تقدير موقف:
مستقبل الحكومة الإسرائيلية في ضوء اتفاق إنهاء الحرب والمستجدّات الداخلية
تقدير موقف
مستقبل الحكومة الإسرائيلية في ضوء اتفاق إنهاء الحرب والمستجدّات الداخلية
29 أكتوبر 2025
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية
• عبد القادر بدوي
مرّت حكومة اليمين في إسرائيل منذ تشكيلها نهاية العام 2022، في العديد من المُنعطفات التي هدّدت استقرارها حتى نهاية ولايتها القانونية. رغم العديد من القضايا والعقَبات، تمكّنت من التجديف وسط الأمواج العالية، ولا سيّما قضية "تجنيد الحريديم" التي استطاعت - حتى الآن- تفادي مخاطرها على استقرار الحكومة؛ بالإضافة إلى عدّة قضايا أخرى لا تقلّ تأثيراً عن هذه القضية.
وفي ظلّ ما يعيشه الائتلاف من ضغوطات داخلية: مطلب تحقيق "النصر المطلق"، وخارجية: تتمثّل في تصاعد الكُلفَة الإنسانية والسياسية للحرب، المُطالِبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر، وتزايد الضغوط والانتقادات الدولية، طرَح الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطّة لوقف إطلاق النار واستعادة الأسرى والمُحتَجزين وإنهاء الحرب على غزة (تضمّنت 21 بنداً)، كأوّل مقترح أميركي متكامل لوقف حرب الإبادة، وهو ما وضع الحكومة الإسرائيلية أمام واحدة من أكثر المحطّات مفصليّة منذ تشكيلها من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، وضعَت نتنياهو أمام اختبار مُعَقّد بين الاستجابة للحليف الأميركي وبين الحفاظ على مَطالِب شركائه في الائتلاف.
مع قُرب انتهاء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق التي شملت تبادلاً للأسرى والمُحتَجزين الإسرائيليين الأحياء والأموات، في مقابل انسحاب جزئي باتجاه الخط الأصفر وإطلاق سراح عدد محدود من الأسرى الفلسطينيين وإدخال المساعدات، والبدء فعلياً بمفاوضات بين الأطراف ذات الصّلة حول تفاصيل المرحلة الثانية منه، ومع عودة الحديث عن القضايا الخلافيّة التي تمكّنت الحكومة من تخفيف إسقاطاتها خلال الحرب، عاد النقاش حول مصير الحكومة ومستقبلها إلى الواجهة مجدّداً، خاصّة في ظلّ حالة الشكّ داخل الائتلاف من تفاصيل هذه المرحلة الثانية من الاتفاق، وسط ضغط الموقف الأميركي المُعلَن حول المضي قُدُماً في الاتفاق رغم العقَبات.
ورَقة تقدير الموقف هذه، تُسلّط الضوء على مستقبل الائتلاف الحكومي، من خلال إبراز مواقف الأطراف المُشَكّلة له (تحديداً أحزاب أقصى اليمين)، وتستَشرف أبرز السيناريوهات المتوقّعة في ضوء التطوّرات المرتبطة بتوقيع اتفاق وقف الحرب في شرم الشيخ والقضايا الداخلية الأخرى، وتأثير ذلك في المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل.
أوّلاً: حكومة اليمين خلال حرب الإبادة: الإبحار وسط العواصف
منذ نهاية العام 2022، تشكّلت حكومة "اليمين الكامل"، كما تُعرَف إسرائيلياً، من تحالف يضم حزب الليكود وأحزاب اليمين الديني - القومي المتطرّف، وفي مقدّمتها كتلتا الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريتش و"قوّة يهودية" برئاسة إيتمار بن غفير، إلى جانب الأحزاب الحريديّة مثل: "شاس" و"يهدوت هتوراه". تضمّنت اتفاقيّات الائتلاف الحكومي المُشَكِّلة للائتلاف عدّة مشاريع اشترَطت بموجبها بعض الكتل مشاركتها في الائتلاف، مثل: سنّ قانون "الإعفاء من التجنيد" (بالنسبة للحريديم) و"الثورة القضائية" (بالنسبة لأحزاب اليمين القومي). وقد شكّل المشروع الأخير أحد أبرَز الموضوعات التي أثارت احتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي، وعزّزت من حالة الاستقطاب الداخلية التي وصلت إلى ذروتها عشيّة إقدام نتنياهو على إقالة وزير الدفاع يؤآف غالانت، قبل أن يتراجع عن ذلك لاحقاً تحت ضغط الشارع، ومُبادَرة الرئيس إسحاق هرتسوغ التي أفضَت إلى إيقاف مؤقّت لسلسلة التشريعات القضائية ذات الصلة. وجاء هجوم طوفان الأقصى صبيحة 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، ليَضَع إسرائيل المُنقَسمَة أصلاً عشيّة الهجوم في وضع جديد وغير مسبوق لحربٍ على مستوى نطاقها والمدّة الزمنية.
