التصنيفات » مقالات سياسية

حرب الإبادة وانعكاسها على المجتمع الإسرائيلي ودولته

حرب الإبادة وانعكاسها على المجتمع الإسرائيلي ودولته

مهند عبد الحميد –كاتب فلسطيني
فلسطين
موقع درَج
18.10.2025

 لا يُمكِن حلّ الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي بالإزالة والمَحو، وباستخدام القوّة وحرب الإبادة والتهجير. حاولت حكومة نتانياهو حسم الصراع بالقوّة التدميريّة لفَرْض الحلّ الفاشيّ على الشعب الفلسطيني، لكنّها جوبهت باعتراض شعوب وحكومات، وتحوّلت إلى دولة منبوذة عالَمياً. حتى إدارة ترامب المُنحازَة لسياسة أقصى اليمين الإسرائيلي، وَجَدَت أن دعمَها المفتوح بالمال والسلاح لحكومة نتانياهو بات قضيّة خاسرة، ما دفعَها إلى فَرْض وقف الحرب بشروط مُنحازَة لإسرائيل؛ غير أنها لا تُلَبّي أهداف نتانياهو في التهجير وإعادة الاحتلال والاستيطان وضمّ الضفّة الغربية وشطب القضيّة الفلسطينية من الأجنْدة الإقليمية والدولية.  
عمِلت حكومة نتانياهو بكلّ ما أوتيت من قوّة على شطب حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وكان ذلك هدَفاً ناظِماً لسياساتها قبل “7 أكتوبر”، وأثناء حرب الإبادة وتدمير البنية التحتيّة وكلّ مُقَوّمات الحياة والبقاء في قطاع غزّة، ومن خلال التطهير العِرقي ونهب أراضي الضفّة الغربية واستيطانها تمهيداً لضمّها، وتهجير أكبر عدد مُمكِن من الشعب الفلسطيني في الضفّة والقطاع خارج فلسطين. 
يأتي ذلك  بالتضادّ مع حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره المَدعوم  من 159 دولة، والمنصوص عليه في مئات القرارات الدولية وفي الرأي القانوني، الذي قَدّمته محكمة العدل الدولية.  
كانت الحلقة الأولى في مُسَلسَل إفشال الحلّ السياسي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي،  اغتيال إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، الذي فتَح ثغرة في نظريّة الإنكار الإسرائيلي للوجود والحقوق الفلسطينية، وسار خطوة في طريق الحلّ؛ لكنّه اغتيل لمصلحة مُعَسكَر اليمين الرافض للحلّ بزعامة نتانياهو. بينما  اعتمَد ياسر عرفات سياسة واقعيّة براغماتيّة على قاعدة الاعتراف بالقرارات الدولية، كبديل لسياسة الرفض التي التزَمت بحقوق كاملة غير قابلة للتصرّف والتطبيق في آن. 
غير أن قبول الوطنية الفلسطينية بالحلّ الدولي تَرافَق مع صعود الإسلام السياسي – تنظيم  الإخوان المسلمين الفلسطيني، الذي تَحَوّل في العام 1989 إلى حركة المقاومة الإسلامية “حماس “. وقد  بدأت بعد اتّفاق أوسلو بعمليّات تفجير “استشهادية” ضدّ أهداف مدنيّة في العُمق الإسرائيلي، كانت وظيفتها إسقاط اتّفاق أوسلو، الذي أُقِرّ في البرلمان (الكنيست) بفارق صوت واحد، وبدعمٍ من النوّاب العرب. 
ساهمت تفجيرات “حماس” وخسائرها في صفوف المدنيين، ضمن عوامل أخرى، في انتقال اليمين القومي والديني بزعامة نتانياهو إلى مركز القرار الإسرائيلي. وقد اعتمَد سياسة منهجيّة هدفها تقويض مُقَوّمات الحلّ السياسي على الأرض، مُستَخدِماً سلاح مُصادَرة الأراضي الفلسطينية واستيطانها، وحصار التجمّعات واختراقها ببؤر استيطانية، ومُمارسة أشكال من التطهير العِرقي، وإطلاق العنان لمنظّمات فاشيّة، مثل جماعات إعادة بناء الهيكل و”الكهانيّون الجُدُد” و”تدفيع الثمن” و”شبيبة التلال” الاستيطانية… 
الأطماع الكولونياليّة الإسرائيلية الجديدة أعادت توظيف الدّين في عمليّة الاستحواذ على الأرض الفلسطينية، استناداً إلى مَقولة  “أرض الميعاد التي منَحها الله للشعب المختار”. وفي خضمّ التوسّع والنهب الاستعماري، شهِد المجتمع الإسرائيلي تحوّلات موغِلَة في العنصريّة والرجعيّة والتعصّب الدينيّ العِرقيّ والقومي؛ وقد عمّقها الاحتلال بمعدّلات مُتَسارِعة.  
