الصفقات أوّلاً:
كيف تُعيد واشنطن صياغة نفوذها الإفريقي عبر النهج الثنائي؟
30 أكتوبر، 2025
ديفيد واماجو
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
لقد بدأت مَعالِم السياسة الخارجية الأمريكية تتبلور تدريجياً خلال فترة ولاية دونالد ترامب الثانية، مُبَدّدةً بذلك مخاوف الدول الإفريقية المتعلّقة بشأن قيام الإدارة الأمريكية الجديدة بالانفصال عن القارّة السمراء. وما بدأ تلك المخاوف كان تشكيك إدارة ترامب في المنظّمات الدولية، ونفورها من السياسة الخارجية متعدّدة الأطراف، وتفضيلها للنهج الثنائي في المُعامَلات. كما أدّى نهج "أمريكا أوّلاً" إلى إعادة إحياء حالة عدم الثقة والقلَق اللذين شابا العلاقات بين واشنطن ودول القارّة السمراء خلال فترة ولاية ترامب الأولى. هذا بالإضافة إلى ما أشارت له التقارير بأن الإدارة الأمريكية الجديدة كانت تعتزم أيضاً إضافة المزيد من الدول الإفريقية إلى قائمة حظر السفر الأمريكية الحالية (26 دولة). كما أنها لم تُعَيّن سوى ثلاثة سفراء فقط بالقارّة، وتحديداً في جنوب إفريقيا والمغرب وتونس؛ أمّا بقيّة الدول، فإمّا لديهم سفراء من الإدارة السابقة، أو سفراء يعملون بصفة مؤقّتة، أو أنّ مقاعد السفراء لديهم شاغرة. إضافة إلى ذلك؛ فإن هذه الإدارة كانت تخطّط لتقليص الوجود الدبلوماسي الأمريكي بإفريقيا عن طريق إغلاق السفارات (في ليسوتو وإريتريا وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغامبيا وجنوب السودان) والقنصليّات (في الكاميرون وجنوب إفريقيا) - كجزء من مُبادَرة خفض التكاليف - ممّا عزّز فكرة الانفصال المُتَزايد بين واشنطن ودول القارّة.
وقد قدّمت مشادّة دبلوماسية سابقة بين واشنطن وجنوب إفريقيا صورة عن الدبلوماسية الخشنة والمُعامَلة القاسية التي سيتعيّن على إفريقيا تحمّلها على مدى سنوات ولاية ترامب الأربع. فخلال اجتماع عُقِدَ في واشنطن بشهر مايو بين الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا، هاجم الأوّل نظيره الإفريقي بشدّة مُستَخدِماً مقطع فيديو يُرَوّج لادّعاءات مزعومة عن إبادة البيض والاستيلاء على أراضيهم بجنوب إفريقيا. ثم اتّضح أن هذه المواجهة كانت إجراءً انتقامياً اتّخذه ترامب رداً على رفع جنوب إفريقيا دعوى قضائيّة ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؛ لاتّهام الأخيرة بارتكاب إبادة جماعيّة في غزة. كما أن هذا الإجراء الانتقامي جاء كردٍ أيضاً على تصريحات السفير الجنوب إفريقي، إبراهيم رسول، والتي اتّهم فيها ترامب بتعبئة العنصرية وتصوير البيض كضحايا (باستخدام لغة مُشَفّرة تبدو بريئة للعامّة ولكن لها معنى خفي تفهمه فئة معيّنة فقط؛ والمصطلح هو "استعارة صافرة كلب" حيث يسمعها الكلاب، ولكن لا يسمعها البشر)؛ لذا قامت واشنطن بعد ذلك بطَرد إبراهيم رسول، وقامت بترشيح ليو برنت بوزيل الثالث - وهو ناقد إعلامي مُحافِظ ومؤيّد لإسرائيل - سفيراً للولايات المتحدة في بريتوريا.
تجارة لا مساعدات:
لقد تزامنَ عدم اهتمام إدارة ترامب الملحوظ بإفريقيا مع تراجع النفوذ الأمريكي بالقارّة. ففي عام 2024، أغلقت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في تشاد والنيجر بناءً على طلب الدولتين المُضيفتين بسبب الاستياء الشعبي المُتَزايد من القوى الغربية. كما أن الأزمة السودانية المستمرّة -والتي تُهدّد بالتحوّل إلى صراع طويل الأمَد - من وجهة نظَر العديد من المحلّلين تُعَدّ خير دليل على تراجع النفوذ الأمريكي؛ بسبب عجز الولايات المتحدة عن مُمارَسة النفوذ السياسي اللازم على الأطراف المُتَحارِبة لوقف القتال.
ومع تحوّل العالَم نحو نظام سياسي متعدّد الأقطاب، حاولت بعض القوى الإفريقية الناشئة استغلال الفراغ الناجم عن انسحاب أمريكا من القارّة السمراء. ومع ذلك، تُشير القمّة رفيعة المستوى الأخيرة مع رؤساء دول الغابون وغينيا بيساو وليبيريا وموريتانيا والسنغال إلى أن واشنطن ليست غافلة عن المنافسة الجيوسياسية المُتَزايِدة بالقارّة. والأهم من ذلك، فقد كشفت هذه القمّة الأخيرة أن واشنطن كانت تقلّل من اعتمادها على الاقتصادات الإفريقية التقليدية الكبرى -جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر وإثيوبيا - لإبراز نفوذها، وأنها تُفَضّل دولاً مُختارة أخرى. وقد يكون السبب وراء ذلك هو أن مجموعة الدول الإفريقية الكبرى المذكورة هنا مُتَحالِفة مع مجموعة البريكس (البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب إفريقيا). ولا شك أن هذا النهج سيكون له أثَرٌ كبير في المشهد السياسي والأمني للقارّة.
هذا وكشفت إدارة ترامب عن أنها تنوي مواجهة المُنافَسة على النفوذ والمَوارِد الإفريقية من خلال الفُرَص التجارية، بدَلاً من برامج التعاون الدبلوماسي والأمني التقليدية، واستبدال المساعدات بالتجارة. غير أن نموذج التجارة، لا المساعدات، الذي تقترحه إدارة ترامب لإفريقيا، قد يخلق وضعاً مُزدَوَجاً يُهَدّد بتقويض قدرة الولايات المتحدة على إعادة تأكيد نفوذها داخل القارّة.
على الجانب الآخر، أشارت واشنطن إلى نيّتها تقليص عمليّاتها العسكرية داخل إفريقيا؛ حيث أكّد رئيس القيادة الأمريكية بإفريقيا، الجنرال مايكل لانغلي، أن الدول الإفريقية في حاجة إلى بناء قدرتها اللازمة للاعتماد على ذاتها في مواجهة قضايا انعدام الأمن والإرهاب وحركات التمرّد. وعلى الرّغم من أن هذه العمليّات العسكرية التي كانت تقوم بها واشنطن بإفريقيا لم تكن شاملة؛ فإنها كانت تعمل على تخفيف مستوى المَخاطِر بالقارّة، والذي عادة ما كان أعلى ممّا يرغب معظم المُستَثمرين الأمريكيين في تحمّله مُقارَنة بنُظرائهم من الروس والصينيين.
وبالتالي، فبالنظَر إلى التكاليف الاقتصادية والسياسية والبشرية التي ستتكبّدها الدول الإفريقية عند مواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية والعالمية، بما في ذلك حركات التمرّد والجماعات المسلّحة الجهادية؛ فإنها قد تشعر بالضغط، وتُفَضّل إقامة علاقات أمنيّة مع قوى عالميّة أخرى. وما يؤكّد ذلك هو انخراط روسيا الفعلي في منطقة الساحل.
وللتغلّب على ذلك، تَدّعي واشنطن بأن وجود المُستَثمرين الأمريكيين بالقارّة السمراء يُقَدّم ضماناً أمنياً. كما تمّ تقديم مثال على ذلك عند التوسّط في اتفاقيّة السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. ولتحفيز هذا النهج ومُواجَهة السياسة غير المُلزِمة التي تنتهجها الصين وروسيا بإفريقيا، تقتَرح الولايات المتحدة تعديل بعض القِيَم الأمريكية الأساسية مثل حقوق الإنسان، وتعليق التحقيقات بموجب قانون منع ومُكافَحة مُمارَسات الفساد الأجنبية FCPA
ولكن بالنسبة لإفريقيا، فإن هذا النهج الذي تقترحه الولايات المتحدة يُخاطِر بتصعيد انعدام الأمن والصراعات داخل القارّة على المدى المتوسط والبعيد. ويظهَر هذا من خلال اتفاقيّة السلام التي عُقِدَت بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. فالطبيعة التجارية لهذه الاتفاقيّة تجعلها في المقام الأوّل صفقة معدنيّة، مع وجود السلام كشرط ثانوي. أما في جوهرها، فالاتفاقيّة لا تُعالِج التعقيدات والحقائق الأساسية التي تقوّض آليّات حلّ النزاعات التفصيلية الموجودة بمنطقة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية المضطربة؛ ومن ثمّ فإن نهج الوساطة السلمي التبادلي (القائم على تبادُل الصفقات) - الذي يفتقر إلى إيجاد حلّ سياسي للأزمة - لا يُمكن اعتباره آليّة مُستَدامة طويلة الأمَد لإحلال الأمن وحلّ النزاعات. وهناك أمران قد يُفَسّران سبب اتخاذ نهج الوساطة التبادليّة قصيرة الأجَل هذا:
أوّلاً، هناك قاعدة ترامب الانتخابية المحليّة الأساسيّة، والتي أكّد لها ترامب أن الولايات المتحدة لن تتورّط في أوضاع أمنية معقّدة طويلة الأمَد، ووَعَد بانخراطات محدودة النطاق ذات عوائد اقتصاديّة وماليّة أكبر للبلاد. ومن ثمّ، فإنّ هذا الوعد يُقَيّد الولايات المتحدة عن تنفيذ أيّ اتفاق سلام؛ لأنه سيتطلّب لتنفيذه مُراقَبة مستمرّة طويلة الأمَد من قِبل الحكومة الأمريكية والكونغرس. وبغياب هذه المُراقَبَة، ستُصبح الفرصة مُتاحة أمام الأطراف المُتَحارِبة لتقويض الاتفاق من أجل مصالحها السياسية.
