الثورة الهادئة.. كيف يتخيّل الأفارقة مستقبل قارّتهم؟
24 أكتوبر، 2025
أ. د. حمدي عبدالرحمن
أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد، الإمارات العربية المتحدة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
تُواجِه الدول الإفريقية تحدّيات جمّة، تشمل عدم الاستقرار السياسي، والإرهاب، والصراعات العنيفة المسلّحة، والاضطرابات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية. ويقيناً تتطلّب هذه المشكلات المعقّدة مناهج شاملة تُراعي صلة الوصل فيما بينها. ومع ذلك، وعلى الرّغم من هذه التحدّيات؛ تفوّقت بعض الدول الإفريقية في مجال الريادة والابتكار؛ أي ثمّة وجه آخر يدعو للتفاؤل. فعلى سبيل المثال، تُعَدّ كينيا اليوم رائدة عالميّة في مجال المدفوعات عبر الهاتف المحمول؛ وأقامت نيجيريا العديد من شركات التكنولوجيا الماليّة الناشئة وصغيرة الحجم (وهي شركات خاصّة أو ناشئة تتجاوز قيمتها مليار دولار أمريكي). كما تكتسب الصناعات الإبداعية في إفريقيا، من الموسيقى إلى الأفلام، شهرة عالميّة. ومع ذلك، يتطوّر مستقبل إفريقيا بسرعة وبشكل غير متوقّع؛ حيث تُواجِه التحوّل المزدوج المتمثّل في الثورة الصناعية الرابعة والتحوّل إلى طاقة أكثر خضرة؛ ممّا يُهدّد بتخلّفها عن الرّكب.
وعليه، يُعَدّ الاستشراف أمراً بالغ الأهميّة لمساعدة إفريقيا على اجتياز هذه التحوّلات المعقّدة بنجاح. ويصبح السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل ستنتصر إفريقيا في مواجهة الهجَمات الإرهابية وتقلّبات المناخ؟ تعتمد الإجابة بالقطع على الإجراءات المتّخذة، وخاصّة من قِبَل أولئك الذين يملكون القدرة على التصرّف. وهنا يُصبح التوقّع والتصرّف أمران أساسيّان؛ حيث يُصبح الاستشراف أمراً بالغ الأهميّة. وللدول الإفريقية باعٌ طويلٌ في التخطيط التنموي والاستشراف؛ إذ استعاد الاستشراف منذ تسعينيات القرن الماضي مكانته في إفريقيا؛ إلّا أن وثائق الرؤية غالباً ما تبقى مُنفَصلة عن تطبيق السياسات. ويتمثّل التحدّي اليوم في دمج الاستشراف وتعميمه، وجعله جزءاً لا يتجزّأ من إدارة التنمية في إفريقيا.
ولا يخفى أن إفريقيا تقف اليوم عند مُفتَرق طُرُق تاريخي فريد. فبينما صوّرت نماذج التنمية التقليدية القارّة في الغالب الأعم من منظور عفا عليه الزمن يتمحور حول التحدّيات والعجز، تَبرز ثورة هادئة في المؤسّسات والجامعات ودوائر السياسات الإفريقية. تدور هذه الثورة حول إدراك مُتزايد الأهميّة بأنه يجب أن يتخيّل الأفارقة أنفسهم مستقبل إفريقيا ويُصَمّمونه ويَبنونه، على شاكلة الكاتب السنغالي فلوين سار و"عالَم أفروتوبيا"، باستخدام أدوات تجمع بين التحليل الدقيق وتقاليد السرد القصصي الغنيّة التي شكّلت القارّة لآلاف السنين. ويُرَكّز هذا المقال على أربعة مُرتَكزات أساسيّة يمكن من خلالها أن يتصوّر الأفارقة مستقبل قارّتهم.