اتّبع نتانياهو وحكومته سياسة فَصْل الضفّة الغربية عن قطاع غزّة لمصلحة سلطة “حماس” المتأتّية من انقلاب عسكري، وسياسة إضعاف السلطة الفلسطينية الرسمية، مُقابِل تقوية سلطة “حماس” المَوصومة بالإرهاب، والسماح بدخول الأموال القَطَريّة رسمياً، وبشكل مُنتَظم بلَغ  30 مليون دولار شهرياً، وغضّ النظر عن منظومة  التهريب الحمساوية، بما في ذلك تهريب السلاح عبر شبَكة الأنفاق العابِرة للحدود المصرية. وبعد حسْم سيطرة “حماس” على قطاع غزّة، لم يمنع نتانياهو سيطرة التنظيمات المسلّحة التابعة لـ”حماس” و”الجهاد” على مُخيّمات وبَلدات ومدن جنين وطولكرم ونابلس شمال الضفّة الغربية الخاضعة لولاية السلطة الفلسطينية.
ولم يكن بلا مغزى تَظاهُر عشرات، وأحياناً مئات الشبّان المُسَلّحين، وقيامهم بعروض عسكرية في مخيّمات جنين وطولكرم ونابلس، وظاهرة انتشار السلاح بيعاً وشراء، بتمويل من “حماس” و”الجهاد”، أمام مرأى قوّات الاحتلال وسَمْعها.  المُفارَقة  أن سياسة نتانياهو عمِلت على ترجيح  كفّة  المزاج الفلسطيني المؤيّد لـ”المقاومة الإسلامية “، عندما وضِع عامّة الناس أمام خيارين، الأوّل: خيار سلطة بيروقراطيّة عاجزة وفاسدة ومُفلِسة مالياً ومنزوعة الصلاحيّات، تَستَجدي الحلّ السياسي والدعم الدولي وتنتظر دون جدوى . الخيار الثاني: سلطة “حماس” المُقاوِمة للاحتلال – الرافضة لاتّفاق أوسلو ولإسرائيل، التي “تعمل على هزيمتهما” واستعادة الحقوق الفلسطينية من النهر الى البحر.  اختار الشعب سلطة  المقاومة بأغلبيّة راجحة، وبخاصّة فئة الشبّان. 
أرادت حكومة نتانياهو من وراء ذلك تقديم الدّليل على عدم أهليّة المجتمع الفلسطيني الذي يرفض الحلّ السياسي  ويدعم إزالة إسرائيل، وعلى عدم أهليّة القيادة الفلسطينية العاجزة التي لا تحول دون ذلك؛ بل تُساهِم في تمويل “الإرهاب” من خلال دفع مُخَصّصات أُسَر الشهداء والجرحى والأسرى، ومن خلال الرواية الفلسطينية التي تُمَجّد النضال الوطني في الكتب المدرسيّة.    
 بنى نتانياهو على التحوّل في المزاج الفلسطيني الذي رعاه وساهم في بنائه،  توجّهاً سياسياً يقضي بإبرام اتّفاقات إبراهيميّة جديدة مع دول عربية وإسلامية من دون الشعب الفلسطيني، مُقَدّماً شعار “السلام مُقابِل السلام” كبديل لشعار “الأرض مُقابِل السلام”. 