منذ بداية حرب الإبادة، تطرّق الوزير سموتريتش إلى مستقبل الائتلاف بالقول: "سيَطردوننا، وهم على حق"- للتعبير عن مسؤولية الحكومة عن الفشل الأمني- العسكري والسياسي خلال محادثة بينه وبين نتنياهو. إلّا أن الأخير "ظلّ مُتَمَسّكاً بقرار الاستمرار، حتى حين كان جميع من حوله مُحَطّمين نفسياً بسبب الهجوم، حيث كان بالفعل يخطّط للخطوة التالية: إبعاد موعد الانتخابات، محو ذكرى الهجوم، وإلقاء اللوم على الجميع وتحميلهم مسؤولية ما حدَث باستثناء شخصه وحكومته.
استطاع نتنياهو الحفاظ على استقرار الائتلاف وتجاوز غالبيّة الأزمات التي واجهته بالحفاظ على مُعادَلة مع شركائه في اليمين، يُمكِن تلخيصها بـ "الولاء في مقابل استمرار الحرب" التي تتكوّن من مُرَكّبين؛ الأوّل: ضمان التشدّد السياسي والأيديولوجي وإطلاق العنان لخطط ومشاريع أقصى اليمين في الضفة والقدس والسجون؛ والثاني: المُماطَلة والهروب للأمام في القضية المُعَقّدة المعروفة باسم "قضية التجنيد"، لا سيّما مع ما أفرزَته الحرب وإسقاطاتها من حاجة مُلِحّة لتغيير في التصوّر القديم من التعامل مع هذه القضية. وقد قوبل التزام نتنياهو بهذين المُرَكّبين بالحصول على مظلّة برلمانية تحميه من كلّ الأزمات السياسية والقضائية - حتى وقت إعداد هذه الورقة على الأقل - التي تُكتَب بالتزامن مع الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق شرم الشيخ لوقف الحرب.
من الناحية الفعلية، شَكّل طَرْح الرئيس الأميركي ترامب، بالتنسيق مع بعض الدول العربية والإسلامية، لإنهاء الحرب على قطاع غزة، محطّة عاد بسبَبها الحديث عن إمكانيّة الذهاب نحو إجراء انتخابات مُبكِرة في حال انسحبت بعض كتل أقصى اليمين من الائتلاف، بسبب عدم التزام نتنياهو بتحقيق أهداف الحرب التي حدّدها الكابينيت مطلع أغسطس المنصرم على النحو التالي: 1) القضاء على حركة حماس؛ 2) إعادة الأسرى والمُحتَجزين؛ 3) نزع سلاح قطاع غزة؛ 4) إقامة حكومة مدنيّة في غزة ليست مُرتَبطة بحماس أو بالسلطة الفلسطينية؛ 5) تفكيك سلاح حماس.