1- تجاوز لغة الأرقام:
لقد هيمَنت على خطاب التنمية في إفريقيا أُطُرٌ مفروضة من الخارج تُعطي الأولويّة للنمذجة الإحصائيّة على التجارب الحياتيّة والحِكمَة الثقافيّة. وبينما لا تزال هذه النمذجة الكميّة ضرورية لفهم الاتجاهات الاقتصادية والتحوّلات الديمغرافية؛ يُدرِك أكثر المُفَكّرين والمُبدِعين في القارّة أن التحوّل المُستَدام يتطلّب شيئاً أعمق من الذهاب وراء لغة الأرقام؛ أو بمعنى آخر سرديّات وأصوات تُجَسّد تطلّعات المجتمعات الإفريقية وقِيَمَها وذكاءها الجماعي. وفي هذا المقام تُظهِر مجموعة أدوات التخطيط الاستراتيجي والاستشراف، التابعة للآليّة الإفريقية لمُراجَعة الأقران التي تأسّست عام 2003، وتمّ اعتمادها من قِبَل 14 دولة إفريقية عام 2024، هذا التحوّل في المُمارَسة؛ وهو عكَس مناهج التخطيط التقليدية التي تعتمد بشكل أساسي على المؤشّرات الاقتصادية؛ إذ تُشَدّد مجموعة الأدوات التي تتبنّاها الآليّة على أهمية عمليّات التشاور الشاملة، والأطُر الثقافية لتصميم السياسات، واستراتيجيّات التواصل التي تتوافق مع السياقات الإفريقية المتنوّعة. فعلى سبيل المثال، نجحت دول مثل أوغندا وبنين، في دمج الاستشراف الاستراتيجي في وثائق رؤيتيهما الوطنيتين، ليس فقط من خلال التوقّعات الإحصائيّة؛ بل من خلال سرديّات تربط أهداف السياسات بالقِيَم الثقافية وتطلّعات المجتمع.
وتمثّل الخطّة الاستراتيجيّة 2025–2028 للآليّة قفزة نوعيّة، عبر إطلاق برامج جديدة لتعزيز قدرات التخطيط طويل المدى، والحوكمة الإلكترونية، وأنظمة الإنذار المُبكِر، وإشراك المجتمع المدني. كما تُدمَج الخطّة مع أجندة 2063 والأهداف العالميّة للتنمية المُستَدامة، ولا سيما هدف السلام والعدالة، وخطّة التنفيذ العشريّة الثانية لأجندة 2063. وليس بِخافٍ أن هذه المُقارَبة تعكس فهماً مُتزايداً بأن الاستشراف الفعّال يتطلّب ما يُسَمّيه الباحثون "استشرافاً خيالياً يربط بين قِيَم وتطلّعات عالَم الواقع". فلم يَعُد السرد الإبداعي مجرّد أداة تواصل؛ بل منهجيّة أساسيّة لفهم كيفيّة تصوّر المجتمعات المختلفة لمستقبلها والمسارات التي تراها مرغوبة وقابلة للتحقيق.
2- بناء السرد الإبداعي:
لا زلتُ أتذكّر وصيّة أستاذي، إدوارد عازار، والذي كان من أبرز روّاد التحليل الكمّي في العلاقات الدولية، حينما أكّد أنه ينبغي أن نتعامل بحذَر مع لغة الأرقام. لقد عانت عملية تخطيط التنمية في إفريقيا من الفجوة التقليدية بين التحليل الكمّي "الصارم" والسّرْد الكَيْفي "الليّن". وفي هذا السياق تظهَر أمامنا تجربة شبكة مُمارِسي استشراف الجيل القادم في إفريقيا، التي أُطلِقَت عام 2023، وتضم أكثر من 150 شاباً من خُبراء استشراف المستقبل من أكثر من 25 دولة إفريقية، وهم يعملون معاً على تطوير منهجيّات استشراف مستقبلي خاصّة بكلّ سياق، وذلك لإثراء السياسات والمُمارَسات. ويستخدم أعضاء الشبكة ورش عمل تشاركيّة لبناء السيناريوهات، ورواية قصصيّة إبداعيّة - بالاعتماد على السرديّات المحليّة والفنون والوسائط الرقميّة - لترجمة البيانات المعقّدة إلى رؤى مستقبلية ذات صدى ثقافي؛ ممّا يُعَزّز فهم صانعي السياسات للمَخاطِر والفُرَص طويلة الأجَل. كما تُظهِر الأدلّة المُستَمَدّة من مشروع "المستقبل الرّقمي الإفريقي"، الذي تُنَسّقه شبكة استشراف الجيل القادم، أنّ دمج السرديّات القائمة على الاستعارات مع تحليل الاتجاهات الكميّة قد حَسّن مُشارَكة أصحاب المصلحة في حوارات حوكمة البيانات الوطنية في غانا وكينيا؛ ممّا أدّى مُباشَرةً إلى إنشاء لجان مخصّصة للمستقبل داخل كلا البرلمانَيْن في عام 2024.
