التصنيفات » مقالات سياسية

إلى أين... أوسلو ناقص أو زائد أم دولة واستقلال؟

إلى أين... أوسلو ناقص أو زائد أم دولة واستقلال؟

بقلم: هاني المصري
موقع العربي الجديد 
14/10/2025

 رغم ما شهِدته الحرب في غزّة من دمار وكوارث غير مسبوقة، فإنها لم تُحسَم بالضربة القاضية لأيّ طرَف. فلم يتحقّق نصرٌ حاسمٌ لا لإسرائيل ولا للفلسطينيين. والنصر يُقاسُ من خلال ثلاثة عوامل: كَسْر إرادة أحد الأطراف واستسلامه، واحتلال أرض العدوّ، وتكبيده خسائر فادحة؛ والنتائج لا تُفيد بتَوافر هذه العوامل مُجتَمعةً أو معظمها على الأقلّ؛ بل يمكن القول إن ما تحقّق أن المقاومة صمَدت ولم تُهزَم، لكنّها لم تنتصر؛ وإسرائيل لم تنتصر، وفشلت في تحقيق أهدافها الكبرى، مع أنها ألحَقَت دماراً كبيراً ومَوْتاً هائلاً. ... في مثل هذا الوضع الرّمادي، يُصبح السؤال: إلى أين نَتّجِه الآن؟ نحو "أوسلو" ناقص أم زائد جديد، أم نحو فدراليّة تتكوّن من قطاع غزّة، الذي يتمتّع ببعض المَظاهِر السياديّة، ومَعازل آهلة بالسكّان في الضفة، مُنفَصِلة بعضها عن بعض، ومن دون القدس، وبلا مَظاهِر سياديّة، أم دولة فلسطينية حقيقية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ من التوقّف عند بعض العناوين. أوّلاً، هناك عوامل أوقفَت الحرب؛ فتَوَقّف الحرب لم يكن مُصادَفةً، بل نتيجة تفاعل عوامل أساسية، في مُقَدّمها الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الذي لم يرفَع الراية البيضاء رغم الكارثة، ولم يَنتفِض في وجه السلطة القائمة في القطاع، رغم بعض المَظاهِر الاحتجاجية، وأثبَت أنه مُتَمَسّكٌ بوجوده في أرض وطنه وحقوقه، ولا يُهزَم بالقتل أو بالإبادة. والمقاومة المسلّحة التي واجَهت آلة الحرب الإسرائيلية عامَيْن، وبقِيت واقفةً على قَدَمَيْها رغم الخسائر الهائلة التي لحِقت بها، وأفشلَت تحقيق أهداف الاحتلال؛ والدليل أنها تَوَلّت الأمن والحفاظ على النظام العام بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار.
الوحدة الوطنية على أساس برنامجٍ مشتركٍ وهدفٍ واضح يمكن أن تفتح الطريق نحو الدولة الفلسطينية الحرّة المستقلّة. 
وهناك أيضاً الثورة العالَميّة المُتَضامِنَة مع الفلسطينيين، التي وصلَت إلى مستويات غير مَسبوقة وغير مُتوقّعة، وأثّرت في حكوماتٍ عديدة، ودفعَتها إلى فَرْض عقوباتٍ على إسرائيل، وغَيّرت صورة إسرائيل في الرأي العام العالَمي، وأظهَرتها على حقيقتها، كياناً استعمارياً عنصرياً استيطانياً إحلالياً يتغطّى بالديمقراطية، وبأنه جلّاد وليس ضحيّة، بينما تتحكّم به قيادات متطرّفة عنصريّة متعصّبة، وجُمهورُه يسير في غالبيّته وراء الحركة الصهيونية التي لا تؤمِن بالتسوية والحلول الوسط التاريخية، ولا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني ولا بحقوقه، وتدعو إلى تهجير أكبر عدد ممكن؛ وعلى من يبقى أن يؤمِن بالسرديّة الصهيونيّة أو يكون خاضعاً لها من دون حقوق. أجبَرت تلك الثورة حكوماتٍ غربيةً على فرْض عقوبات على الاحتلال، ما دفَع الإدارة الأميركية إلى التحرّك لإنقاذ نفسها من أحكام العُزلة، وحليفتها من نفسها وممّن يحكمونها.
أيضاً، تحرّكت دول الإقليم بعد تجاوز إسرائيل الخطوط الحمراء كلّها، خصوصاً باستهداف قَطَر، الدولة الوسيطة، والحليفة للولايات المتحدة، ما بَيّن أن إسرائيل دولة تُشَكّل خطَراً على الأمن والاستقرار في المنطقة، ما أثار غضباً إقليمياً غير مَسبوق. كما خشِيت إدارة ترامب من أن استمرار الحرب قد يُهَدّد نفوذ الولايات المتحدة ومشاريعها في الشرق الأوسط، في إقليمٍ وعالَمٍ مُتَغَيّرين، وفي ظلّ التنافس المحموم مع الصين على قيادة العالَم.
وفي هذا السياق، تفاقمَت الأزمات الداخلية الإسرائيلية، إذ استنزَفت الحرب نفسها، وتكبّدت إسرائيل خسائر فادحة بشرية واقتصادية ومعنوية، وفشلت الحكومة في تحقيق نصرٍ حاسم واضح، وواجَهت غضَب الشارع وعائلات الأسرى، وخلافات حادّة بين السياسيين والعسكريين، وبين الحكومة والمُعارَضة التي رأت أن تَمادي اليمين المتطرّف الحاكِم يَقود إسرائيل إلى المجهول. أمّا المقاومة، فوَجَدت نفسها في وضعٍ صعب، أمام خيارين كلاهما مُرّان: فإذا رفضَت خطّة ترامب، فإنها تنتَحر وتستمرّ الإبادة؛ وإذا قبِلَتها بشروطها القاسية، فإنها تستَسلم، وتُصادِر مستقبل المقاومة والقضية؛ فاختارت بحِكمَة أن تُرَحّب بها مبدئياً، حفاظاً على شعبها، مع السعي إلى تعديلها عبر التفاوض.
العنوان الثاني، أن المقاومة لم تُهزَم، لكنّها لم تحقّق أهدافها. فقد نجحَت في البقاء وصَوْن إرادتها، لكنّها لم تَنتَزع وقفاً دائماً مضموناً للحرب، ولا انسحاباً إسرائيلياً كاملاً، ولا رفْعاً شاملاً للحصار، ولا تبييضاً للسجون، ولا تحرير الأرض المحتلة، ولا حمايةً للمقدّسات، ولا وقفاً للاستيطان. كما تَعَمّق الانقسام، ولم تنجح الإبادة ومخطّطات تصفية القضية في إنهائه، ومُسّت وحدانيّة تمثيل منظّمة التحرير، إذ يُفَكّر في مجلس وصاية استعماريّة لغزّة من دون تمثيل فلسطيني؛ وتُعْقَد الاجتماعات والمؤتمرات التي موضوعها القضية الفلسطينية من دون مُشارَكة المُمَثّل الشرعي الوحيد، الذي يُشيد بها رغم إقصائه. ولكنّ تداعيات ما جرى وارتداداته، وخصوصاً بعد الجرائم التي ارتكَبتها القوّات الإسرائيلية، وفي مُقَدّمها الإبادة والتهجير والتجويع، وتجاوَزت الانتقام ورَدّة الفعل على "طوفان الأقصى"، أدّت إلى إحياء القضية الفلسطينية وفَرْض مركزيّتها مجدّداً على الأنظمة العربية، وتبنّي الرواية الفلسطينية من قطاعاتٍ واسعةٍ في امتداد الكرة الأرضيّة، وإلى جعل الاعتراف بالدولة الفلسطينية محلّ إجماع عالَمي شبه جماعي.
أمّا إسرائيل، ففَشِلت في تحقيق أهدافها: تحرير الأسرى بالقوّة، والقضاء على "حماس"، وتهجير الفلسطينيين من وطنهم (الهدف الرئيس)، واحتلال قطاع غزّة واستيطانه وضمّ الضفة الغربية؛ رغم أنها ألحقَت الدمار في قطاع غزّة، الذي قَدّم ربع مليون شهيد وجريح ومفقود. بل كشفَت الحرب هشاشتها الداخلية، وأضعَفت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهَر"، من دون أن يعني ذلك أنّ دولة الاحتلال انهارَت أو على وشك الانهيار؛ لكنّ بقاءها تحت سيطرة المشروع الصهيوني الاستعماري التوسّعي الذي يؤمِن بالحروب، ومَنطِق أنّ ما لا تُحَقّقه القوّة يُحَقّقه مزيد من القوة، سيُؤدّيان في المستقبل إلى زوالها، خصوصاً أنها ظهَرت تابعة للولايات المتحدة، ومُعتَمِدة عليها، ومن دونها ستُهزَم شرّ هزيمة؛ وسينعَكس هذا لاحقاً على دَوْرِها ومَكانَتِها وأهميّتها في المشروع الأميركي في المنطقة.
فشِلت إسرائيل في تحقيق أهدافها: تحرير الأسرى، والقضاء على حماس، وتهجير الفلسطينيين من وطنهم. كما فشلت تل أبيب في تحقيق "كيّ الوعي" الفلسطيني؛ إذ رغم الموت والدمار، تَكَرّسَت قناعة واسعة بأن إسرائيل يمكن هزيمتها بالإرادة والإعداد والتنظيم. وعلى المستوى الدولي، مُنِيَت إسرائيل بخسارةٍ أخلاقيّةٍ كبرى، بعدما ظهَرت أمام العالَم دولةً مارِقةً تُمارِس الإبادة والتطهير العِرقي، وتحوّلت رمزاً للعنصرية والعنف الاستعماري، بينما باتت فلسطين راية الحريّة في العالَم كلّه.
وفي ما يتعلّق بمرحلة ما بعد الحرب (العنوان الثالث)، لا يعني وقف إطلاق النار نهاية الحرب، بل هدنة قد تطول؛ وربّما تأخذ الحرب أشكالاً أخرى تختلف عن التدمير الشامل والإبادة الجماعيّة، قريبة من الحالة اللبنانية، ولكنّها بداية مرحلة سياسية انتقاليّة خطِرة، قد تقود إلى أحد مَسارين مُتَناقضين. فإما "أوسلو" ناقص، أي العودة إلى شكل من الحكم الذاتي المحدود، تحت وصاية دولية أو إقليمية أو مُشتَركة، بعيداً من المرجعية الأمَميّة، لفترة انتقاليّة قد تطول، في غياب السيادة واستمرار السيطرة الإسرائيلية الأمنيّة. قد يأخذ هذا الشكل صيغة وصاية عبر "مجلس إدارة"، الوارِد في خطّة ترامب، تُشارِك فيه أطراف عربية ودولية؛ وقد ينتهي إلى إشراك السلطة الفلسطينية بعد "تجديدها"، أو إلى صيغة فدراليّة تَجمَع قطاع غزّة وبعض المَعازِل السكّانيّة في الضفة في كيان سياسي، من دون القدس وبلا سيادة. يُصبِح هذا السيناريو مُرَجّحاً إذا استمرّ الانقسام الفلسطيني، وإذا تعمّق وتوسّع، ومع غياب الضمانات والتدخّلات الإقليمية والدولية المُلزِمة. أما المسار الثاني، فالدولة والاستقلال الحقيقي، وهما مُمكِنان بتوفّر ثلاثة شروط أساسية؛ وحدة وطنية فلسطينية في إطار المؤسّسات الشرعية الجامعة، أو على الأقلّ الاتفاق في البداية على إدارة توافقيّة واحدة مع تعدّديّة فكرية وسياسية وحزبية، بعيداً من الهيمَنة والإقصاء، إلى حين إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، تُحتَرم نتائجها، ويَختار فيها الشعب الفلسطيني طبيعة مشروعه السياسي في المرحلة الجديدة ومن يُمَثّله. 
ويجب توافر رؤية سياسية واقعية وثورية، تسعى إلى تغيير الواقع، لا التكيّف معه، بعيداً من الإمعان بالواقعيّة من دون خيال، ومن الإمعان بالخيال بعيداً من الواقع، وعلى أساس القناعة بأن فلسطين في مرحلة دفاع استراتيجي، والاتفاق على هدَف وطني مُباشر قابل للتحقيق، مثل الحفاظ على القضية حيّة، وعلى وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، ودَحْر المخطّطات الاستعمارية لتصفية القضية الفلسطينية بالضمّ والتهجير والاستيطان والإبادة، في طريق تحقيق الهدف الوطني المركزي بدَحْر الاحتلال وإنجاز الاستقلال؛ وتَستَنِد إلى شكل نضالي مُناسب للهدف الوطني (حماية القضية والشعب والاستقلال)، أي المقاومة الشعبية السلميّة، وإبراز أهميّة إنجاز الحقوق والمُقاطَعة والعقوبات والمساءلة القانونية لإسرائيل، مع الاحتفاظ بحقّ المقاومة، بجميع أشكالها. فلا يُمكِن تحقيق السلام من دون إحداث تغيير جوهري في إسرائيل؛ وهو لن يَحدُث إلّا بمُمارَسة الضغوط عليها أساساً من الخارج، ومن دون تقزيم القضية باحتلال عام 1967؛ بل يجب العمل لإنجاز سلام مُستَدام من خلال تمكين الشعب الفلسطيني من مُمارَسة حقّه بتقرير مصيره، وحلّ قضية اللاجئين، حلّاً عادلاً يتضمّن حقّ العودة والتعويض. وأخيراً، يجب أن يوجَد ضغط دولي وإقليمي مُتَواصِل يَربط إعادة الإعمار والتمويل بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس.
أثبتَت التجربة أنّ المقاومة بلا هدف سياسي جامع مُغامَرة، وأن السياسة بلا مقاومة خضوع.
العنوان الرابع، مُحاوَلة إدارة ترامب بلوَرة نظام إقليمي جديد يدمج إسرائيل فيه، ويمنع تمدّد الصين في الشرق الأوسط، ويمنح الفتات للفلسطينيين. لكن هذا المشروع سيُواجِه فشلاً مؤكّداً إذا لم تُدرِك واشنطن أن إسرائيل، الصغيرة والعاجِزة عن تحقيق النصر العسكري الحاسم على غزّة الصغيرة المُحاصَرة، لا يُمكِنها قيادة المنطقة. عندها فقط يفشل هذا المشروع؛ ويمكن أن تَتَوَلّد فرصة فلسطينية جديدة لإفشاله، بشَرْط أن تُجَدّد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها لصالح شعبها، وليس إصلاحاً يستجيب لشروط مُعادِية تُريدُها أن تقبَل السرديّة الصهيونيّة؛ أو أن تولَد حركة وطنية جديدة، فتَمتَلِك القيادة الفلسطينية مشروعاً مُوَحّداً، وسَعياً وحِكمَة وجُرأة سياسية، تستثمر المُتَغَيّرات الإقليميّة والعالَميّة بدَل الارتهان لها.
أخيراً: نحو أيّ طريق نَسير؟... ستُحَدّد المرحلة المقبلة إن كنّا سنَسير نحو "أوسلو" ناقص أم نحو الاستقلال والدولة. فالانقسام والتناحر الداخلي سيَقودان حتماً إلى ضياع القضية؛ وفي أحسن الأحوال، إلى كيان مَنزوع السيادة، بينما الوحدة الوطنية، على أُسُس برنامجٍ مشتركٍ وهدفٍ واضحٍ وشكلٍ نضاليٍ مناسبٍ وشراكةٍ حقيقية، يمكن أن تفتَح الطريق نحو الدولة الفلسطينية الحرّة المستقلّة.
لقد أثبتَت التجربة أنّ المقاومة بلا هدف سياسي جامع وقابل للتحقيق مُغامَرة، وأنّ السياسة بلا مقاومة خضوع. وما بين المُغامَرة والخضوع هناك طريق ثالث؛ الواقعية الوطنية الثورية؛ أن نُواجِه الواقع من أجل تغييره، لا أن نخضع له، ولا أن نقفز عنه. ويبقى السؤال الحاسم: هل نملك الإرادة والإجماع لنَسير نحو الاستقلال والدولة، أم سنُكَرّر "أوسلو" ناقصاً أو زائداً جديداً بثوبٍ مختلف؟

 

2025-10-23 11:09:27 | 22 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية