإرهابيين وداعِميهم. وعلى مدى عقدين من التجارب المُتَراكِمة، وسَّعَت السلطات الأميركية طموحاتها ونطاقها. لقد انتقلت الولايات المتحدة من استغلال نقاط الاختناق الماليّة ضدّ الإرهابيين إلى نشر العقوبات لاستهداف البنوك؛ وبمرور الوقت، إلى قَطْع دول بأكملها، مثل إيران، عن النظام المالي العالَمي. لقد تحوّل الإنترنت إلى جهاز مُراقَبة عالَمي، ممّا سمَح للولايات المتحدة بالمُطالَبة من المنصّات وشركات البحث، التي تخضع لتنظيم السلطات الأميركية، بتسليم معلومات استراتيجيّة حاسمة عن مُستَخدَميها في جميع أنحاء العالَم.
انقلبَت البنية الأساسيّة للاعتماد الاقتصادي المُتَبادَل ضدّ أعداء الولايات المتحدة وأصدقائها على حدّ سواء. عندما انسحبت إدارة ترامب الأولى من خطّة العمل الشاملة المشتركة، التي تفاوَضت عليها الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى، بما في ذلك أوروبا، مع إيران في عام 2015، للحدّ من برنامجها النووي، هدَّدت الولايات المتحدة بفَرْض عقوبات على الأوروبيين الذين واصلوا التعامل مع الجمهورية الإسلامية. ووجدت الحكومات الأوروبية نفسها عاجزة إلى حدٍ كبيرٍ عن حماية شركاتها ضدّ القوّة الأميركية.
كان هذا هو السياق الذي كتَبنا فيه لأوّل مرّة عن تسليح الاعتماد المُتَبادَل في عام 2019. وبحلول تلك النقطة، أصبحت العديد من الشبكات الاقتصادية الأكثر أهميّة التي تدعم العَولَمة - مثل الاتصالات والتمويل والإنتاج - شديدة المركزيّة إلى الحدّ الذي جعَل عددًا صغيرًا من الشركات الرئيسة والجهات الفاعلة الاقتصادية تُسَيطِر عليها فعليًا. إنّ الحكومات التي تستطيع فَرْض سُلطَتها على هذه الشركات، وأبرزها حكومة الولايات المتحدة، قد تَتَمَكّن من استغلالها للحصول على معلومات عن خصومها، أو استبعاد المُنافِسين من الوصول إلى هذه النقاط الحيويّة في الاقتصاد العالَمي. وعلى مدى عقدين من الزمن، عملت الولايات المتحدة على بناء مؤسّسات لتأكيد وتوجيه هذه السلطة ردًّا على سلسلة من الأزمات الخاصّة.
وقد صادَف بعض كبار المسؤولين في إدارة ترامب أبحاثنا الأكاديميّة. ولِدَهشَتنا، أعجبَهم ما رأوه. وبحسب كتاب المؤرّخ كريس ميلر، الصادر عام 2022، بعنوان حرب الرقائق
Chip War
أرادت الإدارة مُمارَسة ضغطٍ أعلى على شركة هواوي الصينية لتصنيع الاتصالات، فاستغلّ أحد كبار المسؤولين فكرة تسليح الاعتماد المُتَبادَل بوَصفِها دليلًا على تعزيز ضوابط التصدير ضدّ أشباه الموصلات، واصفاً المفهوم بأنه «مفهومٌ جميل».
غير أن هدفَنا الأساسي كان كشف الجانب القبيح لهذا النوع من التسليح. إن العالَم الذي خلقَته العَولَمة لم يكن ذلك المشهد المُسَطّح المليء بالمُنافَسة السوقيّة السلميّة الذي وعَد به أنصارها. بل هي في الحقيقة قائمة على التسلسل الهرَميّ وعلاقات القوّة والثغرات الاستراتيجيّة. كما أن عِلمَها غير مُستَقِرٍ في الأساس. من شأن الأفعال الأميركية أن تستدعي ردود أفعال ممّن تستَهدفهم، وردود أفعال مضادّة من جانب الولايات المتحدة. وقد تؤدّي القوى الكبرى دور الهجوم، باحثة عن نقاط الضعف التي يمكنها استغلالها هي الأخرى. وقد تسعى القوى الأصغر إلى استخدام قنوات تبادل أقلّ مساءلة أو شفافيّة، ممّا يؤدّي فعليًا إلى بناء مساحات مُظلِمة في الاقتصاد العالَمي. وكلّما سلَّحت الولايات المتحدة الاعتماد المُتَبادَل ضدّ خصومها، زادَت احتماليّة انقطاع اتصال هؤلاء الخُصوم عن هذه الشبكة - وحتى حُلفائهم - أو اختبائهم، أو رَدّهم عليها. وبينما يستغلّ الآخرون الاعتماد المُتَبادَل سلاحًا، فإن النسيج الذي يربط الاقتصاد العالَمي سوف يُعادُ نَسْجُه وفقًا لمنطق جديد، ممّا يخلق عالَمًا يعتمد على الهجوم والدفاع أكثر من المصلحة التجارية المشتركة.
واعتمد الرئيس الأميركي جو بايدن تسليح الاعتماد المُتَبادَل بوصفهِ أداة يوميّة من أدوات حُكمِه. رفعَت إدارته ضوابط تصدير أشباه الموصلات التي فرَضها ترامب إلى مستوى جديد، حيث سلّحتها أوّلًا ضدّ روسيا، من أجل إضعاف برنامج الأسلحة في موسكو، ثم ضدّ الصين، ممّا أدّى إلى حرمان بكين من الوصول إلى أشباه الموصلات المتطوّرة التي تحتاجها لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي بكفاءة. وبحسب صحيفة واشنطن بوست، فإن الوثيقة التي صاغها مسؤولون في إدارة بايدن بهدف الحدّ من استخدام العقوبات على المشاكل الأمنيّة الوطنية العاجلة، تقلّصت حتمًا من 40 صفحة إلى ثماني صفحات من التوصيات عديمة الفائدة. وقد اشتكى أحد المسؤولين السابقين من «نظام لا هوادة فيه، لا نهاية له، ويتمثّل في ضرورة فَرْض العقوبات على الجميع وحُلفائهم...» والذي كان «خارجًا عن السيطرة».