واستمرّ سَعيُه المَحموم في إقصاء الشعب الفلسطيني من أيّ حلّ سياسي. وقد عرَض خارطة للشرق الأوسط الجديد أمام الجمعيّة العامّة في أيلول/ سبتمبر العام 2023،  تخلو من أيّ إشارة إلى وجود فلسطيني. وكان نتانياهو يُعِدّ العدّة مع  قيادة “حماس” في الخارج، لإبرام هدنة طويلة الأمَد تكرّس حكم “حماس” في قطاع غزّة، وتفصله بشكل نهائي عن الضفّة وعن السلطة. غير أن قيادة  "السنوار" و"الضيف" التي تُسَيطِر على “كتائب القسّام”، المَدعومة من الحرس الثوري الإيراني، استَبَقت الاتّفاق بهجوم “7 أكتوبر”، لتُعيد بذلك خَلْط الأوراق وتُدَشّن طوراً هو الأخطَر في تاريخ الصراع. 
“نكون أو لا نكون” 
رأت المؤسّسة الإسرائيلية، سُلطة ومُعارضة،  في هجوم “7 أكتوبر”، الذي شَنّته “حماس”، حرباً على الوجود الإسرائيلي برمّته، لا يُضاهيه خطورة غير الهولوكوست. أحدَث الهجوم “صدمة هَزّت أُسس الأمن والمجتمع والمستقبل” للدولة والمجتمع الإسرائيلي، لَخّصتها مقولة  “أن نكون أو لا نكون” التي قذَفها الإسرائيليون في وجه العالَم، واختاروا أن يكونوا حاضرين، ولكن  من خلال محو الفلسطينيين. منذ “7 أكتوبر” طغَت غريزة الانتقام والثأر على تفكير القيادة الإسرائيلية ومجتمعها، وتصرّفوا “كقبيلة مُتَزَمّتة تجمع أصوليين وقوميين وعِلمانيين وليبراليين ويساريين”، وَحّدَتها “مغامرة حماس يوم 7 أكتوبر”، التي كان من نتائجها قتل 1200 شخص، أكثرهم من المدنيين، وخطف 250 شخصاً، بينهم أطفال ومُسِنّون وعمّال أجانب وجنود.
 طوفان “حماس” أوجَد تعاطفاً دولياً غير مسبوق مع إسرائيل، لا سيّما باستهدافه المدنيين بالقتل والخطف. سمَح النظام الدولي لإسرائيل بالدفاع عن نفسها، وفهمت القيادة الإسرائيلية أنها تستطيع فعل كلّ شيء بمَعزل عن ضوابط القانون الدولي… نبَذ الإسرائيليون كلّ حديث عن السياق والأسباب والمسؤوليّة الإسرائيلية التي أدّت إلى الطوفان. لم يتوقّفوا عند دَوْر الاحتلال والاستيطان والحصار وإخضاع  شعب آخر والتعامل معه كعَبيد.  كان الرأي السائد في إسرائيل أن “الكراهيّة الفلسطينية القاتلة” التي انفجرت يوم 7 تشرين الأوّل/أكتوبر كانت نتيجة “نزعة فلسطينية فطريّة لقتل اليهود”، مُستَبعِدين علاقة الاضطهاد القائمة على نهب المَوارد الفلسطينية وعلاقة الأسياد بالعبيد… 
قبل “7 أكتوبر” سعَت حكومة نتانياهو إلى تصفية القضيّة الفلسطينية بالتدريج، من خلال صناعة الوقائع الاستعمارية على الأرض. بعد “7 أكتوبر” فتَحت مؤسّسة الحرب أبواب جهنّم، مُحاوِلةً حسم الصراع  بالضربة القاضية، مُستَخدِمةً حرب إبادة وتدمير وتجويع وتهجير داخلي، بوتائر مُتَسارِعة، وبدعم شعبي ساحق.  
تقول يولي نوفاك، المديرة التنفيذية لمنظّمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بيتسيلم”: “بلدُنا يرتكب إبادة جماعيّة في قطاع غزّة. وقد حوّل جيشُنا تصريحات المسؤولين عن المحو والموت إلى خطّة، وشرَع بتنفيذها”؛ وتضيف: “لا تَحدُث الإبادة الجماعيّة دون مُشارَكة جماهيريّة تُوَفّر الدعم، أو تُمَكّنها، أو تغضّ الطرف عنها، وهو ما وَفّره المجتمع الإسرائيلي”.