ثانياً، رغبة ترامب في نيْل جائزة نوبل للسلام؛ وهو الأمر الذي يفتقر إلى المصالح الوطنية الاستراتيجيّة كدافع. وقد أعرب ترامب عن أسفه لعدم حصوله على الجائزة رغم توسّط إدارته في اتفاقيّة السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. وبالتالي، فثمّة خطَر كبير من أن تسعى الحكومة الأمريكية إلى حلول غير شاملة؛ ومن ثمّ غير فعّالة لفضّ النزاعات (بعد فشل مساعي ترامب للحصول على الجائزة).
مَخاطِر تعدّد الفاعلين:
على الجانب الآخر يُثار التساؤل حول احتمالات تدخّل الولايات المتحدة لمُوازَنة التدخّل المُتَزايد من القوى الصاعدة الجديدة بالشرق الأوسط في القارّة الإفريقية، خاصّة وأنه يُهَدّد بتفاقم انعدام الأمن الموجود بالفعل داخل المنطقة. وهذا التهديد يتصاعد بشكل خاص بإقليم القرن الإفريقي، حيث يؤدّي التقارب بين التنافسات الجيوسياسية الإقليمية والشرق أوسطية إلى زيادة مخاوف نشوب حروب بالوكالة؛ إذ تدعم قوى مختلفة جهات فاعلة متعدّدة. والتحدّي الأساسي هنا لا يتمثّل في التسابق بين مُنافِسي الولايات المتحدة التقليديين (روسيا وإيران والصين)، بل في الدول الصديقة التي تنتهج سياسات مُخالِفة لسياساتها التقليدية بالمنطقة؛ ومن ثم، يبقى من غير المؤكّد ما إذا كانت إدارة ترامب ستكبح جماح هذه الدول الصديقة من المسارح الجيوسياسية الإفريقية ذات الأهميّة الاستراتيجيّة الكبيرة لسياسة واشنطن الخارجية، وخاصّة في الحالات التي تتبنّى فيها دولتان أو أكثر من هذه الدول مواقف مُتَعارِضة فيما بينها، أم أنها ستتركها تتحرّك بحريّة.
شكوك إفريقية:
لقد أعاق النهج الثنائي للتعامل الذي تتبنّاه واشنطن التفاعل بينها وبين مختلف الدول الإفريقية، وأضعَف القدرة على تطوير سياسة خارجية مُوَحّدة لتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة ودول القارّة. وأدّى هذا بدوره إلى توليد شكوك وعدم ثقة واضطراب من ناحية الحكومات الإفريقية تجاه واشنطن؛ ممّا دفَع تلك الحكومات إلى تنويع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية وجذَبها لقوى ناشئة أخرى. ويُنذِر المشهد الجيوسياسي الجديد في السياسة العالميّة بتراجع النفوذ الأمريكي بإفريقيا؛ مما يُجبِر واشنطن على إدارة تنافسها الاستراتيجي مع روسيا والصين والقوى الناشئة الأخرى داخل القارّة، ولكن بأدوات مختلفة. وما يَزيد من التعقيد الدبلوماسي الذي تُواجِهه واشنطن هو حقيقة أن بعض هذه القوى تُعَدّ حيويّة لتحالفات وأُطُر أمنية أمريكية أخرى في مناطق جيواستراتيجيّة رئيسية.
بالنسبة لإفريقيا، فإن الفشل في تحقيق التوازن الضروري يُهَدّد القارّة بأن تُصبح ساحة معركة للحروب بالوكالة، حيث يمكن للجهات الفاعلة المحليّة أن تقوم باستغلال مَصالِح القوى الخارجية المُتَنافِسة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية. وكما اتّضح من مبادرة الوساطة التبادليّة بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، فمن غير المرجّح أن تُسفِر التدخّلات السطحيّة - بدَلاً من الالتزامات طويلة الأجَل - عن حلول حقيقية مُستَدامة للنزاعات. وبالفعل، فشلت الأطراف المُتَحارِبة في الالتزام بالاتفاق منذ يونيو، وسجّلت بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (مونوسكو) مقتل 1087 مدنياً خلال أعمال العنف في إيتوري وشمال كيفو خلال تلك الفترة.
وأخيراً، قد تُبرِم بعض الحكومات الإفريقية - الحريصة على كسب ود إدارة ترامب – اتفاقيّات غير مُتَكافئة تُهدّد بتقويض القانون الدولي وأوضاعها السياسية والاجتماعية على المدى الطويل. ويمكن رؤية ذلك بالفعل في تزايد عدد دول القارّة التي تقوم بتوقيع اتفاقيّات لاستقبال مُهاجِرين من دول ثالثة رَحّلتهم الولايات المتحدة، مثل رواندا، والتي ستَستَقبل 250 مُرَحّلاً كجزء من اتفاقيّة وُقّعَت في أغسطس الماضي.
2025-11-17 11:20:39 | 50 قراءة