وكانت هناك مَخاوف مُماثلة بشأن ضوابط التصدير. وحذَّر خبراء السياسة من أن القيود المفروضة على التكنولوجيا تُشجّع الصين على الهروب من قبضة الولايات المتحدة وتطوير نظامها الخاصّ من التكنولوجيّات المتقدّمة. ولكن هذا لم يوقِف إدارة بايدن، التي أعلَنت في أسابيعها الأخيرة عن مخطّط طموح للغاية لتقسيم العالَم بأسْره إلى ثلاثة أجزاء: الولايات المتحدة وعدد قليل من أقرب أصدقائها كنُخبة مُختارة، والأغلبيّة العظمى من البُلدان في الوسط، وعدد صغير من الخصوم المَريرين في أسفل القائمة. ومن خلال ضوابط التصدير، سوف تحتفظ الولايات المتحدة وشركاؤها المُقَرّبون بالقدرة على الوصول إلى أشباه الموصلات المُستَخدَمة في تدريب الذكاء الاصطناعي القوي وأحدَث «التقنيّات»- أي المُحَرّكات الرياضياتيّة التي تُحَرّك النماذج الحديّة
frontier models
في حين تَحرِم خصوم الولايات المتحدة منها، وتُجبِر معظم البلدان على التوقيع على قيود عامّة. إذا نجح هذا الأمر، فسوف يضمن ميزة أميركية طويلة الأمَد في مجال الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن إدارة ترامب تخلّت عن هذه الخطّة التكنوقراطيّة الكبرى، فإنها بالتأكيد لم تتخلّ عن هدف الهيمنة الأميركية والسيطرة على نقاط الاختناق. المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن الآخرين لا يجلسون مكتوفي الأيدي، بل إنهم يعملون على بناء الوسائل الاقتصادية والمؤسّسيّة للمقاومة.
الولايات المُتّحدة تشرب من كأسها نفسها
لقد انتشَر تسليح الاعتماد المُتَبادَل على مدى عدّة سنوات، وهو يُستَخدم الآن لمُواجَهة القوّة الأميركية. ومع بدء الصين والاتحاد الأوروبي في فهم المخاطر التي تُواجِههما، فقد حاوَلا أيضًا تعزيز نقاط ضعفهما، وربما الاستفادة من نقاط ضعف الآخرين. بالنسبة لهذه القوى العظمى، كما هي الحال بالنسبة للولايات المتحدة، فإن مُجَرّد تحديد نقاط الاختناق الاقتصادية الرئيسة ليس كافيًا. ومن الضروري أيضًا بناء أجهزة الدولة القادرة على جمع المعلومات الكافية لفَهْم الفوائد والمخاطر المباشرة، ثم وضع هذه المعلومات موضع الاستخدام. ويبدو أن النهج الذي تنتهجه الصين يؤتي ثماره، حيث تضغط على نقاط ضعف الولايات المتحدة لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وعلى النقيض من ذلك، فإن نقاط الضعف المؤسّسيّة الداخلية في أوروبا تُجبِرها على التردّد، ممّا يضعها في موقف خطير في مواجهة الولايات المتحدة والصين.
بالنسبة للصين، أظهَر كشف المُتَعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، إدوارد سنودن Edward Snowden
في عام 2013 لمُمارَسات المُراقَبة الأميركية، مدى نفوذ الولايات المتحدة وآليات العصر الجديد. كانت بكين في السابق تنظُر إلى الاستقلال التكنولوجي باعتباره هدَفًا مهمًّا على المدى الطويل. وبعد قضية سنودن، رأت روسيا أن الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية يُشَكّل تهديدًا عاجلًا على المدى القصير. وكما أظهَر عملُنا مع عُلَماء السياسة يلينغ تانYeling Tan ،Mark Dallasومارك دالاس
بدأت المقالات في وسائل الإعلام الحكومية الصينية في الترويج للدور الحاسم الذي يؤدّيه «أمن المعلومات» و«سيادة البيانات» في الأمن القومي للصين.
لقد جاء نداء الاستيقاظ الحقيقي عندما هَدّدت إدارة ترامب الأولى بقطْع الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية عن شركة
،ZZTE
وهي شركة اتصالات صينيّة كبرى، ثم استخدَمت ضوابط التصدير ضدّ شركة هواوي، التي اعتبَرتها الإدارة تهديدًا عاجلًا للهيمنة التكنولوجية الأميركية والأمن القومي. وبدأت وسائل الإعلام الحكومية الصينية في التركيز على المَخاطِر التي تُشَكّلها «نقاط الاختناق» والحاجة إلى «الاعتماد على الذات».