الردّ الإسرائيلي بدأ بنَزْع إنسانيّة الكلّ الفلسطيني وشَيطَنته. لا يوجد أبرياء في غزّة؛ أزالت إسرائيل الخطوط الفاصلة بين المدنيين والمُقاتِلين، بين الإرهاب والمقاومة، بين نقد الجرائم الإسرائيلية ومُعاداة الساميّة، بين الإسلام السياسي والتنظيمات الأصوليّة والمسلمين، وبين السلطة المُلتَزمة بالاتّفاقات وحركة “حماس” الرافضة لها. قالوا إن الصراع  في هذه المنطقة يدور بين الحضارة  الغربية الإسرائيلية والبربريّة الفلسطينية. ويَستَكمِل نتانياهو هذا التوصيف بالقول إن إسرائيل تخوض الحرب الأكثر عدالة وأخلاقيّة في العالَم، مُحاوِلاً تبرير حرب الإبادة، مُستَلهِماً صورة  العماليق من العهد القديم، وقد دَمَجَهم  بالفلسطينيين باعتبارهم الأعداء الأبديّين الذين يجب إبادتهم، ولا أحد بريء منهم، بمن فيهم الأطفال!
 خطاب الكراهية والانتقام والإبادة جرى ضخّه من أعلى المستويات الدينية والسياسية والعسكرية، وسرعان ما انعكس على الرأي العامّ الإسرائيلي. فقد أظهَر استطلاع نشرَته صحيفة “هآرتس”، أن 82% من الإسرائيليين يؤيّدون التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزّة إلى خارجها. وأكثريّة من 72% تؤيّد استخدام الغذاء  كسلاح  لإخضاع الفلسطينيين. كانت استجابة المجتمع الإسرائيلي للحرب الوحشيّة مُذهِلة! لم يقتصر الموقف الفاشي على الاتّجاهات الدينية والقومية، بل شارك فيه علمانيّون ويساريّون.
 ومن الدلائل على ذلك نشوء تيّار إسرائيلي عَرّفَ نفسه بـ”النازيين اليوغيين”- نسبة إلى اليوغا -  دمَج مفاهيم مُتَناقِضة، كأن يكون المرء روحانياً، بينما يدعو إلى طرْد عدوّه وإبادته. هؤلاء يَدْعون إلى “تدمير غزّة والشروع بالقتل من الرضيع إلى العجوز”.
 ولا يَسلَم الإسرائيلي العادي من روح العداء للآخر. يقول الكاتب رعنان شكيد في صحيفة يديعوت “أنا قلِق على قطّتي أكثر من جوع الناس في غزّة”؛ ويضيف: “سلبَتني الحرب التعاطف العامّ مع البشر. وهي سِمَةٌ عندما تختفي من حياتك قد تتحوّل إلى مريض نفسي؛ وأحياناً إلى مُتَحَدّث باسم القتَلة والمُغتَصِبين… الرّغبة البدائيّة في الانتقام التي تتصاعد بداخلي تنتقص من إنسانيّتي”.
 وعندما سُئِلَت سيّدة إسرائيلية عن سبب هجرتها، أجابت: “كيف يُمكِنني العيش مع ناس يقضون وقتهم في نقاش أساليب القضاء على قطاع غزّة باستخدام السلاح النووي أو بالتجويع!”. 
بدَوْرِهم، مئات الجنود تفاخروا بأعمال القتل والتدمير، من خلال عَرْض “إنجازاتهم” الفاشيّة على مواقعهم، أو باعترافات للصُحُف، كان أبرزها الاعترافات التي سَجّلتها صحيفة “واشنطن بوست” وصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية. 
مضى الجيش الإسرائيلي في تدمير معظم مُدُن قطاع غزّة ومخيّماته وبلداته، وحَوّلها إلى مكان للموت، حيث قُتِل وأُصيب نحو ربع مليون من عدد السكّان البالغ 2.3 مليون شخص، وشُرّد 90% منهم داخل القطاع  المُدَمّر بنسبة 80%، وانتقلوا من منازلهم إلى الخِيام، بعد تدمير أجهزة التعليم والصحّة والعمل والزراعة والصناعة والصيد والمُواصَلات ومعظم البنية التحتيّة. واستُخدِم سلاح التجويع الذي أدخَل الغزّيين في طَوْرِ المجاعة التي بدأت تفتك بالأطفال والمُسِنّين.
 السلوك الإسرائيلي وحرب الإبادة المنقولة بالصوت والصورة على مدار 24 ساعة، دفَع محكمة العدل الدولية إلى الاجتماع وإصدار توصيات احترازيّة لقَطْع الطريق على حرب الإبادة، ودفَع محكمة الجنايات الدولية إلى استصدار قرار القبض على نتانياهو ووزير دفاعه غالانت وثلاثة من قيادة حركة “حماس” للمُثول أمام العدالة. 
