أوراق ترامب:
هل تنجح ضغوط واشنطن على روسيا في إنهاء حرب أوكرانيا؟
05 نوفمبر، 2025
د. أمل عبدالله الهدابي
كاتبة إماراتية
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
دأَب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية وعودته إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، على التباهي بقدرته على إقناع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالتوصّل إلى اتفاق يُنهي الحرب الحاليّة؛ بل حدّد في مناسبات عدّة 24 ساعة لإنجاز المهمّة وإيقاف هذه الحرب، التي أكّد مراراً أنها ما كانت لتقَع لو كان رئيساً للولايات المتحدة في ذلك الوقت.
وبعد إلغاء واشنطن قمّة بودابست التي كان من المُزمَع عقدها بين الرئيسين ترامب وبوتين في أواخر أكتوبر 2025، في ظلّ إصرار موسكو على مَطالِب محدّدة بشأن أوكرانيا، بحسب الرواية الأمريكية؛ يُثارُ التساؤل مجدّداً حول قدرة الرئيس ترامب على إيقاف الحرب في أوكرانيا، والأوراق التي يُمكنه توظيفها لتحقيق هذا الهدف، والعقَبات التي تحول دون تحقيقه.
معضلة إنهاء الحرب:
يمتلك الرئيس ترامب أوراق قوّة يعتقد أنه يستطيع توظيفها لدفع طَرَفَي الحرب الأوكرانية إلى طاولة الحوار وإيجاد تسوية ما للحرب. فبالنسبة للجانب الروسي، ثمّة علاقات قويّة ومهمّة بين ترامب وبوتين؛ وظهَرت هذه العلاقات في الكثير من الاتصالات الهاتفيّة التي جرَت بينهما خلال الأشهر التي تلَت تسلّم الرئيس الأمريكي السلطة، وحتى قبل ذلك. وكان ترامب يُراهِن على هذه العلاقة الشخصية لإقناع بوتين بوقف الحرب بعد تحقيق بعض المكاسب التي يستطيع من خلالها الإعلان عن تحقيق نصر يُبَرّر وقف الحرب.
أما الورقة الأخرى، فهي ورقة المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، التي تراجعت بصورة كبيرة منذ تسلّم ترامب السلطة؛ حيث يقتنع ترامب بأن بوتين قد يستجيب لمطالبه خشية أن تُعيدَ واشنطن تسليح كييف ودعمها عسكرياً، بما في ذلك تزويدها بالأسلحة الاستراتيجيّة التي يمكن من خلالها ضرب العمق الروسي؛ ما قد يؤدّي إلى استنزاف كبير لروسيا وقدراتها العسكرية.
وكان ترامب قد قرّر في وقتٍ سابقٍ وقف تسليم دفعة من صواريخ "توماهوك" بعيدة المدى إلى أوكرانيا؛ ما أثار جدَلاً واسعاً حول دوافعه، في ظلّ تسريبات عن مُحادَثة هاتفيّة بين ترامب وبوتين، حملَت ملامح صفقة قوامها "الأرض مقابل السلام". وأكّد ترامب هذا الموقف بتصريحات له يوم 2 نوفمبر الجاري، قال فيها إنه لا يفكّر في الوقت الحالي في صفقة تسمح لأوكرانيا بالحصول على صواريخ "توماهوك" لاستخدامها ضدّ روسيا.
وتُمَثّل المساعدات العسكرية أيضاً الورقة الأقوى لترامب على الجانب الأوكراني؛ حيث تُدرك كييف أن وقف واشنطن مساعدتها العسكرية سيُعطي لموسكو الأفضليّة في ساحة الحرب؛ وهو ما دفَع حلفاء كييف الأوروبيين للاصطفاف معها، وخاصّةً بعد اللقاء العاصف الأوّل الذي جمَع ترامب بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في أواخر فبراير الماضي.
وتُعَدّ أوكرانيا من أكثر الدول الأوروبية تلقّياً للمساعدات الأمريكية منذ الحرب العالميّة الثانية؛ إذ بلغت قيمة المساعدات العسكرية والاقتصادية والإنسانية التي أقرّتها واشنطن لكييف نحو 175 مليار دولار حتى منتصف عام 2025. وقد قرّر الرئيس ترامب تجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا في مارس 2025، في خطوة مُفاجئة أثارت قلَق الحلفاء الأوروبيين، قبل أن يُعلن لاحقاً مُراجَعة هذا القرار والنظَر في استئناف بعض الشحنات العسكرية؛ ما شكّل رسائل ضغط على الرئيس الأوكراني لدفعه لقبول شروط وقف الحرب.
