مَلامِح "الحرب الخفيّة" بين السباق على المعادن والتحوّل الأخضر
متطلّبات التوازُن:
مَلامِح "الحرب الخفيّة" بين السباق على المعادن والتحوّل الأخضر
07 أكتوبر، 2025
إرنست شايدر
عرض: هند سمير
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
يُعَدّ التنافس العالَمي على المَوارِد المعدنيّة الحيويّة من أبرز القضايا على الساحة العالَميّة في العقود الأخيرة. فالعديد من المُنتَجات والعمليّات اللازمة لإزالة الكربون تَستَخدِم معادن نادرة، مثل الليثيوم في البطّاريّات الكهربائية، والنيوبيوم والنيوديميوم في بناء توربينات الرياح؛ بالإضافة إلى معادن أكثر شيوعاً، مثل الألومنيوم والنحاس في كابلات نقل الطاقة. ويُمكِن أن تكون العواقب البيئيّة للمُنافَسة على هذه المعادن ضارّة بقَدر انبعاثات الكربون، خاصّةً عندما تُدار أنشطة التعدين بشكل سيّئ؛ كما أن لها عواقب جيوسياسيّة بالِغة الأهميّة.
ويتناول إرنست شايدر هذه القضايا في كتابه "الحرب الخفيّة"، مع التركيز بشكلٍ أضيق على الولايات المتحدة؛ حيث يصِف كيف أن رغبة صانعي السياسات الأمريكيين في تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني في المَوارِد والتقنيّات الحيويّة قد تَعارَضت مع النشاط البيئي، وتُهَدّد أراضي الشعوب الأصليّة؛ بل وغالباً ما تعمل الوكالات الفدراليّة المختلفة المُكَلّفة بتمثيل هذه المصالح لتحقيق غايات مُتَعارِضة؛ ممّا يخلق حالة من عدم اليقين لدى المُستَثمرين السّاعين إلى تطوير هذه المَوارِد. وقد أدّى تخبّط الإدارات الأمريكية المُتَعاقِبة إلى زيادة عدم اليقين؛ ما أحبَط الجهود المبذولة لتطوير المَوارِد اللازمة لتعزيز الاكتفاء الذاتي الأمريكي وإبطاء تغيّر المناخ.
تناقضات البيئة والمعادن:
يبدأ الكتاب بمَشهَد يُجَسِّد الفكرة الرئيسية له؛ حيث عالِم نبات يُدعى جيري تيهم، كان يجمع نباتات من ولاية نيفادا عام 1983، واكتشف زهرة نادرة لم تُسَجّل من قبل، أُطلَق عليها لاحقاً اسم "حنطة تيهم السوداء". هذه الزهرة لا تنمو إلّا في منطقة واحدة في العالم تُسَمّى "سلسلة ريوليت"؛ فجَمَعَها وأعادَها إلى نيويورك. وفي عام 2016، تَبَيّن أن نفس الموقع يحتوي على احتياطي ضخم من الليثيوم، وهو معدن حيوي لتكنولوجيا الطاقة النظيفة، والتي تعتَزم شركة التعدين "يونير" استخراجها من خلال التعدين السطحي.
وهكذا يُرَسّخ الكتاب معضلة محوريّة؛ حيث تَضارُب المصالح بين الحفاظ على التنوّع البيولوجي في صورة هذه الزهرة النادرة، وبين الوصول إلى المعادن اللازمة للتقنيّات اللازمة لمُكافَحة تغيّر المناخ، والمُتَمَثّلة في رواسب الليثيوم. ثم يطرح الكتاب عدداً من الأسئلة مثل: هل يُمكِن أن تتعرّض الولايات المتحدة الأمريكية لمنع استخدام المواد الأساسيّة كأداة ضغط عليها من قِبَل جهاتٍ أخرى مُعادِية لمصالحها؟ هل يُمكِن إنتاج المعادن اللازمة لمستقبل طاقة نظيفة، سواء محلياً أم في دولٍ أخرى، وفقاً للمعايير البيئيّة والعمّاليّة التي يتم التوافق عليها؟ على الرّغم من الحاجة إلى هذه المعادن، هل تُعَدّ بعض الأماكن خاصّةً جداً؛ بحيث لا يُمكِن التعدين فيها، مثل المواقع المُقَدّسة؟
وهنا يُسَلّط الكاتب الضوء على الآراء والمصالح على جانبي هذه الأسئلة الرئيسية، دون الدفاع عن وجهة نظرٍ دون أخرى. وبدَلاً من ذلك، يسعى إلى إثارة حوارٍ بين هذه الآراء المُتَنافِسة؛ ويظهَر بوضوح أن الاعتماد على سياسات مُتذبذبة تتغيّر مع كلّ تغيير في الإدارة، أو التزامات سياسية بأهداف مُتَنافسة؛ يؤدّي إلى عدم تلبية احتياجاتنا من هذه المعادن الأساسيّة.
وقد رصَد المؤلّف تناقضات بين الأهداف البيئيّة للحكومات وواقع سياساتها. فعلى سبيل المثال، رغم أن الولايات المتحدة تمتلك 24% من احتياطي الليثيوم العالَمي؛ فإنها لا تُنتِج سوى 3% من احتياجات العالَم بحلول 2030، وليس لديها مُنشآت تصنيع كبرى. في المُقابِل، تُسيطِر الصين على معظم سلسلة التوريد الخاصّة بالبطّاريّات، وتُنتِج السيّارات الكهربائية بتكلفة أقل بـ10 آلاف يورو من أوروبا. وفي حين تُظهِر الولايات المتحدة رغبتها في التحوّل إلى الطاقة النظيفة؛ فإن البيروقراطيّة واللوائح البيئيّة تجعل إنشاء مَناجِم جديدة شبه مُستَحيل.
قبيلة الأباتشي ومَنجم أوك فلات:
يَستَعرِض شايدر في كتابه مجموعة من دراسات الحالة حول مُحاوَلات استخراج المعادن الحيويّة اللازمة لدعم التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة، مع التركيز على التحدّيات التي تُواجِه هذه الجهود، سواء داخل الولايات المتحدة، أم من خلال الشركات الأمريكية العامِلة في الخارج. ويولي الكاتب اهتماماً خاصاً لوجهات نظَر الأطراف الرئيسية في هذه الصراعات، ومنها قبائل الأمريكيين الأصليين، الذين غالباً ما يتأثّرون بشكل مباشر بالمشاريع التعدينيّة.
وفي هذا الإطار، يتناول الكاتب تاريخ قبيلة الأباتشي في سان كارلوس، ومُعاناتهم الاقتصادية والثقافية والمادية مع الحكومة الأمريكية وشركات التعدين، موضِحاً أن تاريخ عمليات التعدين في مَحمِيّتهم – التي تقع في أريزونا– تميّز خلال القرن العشرين بدَورات مُتَعاقِبة من الازدهار والانكماش الاقتصادي؛ الأمر الذي خَلّف فقراً وتدهوراً في البنية التحتيّة. وقد شهِدت أوضاع المنطقة تحسّناً عندما تمّ اكتشاف واحد من أكبر رواسب النحاس غير المُستَغَلّة في العالَم أسفل منطقة تُعرَف بـ"أوك فلاتس". غير أن هذه الرواسب تقع في أعماق كبيرة؛ ممّا جعَل الطريقة المُقترَحة لاستخراجها تعتمد على أسلوب يُعرَف بـ"حفر الكهوف"، وهو أسلوب يقوم على تفريغ كميّات ضخمة من الصخور بشكلٍ يؤدّي إلى انهيارها التدريجي بفعل وزنها؛ ما ينتُج عنه كهف اصطناعي يمتلئ بأنقاضه.
لكن "أوك فلاتس" تُعَدّ في الوقت ذاته منطقة مقدّسة لقبيلة الأباتشي؛ وهو ما يعني أن استخراج النحاس يتطلّب تدمير موقع يحمل قيمة روحيّة وثقافيّة كبيرة بالنسبة لها. وقد أدّت هذه المخاوف، إلى جانب القضايا البيئيّة المتعلّقة باستخدام المياه والتأثير في البيئة، إلى فشل المشروع في الحصول على التصاريح اللازمة رغم بدء إجراءاته منذ عام 2013. كما أن مواقف الإدارات الأمريكية المُتَعاقِبة جاءت مُتَضارِبة بين التأييد والمعارضة؛ بينما دفَع الرفض القويّ من الأطراف التي تعتَبر الموقع مُقَدّساً شركة "ريو تينتو" إلى تعليق العمل بالمشروع.