وقد تُرجِمَت هذه المخاوف إلى إجراءات سياسية، حيث عمل الحزب الشيوعي الصيني على تطوير «نظام على مستوى الأمّة» لتأمين الاستقلال التكنولوجي للصين، داعيًا إلى «إحراز فتوحات علميّة في التكنولوجيا والمُنتَجات الرئيسة». وبدأت الصين أيضًا تفكّر في كيفيّة استغلال مزاياها استغلالًا أفضل في مجال تعدين وتجهيز المعادن النادرة، حيث اكتسبت قبضة قويّة؛ في حين خرجت الشركات الأميركية وغيرها من السوق. لا تأتي قوّة الصين في هذا القطاع من مجرّد احتكار المعادن، والتي لا تمتلكها البلاد بالكامل، بل من هيمَنتها على النظام البيئي الاقتصادي والتكنولوجي اللازم لاستخراجها ومُعالَجتها. ومن الجدير بالذكر أن هذه المعادن الهامّة تُستَخدم في مجموعة متنوّعة من الأغراض الصناعية عالية التقنيّة، بما في ذلك إنتاج المغناطيسات المتخصّصة التي تُعَدّ حيويّة للسيّارات والطائرات وغيرها من التقنيّات المُتَطَوّرة.
وكانت الصين قد هدّدت بالفعل بخفض إمداداتها من المعادن النادرة إلى اليابان أثناء نزاع إقليمي في عام 2010، ولكنّها كانت تفتقر إلى الوسائل اللازمة لاستغلال نقطة الاختناق هذه منهجيًا. وبعد أن استيقظت على التهديد المتمثّل في استغلال الولايات المتحدة لنقاط الاختناق، سرقت الصين صفحة من كتاب الحرب الأميركي. وضعت بكين في عام 2020 قانونًا لمُراقَبة الصادرات أعاد استخدام العناصر الأساسية في النظام الأميركي. وفي عام 2024، صدَرت قواعد جديدة تُقَيّد تصدير المواد ذات الاستخدام المُزدَوج. وبسرعة، نجحت الصين في بناء جهاز بيروقراطي لتحويل نقاط الاختناق إلى أدوات ضغط عمليّة. كما أدركت الصين أيضًا أنّها في عالَم قائم على تسليح الاعتماد المُتَبادَل. ولا تأتي القوّة من امتلاك السلع القابلة للاستبدال، ولكن من السيطرة على الرُزَم التكنولوجيّة )Technological Stack) وكما قيَّدت الولايات المتحدة تصدير معدّات تصنيع الرّقائق والبرمجيّات، حظَرت الصين تصدير المعدّات اللازمة لمُعالَجة المعادن النادرة. لا تُوَفّر هذه الأنظمة التنظيمية المُعَقّدة للصين سيطرة أكبر فحسب، بل وتُوَفّر لها أيضًا معلومات حاسمة حول من يشتري ماذا، ممّا يسمح لها باستهداف نقاط الألَم في البلدان الأخرى بقَدر أعظم من الدقّة.
وهذا هو السبب الذي جعَل الشركات المُصَنّعة الأميركية والأوروبية تجِد نفسها في مأزق خلال شهر يونيو/حزيران الماضي. ولم تستَخدم الصين نظامها الجديد لمُراقَبة الصادرات لمُجَرّد الردّ على ترامب، بل للضغط على أوروبا وثَنْيها عن الانحياز إلى الولايات المتحدة. كانت شركات تصنيع السيّارات الألمانية، مثل مرسيدس وبي إم دبليو، تشعر بالقلَق بقَدر ما تشعر به مُنافساتها في الولايات المتحدة، من أنّ خطوط إنتاجها قد تتوقّف عن العمل في غياب المغناطيسات المتخصّصة. عندما توصّلت الولايات المتحدة والصين إلى اتفاق مؤقّت لأوّل مرّة، أعلَن ترامب على موقع تروث سوشيال
Truth Social
أن الصين ستُوَفّر بالكامل المغناطيسات، وأي عناصر أرضيّة نادرة ضروريّة، مُقَدّمًا»، مُعتَرفًا بمدى إلحاح التهديد الذي يُواجِه الاقتصاد الأميركي. إن المشكلة التي تُواجِه الصين على المدى الطويل هي أن دولتها قويّة للغاية، ومستعدّة للتدخّل في الاقتصاد المحلّي لأغراض سياسية بحتة، الأمر الذي يعوق الاستثمار، وربما يخنق الابتكار. ومع ذلك، فقد نجحت الصين في الأمد القريب في بناء القدرة الحاسمة لإعادة فَرْض الضوابط حسبما تراه ضروريًا لمُقاوَمة المزيد من المَطالِب الأميركية.
جعجعة دون طحن
ولكن ما إذا كانت أوروبا قادرة على الصمود في وجه الضغوط من بكين —ومن واشنطن أيضًا— تظلّ مسألة مفتوحة. تمتلك أوروبا العديد من القدرات التي تتمتّع بها القوى الجيواقتصادية العظمى، ولكنّها تفتَقر إلى الآليّة المؤسّسيّة اللازمة للاستفادة منها. يوجد مقرّ نظام سويفت، بعد كلّ شيء، في بلجيكا، كما هو الحال مع البنية التحتيّة
يوروكلير Euroclear
لتسوية العديد من الأصول المُعتَمِدة على اليورو. وتحتلّ الشركات الأوروبية —بما في
ذلك شركة
ASML
الهولندية العملاقة لطباعة أشباه الموصلات، وشركة البرمجيّات الألمانية ،SAP
ومُزَوّد تقنيّة الجيل الخامس السويدي إريكسون— نقاط اختناق رئيسة في مجموعات التكنولوجيا. كما أن السوق الأوروبية المُوَحّدة هي ثاني أكبر سوق في العالَم من بعض النواحي، ممّا قد يسمح لها بالضغط على الشركات التي تريد بيع السلع للشركات والمُستَهلِكين الأوروبيين.