وقد سعى ترامب بالفعل في البداية إلى توظيف هذه الأوراق للوصول إلى تسوية مقبولة للحرب الأوكرانية. ووصل التفاؤل ذروته مع الإعلان عن انعقاد أوّل قمّة بين ترامب وبوتين في 15 أغسطس الماضي في ألاسكا، حيث ركّزت المباحثات الأمريكية -الروسية على محورين رئيسيين: وقف إطلاق النار، والتوصّل إلى تسوية سياسية شاملة. لكن القمّة لم تصل إلى نتائج ذات قيمة، ولم تُحرِز أيّ تقدّم في ملف إنهاء الحرب، حيث تحدّث ترامب مُعتَرفاً بأن "الأمور لم تنجح"؛ في إشارة إلى غياب اتفاق لوقف إطلاق النار؛ ولكنه أصرّ على أن "تقدّماً كبيراً" قد تحقّق، من دون أن يُقَدّم أيّ تفاصيل أو خريطة طريق لما يعنيه ذلك التقدّم.
وبينما كان الأمل معقوداً على قمّة ودابست التي كانت مقرّرة بين ترامب وبوتين لتدارُك جوانب الإخفاق التي ظهرت في القمّة الأولى في ألاسكا، فاجأت واشنطن العالَم بقرارها إلغاء هذه القمّة، عقب اتصال هاتفي بين وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره الأمريكي، ماركو روبيو، الذي أبلغ ترامب بأن موسكو لا تُبدي أيّ استعداد للتفاوض بعد تمسّكها بمطالبها، بما في ذلك تنازل أوكرانيا عن المزيد من الأراضي كشرط لوقف إطلاق النار.
وجاء التحوّل الذي شهِده موقف ترامب تجاه روسيا ورئيسها بوتين وملف الحرب في أوكرانيا، رداً على الوثيقة غير الرسمية الروسيّة التي أُرسِلَت إلى واشنطن في أكتوبر الماضي، والتي أكّدت مطالب موسكو بالسيطرة الكاملة على منطقة دونباس؛ وهذا المطلب يتنافى مع رؤية ترامب للحرب التي يجب أن تتوقّف على خطوط القتال الحالية؛ أي إن دونباس ستكون محط تقسيم وفقاً لهذه الرؤية. كما تتناقض هذه الوثيقة مع رؤية ترامب البراغماتيّة لإنهاء الحرب، والتي كان يرمي من خلالها إلى ضمان تنازل الطرفين عن بعض المطالب، وإقناع الطرف الأوكراني الأوروبي بعدم فاعليّة "الحلول الصفريّة"؛ نظَراً للمكاسب التي حقّقتها موسكو على الأرض.
لقد اعتقد ترامب أنه من السهل التوصّل إلى صفقة لإنهاء الحرب في أوكرانيا؛ بل إنه صرّح بأنه كان يتوقّع أن يكون ذلك أسهل وأسرع من تحقيق السلام في الشرق الأوسط؛ حيث قال في أكتوبر الماضي: "ربطَتني دائماً صداقة رائعة بفلاديمير بوتين؛ لكن هذا الأمر كان مخيّباً جداً للآمال". لكن ترامب وإدارته اصطدما بالتعقيدات التي تحيط بالحرب الأوكرانية وأهداف كلّ طرف منها؛ ففي كييف، يُنظَر إلى الحرب على أنها صراع من أجل السيادة الوطنية؛ وبالنسبة للرئيس زيلينسكي، فهي بالتأكيد معركة سياسية وجوديّة. من ناحية أخرى، بدأ الرئيس بوتين هذه الحرب، وهو الآن بحاجة إلى انتصار واضح بالنظر إلى التكلفة العالية التي تكبّدتها موسكو حتى الآن. كما أن المعارك الميدانيّة تسير في مصلحة روسيا؛ ومن ثمّ فإن موسكو ترغب في تحقيق أكبر مكاسب استراتيجيّة ممكنة.
من جهتها، لا تقف أوكرانيا بمفردها في مواجهة ضغوط ترامب وحرب بوتين. فهناك تحالف أوروبي قوي يدعم كييف؛ حيث تنظر أوروبا إلى الحرب باعتبارها تهديداً للأمن الأوروبي برمّته. وقد قدّمت الدول الأوروبية دعماً كبيراً لأوكرانيا خلال سنوات الحرب؛ ما يعكس رغبتها في تمكين كييف من الاستمرار في الصراع، وعدم منح روسيا مكاسب واضحة. ويبدو أن الدول الأوروبية نجحت في إقناع واشنطن بأن الحرب الأوكرانية مهمّة لمستقبل المعسكر الغربي، وأن الاستراتيجيّات التي تُبنى للتعامل مع معضلة هذه الحرب لا بدّ أن تكون صارمة ومدروسة بدقّة.