لقد أثبتَت هذه المنهجيّة فعاليّتها بشكل خاص في سياقات السياسات التي تُواجِه فيها نماذج التنبّؤ التقليدية صعوبة في استيعاب تعقيد التغيير الاجتماعي. وتُجَسّد تقارير البنك الإفريقي للتنمية هذه الرؤية المُتَكامِلَة، حيث تجمَع بين النمذجة الاقتصادية المتطوّرة والسيناريوهات السرديّة التي تستكشف كيف يُمكِن أن تُبنى مسارات التنمية المختلفة على مسارات ثقافية وسياسية واجتماعية مُتنوّعَة.
3- تمكين روّاد التغيير الأفارقة:
لعلّ أهم مساهمة للسرد القصصي الإبداعي في استشراف المستقبل الإفريقي تكمُن في قدرته على إبراز أصواتٍ لطالما هُمّشَت في مُناقشات السياسات. وهنا تبرز أهميّة برنامج زمالة "صانعي التغيير الأفارقة" القادة الناشئين، الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و40 عاماً، من جميع أنحاء إفريقيا وجالياتها في الشتات، من خلال منهج دراسي افتراضي مدّته خمسة أسابيع، في ريادة الأعمال، والمشاركة المدنيّة، وإدارة المشاريع، وأُطُر عمل الاتحاد الإفريقي، بما في ذلك أجندة 2063. ويجمع البرنامج بين وحدات التعلّم الإلكتروني التفاعليّة والإرشاد الفردي والوصول إلى شبكة خرّيجين إفريقية؛ مما يُمَكّن المُشارِكين من ترجمة أفكارهم إلى مشاريع قابلة للتطوير. وتُشير تقييمات المجموعة السابعة إلى أن أكثر من 80% من الزملاء أطلَقوا مُبادَرات مجتمعيّة وحافظوا على تعاون نشط مع أقرانهم ومُرشِديهم بعد ستّة أشهر من إتمام البرنامج. وبالمثل، أوجَدت مُنتديات مُمارسي استشراف الجيل القادم في إفريقيا فضاءات أرحَب تُتيح للشباب الأفارقة مُشارَكة تحديثات خاصّة بكلّ بلد، تؤسّس لسرديّات غنيّة من الواقع المُعاش؛ الأمر الذي يُثري الحوار القارّي. وتدمج هذه المُنتَديات عمداً تحليل السياسات مع سَرْد القصص الشخصية، مُدرِكةً أن الاستشراف الفَعّال يتطلّب فَهْماً ليس فقط لما قد يحدث، بل أيضاً كيفيّة تجربة المجتمعات المختلفة للتغيير واستجابتها له. ولعلّ ذلك يُذَكّرنا بقصّة الأديب المصري يحيى حقّي، في فيلم "قنديل أم هاشم"؛ حيث يستعرض فلسفة التغيير من خلال الصراع بين التقاليد الجامدة، وبين العِلم الحديث والتقدّم. وفي النهاية تنتصر سرديّة الموروث الثقافي من خلال إيجاد حلّ وسط يدمج بين العِلم والتقاليد المُجتمعيّة.