بعد تنفيذ غالبيّة المرحلة الأولى من الاتفاق، تبدو قضايا المرحلة الثانية تنطوي على جملة من التعقيدات قد تتسبّب في انهيار الائتلاف، خاصّة وأن نتنياهو، وعلى الرّغم من التصريحات الأميركية حول نهاية الحرب وهزيمة حماس وتفكيك سلاحها (في المرحلة المقبلة)، بات أمام اختبار مُزدَوج: الالتزام بتنفيذ المقترح بشكلٍ كامل لضمان استمرار الدعم الأميركي والابتعاد عن الصدام معها؛ أم الانصياع لضغوط شركائه في الائتلاف الحكومي، وتحديداً كتلتي "الصهيونية الدينية" و"قوّة يهودية" للحفاظ على الائتلاف؟
ثانيًا: بين صفقة شاليط والصفقة الحالية - بين المعارضة والتهديد بتفكيك الائتلاف؟
لم تَخْلُ أيّ عملية تبادل للأسرى أجرَتها إسرائيل منذ العام 1949 من أيّ توتّرات داخل تركيبة الائتلاف الحكومي، إذ أعلنَت في كلّ مرّة بعض القوى المُكَوّنة له عن مُعارَضتها لإبرام صفقة؛ إلّا أن أيّاً من هذه المعارضة لم تُتَرجَم إلى خطوة احتجاجيّة تصعيديّة وصلت حدّ التهديد بالانسحاب وإسقاط الحكومة. على سبيل المثال لا الحصر، شهِدت حكومة نتنياهو الثانية (2009) التي أبرَمت في نهاية المطاف صفقة التبادل مع حركة حماس للإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط في العام 2011 مقابل تحرير حوالى 1027 أسير/ة فلسطيني/ة من السجون الإسرائيلية، مواقف مُتَبايِنة بين الأحزاب المُشارِكة في الحكومة التي كانت تتكوّن من 69 عضواً (تُعَدّ من أكبر الائتلافات الحكومية في إسرائيل منذ تأسيسها)، حيث صَوّت 26 وزيراً في الحكومة لصالح الصفقة، بينما عارضها ثلاثة وزراء: وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، ووزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعالون (حزب الليكود)، ووزير البنية التحتية عوزي لانداو؛ ولم تظهَر معارضة داخلية عميقة حدّ التهديد الواضح بانسحاب أحزاب من الائتلاف، رغم معارضة بعض الوزراء الأساسيين، التي تركّزت في "المخاوف الأمنيّة"؛ وهو ما أفضى في نهاية المطاف لإبرام الصفقة.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن ظروف إبرام صفقة التبادل الأخيرة (المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار)، تختلف، إلى حدٍّ كبير عن سابقاتها، وذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما يلي:
• من جهة :طبيعة الصفقة الأخيرة تختلف عن كلّ سابقاتها من حيث ارتباطها بحرب مستمرّة بلا أفق أو استراتيجيّة واضحة لإنهائها، وبشكل شَرْطي؛ أي أن إبرام الصفقة يترتّب عليه - وفق المقترح - إنهاء الحرب، حتى وإن كان ثمن ذلك عدم تحقيق أهدافها المُعلَنة في الكابينيت.
• من جهة ثانية: إن طبيعة الحرب الحالية مختلفة من حيث التعريف السياسي الإسرائيلي لها (عَدّ المستوى الرسمي هذه الحرب على أنها "حرب وجوديّة")؛ وهو أمر غير مسبوق مُقارَنةً بالحروب التي خاضتها إسرائيل ضدّ العرب والفلسطينيين منذ تأسيسها.
• من جهة ثالثة: بخلاف الصفقة السابقة (صفقة "شاليط")، تُهدّد أحزاب أقصى اليمين بالانسحاب من الائتلاف وتفكيكه في حال لم يتم تحقيق كافّة أهداف الحرب.
• من جهة رابعة: على الرّغم من تَمَكّن الائتلاف من تجاوز العديد من الأزمات التي هدّدت استقراره (قانون التجنيد على سبيل المثال)، إلّا أنه ما يزال يستند إلى أغلبية طفيفة مُقارَنةً بحكومات أخرى أجرِيت في ولايتها صفقات (64 مقعداً)؛ وهو ما يُعَزّز من تعقيد استمرار الائتلاف اليوم في حال انسحاب أيّ كتلة بالفعل منه.
ثالثًا: نتنياهو- بين ضغط كتل أقصى اليمين وموقف واشنطن
يتّفق قادة كتل أقصى اليمين (ممثّلين بسموتريتش وبن غفير) على رفض الاتفاق بشقّي؛ إلّا أنهما في الوقت نفسه لم يُعلِنا الانسحاب من الائتلاف في المرحلة الأولى. وقد اشترطا بقاءهما في تحقيق أهداف الحرب الخمس. وعلى الرّغم من كون هذا الموقف يُمكِن تأطيره وفهمه في سياق الدعاية الانتخابية المُبَكّرة، إلّا أنه في الوقت نفسه يعكس رؤى وتصوّرات أيديولوجيّة حقيقية لهذه الكتل، التي ترى أن عدم تحقيق أهداف الحرب التي تمّ إقرارها في الكابينيت هزيمة تُقَوّض ما حقّقته إسرائيل في هذه الحرب، وتجعل من "النصر المُطلَق" الذي تبنّاه ووعَد به نتنياهو منقوصاً وغير واضح.