لكن هذا يتطلّب من أوروبا بناء مجموعة شاملة من المؤسّسات ومجموعة مستقلّة من التقنيّات. ولكن من غير المُرَجّح أن يحدث هذا في الأمَد القريب أو المتوسّط، ما لم ينطَلق مشروع «يورو ستاك »EuroStack الناشئ
الذي يهدف إلى تأمين أوروبا من التدخّل الأجنبي من خلال بناء قاعدة مستقلّة لتكنولوجيا المعلومات، على نَحْوٍ حقيقي. ورغم أن أوروبا استيقظت على خطَر تسليح الاعتماد المُتَبادَل خلال إدارة ترامب الأولى، فإنها سرعان ما عادت إلى النوم.
ومن الإنصاف أن نقول إن نقاط ضعف الاتحاد الأوروبي تعكس أيضًا ظروفه الفريدة: فهو يعتمد على راعٍٍ عسكريٍ خارجي. لقد أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى زيادة اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في الأمَد القريب، حتى في الوقت الذي تُكافِح فيه الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية. لقد أضفَت إدارة بايدن صبغة وديّة على الإكراه الاقتصادي، حيث قامت بالتنسيق مع الحكومات الأوروبية، مثل هولندا، للحدّ من صادرات آلات إلى الصين. وفي الوقت نفسه، زوّدت الولايات المتحدة أوروبا بالمعلومات الاستخباراتية التفصيلية التي تحتاجها لفَرْض العقوبات الماليّة وضوابط التصدير ضدّ روسيا، الأمر الذي يُلغي الحاجة إلى قيام أوروبا بتطوير قدراتها الخاصّة.
تتفاقم حالة الكسَل التي تعيشها أوروبا بسبب الانقسامات الداخلية. عندما فرَضت الصين سلسلة من القيود التصديرية على ليتوانيا لمُعاقَبتها على دعمها السياسي لتايوان في عام 2021، ضغَطت الشركات الألمانيّة على الحكومة الليتوانيّة لتهدئة التوتّرات. مرّة تلو الأخرى، كانت استجابة أوروبا لتهديد الإكراه الاقتصادي الصيني مُقَيّدة بسبب يأس الشركات الأوروبية من الحفاظ على قدرتها على الوصول إلى الأسواق الصينيّة. وفي الوقت نفسه، تعمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مرارًا وتكرارًا على تخفيف التدابير الرامية إلى تعزيز الأمن الاقتصادي، أو تقليصها من خلال البعثات التجارية إلى بكين، والتي تضم عددًا كبيرا من كبار المسؤولين الحريصين على عقد الصفقات.
والأمر الأكثر عمقًا هو أن أوروبا تجِد أنه من المستحيل تقريبًا أن تتصرّف على نحوٍ مُتَماسِك في مجال الأمن الاقتصادي، لأن بلدانها تُمارِس سيطرة فردية على الأمن الوطني، في حين يتولّى الاتحاد الأوروبي ككل إدارة التجارة والجوانب الرئيسة لتنظيم السوق. هناك العديد من المسؤولين ذوي الكفاءة العالية المُنتَشرين في جميع أنحاء مديرية التجارة التابعة للمفوّضيّة الأوروبية والعواصم الوطنية للدول الأعضاء، ولكن هناك طُرُق قليلة لهم للتنسيق بشأن الإجراءات واسعة النطاق التي تجمع بين الأدوات الاقتصادية وأهداف الأمن القومي.
والنتيجة هي أن لدى أوروبا وفرة من الأهداف الأمنية الاقتصادية، ولكنّها تفتقر إلى الوسائل لتحقيقها. على الرّغم من تحذير رئيسة المفوّضيّة الأوروبية أورسولا فون دير لاين
Ursula von der Leyen من «خطر تسليح الاعتماد المُتبادل». وقد أعَدّت مفوّضيّتها استراتيجيّة متطوّرة حقًّا للأمن الاقتصادي الأوروبي، إلّا أنها لا تملك الأدوات البيروقراطيّة اللازمة لتحقيق النتائج. ولكن هذا لا يعني أن هناك أيّ شيء يُعادِل مكتب مُراقَبة الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة ،OFAC القادر على جمع المعلومات وتحديد التدابير ضدّ المُعارِضين، أو آليّة مُراقَبة الصادرات الجديدة في الصين.
إن الاختبار الفوريّ الوحيد هو ما إذا كانت أوروبا سوف تستخدم سلاحها الضخم المزعوم «أداة مُكافَحة الإكراه»، أم أنها سوف تتركه يصدأ حتى يصبح عتيقًا. من المُفتَرض أن تسمح هذه الآليّة القانونية المُعَقّدة —التي تسمح للاتحاد الأوروبي بالردّ على الإكراه من خلال مجموعة واسعة من الأدوات، بما في ذلك تقييد الوصول إلى الأسواق، والاستثمار الأجنبي المباشر، والمُشتَريات العامّة— لبروكسل بالانتقام من الحُلفاء والخُصوم. صُمّمت هذه الأداة كردّ فعلٍ على التهديد الذي فَرَضَته إدارة ترامب الأولى، وعُدِّلت على عجَل لتوفير وسيلة للردّ على الصين.