تصعيد واشنطن:
يبدو أن الرئيس ترامب قد توصّل إلى قناعة بأن سياسة "الجَزْرَة" والمُراهَنة على علاقاته الشخصية مع الرئيس بوتين لن تؤدّي إلى تحقيق هدفه المتمثّل في إيقاف الحرب؛ وهو ما انعكس في اتجاهه إلى استخدام أسلوب "العصا" المتمثّل في مُمارَسة الضغوط وفرض العقوبات على موسكو لإجبارها على الخضوع لرؤيته لتسوية الحرب. وفي هذا الصدد برز تطوّران مهمّان هما:
1- فرض عقوبات أمريكية على قطاع الطاقة الروسي، حيث أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأمريكية، يوم 22 أكتوبر الماضي، فرض مزيد من العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، مُستَهدِفاً شركتي "روسنفت" و"لوك أويل".
ويُلاحَظ هنا أن هذه الخطوة لم يجرؤ حتى سلَف ترامب في المنصب، جو بايدن، الذي وقف بشكل أقوى إلى جانب أوكرانيا، على اتخاذها؛ حيث كان قد تجنّب فرض عقوبات على هاتين الشركتين (روسنفت ولوك أويل)، مُراعاةً لحلفاء واشنطن الذين أرادوا الاستمرار في التعامل التجاري مع روسيا، وخشيتهم من العواقب السلبيّة على الاقتصاد العالمي. وإذا تمّ تنفيذ هذه العقوبات فعلاً؛ فستجعل أيّ بنك أجنبي يفكّر مرّتين قبل أن يُشارِك في أيّ عملية دفع مُقابِل الحصول على نفط من هاتين الشركتين اللتين تُمَثّلان معاً أكثر من نصف إنتاج وصادرات روسيا من النفط الخام.
2- منح "البنتاغون" البيت الأبيض الضوء الأخضر لتزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" بعيدة المدى، مع إبقاء القرار السياسي النهائي بيَد الرئيس ترامب. فيما استبعد ترامب، في 2 نوفمبر الجاري، فكرة تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك". لكن في حال مُوافَقة ترامب على تلك الخطوة؛ فإن ذلك سيُشَكّل تطوّراً بالغ الأهميّة في مسار الحرب الأوكرانية، وقد يدفع باتجاه مزيد من التصعيد والدفع نحو سيناريوهات غير محسوبة.
من جانبها، أقرّت دول الاتحاد الأوروبي، يوم 23 أكتوبر، الحزمة الـ19 من عقوباتها على روسيا، والتي تتضمّن حظراً على واردات الغاز الطبيعي المُسال الروسية، وإدراج 117 سفينة إضافيّة من "أسطول الظلّ" الروسي ضمن العقوبات؛ ليصِل إجمالي عدد السفن المُدرَجة في هذا الشأن إلى 557، في إطار تشديد الضغوط الاقتصادية على موسكو.
وقد يستهدف التصعيد الأمريكي ضدّ روسيا الضغط عليها لدفعها لقبول الصفقة التي يطرحها ترامب. وعلى الرّغم من ذلك؛ فإن سيناريو تصعيد الحرب قد يبدو مرشّحاً في ظلّ تمسّك كلّ طرَف بمواقفه، ولا سيّما في ظلّ توتّر العلاقات الشخصية بين ترامب وبوتين، الذي تجسّد مؤخّراً في شكل استعراض القدرات النووية مع إعلان موسكو في 29 أكتوبر الماضي عن اختبار صاروخ جديد يعمل بالطاقة النووية؛ وردّ ترامب بإصدار تعليمات لوزارة الحرب لبدء اختبار الأسلحة النووية الأمريكية، في بداية على ما يبدو لسباق تسلّح نووي جديد بين روسيا والولايات المتحدة. كما كشف تقييم استخباراتي أمريكي حديث أن بوتين أصبح أكثر إصراراً من أيّ وقتٍ مضى على مواصلة الحرب في أوكرانيا.
ختاماً، بالنظر إلى مواقف وسياسات ترامب المتقلّبة والمتغيّرة، تظلّ فُرَص تحقيق السلام وإيقاف الحرب في أوكرانيا هدفاً رئيسياً للرئيس الأمريكي؛ ولكن من المؤكّد أنها لن تكون سهلة.
2025-11-17 11:22:32 | 53 قراءة