وبهذا، يُشَكّل موقف أقصى اليمين أزمة وفرصة بالنسبة لنتنياهو: من جهة، سيقود انسحاب هذه الكتل من الائتلاف إلى فقدان الأغلبيّة البرلمانية فوراً، ما يعني الذهاب إلى انتخابات مُبَكّرة، لا سيما وأن نتنياهو لم يُوافِق على "شبكة الأمان" التي قدّمتها له المعارضة لتنفيذ الاتفاق كما ورَد على لسان رئيسها يائير لبيد (حتى اللحظة على الأقل). ومن جهة ثانية، قد يُشَكّل هذا السيناريو فرصة لنتنياهو للهروب من استحقاقات المرحلة الثانية، خاصّة وأنه يُدرِك أن الرفض العلني للاستمرار في تنفيذ الاتفاق في ضوء الموقف الأميركي المُعلَن، والرغبة في الدفع قُدُماً باتجاه إنجاح الاتفاق، سيضَعه في مواجهة إدارة البيت الأبيض؛ وهو ما سَيُضاف إلى العزلة الدولية التي تعيشها إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، والتي شكّلت - من بين أمور أخرى كثيرة - دافعاً للإدارة الأميركية لبلورة المقترح والمضي فيه، في مسعىً منها لحماية إسرائيل وإعادة تبييض صورتها دولياً وإقليمياً، انطلاقاً من اعتراف ضمني أميركي بعدم قدرة إسرائيل على تحقيق "النصر الحاسم" بالإبادة التي استمرّت لعامَيْن، وأن ذلك يتطلّب خطوات سياسية أخرى.
إن هذه المعضلة تجعل نتنياهو- حتى وقت إعداد هذه الورَقة للحذر- يتبنّى استراتيجيّة الغموض وتجنّب المواجهة: أي تأييد المقترح تحت ضغط ترامب، مع ربطه بضرورة "التزام حماس المُطلَق بتنفيذ عناصر المقترح"، و"حقّ" إسرائيل في استئناف الحرب في حال لم يتم الالتزام الكامل ببنودها والردّ على "انتهاكات حماس" للاتفاق (وهي فضفاضة وخاضعة لتعريف إسرائيل للانتهاك)؛ وهو ما يضمن له الحفاظ على قنَوات الدعم الأميركي من ناحية، ومن ناحية أخرى، يُقَدَّم ذلك لكتل أقصى اليمين باعتباره "مُناوَرة تكتيكيّة لا تنازلاً سياسياً". لكن هذا الأمر لا يُمكِن أن يظلّ مُمكِناً مع التقدّم أكثر في مفاوضات المرحلة الثانية، وخاصّة مسألة "اليوم التالي" والانسحاب، ونزع سلاح حركة حماس وقطاع غزة وإعادة الإعمار؛ وهو ما يفتح الباب على سيناريوهات متعدّدة تقف في مقدّمتها الانتخابات المُبَكّرة، إذا ما أخذنا بعَين الاعتبار قضايا أخرى لا تقلّ حساسيّة وأهميّة عن قضية الحرب، وهي على النحو التالي:
• قانون تجنيد الحريديم: شَكّل قانون التجنيد تحدّياً كبيراً للائتلاف الحاكم. وقد وصل هذا التحدّي ذروته عشيّة الحرب على إيران في يونيو/ حزيران 2024 التي استمرّت 12 يوماً، حيث كاد الائتلاف يسقط لو أقدَمت الأحزاب الحريديّة على التصويت لصالح مقترح قرار نزع الثقة عن الحكومة الذي طرحَته المعارضة؛ إذ بدا أن هناك توجّهات مُتباينة بينها في الموقف من التصويت، قبل أن يتم الاتفاق على تأجيل القرار إلى ما بعد الإجازة الصيفيّة ودخول الدورة الشتويّة للكنيست. ورغم أن حزب "ديغل هتوراه" انسحب رسمياً من الحكومة، إلّا أن ذلك لم يتَرتّب عليه إسقاط الائتلاف، وما يزال يحتفظ بأغلبيّة طفيفة. مع دخول الدورة الشتويّة للكنيست، ستعود هذه القضية كعقَبة مركزية أمام استقرار الائتلاف، لا سيّما في أعقاب قرار المحكمة العليا بالخصوص، وفي ضوء شبه الإجماع وسط الأحزاب الحريدية على الموقف الرافض للعقوبات التي دفعت باتجاهها لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بحقّ المُتَهَرّبين من الخدمة العسكرية من الشبّان الحريديين؛ وكلّ ذلك تحت ضغط تحوّل المسألة من اجتماعية وجزء من حالة الاستقطاب والتوازنات الداخلية، إلى مسألة اجتماعية - اقتصادية - عسكرية من الدرجة الأولى، في ضوء إفرازات الحرب والخسائر البشرية التي تكبّدها الجيش.