ولكن منذ البداية، أوضح المسؤولون الأوروبيون أنهم يأملون ألّا يضّطروا أبدًا إلى استخدام أداة مُكافَحة الإكراه، مُعتَقِدين أن وجودها وحده سيكون رادعًا كافيًا. وقد تبيّن أنّ هذا كان سوء تقدير خطير. إن أداة مُكافَحة الإكراه مُثقَلة بضمانات قانونية تهدف إلى ضمان عدم قيام المُفَوّضيّة الأوروبيّة باستخدامها دون الحصول على مُوافَقة كافية من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتجعل هذه الضمانات قوى أخرى، مثل الصين والولايات المتحدة، تشك في إمكانيّة استخدام هذه الأسلحة ضدّها على الإطلاق. سوف تمنَحهم استغراق عملية تفعيلها الطويلة الفرصة التي يحتاجونها لنزع سلاح أيّ إجراء تنفيذي، باستخدام التهديدات والوعود لحَشْد المعارضة الداخلية ضدّها. وكما كانت الحال مع الجهود الأوروبية السابقة لمَنع العقوبات، فإنّ الصين والولايات المتحدة تستطيعان عادة الرّهان على مبدأ منظّمة شرق أفريقيا للتعاون، EACO
القائل بأن «أوروبا تتراجع دائمًا» في المُواجَهات الجيواقتصادية. تفتَقر أوروبا إلى المعلومات والنفوذ المؤسّسي والاتفاق الداخلي اللازم للقيام بأيّ شيء آخر.
إن أداة مُكافَحة الإكراه هي العكس تمامًا من «آلة يوم القيامة» في فيلم دكتور سترينجلوف DrStrangelove)،
الفيلم الكلاسيكي الساخر عن الحرب الباردة. كانت تلك الآلة بمثابة كارثة لأنها كانت تُطلِق صواريخ نوويّة تلقائيًا ردًّا على أيّ هجوم، ولكن احتُفِظ بها سرًّا ومحروسة بعِناية حتى لحظات شنّ الهجوم. ويتحدّث المسؤولون الأوروبيون بلا انقطاع عن جهازهم المُخيف؛ ولكن أعداء أوروبا يشعرون باليقين من أنهم لن يستَخدموه أبدًا. ويُشَجّعهم هذا اليقين على إكراه الشركات والدول الأوروبية على فِعل ما يتناسب ومصالحهم.
تخريب ذاتي
تُعاني أوروبا من نقاط ضعف بِنيويّة؛ ولكن الصعوبات التي تُواجهها الولايات المتحدة ناجمة إلى حد كبير عن اختياراتها الخاصّة. بعد عقود من البناء البطيء لآليّة الحرب الاقتصادية المُعَقّدة، تعمل الولايات المتحدة الآن على تمزيقها. وجزء من هذا يأتي نتيجة غير مقصودة للسياسة الداخلية؛ إذ فرَضت إدارة ترامب الثانية تجميدًا للتوظيف في جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية، ممّا أثَّر على العديد من المؤسّسات، بما في ذلك مكتب مُكافَحة الإرهاب والاستخبارات الماليّة التابع لوزارة الخزانة، والذي يُشرِف على مكتب مُراقَبة الأصول الأجنبيّة، ممّا ترك مناصب رئيسة شاغرة؛ وتُعاني الإدارات من نقص في الموظّفين. وتتوقّع مُقترَحات الميزانيّة الأوليّة انخفاضًا عامًا في تمويل المكتب، حتى مع استمرار ارتفاع عدد البرامج المُرتَبطة بالعقوبات. على الرّغم من أن وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك Howard Lutnick
أعرَب عن دعمه لمكتب الصناعة والأمن التابع لوزارته، والذي يتحمّل المسؤوليّة الرئيسة عن ضوابط التصدير، فإنّ الوكالة فقَدت أكثر من اثني عشر موظّفًا كجزء من تخفيضات القوّات الحكومية الشاملة. ولم يكن مكتب مُراقَبة الأصول الأجنبية وبنك التسويات الدولية قادرين على رؤية كلّ شيء كما تُشير سُمعتهما، وفي بعض الأحيان ارتكبا أخطاء. ومع ذلك، فقد مُنحِت واشنطن ميزة استثنائيّة. ولم يكن لدى الدول الأخرى ما يُعادِل خرائط مكتب مُراقَبة الأصول الأجنبيّة للتمويل العالمي أو الفهم التفصيلي لسلاسل توريد أشباه الموصلات التي طوّرها مسؤولون رئيسيون في مجلس الأمن القومي التابع لبايدن.
إن هذا التدهور المؤسّسي هو النتيجة الحتميّة للترامبية. في نظَر ترامب، فإن جميع القيود المؤسّسيّة المفروضة على سلطته غير شرعية. وقد أدّى هذا إلى إجراء إصلاح شامل للجهاز الذي كان يعمل على توجيه القرارات المتعلّقة بالأمن الاقتصادي على مدى العقود الماضية. وكما وَثّقت الصحافية نهال توسي NahalToosi
في بوليتيكو، فإن مجلس الأمن القومي، الذي من المُفتَرض أن ينسّق السياسة الأمنية عبر الحكومة الفيدراليّة والوكالات، خفّض عدد موظّفيه بأكثر من النصف. لقد تعرّضت وزارة الخارجية إلى التدمير بسبب تخفيضات الوظائف، في حين اختفَت تقريبًا السيرورات التقليدية بين الوكالات التي يجري من خلالها صنع السياسات وتوصيلها، الأمر الذي ترَك المسؤولين غير عارفين لما هو مُتَوَقّع منهم، وسمَح للمسؤولين المُغامِرين بملء الفراغ بمبادراتهم غير المُنَسّقة. وبدَلًا من ذلك، تُرَكّز السياسة على ترامب نفسه، وعلى كلّ من تحدّث إليه آخر مرّة في المَوكِب غير المُنضَبط للزوّار المَتَدَفّقين إلى المكتب البيضاوي. ومع استبدال النزعة الشخصية باتخاذ القرارات البيروقراطيّة، أصبحت الأرباح قصيرة الأجَل تتغلّب على المصالح الوطنية طويلة الأجَل.