الاحتلال رافعة للتحوّلات 
التحوّلات والجاهزيّة الإسرائيليّة لحَسْم الصراع مع الشعب الفلسطيني، كانت تنضج وتتّسع على نار الاحتلال الذي نَمّى فاشيّة وعنصريّة على قاعدة المصالح، التي يستفيد أصحابها من نَهْب وقَرْصَنة الأرض والمَوارِد واحتكار السوق الفلسطينية. ونمّى في الوقت نفسه ثقافة إنكار وكراهيّة الآخر الفلسطيني. في هذا السياق نشأ تيّار أرثوذكسي مسياني، يملك رؤية خلاصيّة تدعو لإقامة دولة “هلاخية” - دولة الشريعة اليهودية - على جميع الأراضي الموعودة - فلسطين التاريخية. 
يَستَنِد هذا التيّار العابِر للأحزاب الدينية والقومية إلى أفكار الحاخام كوك، مؤسّس الصهيونية الدينية، وغيره من الحاخامات الذين يعتَبرون النظام القضائي والقانون والمؤسّسات المُدافِعة عن الديمقراطية، ليست سوى قشرة يجب إزالتها للوصول إلى دولة الشريعة.
في العام 2019 لخَّص الحاخام تسفي تاو الموقف بالقول: “انتهى عصر العلمانيّة  والليبراليّة والقِيَم الديمقراطيّة، وأصبحت جميعاً عقَبة أمام دولة الشريعة”، ودعا إلى إعادة بناء الدولة والجيش والنظام القضائي والمحكمة العليا والقانون بعيداً عنها. لهذا التيّار مُدُن وبلدات حريديّة ومسيانيّة، لها مَدارسها وجُنودها ونظام تعليمي انتشَر في المدارس الحكومية، يسعى إلى تغيير  وجه البلاد، كما أوضحت الكاتبة الإسرائيلية إليت شاني في “هآرتس”. ويُلاحَظ أن نتانياهو اختار رئيس جهاز  الشاباك الجديد (الأمن الداخلي) ديفيد زيني من هذا التيّار.  
كان الانقلاب القضائي الذي قادَه نتانياهو ووزراؤه، جزءاً مهمّاً من الحرب على الديمقراطية الليبرالية التي أحدثَت شروخاً عميقة في المجتمع الإسرائيلي. جوبِه الانقلاب باحتجاجات مُتَصاعِدة من العلمانيين والليبراليين واليساريين، وجزء من اليمين الذي تعرّض للإقصاء من نتانياهو. استمرّت الاحتجاجات 9 أشهر، وكادت أن تأتي أُكُلَها بإسقاط حكومة نتانياهو الكهانيّة العنصريّة. لكنّ زلزال “7 أكتوبر” أوقَف الاحتجاجات، ووَحّد إسرائيل، بيمينها ويسارها ووسطها، في حرب إبادة وتصفية تحت شعار “معاً سننتصر“. 
 نتائج وتداعيات 
يعتقد نتانياهو أن القوّة هي كلّ شيء، وقد استَحضَر عقيدة إسبرطة؛ تلك القلعة العسكرية القوّية التي عاشت في حالة حرب دائمة. وإذا كانت  حرب الإبادة قد نجحت في توحيد مجتمع المُستَعمِرين بعض الوقت، لكنّ تفاعلاتها الداخلية والخارجية، كنَبْذ إسرائيل والإسرائيليين في معظم دول العالَم، وعودة الصراع الداخلي بين العلمانيين والمتديّنين، وسؤال الهجرة من إسرائيل الى خارجها بدءاً بالنخب، وسؤال اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وسؤال الحلّ الذي قدّمته الصهيونية للمسألة اليهودية؛ كلّ ذلك أدخَل إسرائيل في مأزق كبير، بالرّغم من تعزّز دورها الوظيفي الإقليمي المُدافِع عن علاقات التبعيّة والهيمَنة، ومُكافَأة أميركا ودول الغرب لها  بنحو 34 مليار دولار، لتعزيز ترسانتها العسكرية واقتصادها منذ “7 أكتوبر” وحتى اليوم.     