• تشكيل لجنة تحقيق في فشل 7 أكتوبر: منذ بداية حرب الإبادة على غزة، أعلَت غالبيّة الأصوات المعارضة للائتلاف ولشخص نتنياهو شعار "تشكيل لجنة تحقيق رسمية" للتحقيق في فشل 7 أكتوبر على كافّة المستويات، بما في ذلك النخب العسكرية - الأمنية والسياسية السابقة، وتلك التي كانت على رأس عملها بالفعل عشيّة الهجوم (آخرهم مُستشاره للأمن القومي تساحي هنغبي)، والتي تمّ استبعاد غالبيّتهم بالإقالة أو الدفع للاستقالة (وزير الأمن غالانت، رئيس هيئة أركان الجيش هليفي، ورئيس "الشاباك" بار) من قِبَل رئيس الحكومة وكتل اليمين. مُقابِل ذلك، تُشير غالبيّة القراءات إلى أن نتنياهو قد يذهب باتجاه تشكيل لجنة تحقيق حكومية (تختلف عن الرسمية من حيث التركيبة والصلاحيّات والفاعليّة)، وبما يضمن الهروب من المسؤولية المباشرة عن الفشل، بعد أن استمرّ بتحميل المسؤولية عن الفشل لكبار القادة العسكريين- الأمنيين. في المقابل، هناك تقديرات بأن يتم الدفع باتجاه سنّ قانون جديد يمنح الحكومة صلاحية تعيين أعضاءها ورئيسها هرَبًا من القبول بإسحاق عميت (رئيس المحكمة العليا الحالي وغير المقبول على كتل اليمين) رئيسًا لها بحُكم القانون.
• إقرار الموازنة العامّة 2026 : تُشَكّل مسألة إقرار الموازنة العامّة في العام الأخير في عهد الحكومات الإسرائيلية مسألة شبه محسومة، حيث تفشل غالبيّة الحكومات، لا سيّما تلك التي اندلعَت حروب كبيرة خلال فترة ولايتها، في تمرير الموازنة للعام الأخير بسبب الأعباء الاقتصادية للحرب عادةً؛ وهو ما يتسبّب في حلّ الحكومة لنفسها بشكل تلقائي. الائتلاف الحالي، وعدا عن التكاليف الباهظة للحرب والخسائر المباشرة وغير المباشرة، يُواجِه أيضاً أزمة مُرتبطة بمخصّصات الحريديم في ظلّ الخلاف حول قضية التجنيد والإعفاء من التجنيد.
رابعًا- الائتلاف الحكومي الحالي: سيناريوهات ومُعيقات وفُرَص!
إن القضايا المُشار إليها أعلاه، بالإضافة إلى التعقيدات التي تُغَلّف اتفاق وقف إطلاق النار والمواقف المُتَبايِنة منه داخل المُرَكّبات المُكَوّنة للائتلاف، تفتح الباب على العديد من السيناريوهات لمستقبله من الآن فصاعداً، لا سيّما مع دخول الكنيست دورته الشتوية وعودة طرح مشاريع القوانين التي تمسّ كلٌ منها قضية بعَينها من القضايا المذكورة أعلاه، على النحو التالي:
1. استمرار الائتلاف حتى نهاية الولاية القانونية
ينتهي عهد الائتلاف الحالي نهاية العام المقبل (كانون الأوّل/ ديسمبر 2026) بالاستناد إلى "قانون أساس: الحكومة". وعلى الرّغم من الاستقرار الحالي للائتلاف، وما يُرافِقه من شعور بـ "النشوة" نتيجة "ما تمّ تحقيقه عسكرياً على الجبَهات المختلفة"، وحرص كتل اليمين على عدم شقّ الائتلاف بالاستناد إلى الاعتقاد الشائع في أوساطه بأن ثمَن إسقاط حكومة اليمين (برئاسة يتسحاق شامير) في العام 1992 كان توقيع اتفاق أوسلو من قِبَل حكومة يتسحاق رابين، يبدو أن هذا السيناريو بعيد المنال، لا سيّما وأن القضايا التي تمّت الإشارة إليها أعلاه: الموقف من وقف الحرب، قانون التجنيد، إقرار المُوازَنة وتعيين لجنة تحقيق... إلخ، تضع عقَبات حقيقيّة أمام كتل اليمين نفسها في الاستمرار حتى نهاية الولاية القانونية المُشار إليها.