ويؤدّي هذا إلى ردود فعل سلبيّة من جانب الحُلفاء —ومن المَحاكم الأميركية. حذّر رئيس الوزراء الكنَدي مارك كارني
Mark Carney
مؤخًّرا من أن «الولايات المتحدة بدأت تستغل هيمَنتها لتحقيق مكاسب ماليّة». ربما بدأت المَحاكم الفيدرالية الأميركية، التي كانت لفترة طويلة شديدة الاحترام للسلطة التنفيذية عندما يتعلّق الأمر بقضايا الأمن القومي، تُعيد النظَر في موقفها. كما أصدَرت محكمة التجارة الدولية الأميركية في شهر مايو/أيار 2025، قرارًا مُذهِلًا، حيث قَضَت بأن الولايات المتحدة تجاوزت سلطتها عندما استندت إلى قانون الصلاحيّات الاقتصادية الطارئة الدولية —وهو الأساس القانوني لكثير من القوّة القسريّة الأميركيّة— لفَرْض تعريفات جمركيّة على كندا والمكسيك. وقد استُؤنِف هذا القرار أمام محكمة الاستئناف للدائرة الفيدرالية؛ ولكن من المُرَجّح أن يكون هذا الحُكم الأوّل من بين العديد من التحدّيات. ومن الجدير بالذكر أن قضية التجارة جاءت نتيجة لشكوى رفعَها مُحامون مُحافِظون وليبراليّون.
إن هجوم إدارة ترامب على مؤسّسات الدولة يُضعِف المَصادِر الماديّة للقوّة الأميركية. وفي مختلف القطاعات الأساسية —التمويل والتكنولوجيا والطاقة— تعمل الإدارة على جعل الولايات المتحدة أقلّ مركزية ممّا كانت عليه في الماضي. ويدفع ترامب وحلفاؤه بقوّة نحو العُمُلات المُشَفّرة، الأكثر غموضًا وأقلّ خضوعًا للمساءلة من الدولار التقليدي، ويرفضون اتخاذ إجراءات إنفاذ ضدّ منصّات العُمُلات المُشَفّرة التي تُمَكّن التهرّب من العقوبات وغسيل الأموال. رفعَت الحكومة الأميركية، في أبريل/نيسان 2025، العقوبات المفروضة على شركة تورنادو كاش
،Tornado Cash
وهي خدمة قامت بغسل مئات الملايين من الدولارات من العُمُلات المُشَفّرة المسروقة لصالح كوريا الشمالية، وفقًا لوزارة الخزانة الأميركية. وتدفع علاقة الحبّ الأميركية، التي تحصل على تأييد الحزبين، مع العُمُلات المُشَفّرة المستقرّة، Stablecoin
الصين وأوروبا إلى تسريع جهودهما لتطوير أنظمة دفع بديلة.
وعكَست إدارة ترامب في بعض الحالات سياسات بايدن، وعزَّزت انتشار التكنولوجيا التي كانت خاضعة لسيطرة سابقة. وفي صفقة ملحوظة مع الإمارات العربية المتّحدة، وافقت إدارة ترامب على تسهيل التوسّع الهائل لمراكز البيانات في المنطقة باستخدام أشباه الموصلات الأميركية المتقدّمة، على الرّغم من استمرار العلاقات بين الإمارات والصين، وتحذيرات خُبَراء السياسة من أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تعتمد على الشرق الأوسط في مجال الذكاء الاصطناعي.
أدّى مشروع قانون الإنفاق الذي أقرّه ترامب وحُلفاؤه في الكونغرس، في وقتٍ سابق من هذا الصيف، إلى التنازل فعليًا عن السيطرة على تكنولوجيا الطاقة من الجيل التالي للصين، من خلال مُضاعَفة الاقتصاد المُعتَمد على الكربون. في حين تعمل واشنطن على مُواجَهة النفوذ الصيني على المَعادِن الحيويّة، فإنها تعمل على إلغاء التدابير الرّامية إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على سلاسل التوريد الصينيّة في المجالات الحيويّة للطاقة المتجدّدة وتطوير البطّاريّات، ووقف تمويل استثماراتها في العلوم جذريًا. والنتيجة هي أن الولايات المتحدة سوف تُواجِه خيارًا غير مرغوب فيه بين الاعتماد على تكنولوجيا الطاقة الصينية، أو بذل قصارى جهدها للاكتفاء بالتكنولوجيّات المُحتَضِرة من عصر سابق.
ربما كان من المُتَوَقّع أن تستجيب الولايات المتحدة لعصر تسليح الاعتماد المُتَبادَل كما استجابت لعصر الانتشار النووي السابق: من خلال إعادة مُعايَرة استراتيجيّتها طويلة الأجَل، وبناء القدرات المؤسّسيّة اللازمة لصنع سياسات جيّدة، وتعزيز مَكانتها العالَميّة. ولكن بدَلاً من ذلك، فإنها تضع رهاناتها على إبرام الصفقات قصيرة الأجَل، وتقليص القدرة المؤسّسيّة على تحليل المعلومات وتنسيق السياسات، وتسميم المراكز الاقتصادية والتكنولوجية التي لا تزال تُسَيطِر عليها.
ولا يؤثّر هذا على قدرة واشنطن على إكراه الآخرين فحسب؛ بل إنه يُقَوّض أيضًا جاذبيّة المنصّات الاقتصادية الأميركية الرئيسة. طالما كان استخدام تسليح الاعتماد المُتَبادَل يستغل مزايا «الرزمة الأميركية»: مجموعة العلاقات المؤسّسيّة والتكنولوجية المُتَرابِطة التي تجذب الآخرين إلى فلَك الولايات المتحدة. وعندما استُخدِمت الأسلحة بحِكمة، فإنها تقدّمت ببطء، وضمن الحدود التي يمكن للآخرين أن يتسامحوا معها.