4- سدّ الفجوة بين البحث العِلمي والواقع:
يُمثّل الانفصال بين مؤسّسات البحث العِلمي في البلدان الإفريقية وعمليّات صنع السياسات، أحد التحدّيات المُستَمرّة في التنمية الإفريقية. فغالباً ما يفشل البحث الأكاديمي التقليدي في التأثير في السياسات، ليس بسبب تحليل غير كافٍ؛ بل بسبب ضعف التواصل الذي لا يتوافق مع الواقع السياسي أو الفهم العام. وفي هذه الحالة يُقَدّم السرد القصصي الإبداعي جسراً قوياً لسدّ هذه الفجوة. وقد أظهَرت مُبادَرة "من الأدلّة إلى العمل والبحث في شرق وجنوب إفريقيا" كيف يُمكِن لتوليف البحث، إلى جانب السرديّات الجذّابة، أن يُنشئ علاقات جديدة هادفة مع صانعي السياسات ومنظّمات المجتمع المدني. فبدَلاً من مجرّد عرض البيانات، يتطلّب الانخراط الناجح في السياسات قصصاً تُساعِد صانعي القرار على فهم كيفية ارتباط نتائج البحث بالتجارب الحيّة لمُواطِنيهم. وقد وجَد تقييم أُجرِي عام 2025 أن خدمات التجميع السريع للأدلّة التي تقدّمها المبادرة قد قلّصت المُدَد الزمنيّة لقرارات السياسات بنسبة 40% في المتوسّط، بينما زادت ورش العمل المصمّمة خصّيصاً لأصحاب المصلحة من ثقة صانعي السياسات في استخدام البحوث بنسبة 65٪.
ومن خلال نشر مُنتَجات التجميع الخاصّة بكلّ سياق - مثل ملخّصات السياسات والرسوم البيانية ولوحات المعلومات التفاعليّة - تمكّنت هذه المبادرة من سدّ الفجوة بين البحث الأكاديمي الدقيق والتطبيق العملي للسياسات. إضافة إلى ذلك؛ ضَمن تركيز المبادرة على التصميم المشترك مع الوكالات الحكومية والمجتمع المدني توافق الأدلّة مع الأولويّات الوطنية؛ ممّا أدّى إلى دمج النتائج المُجَمّعة في المبادئ التوجيهية الوطنية للصحّة الإنجابيّة في ثلاثة بلدان، وتوجيه تطوير استراتيجيّات الطاقة النظيفة في بَلَدَيْن.
في الختام، يمكن القول إنه مع توجّه إفريقيا نحو عام 2030 وما بعده، يُتيح دمج السرد الإبداعي في عمليّات الاستشراف والتخطيط فُرَصاً غير مسبوقة للتنمية الشاملة القائمة على الثقافة. ولن تكون القصص التي تصوغها المؤسّسات والمبادرات السابقة الإشارة إليها مجرّد تمارين أكاديميّة أو وثائق سياسات تُهمَل على رفوف المؤسّسات؛ بل ستكون سرديّات حيّة تُساعِد المجتمعات الإفريقية على فهم دورها في تشكيل التحوّل القارّي، وتُساعِد صانعي السياسات على ربط قراراتهم بتطلّعات مجتمعاتهم، وتُساعِد المجتمع الدولي على فهم إفريقيا كمصدر للابتكار لا كمُتَلَقٍّ للمساعدة. والأهم من ذلك، ستُظهِر هذه القصص أن مستقبل إفريقيا ليس أمراً يحدث للقارّة فحسب؛ بل هو شيء يصنعه الأفارقة أنفسهم بنشاط للوصول إلى "عالم أفروتوبيا". وفي عالَمٍ يتزايد فيه عدم اليقين والتغيّر السريع؛ قد يُثبِت هذا المزيج من السرد الإبداعي والاستشراف الاستراتيجي أنه أحد أهم مُساهَمات إفريقيا في مُمارَسات التنمية العالميّة.
2025-11-19 11:56:31 | 14 قراءة