يقول أبراهام بورغ، رئيس الكنيست السابق: ” الهولوكوست رَسّخَ إسرائيل كحالة استثنائية يُسمَح لها بكلّ شيء. وكان آخرها ارتكاب الجرائم الفظيعة في غزّة. وبسبَبه أيضاً، لم يوقِفها العالَم بعد؛ ولكن في حرب غزّة، انهارَ كلّ شيء. فأمام  صُوَر الإبادة والمجاعة لم يَعُد من المُمكن التمسّك بسرديّة الضحيّة الأبديّة. أوشفيتس لا يُمكِنه أن يُبَرّر رفح… وفي اللحظة التي تحوّلت فيها إسرائيل إلى مُسَبّبة لمثل هذه الكارثة الجماعيّة، انتهى رصيدها الأخلاقي. لا شيء يسمح لدول الغرب، بما في ذلك ألمانيا، بدعم جرائم ضدّ الإنسانية يرتكبها أبناء وأحفاد ضحايا الهولوكوست؛ إسرائيل الآن مكشوفة؛ لم يَعُد لديها بوليصة تأمين تاريخيّة، ولا حصانة أخلاقيّة. لم يَعُد العالَم مُستَعداً لقبول التفسير بأن إسرائيل مُعفاة من المُحاسَبة بسبب الهولوكوست. لن تتكرّر المحرقة أبداً لليهود ولغيرهم، بمن فيهم الفلسطينيين في غزّة”. المصدر: موقع “واللا“. 
 ضمّ وتطهير عِرقي 
 أغلقت حكومة نتانياهو، بدعم من المعارضة، كلّ الأبواب أمام أيّ حلّ سياسي للصراع  الفلسطيني- الإسرائيلي، قبل الحرب وأثناءها وبعدها. فقد اتّخذ الكنيست الإسرائيلي قراراً يُعارِض فيه إقامة دولة فلسطينية، ويعتَبر إقامتها من شأنه أن يُشَكّل خطراً وجودياً على دولة إسرائيل ومُواطنيها. واعتمَد الكنيست قراراً آخر يعتَبر أراضي الضفّة الغربية جزءاً لا يتجزّأ من “أرض إسرائيل الوطن التاريخي والثقافي والروحي للشعب اليهودي”، وطلَب من الحكومة ضمّها رسمياً.  وصادَقت حكومة نتانياهو على مُخَطّط البناء الاستيطاني في منطقة E1 الضخم، الذي يُجَزّئ الضفّة ويَحول دون إقامة دولة فلسطينية. 
 وتستمرّ عمليّة الاستيلاء على أراضي المُواطِنين في الضفّة الغربية وغزوها بالبؤر الاستيطانية، التي بلَغ عددها منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم 121  بؤرة. وقام المستوطنون والجيش بمُمارَسة تطهير عِرقي لنحو 70 تجمّعاً فلسطينياً في الضفّة الغربية. فضلاً عن سيطرتهم على أجزاء حيويّة من أراضي الضفّة ومنع المواطنين من زراعتها وقطْف المحاصيل وتسويقها. أما على جبهة الاقتصاد، فقد طرَدت  سلطات الاحتلال 120 ألف عامل فلسطيني،  وخسر 100 ألف عامل عمله في الضفّة والقطاع، لترتفع نسبة البطالة إلى 51%. وتحتجز الحكومة الإسرائيلية  عائدات الضرائب الفلسطينية التي تُقَدّر بنحو ملياري دولار. 
استجابات إسرائيلية 
يقول كاتب إسرائيلي: “لن تستطيع إسرائيل الحفاظ على اقتصاد وجيش عالَم أوّل مُتَفَوّق جدّاً بعقليّة قروسطيّة”. ولن يستطيع مجتمعها الحفاظ على تماسكه وتعايشه الداخلي في ظلّ دولة ثيوقراطية رموزها من أمثال بن غفير وسموتريتش، ونظام أبارتهايد كولونيالي. إسرائيل تعتَمد على 300 ألف شخص يتمتّعون بمهارات استثنائية في الهايتيك والأكاديميا والدفاع؛ وإذا بدأ هؤلاء بالمُغادَرة الجماعيّة، فإنّ دوّامة الانهيار ستكون خارجة عن السيطرة. ولن يتمكّن أيّ ليبرالي وعِلماني من العيش في إسرائيل، بعد نجاح الانقلاب القضائي وتغلغل الأصولية اليهودية. وعندما يترافَق ذلك مع تحوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة شبه مارقة لدى شعوب العالم ومعظم حكوماته، التي بدأت تُمارِس بعض العقوبات، كوقف الاستثمار، وحظْر أسلحة، ووقف التعاقد مع فنّانين وأكاديميين، وإقصاء من الفعّاليات الدوليّة بشكل مُتَزايد، فإن ذلك يطرَح تحدّياً داخلياً، ويفترض صعود معارضة جديدة من خارج صندوق الأحزاب المسؤولة عن إزالة الحدود بين سلطة كهانيّة والمعارضة”. 