2. استمرار الائتلاف مؤقّتاً وإجراء انتخابات مُبَكّرة قبل موعدها
صحيح أن العديد من القراءات تُشير إلى أن كتل اليمين المُشَكّلة للائتلاف الحاكم ليست معنيّة بالفعل في تفكيك الحكومة في الوقت الحالي، إلّا أن بعضها (كتل أقصى اليمين تحديداً) ستَجِد نفسها مضطرّة للانسحاب مع تقدّم المفاوضات حول مستقبل القطاع، مع استمرار الدفع الأميركي نحو الالتزام الإسرائيلي به وعدم خرقه، وذلك لأسباب مُرتبطة بحسابات انتخابية داخلية وإرضاءً لقواعدها الانتخابية. وقد بدأت إشارة فعليّة لهذا التوجّه بالظهور إلى العلَن: على الأجندة - قانون "إعدام الأسرى" الذي يحمله بن غفير، وقانون "فرض السيادة" على الضفة الغربية الذي يحمله سموتريتش وبعض الأحزاب الدينية. على أيّة حال، تُشير التقديرات إلى أن هذا السيناريو ربما هو الأوفَر حظاً، حيث يسمح لكافّة اللاعبين (في الائتلاف والمعارضة) ببناء حملة انتخابية بناءً على المُعطَيات الحالية (قد يتم إجراؤها في تشرين الأوّل/ أكتوبر، 2026). وقد تكون فُرصته أكبر في حال تمّ التوافق على مسألة "العفو عن نتنياهو" التي عادت وظهرت مرّة أخرى بعد نقاش أجراه رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ مع عائلات الأسرى والمُحتَجزين.
3. انسحاب بعض الكتل وتفكّك الائتلاف
على الرّغم من أن التقديرات العامّة تَستَبعد في الوقت الحالي مثل هذا السيناريو، إلّا أن فُرَص حدوثه - وإن كانت مُتَدَنّية - تجعله أمراً وارداً، لا سيّما وأن هناك ميلاً لدى كتل أقصى اليمين بالذهاب إلى تفكيك الحكومة في حال تبيّن أن المفاوضات التي تجري حول تفاصيل المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار لا تضمن تحقيق "النصر المطلق" الذي وعَد به نتنياهو؛ وهو ما تتمسّك به هذه الكتل، والذهاب باتجاه شعارات "النصر الناقص" لخوض الانتخابات المقبلة (قد تكون في يونيو/ حزيران، 2026)، لا سيّما وإن لم يتم تحقيق رغباتها المُشار إليها أعلاه في مسألتي الأسرى والضفة الغربية. يُعزّز من هذا التوجّه التقديرات لدى الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية التي أعربت عن خشيتها من السرعة التي تسير فيها الإدارة الأميركية باتجاه تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي ربّما تُقَوّض الحسابات والاعتبارات الأمنيّة لإسرائيل ولا تُراعيها بشكلٍ كامل. من ناحية أخرى، يظلّ هذا السيناريو، رغم حظوظه المتدنّية، حاضِراً في حال أقدَم نتنياهو على إعادة مُهاجَمة حزب الله مرّة أخرى (وسط الإصرار على رفض مشاركة قوّة تركية في غزة)، إذ يضمن له ذلك وجود حكومة انتقاليّة يتهرّب بالاستناد إليها من الاستحقاقات ومن مواجهة الإدارة الأميركية في مسألة اتفاق وقف إطلاق النار؛ وهو ما سيُعيد تعقيد المشهد الداخلي، ويُعَزّز من العزلة الدولية ويُثير غضب الولايات المتحدة التي قد تلجأ لخطوات مواجهة مباشرة معه.