ولكن الولايات المتحدة تتّجه الآن نحو استنزاف سريع وغير قابل للسيطرة لأصولها، وتسعى إلى تحقيق أهداف قصيرة الأجَل على حساب الأهداف طويلة الأجَل. وتُستَخدم أدواتها على نحوٍ مُتزايد بطريقة عشوائيّة تؤدّي إلى سوء التقدير والعواقب غير المُتَوَقّعة. وهذا يحدُث في عالَم لا تعمَل فيه بلدان أخرى على تطوير قدراتها الخاصّة لمُعاقَبة الولايات المتحدة فحسب، بل تعمل أيضًا على بناء رزمٍ تكنولوجية قد تكون أكثر جاذبيّة للعالَم من تلك الموجودة لدى الولايات المتحدة. إذا قفَزت الصين إلى الأمام في مجال تكنولوجيا الطاقة، وهو ما يبدو مُرَجّحًا، فسوف تجتذب بلدان أخرى إلى مَدارِها. إن التحذيرات المُظلِمة التي تُطلِقها الولايات المتحدة بشأن أخطار الاعتماد على الصين سوف تبدو جوفاء بالنسبة للدول التي تُدرِك تمام الإدراك مدى استعداد الولايات المتحدة لتسليح الاعتماد المُتَبادَل فيما بينها لتحقيق أغراضها الأنانيّة.
حان وقت إعادة البناء
واجه صُنّاع السياسات الأميركيون في العقود الأولى من العصر النووي، حالة هائلة من عدم اليقين بشأن سُبُلِ تحقيق الاستقرار والسلام. وقد دفعَهم ذلك إلى القيام باستثمارات ضخمة في المؤسّسات والمبادئ الاستراتيجية القادرة على منع السيناريوهات الكابوسيّة. تجِد واشنطن، التي تدخل الآن لحظة مُماثِلة في عصر تسليح الاعتماد المُتَبادَل، نفسها في وضع حرِج بصورةٍ خاصّة.
وتُدرِك الإدارة الأميركية الحالية أن الولايات المتحدة ليست قادرة على استغلال نقاط الضعف الاقتصادية للآخرين فحسب، بل إنها قادرة أيضًا على جعل نفسها مُعَرّضة للخطَر بشدّة. لكن مُعالَجة هذه المشاكل تتطلّب من الإدارة أن تتصرّف على نحوٍ يتعارض مع غرائز ترامب العميقة.
المشكلة الرئيسة هي أنه مع اندماج الأمن القومي والسياسة الاقتصادية، يتعيّن على الحكومات التعامل مع ظواهر معقّدة للغاية خارجة عن سيطرتها: سلاسل التوريد العالمية، والتدفّقات الماليّة الدولية، والأنظمة التكنولوجيّة الناشئة. لقد ركّزت العقائد النووية على التنبّؤ باستجابات عدوٍ واحد؛ واليوم، عندما تتشكّل الجغرافيا السياسية إلى حد كبير من خلال تسليح الاعتماد المُتَبادَل، يتعيّن على الحكومات أن تتنقل إلى منطقةٍ تضم العديد من اللاعبين، وتكتشف سُبُل إعادة توجيه سلاسل التوريد في القطاع الخاص في اتجاهات لا تضرّ بها؛ مع تَوَقّع ردود أفعال العديد من الحكومات والشركات
والجهات الفاعلة غير الحكومية.
سوف يتطلّب جعل الولايات المتحدة قادرة على الصمود، في عصر تسليح الاعتماد المُتَبادَل، أكثر من مجرّد وقف التفكيك السريع وغير المُجَدوَل للهياكل البيروقراطية التي تُقَيّد صنع السياسات العشوائيّة والتعامل مع المصالح الذاتيّة. إن الاستراتيجيّة الناجحة في عصر تسليح الاعتماد المُتَبادَل تتطلّب بناء هذه المؤسّسات ذاتها لجَعلِها أكثر مرونة وأكثر قدرة على تطوير الخبرة العميقة اللازمة لفهم عالَم مُعَقّد للغاية، حيث أصبح خُصوم واشنطن الآن يمتلكون العديد من أوراقه. وربما يكون من الصعب بيع هذه الفكرة لنظام سياسي أصبح ينظر إلى الخبرة باعتبارها كلمة قذِرة، بَيْدَ أنها ضرورية للغاية للحفاظ على المصلحة الوطنية.
رَكَّزت واشنطن على التفكير في أفضل السُبُل لاستخدام هذه الأسلحة أكثر من تركيزها على متى لا ينبغي استخدامها. ولقد كانت دول أخرى على استعداد للاعتماد على البنية التحتيّة التكنولوجيّة والماليّة الأميركيّة، على الرّغم من المَخاطِر، لأنها كانت تنظُر إلى الولايات المتحدة باعتبارها حكومة مُقَيّدة بمصالحها الذاتية، وعلى الأقل إلى حدٍ ما، بسيادة القانون والاستعداد لمُراعاة مصالح حُلفائها. لقد تغيّرت هذه الحسابات، على الأرجح بصورةٍ لا رَجعة فيها، حيث أوضحت إدارة ترامب الثانية أنها تنظر إلى البلدان التي كانت الولايات المتحدة الأقرب إليها تاريخيًا على أنها دول تابعة أكثر منها حليفة. وبدون حدود واضحة وقابلة للتنفيذ على الإكراه الأميركي، فإنّ الشركات متعدّدة الجنسيّات الأكثر هيمَنة ومقرّها الولايات المتحدة، مثل غوغل وجيه بي مورجان، سوف تجِد نفسها مُحاصَرة في أرض حرب جديدة، حيث تتعرّض لنيران قادمة من كلّ الجهات.
في حين تعمل البُلدان على عزْل نفسها عن الإكراه الأميركي (والبنية الأساسية الأميركية)، تشهد الأسواق العالَميّة تفتّتًا وتصدّعًا عميقين. لقد حَذّر وزير الخزانة الأميركي الأسبق لاري سامرز
Larry H Summers
من أن هناك «قبولًا مُتَزايِدًا للتجزئة» في الاقتصاد العالمي؛ «وربما الأمر الأكثر إثارة للقلَق هو أنّني أعتقد أن هناك شعورًا مُتَزايدًِا بأن اقتصادنا قد لا يكون أفضل اقتصاد يُمكن الارتباط به».
وهذا بدوره يُشير إلى درس أعمق. لقد استفادت الولايات المتحدة من قدرتها على تسليح الاعتماد المُتَبادَل على مدى ربع القرن الأخير. لقد كانت الولايات المتحدة تتمتّع بمَزايا الاقتصاد الدولي المَبني على المؤسّسات متعدّدة الأطراف والنظام التكنولوجي المَبني حول صورتها الذاتيّة بوَصفها قوّة ليبراليّة، حتى في حين كانت تتصرّف بطُرُق أحاديّة الجانب وغير ليبراليّة في بعض الأحيان لتأمين مصالحها بالطريقة التي تراها مُناسِبة. قبل عام واحد فقط، كان بعض المُثَقّفين وصُنّاع القرار الأميركيين يأملون في أن يتمكّن هذا النظام من البقاء على قَيْدِ الحياة في المستقبل غير المحدّد، بحيث تستمرّ القوّة القسريّة الأميركية الأحاديّة الجانب والقِيَم الليبراليّة في السّيْر جَنباً إلى جَنب.
ويبدو الآن أنّ هذا الأمر غير مُحتَمَل للغاية. تُواجِه الولايات المتحدة خيارًا: إمّا عالَم يتعزّز فيه الإكراه الأميركي العدواني وانحدار الهيمَنة الأميركية، أو عالَم تُعيد فيه واشنطن تنظيم نفسها مع دول أخرى ذات عقليّة ليبراليّة، من خلال التخلّي عن إساءة استخدام سلطاتها أحاديّة الجانب. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ قبل أن ينظُر المسؤولون الأميركيون والعديد من المُثَقّفين إلى عصر الترابط العسكري المُتَبادَل وعصر الهيمَنة الأميركية باعتبارهما عصر واحد. وتبدو مثل هذه الافتراضات الآن قديمة الطراز، حيث حصلت دول أخرى على هذه الأسلحة أيضًا. وكما حدَث أثناء العصر النووي، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تبتَعد عن الأحاديّة، وتتّجه نحو الانفتاح والسيطرة على الأسلحة؛ وربما في الأمَد البعيد للغاية، نحو إعادة بناء اقتصاد عالَمي مُتَرابِط على أسُس أكثر قوّة. من شأن الفشل في ذلك أن يُعَرّض الأمن الأميركي والازدهار الأميركي للخطَر.
إحالات:
(1) الاعتماد المتبادل interdependence
هو الحالة التي ترتبط فيها الدول ببعضها البعض من خلال مصالح مشتركة وعلاقات معقّدة، بحيث لا تستطيع أيّ دولة أن تعمل بمعزل عن التأثيرات التي تنجم عن سياسات الدول الأخرى، سواء في الاقتصاد أو الأمن أو التجارة أو التكنولوجيا (المُتَرجِم).
(2) شرائح من صناعة شركة إنفيديا، وهي مُعالِجات صُمّمت خصّيصًا للسوق الصيني (المُتَرجِم).
(3) النماذج الحدّية للذكاء الاصطناعي أو النماذج المتقدّمة أو النماذج الرائدة
Frontier AI Models): يُقصَد بها أكثر النماذج تقدّمًا في حقل الذكاء الاصطناعي، والتي تقع على الحدود القصوى للمعرفة والتطوير التقني. تتميّز هذه النماذج بضخامتها الحسابيّة واعتمادها على كمّ هائل من البيانات والمُعالِجات؛ وغالبًا ما تكون قادرة على أداء طيْف واسع من المهام المعرفيّة واللغويّة. يُستَعمَل هذا الاصطلاح في وثائق السياسات الدولية للإشارة إلى النماذج التي تتطلّب مُتابَعة تنظيميّة خاصّة نظَرًا لقُدرتها على إحداث تحوّلات اقتصادية، اجتماعية، وأمنيّة واسعة النطاق (المُتَرجِم).
(4) يُقصَد بها مجموعة مُتَكامِلة من الطبَقات التقنيّة، سواء كانت عتاديّة أو برمجيّة، تُرَتّب تراكميًا، بحيث يعمل كلّ مستوى أو طبقة كقاعدة لما فَوْقَه. يُستَعمَل المُصطَلح في علوم الحَوْسَبة والإدارة الرقميّة للإشارة إلى البنى التي تجمع بين أنظمة التشغيل، وقواعد البيانات وبيئات التطوير وخوادم الويب والتطبيقات وواجهات الاستخدام. فعلى سبيل المثال، يُطلَق على مزيج لينُكس (Linux) وأباتشي (Apache) وماي إس كيو إل (MySQL) وبي إتش بي (PHP) اسم (LAMP stack).
يُعَدّ هذا المفهوم جوهريًا في فَهْم بنى الإنترنت والتطبيقات الذكيّة ومنصّات التجارة الإلكترونية، إذ تُمَثّل الرّزم التكنولوجيّة الإطار البنيويّ الذي يُمَكّن الأنظمة المختلفة من العمل بوصفها وحدة مُتَرابِطة، بحيث تندمج الطبقات المتنوّعة في خدمة واحدة مُتَماسِكة (المُتَرجِم).
2025-10-19 13:39:41 | 27 قراءة