حاوَل إسرائيليون  عرقلة التطهير العِرقي في الضفّة الغربية، بمُبادَرة ناشطين لسان حالهم يقول: نحن نُدَمّر مجتمعاً آخر، فلنُحاول تأخير ذلك. هؤلاء انطلَقوا من مبدأ أن حقوق الإنسان لها أسبقيّة على أرض إسرائيل، مُستَلهِمين أعمال الإنقاذ التي جرَت أثناء الهولوكست ونجحت في إنقاذ من يُسَمّون بالنّاجين. قرابة 100 مُتَطَوّع إسرائيلي شكّلوا مجموعة على وسائل التواصل الاجتماعي، ونظّموا أنشطتهم التضامنية مع الفلسطينيين الذين تعرّضوا للتطهير العِرقي، وتعرّضوا لاعتداءات المستوطنين والجيش.
يقول المُخرِج السينمائي الإسرائيلي باراك هيمان: “أشكر كلّ من يُقاطع أفلامي”. لا شكّ في أن المقاطعة الثقافية لإسرائيل ستَضرّ ليس فقط بالفاشيين، بل أيضاً بالأشخاص الطيّبين والشجعان. إنه ثمن زهيد لإنهاء إبادة جماعيّة؛ ويُشير إلى رسالة بادَرت بصياغتها صانعتا الأفلام الوثائقية المُخضرَمتان، آدا أوشبيز ويولي كوهين، التي وَقّع عليها أكثر من خمسين مُبدِعاً إسرائيلياً أرادوا القول “إنّنا مع  كلّ من يُقاطِع إسرائيل في هذا الوقت. نحن جزء من هذه الجريمة. لذا، من واجبنا الأخلاقي دعم كلّ من يُعارضها ويسعى لوَقفها، حتى لو تَعارَض ذلك مع مصالحنا الشخصية”.  
منظّمة “نقف معاً”، وهي منظّمة يهودية فلسطينية تضمّ أكثر من 6,000 عضو، هدفُها بناء أكثريّة جديدة في المجتمع الإسرائيلي من أجل تحقيق السلام، والمُساواة، والعدالة الاجتماعية والبيئية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ورفع الحصار عن قطاع غزّة، وإبرام تسوية فلسطينية- إسرائيلية تُحَقّق السلام للشعبَيْن، ومن أهدافها المُباشِرة تعريف الإسرائيليين بمُعاناة الغزّيين، كمَوْت الأطفال والمجاعة.   
 وهناك نساء يهوديات وعربيات – كاتبات ومُعالِجات وفنّانات ومُعَلّمات وقائدات مجتمع- 21 ناشطة يعمَلن على وضع حدّ للحرب والتطرّف في المُجتَمَعَيْن، يَعمَلن على تهدئة التوتّرات ومُحاوَلة منع العنف وبناء جُسور في مجتمع مُتَصدّع.  وخلافاً للمألوف، خرَجت مُظاهَرة في تل أبيب، رفَع المُشارِكون فيها صُوَراً لأطفال غزّة الذين ماتوا جرّاء الجوع، وحمَلوا أكياس دقيق ردّاً على المجاعة. 
 300 مهندس معماري إسرائيلي وَقّعوا عريضة بعنوان “أوقِفوا التدمير والقتل والتجويع والتهجير الجماعي”. ووَقّع أكثر من ألفي فنّان وشخصيّة ثقافية إسرائيلية عريضة تدعو إلى إنهاء الحرب بعنوان “أوقِفوا الرّعب في غزّة”؛ ودعا مؤتمر “آنَ الأوان” إلى وقف الحرب وإبرام اتّفاق سياسي وتبادل الأسرى، شارك فيه 6 آلاف شخص، وكان أكبر تجمّع لليسار منذ سنوات طويلة، حضَرته منظّمات سلام ومنظّمات نسَويّة. 