في المُقابِل، تمتلك القبيلة علاقة مختلفة مع التعدين، من خلال منجم "مورينسي" للنحاس في أريزونا؛ حيث يُزَوّد أبناء القبيلة المنجم بالمياه اللازمة لتشغيله. ويرى شايدر أن هذا التعاون يوضِح أن الأباتشي لا يُعارِضون التعدين أو التحوّل إلى الطاقة الخضراء كقضية مبدئية، وإنما تَكمُن المشكلة في تدمير المواقع المقدّسة. كما يُشير الكاتب إلى وجود احتمالات للمرونة من جانب شركة "ريو تينتو" فيما يتعلّق بطريقة التعدين في مشروع "ريزوليوشن" ومستوى الأثَر الثقافي المُتَوَقّع؛ ويَخلُص إلى أن الصراع ليس بالضرورة مُستَعصياً على الحل. فالأطراف المعنيّة قد لا تكون مُتَشَبّثة بمواقف مُتَناقِضة إلى الحد الذي يُتَصَوّر عادةً؛ ممّا يترك مجالاً للحوار وإيجاد حلول وسط تُرضي الجميع.
الولادة من جديد:
يُقارِن الكاتِب بين مشروعين بارزَين في مجال التعدين، هما: مشروع "يلو باين" Yellow Pine في ولاية أيداهو، ومشروع "بيبل ماين" Pebble Mine في ألاسكا؛ حيث تُدير المشروع الأوّل شركة "بيربيتوا ريسورسيز"، ويهدف إلى إعادة تشغيل منجم قديم لإنتاج معدن الأنتيمون، الذي يُعَدّ ذا أهميّة استراتيجيّة منذ الحرب العالَميّة الثانية، لدوْره في تقوية الرصاص والدبّابات والأسلحة؛ إضافة إلى استخدامه في تصنيع مُثَبّطات اللهب. وقد توقّف منجم "ستيبتنيت"، الذي كان يُنتِج الذهب والأنتيمون، عن العمل منذ خمسينيّات القرن الماضي، بسبب التلوّث الناتج عن التعدين السابق وتصنيفه كموقع نفايات سامّة؛ إلى جانب مُعارَضة قبيلة "نيز بيرس" لأيّ عمليّات جديدة.
ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، تعهّدت الشركة الجديدة بإزالة التلوّث القديم مُقابِل الحصول على تصريح لإعادة استغلال المنجم وفق معايير بيئيّة حديثة؛ هذا النموذج يمثّل تجربة يُمكِن الاستفادة منها في مشروعات مُشابِهة؛ لكن مدى إمكانيّة تعميمه ما زالت غير مؤكّدة.
في المُقابِل، يقَع مشروع "بيبل ماين" في منطقة بريّة لم يسبق استغلالها، ويضم أحد أكبر احتياطيّات الذهب والنحاس غير المُستَغَلّة عالَمياً. غير أن المشروع واجَه عراقيل تنظيمية متكرّرة بسبب تغيّر السياسات والإدارات الأمريكية؛ وهو ما دفَع منظّمات حماية البيئة لاستغلال هذه الفجَوات عبر شراء أراضٍ مُحيطَة بالموقع بهدف تعطيل طريق الوصول إليه.
يرى شايدر، في مُقارَنته بين "بيبل ماين" و"يلو باين"، أن المجتمعات قد تُبْدي تقبّلاً أكبر لاستمرار التعدين في المناطق التي لها تاريخ سابق في هذا النشاط، بينما تُواجِه المشاريع الجديدة في مواقع بِكْر أو ذات قيمة ثقافية عميقة، صعوبات أكبر في القبول. ورغم أن هذه النتيجة ليست مُفاجِئة؛ فإنها تُوَفّر أساساً عملياً لمُساعدة الوكالات الحكومية وشركات التعدين على تحديد أولويّاتها في المواقع الأكثر احتمالاً للحصول على المُوافقات ضمن أُطُر زمنيّة معقولة.
سلسلة جبال رايولايت:
يَستَعرِض الكتاب قصّة منجم الليثيوم في سلسلة جبال رايولايت بولاية نيفادا، من خلال سرْد جدَلي بين شخصيّتين تمثّلان طرفَي النزاع؛ الأولى هي جيمس كالاواي، رئيس مجلس إدارة شركة "أيونير"، الذي يعتَبر أن المنجم عنصر أساسي في مُواجَهة تغيّر المناخ؛ ومن ثمّ فهو مشروع بيئي نبيل. أما الثانية، فهي باتريك دونيلي، من "مركز التنوّع البيولوجي"، الذي يُعارِض خطط المنجم لنقل النباتات إلى مواقع جديدة، أو التعدين حول جُزُر التلال المُخَصّصة لمَوطِنها الطبيعي؛ إذ يرى أن حماية الكَوكَب من تغيّر المناخ لا معنى لها إذا خسِر الكَوكَب أي جزء من تنوّعه البيولوجي.
وفي هذا السياق، اتّبَعَت شركة "أيونير" الأسترالية، المتخصّصة في مشاريع استخراج الليثيوم والبورون، نَهجاً عِلمياً لحلّ الخلاف، عبر توظيف عالِم نبات مُستَقِلّ لدراسة الزهرة النادرة بالمنطقة، وجَمْع بيانات دقيقة تُساعد على اتّخاذ قرار مَدروس حول إمكان نقلها أو الحفاظ عليها؛ لكن نتائج الدراسة جاءت عكس المُتَوَقّع؛ إذ أظهَر التقرير أن الزهرة شديدة الارتباط بنوعيّة التربة الغنيّة بالليثيوم في منطقة رايولايت ريدج.
ويُشير شايدر إلى أن "هيئة الأسماك والحياة البريّة الأمريكية" اعتمَدت على تقرير العالِم المُستَقِلّ لتحديد أن المنجم سيُلحِق "ضرَراً دائماً لا رجعة فيه بالزهرة"، واقترَحت إدراجها كنوع مُهَدّد بالانقراض؛ ممّا عرقَل لفترة وجيزة مُحاوَلات "أيونير" للحصول على التصاريح اللازمة للمشروع. ومع ذلك، وبالاستناد إلى نتائج التقرير نفسه، أعادت الشركة بسرعة تصميم مُخَطّط المنجم لِيُبْقي مناطق عازلة حول تجمّعات الزهرة. بعد ذلك بفترة قصيرة، وافقت "مصلحة إدارة الأراضي الأمريكية" على إصدار التصاريح.
كما ذكَر الكاتب أن "أيونير" وقّعَت عَقْداً مع شركة "فورد" لتزويدها بمعظم الليثيوم المُستَخرَج من رايولايت ريدج؛ ممّا يُحَقّق حلم كالاواي بتأمين إمدادات محليّة من الليثيوم لسوق البطّاريّات الأمريكية؛ وبذلك يتحوّل المشروع من منجم مُثير للجدَل إلى عنصر محوري في سلسلة التوريد الوطنية للطاقة النظيفة، مع توازن عمَلي بين المتطلّبات البيئيّة والاقتصاديّة.
ختاماً، رغم أن الكتاب يبدأ وينتهي بقضيّة منجم رايولايت ريدج، بالإضافة إلى مشاريع تعدين مُحَدّدة؛ فإنه يُسَلّط الضوء أيضاً على قضايا أوسع متعلّقة بالتعدين والمصادر البديلة. ومن بين هذه القضايا، مُبادَرة ضمان التعدين المسؤول IRMA، وهي مجموعة جديدة من معايير التعدين الأخلاقي والنظيف، جاءت بفضل شركة المجوهرات العالَميّة تيفاني، التي أرادت أن تضمَن التزام مُوَرّديها بأفضل المُمارَسات، وعدم وجود انتهاكات بيئيّة أو بشريّة؛ وهو ما أدّى إلى دفع صناعة التعدين نحو وضع معايير جديدة تتعلّق بمُمارَسات الاستخراج والعمالة والاستدامة، ومحاولة اللجوء إلى عمليّة تُسَمّى استخراج الليثيوم المباشر، والتي تُعَدّ أقلّ تدخّلاً وتدميراً من التعدين المفتوح؛ ولكنها لم تُثبِت فعاليّتها على المستوى الصناعي، وما زالت تُعاني من تحدّيات تقنيّة وتجاريّة.
ولكنّ الكاتب يؤكّد الحاجة إلى حوار وطني لمُناقَشة القضايا التي يُثيرُها التضارب بين الأولويّات المُتَنافِسَة، مثل الحفاظ على التنوّع البيولوجي، والحصول على المعادن اللازمة لإنتاج المُنتَجات التي يُمكِن من خلالها مُعالَجة تغيّر المناخ. ويؤكّد أنه على الرّغم من مُحاوَلات إيجاد طُرُق بديلة لإنتاج المعادن من أجل التحوّل إلى الطاقة الخضراء، لم يكن هناك مَفَرٌ من حقيقة أن التعدين صاخِبٌ وخَطِرٌ ومُزَعزِعٌ للاستقرار، وسيظلّ كذلك في المستقبل المنظور؛ وهو واقع يستمرّ في تأجيج المعركة العالَميّة حول المستقبل.
المصدر:
Ernest Scheyder, "The War Below: Lithium, Copper, and the Global Battle to Power Our Lives", Atria, 2025.