مُبادَرات وأنشطة أخرى تُعَبّر عن أقليّة ضئيلة في المجتمع الإسرائيلي، تُناهِض الفاشيّة والعنصريّة والحرب، وتُدافِع عن حقوق الفلسطينيين. في آب/ أغسطس الماضي، أُنشئت  “أكاديميّة الأمل” بمُبادَرة ودعم إسرائيليين وفلسطينيين، وهي قرية تُعنى بـ 600 طفل فلسطيني فقَدوا آباءهم وأمّهاتهم، أُقيمت في مدينة دير البلح وسط القطاع. هناك، يتلقّى الأطفال وَجبتَين ساخنتَين يومياً، بالإضافة إلى العلاج الطبّي والدعم النفسي المستمرّ.
 ماذا قالت الحرب
 لا يمكن حلّ الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي بالإزالة والمَحو، وباستخدام القوّة وحرب الإبادة والتهجير. حاوَلت حكومة نتانياهو حسم الصراع بالقوّة التدميريّة لفَرْض الحلّ الفاشي على الشعب الفلسطيني، لكنّها جوبِهت باعتراض شعوب وحكومات، وتحوّلت إلى دولة منبوذة عالمياً. حتى إدارة ترامب المُنحازَة لسياسة أقصى اليمين الإسرائيلي، وَجَدَت أن دعمها المفتوح بالمال والسلاح لحكومة نتانياهو بات قضيّة خاسرة، ما دفعَها إلى فَرْض وقف الحرب بشروط مُنحازَة لإسرائيل، غير أنها لا تُلَبّي أهداف نتانياهو في التهجير وإعادة الاحتلال والاستيطان، وضمّ الضفّة الغربية، وشطْب القضيّة الفلسطينية من الأجندة الإقليمية والدولية.  
مُبادَرة ترامب أخذَت بالاعتبار الإرادة الدولية المُناهِضة للحرب والداعية لحلّ سياسي، كما جاء في وثيقة نيويورك وقرار الجمعيّة العامّة واعتراف 159 بلَداً بالدولة الفلسطينية؛ لكنّها فَرَضَت وصاية  واشتراطات على الوضع الفلسطيني برمّته،  وأفقدت القرار الفلسطيني ما تَبَقّى من هامش استقلالي؛ في الوقت الذي لم تَعُد فيه إسرائيل قادرة على منع الحلّ الدولي للصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، لكنّها تُواصِل عمليّات تقويض مُقَوّماته على الأرض.
 من جهة أخرى، رفَض العالَم الرؤيتين اللاهوتيّتين المُطلَقتيْن اليهودية والإسلامية لحسم الصراع، حيث لا يرى كلّ طَرف مجالاً لوجود الآخر. وإذا كان  هدف الرؤية اليهودية تسهيل النهب والهيمَنة والتغطية على الاستعباد والاضطهاد ذا الطبيعة الاستعمارية العميقة، فإن اللّاهوت الإسلامي الذي لا يملك القوّة ومُقَوّمات السيطرة قدّم خدمة هائلة للّاهوت الأقوى. 
أحد أهم نتائج حرب الإبادة أن الإسرائيليين لن يتمكّنوا من العيش في سلام ما لم يتمكّن الفلسطينيون من نَيْل حقوقهم المُعَرّفة في المؤسّسات الدولية، ويعيشوا بسلام.  يقول يائير جدعون، زعيم “الحزب الديمقراطي” الذي يضمّ حزبي “العمل” و”ميرتس”: “الساحة الفلسطينية هي المكان الذي سيُقَرّر فيه مستقبل إسرائيل. والتحدّي الأكثر إلحاحاً هو وقف الحرب وبدء التعامل مع الشرعيّة الفلسطينيّة”. ويُمكِن قول الشيء نفسه: إن تقرير المصير الفلسطيني لن يكون بمَعزل عن اعتراف إسرائيليين يؤمنون بسلام حقيقي ودعمهم. فهل يَشُقّ فلسطينيون وإسرائيليون الطريق إلى الحلّ؟  

 

2025-10-23 11:07:05 | 24 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية