التصنيفات » مقالات سياسية

تقدير موقف || دلالات فوز ممداني وانعكاساته على المشهد السياسي الأميركي

تقدير موقف || دلالات فوز ممداني وانعكاساته على المشهد السياسي الأميركي

يُمَثّل صعود ممداني أحد التحوّلات السريعة واللافتة في المشهد السياسي الأميركي الحديث. فقبل عام واحد فقط من فوزه، حين أعلَن ترشّحه لرئاسة بلدية نيويورك، لم يكن يتمتّع بحضور واسع في المدينة، على الرّغم من أنه شغل مقعدًا في المجلس التشريعي.
عمدة بلدية نيويورك، زهران ممداني 
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
 10/11/2025

شهِدت الولايات المتحدة الأميركية، في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أوّل انتخابات محليّة وعلى مستوى الولايات، منذ أن تولّى الرئيس دونالد ترامب ولايته الثانية، في مطلع العام. وقد مثّلت هذه الانتخابات مؤشّرًا مُبكرًا على اتجاهات التصويت المحتملة في الانتخابات النصفيّة المُرتَقبة في خريف 2026، في ظلّ تنامي الانقسامات السياسية الداخلية، واستمرار الإغلاق الحكومي للأسبوع السادس على التوالي؛ نتيجة الخلافات داخل الكونغرس حول إقرار الموازنة العامّة. وعلى الرّغم من أن الحزب الديمقراطي حقّق مكاسب ملحوظة في هذه الجولة الانتخابية، خصوصًا في ولايتَي فيرجينيا ونيوجيرسي، إضافةً إلى نجاح مُبادَرة حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسوم، المتعلّقة بإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بما أتاح للحزب الحصول على خمسة مقاعد إضافيّة في الكونغرس، فقد استأثَرت انتخابات بلدية نيويورك بالقدر الأكبر من الاهتمام؛ إذ إنها عكست مؤشّرات بالغة الدلالة بشأن مستقبل الحزب الديمقراطي، وإعادة تشكّل مراكز النفوذ داخل الحزبَين الرئيسَين في البلاد، في سياق اتساع الهوّة السياسية بينهما. في هذا السياق، فاز المرشّح الديمقراطي زهران ممداني في هذه الانتخابات، على الرّغم من غياب الدعم المؤسّسي من داخل الحزب الذي أبدى تحفّظًا تجاه ترشّحه، ومقاومة صريحة له من ترامب، الذي هدّد باتخاذ إجراءات عقابيّة ضدّ المدينة في حال فوزه بمنصب العمدة.
صعود الديمقراطيين الاشتراكيين
ينتمي زهران ممداني، المولود في أوغندا والبالغ من العمر 34 عامًا، إلى جناح الديمقراطيين الاشتراكيين 
Socialist Democrats
  داخل الحزب الديمقراطي، وهو تيّار يدعو إلى إعادة توزيع أكثر عدالة للثروة، وتعزيز دور الدولة في إدارة القطاعات الحيويّة، لا سيما مجالَي الرعاية الصحيّة والخدمات العامّة، بما يضمن خدمة المصلحة العامة[1]. 
وعلى الرّغم من محاولات خصومه السياسيين، لا سيما من الجمهوريين، إلصاق تهمة "الشيوعية" به، فإنّ الاشتراكيين الديمقراطيين يرفضون هذه الاتهامات، مؤكّدين أنّ رؤيتهم تتجاوز النماذج السلطويّة للاشتراكية، وتستَند إلى مُقارَبة ديمقراطية إصلاحيّة. وتُعَبّر "منظّمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا" Democratic Socialists of America, DSA،
 عن هذا التوجّه بقولها: "نحن نرفض الرؤى السلطوية للاشتراكية، ونسعى إلى مسارات متعدّدة نحو اشتراكية ديمقراطية تتخطّى النموذج التاريخي للديمقراطية الاجتماعية"[2]. ويُقِرّ العديد من مُناصري هذا التيّار بأنّ إحداث تحوّل جذري في النظام الاقتصادي لن يكون مُمكنًا على المدى القريب؛ ما يدفعهم إلى الاعتماد على أدوات نضاليّة، مثل التنظيم المجتمعي والضغط السياسي والاحتجاج، لتحقيق تغييرات تدريجيّة ضمن الإطار القائم. وفي هذا السياق، تؤكّد المنظّمة: "أن نهاية النظام الرأسمالي لن تتحقّق غدًا؛ ومن ثمّ، نُناضل من أجل إصلاحات تُضعِف سلطة الشركات وتُعَزّز مكانة الطبقة العاملة"، مُشيرَةً إلى مبادرات مثل "الرعاية الصحيّة للجميع" و"الصفقة الخضراء الجديدة"، بوصفهما نموذجَين لهذا النهج الإصلاحي التدريجي[3].
وقد أظهَر استطلاع للرأي أجرَته مؤسّسة "غالوب"، في أيلول/ سبتمبر 2025، أنّ ما يُقارِب ثلثَي الناخبين الديمقراطيين ينظرون بإيجابيّة إلى التوجّهات الاشتراكية، مُقارَنةً بنسبة 50 في المئة فقط عام 2010، على الرّغم من أنّ غالبيّة الأميركيين لا تزال تُفَضّل النظام الرأسمالي[4].
انطلاقًا من هذا التوجّه، خاضَ ممداني حملته الانتخابية لرئاسة بلدية نيويورك، مُستَنِدًا إلى برنامج يهدف إلى جعل المدينة، التي تُعَدّ من بين الأغلى في البلاد، أكثر قدرةً على توفير احتياجات الحياة بأسعار معقولة، خصوصًا لأبناء الطبقة العاملة. وقد حظِيت حملته بدعم لافت، لا سيما في أوساط الشباب؛ نظرًا إلى طرحه مجموعة من الوعود، شملت توفير خدمات النقل بالحافلات مجّانًا، وتقديم رعاية أطفال مجانيّة للأُسَر ذات الدخل المحدود، وإنشاء متاجر تموينيّة بلديّة بأسعار منخفضة؛ إضافةً إلى تجميد إيجارات السكن العام، ورفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 30 دولارًا أميركيًا للساعة.
خريطة النصر الانتخابي
يُمَثّل صعود ممداني أحد التحوّلات السريعة واللافتة في المشهد السياسي الأميركي الحديث. فقبل عام واحد فقط من فوزه، حين أعلَن ترشّحه لرئاسة بلدية نيويورك، لم يكن يتمتّع بحضور واسع في المدينة، على الرّغم من أنه شغل مقعدًا في المجلس التشريعي لولاية نيويورك، منذ عام 2021، مُمَثّلًا لحيّ أستوريا في منطقة كوينز. وفي كانون الثاني/ يناير 2025، لم تتجاوز النسبة التي أحرزَها في استطلاعات الرأي الخاصّة بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، 8 في المئة[5]. غير أنه رَكّزَ على قضايا الطبقة العاملة، مُستَفيدًا من كفاءته السياسية وشخصيّته الكاريزميّة، مُعتَمدًا على تعبئة شبكات واسعة من المتطوّعين الشباب، ما مَكّنَه من تأسيس قاعدة انتخابية مُتماسكة داخل الحزب الديمقراطي وخارجه.
وفي الانتخابات التمهيدية، التي جرت في حزيران/ يونيو، تجاوَز ممداني التوقّعات بفوزه على الحاكِم السابق أندرو كومو بنسبة 56.39 في المئة مقابل 43.61 في المئة[6]، عِلمًا أنّ كومو شغل منصب حاكِم ولاية نيويورك نحو أحد عشر عامًا قبل استقالته عام 2021، على خلفيّة اتهامات تتعلّق بالتحرّش الجنسي؛ فضلًا عن انتقادات أدائه في إدارة أزمة جائحة فيروس كورونا المُستَجد (كوفيد-19).
وبسبب انتماء ممداني إلى الجناح التقدّمي اليساري داخل الحزب الديمقراطي، والمُتَمَثّل في الاشتراكيين الديمقراطيين، أحجَمت المؤسّسة الحزبية عن تقديم دعم مباشر له؛ وهو ما أتاح المجال أمام كومو للترشّح بوصفه مستقلًا. وقد اتّخذ خطاب كومو الانتخابي طابعًا هجوميًا، تضمّن إشارات مُعادِية للإسلام، وتشكيكًا في خبرة ممداني وكفاءته، وانتقادًا لمواقفه المُناهِضة لإسرائيل وسياساتها تجاه قطاع غزة وحرب الإبادة التي تشنّها عليه. ومع اتّساع التأييد الشعبي لممداني، قرّر رئيس بلدية نيويورك إريك آدامز الانسحاب من السباق الانتخابي، لمصلحة دعم كومو[7]، رغم أن كِلَيهِما ينتمي إلى الحزب الديمقراطي. وكان آدامز قد واجه تحقيقات فدراليّة مُرتبطة بشبهات فساد، جرى إسقاطها لاحقًا مقابل تبنّيه مواقف مُتَقارِبة من أجندة الرئيس ترامب في ملفّ الهجرة.
وفي مواجهة هذه الحملة، التي اتّسمت بخطاب ذي طابع عنصري، اختار ممداني إدارة حملته بلغاتٍ متعدّدة، من بينها الأورديّة والهنديّة والإسبانيّة، وركّز على المساجد وساحات العمل، باعتبارها منصّات تعبئة رئيسة. وقد ساهم إظهاره الواضح لهويّته الثقافية والدينية، من دون مُوارَبة أو تبرير، إلى جانب دعمه الصريح لغزّة والمهاجرين، في تعزيز شعبيّته لدى شريحة واسعة من الناخبين.
مع اقتراب موعد الانتخابات، تدخّل ترامب مباشرة في الحملة، مُهاجِمًا ممداني بوصفه "شيوعيًا" و"راديكاليًا"، ومُهَدّدًا باعتقاله وسحب الجنسية الأميركية منه، إضافةً إلى تهديده بقطع التمويل الفدرالي عن مدينة نيويورك ونشْر الحرس الوطني فيها[8]. وفي الأيام التي سبقت التصويت، دعا ترامب أنصاره من الجمهوريين إلى دعم المرشّح المستقل كومو؛ غير أنّ المرشّح الجمهوري الرسمي كيرتس سليا رفض الانسحاب لمصلحة كومو. وقد أتاح هذا التحالف بين ترامب وكومو لممداني أن يُقَدّم نفسه بوصفه مُعارِضًا للتحالف بين النخب السياسية والمالية، ومُقاوِمًا للنزعة السلطويّة التي يُمَثّلها ترامب، ما ساهم في استقطاب شرائح واسعة من القواعد الديمقراطية، التي أبدَت استياءها من ضعف ردّ قيادة الحزب في مواجهة صعود اليمين. ومع تصاعد شعبيّته، اضطرّ عدد من الشخصيات البارزة في الحزب الديمقراطي إلى إعلان دعمهم له، من بينهم نائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس، وحاكِمة ولاية نيويورك كاثي هوشول، وزعيم الأقليّة في مجلس النوّاب حكيم جيفريز. في المقابل، فَضّلَ الرئيس الأسبق باراك أوباما التريّث، وامتنع عُضوا مجلس الشيوخ، تشاك شومر وكيرستن جيليبراند ، عن إعلان تأييدهما[9].
نجح ممداني في تحفيز مشاركة انتخابية غير مسبوقة، على الرّغم من الانقسامات داخل مؤسّسة الحزب الديمقراطي، والهجَمات التي واجهها من الجمهوريين وبعض كبار رجال الأعمال، وتجاوز عدد المُقتَرِعين مليونَي ناخب، وهو ضعف عدد المشاركين في الدورة الانتخابية السابقة، قبل أربع سنوات. وقد أدّى ترشّح كومو مستقلًا إلى انقسام أصوات الناخبين الديمقراطيين؛ إذ أظهَرت الإحصاءات أنّ 60 في المئة من الذين دعموا هاريس في انتخابات 2024 صوّتوا لممداني، في حين تَوَجَّه 36 في المئة منهم إلى كومو[10]. ويعكس هذا الانقسام حِدّة التوتر بين الجناحَين التقدّمي والتقليدي داخل الحزب الديمقراطي؛ وهو ما تَرَتّبَت عليه تداعيات على المستوى الوطني، شبيهة بما حدَث في انتخابات عام 2016، التي خسرت فيها هيلاري كلينتون أمام ترامب. وقد أدّت مُشارَكة الشباب بأعداد غير مسبوقة، دورًا حاسمًا في هذا السياق؛ إذ إنّها مَكّنَت ممداني من تحقيق أعلى عدد أصوات يُسَجَّل لمصلحة مرشّح لرئاسة بلدية نيويورك منذ عام 1969، بحصوله على أكثر من مليون صوت (50 في المئة) مقابل 40 في المئة لكومو، و7 في المئة لسليا[11]. 
ووفقًا لنتائج استطلاعات الخروج Exit Polls
صوّت 78 في المئة من الشباب لممداني، مُشَكّلين الكتلة التصويتيّة الأكبر له. كما حصل على دعمٍ واسع من الناخبين الآسيويين (59في المئة)، والسود (48 في المئة)، واللاتينيين (45 في المئة)؛ بينما تفوَّق كومو بين الناخبين البيض بنسبة 45 في المئة، مقابل 37 في المئة لممداني[12].
وفي حين اتُّهِم ممداني بـ "مُعاداة السامية" بسبب دعمه للحقوق الفلسطينية وانخراطه في حملة حركة مُقاطَعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها  وفرض العقوبات عليها 
BDS
 واعتباره إسرائيل "نظامَ فصلٍ عنصريًا"؛ فقد حصد مع ذلك تأييد 33 في المئة من الناخبين اليهود، مقابل 63 في المئة لكومو[13]، عِلمًا أن مدينة نيويورك تضمّ أكبر تجمّع لليهود خارج إسرائيل (960 ألف نسمة، ما يُقارب 10 في المئة من سكّان المدينة). ويُعَدّ فوزه قطيعة رمزيّة مع نَمَطٍ تاريخي في السياسة البلديّة، كان يُنظَر فيه إلى دعم إسرائيل بوصفه شرطًا غير مُعلَن للترشّح والفوز بمناصب عامّة. وفي خطاب الفوز، أكّد ممداني التزامه بمُناهَضة مُعاداة السامية، في ظلّ دعوات إسرائيلية إلى يهود المدينة للهجرة.
تداعيات فوز ممداني المحتملة
أصبح ممداني، مع فوزه بمنصب عمدة مدينة نيويورك، الشخصية رقم 111 التي تتولّى هذا المنصب، وأوّل مسلم من أصول جنوب آسيويّة يشغله؛ فضلًا عن أنه أصغر من يتولاّه منذ قرن. وتُعَدّ نيويورك بوصفها أكبر المُدُن الأميركية من حيث عدد السكّان (نحو 9 ملايين نسمة)، ومركزًا ماليًا وإعلاميًا عالميًا، من أهم الساحات السياسية والإدارية في الولايات المتحدة. وتتطلّب إدارتها الإشراف على جهاز بيروقراطي ضخم يضمّ ما يُقارِب 300 ألف موظّف، بميزانية تصل إلى 115 مليار دولار. وعلى هذا النحو، لا يقتصر فوزه على البُعد الرمزي أو التحدّي الإداري، بل يمتد إلى أبعاد سياسية واستراتيجيّة تتجاوز حدود المدينة. فهذا الفوز يمنحه منصّة مؤثّرة لإعادة صياغة أولويّات الحزب الديمقراطي، خصوصًا في ظلّ تنامي الخطاب الجمهوري وسيطرة ترامب على الخطاب السياسي في البلاد.
وتُعَدّ هذه الانتخابات، التي جرَت في نيويورك وعدد من الولايات والمُدُن الأميركية، أوّل اختبار سياسي وطني بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض[14]. ومن هذا المنطلق، يأمل الديمقراطيون أن تكون نتائج هذه الجولة الانتخابية نقطة انطلاق نحو استعادة الأغلبيّة في الكونغرس عام 2026، والتمهيد لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2028.
ويُمَثّل فوز ممداني مؤشّرًا على صعود التيّار التقدّمي داخل الحزب الديمقراطي، ويعكس تحوّلات أيديولوجيّة في بنيته الداخلية، لا سيما في ظلّ الانقسام المُتَزايِد بين جناحَيه الوسَطي والتقدّمي حول كيفيّة التصدّي لترامب بفاعليّة[15]. 
وبالنظر إلى المَكانة السياسيّة والرمزيّة لمدينة نيويورك، فمن المُرَجّح أن تتجاوز تداعيات هذا الفوز حدودها الجغرافية. وقد أشار ممداني، في خطابه بعد الفوز، إلى أن حملته الانتخابية تُقَدّم نموذجًا لكيفيّة هزيمة ترامب؛ إذ يرى التقدّميون أنه "هزَم الجمهوريين والحرس القديم في الحزب الديمقراطي في آنٍ واحد"، وأن الانتصار لا يتحقّق من دون تعبئة واسعة للناخبين المُنتَمين إلى الطبقة العاملة. وشكّلت حملة ممداني مصدر إلهام للعديد من الناشطين التقدّميين الذين يرغبون في الترشّح للمناصب العامّة[16].
يعود فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية لعام 2024 إلى ضعف نسبة الإقبال على التصويت في مُدُن مثل نيويورك وشيكاغو، ومُدُن أخرى توصَف بـ "الزرقاء". وتبرز هنا أزمة تتعلّق بصورة أداء الديمقراطيين في الحُكم، إذ يشعر قطاع واسع من الناخبين بأن هذه المُدُن لم تعُد تُدار بكفاءة، ما أضعَف الثقة بالنخبة السياسية الديمقراطية[17]. ومن هذا المنطلق، يبدو انتخاب ممداني بمنزلة استجابة لهذا الإحباط، ليس فقط من خلال الخطاب السياسي، بل على مستوى السياسات. ويُعَدّ ممداني مُمَثِّلًا لجماعات صاعدة داخل المجتمع الأميركي، مثل المسلمين والجنوب آسيويين، الذين يُشَكّلون مُكَوّنًا مُتَناميًا في القاعدة الانتخابية الديمقراطية؛ وسيكون لهذه الجماعات، على الأرجح، دورٌ حاسمٌ في الانتخابات التمهيدية الرئاسية المقبلة عام 2028، ما يستَدعي من الحزب الديمقراطي تجاوز اختزال الهويّة السياسية الأميركية في ثنائيّة الأبيض والأسود[18]. ولا تقتصر أهميّة حملة ممداني على قدرتها على استقطاب جيل الشباب المُحبَطين من إمكانيّة التغيير، بل تكمن كذلك في تقديم نموذج قابل للتكرار لبناء حركات سياسية ديمقراطية. فقد كانت المشاركة الشبابيّة العامل الأبرز في فوزه؛ ويُحتَمَل أن تُمَثّل، أيضًا، العنصر الأساسي في جهود الحزب لتجنّب خسائر مُشابهة لتلك التي مُنِيَ بها عامَي 2016 و2024[19].


خاتمة
يتجاوز فوز ممداني في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك البُعد المحلي، ليَعكِس تحوّلات في المشهد السياسي الأميركي، ويُبرِز مُفارَقات لافتة، في مقدّمتها انتخاب شابٍّ مُهاجِر، لم يمض على حصوله على الجنسية الأميركية سوى سبع سنوات، لرئاسة المدينة الأكبر والأهم في الولايات المتحدة؛ وهي ذاتها المدينة التي ينتمي إليها الرئيس ترامب، في وقتٍ يُعيد فيه الأخير إنتاج خطاب سياسي يُقصي المُهاجِرين المُلَوّنين ويُكَرّس مفهوم "أميركا البيضاء". ويشكّل نجاح ممداني المعروف بدعمه للحقوق الفلسطينية وانتقاده لسياسات إسرائيل، تحدّيًا للنمط التقليدي الذي طالما ارتبط بالنفوذ اليهودي في نيويورك، لا سيما مع تصويت ثلث الناخبين اليهود لمصلحته، في ما يُعَدّ قطيعة رمزيّة مع عقود من الاصطفاف السياسي المشروط بدعم إسرائيل. كما انعكست مُحاوَلات حملة المرشّح كومو التلميح إلى الخلفيّة الدينيّة لممداني سلبيًا على فُرَصِه الانتخابية، نظَرًا إلى ارتباطها بسرديّة تُذَكّر بهجَمات 11 سبتمبر 2001؛ واعتُبِر ذلك الخطاب مُسيئًا للقِيَم التي يتبنّاها سكّان نيويورك[20]. 
وعلى نحوٍ مُوازٍ، ساهم الدعم الذي قدّمه ترامب والجمهوريون لكومو، في استثارة القواعد الديمقراطية، التي سعَت إلى دعم مرشّح يرفض رفضًا صريحًا ما تعتبره سلوكًا سياسيًا فيه تَنَمّر، وهو ما انعكس في التعبئة الواسعة لمصلحة ممداني. وقد اتّسم خطاب النصر الذي ألقاه ممداني بثبات في المواقف، من دون نزعة تصالحيّة تجاه خصومه، بينما لوحظ تراجع نبرة ترامب الهجوميّة تجاهه بعد إعلان فوزه.
إنّ نجاح ممداني في أداء مهمّاته بوصفه عمدة لنيويورك، على الرّغم من انتصاره التاريخي، لن يكون يسيرًا؛ إذ إن وعوده الانتخابية الطموحة تتطلّب دعمًا من سلطات الولاية ومجلسها التشريعي؛ وهو دعم غير مضمون في ظلّ الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي نفسه. كما أن تهديدات الرئيس ترامب بقطع التمويل الفدرالي عن المدينة وإرسال قوّات الحرس الوطني، تفتح الباب أمام نزاعات قانونية معقّدة وطويلة الأمَد، من شأنها استنزاف جزء كبير من طاقته السياسية والإدارية، ووضعه في مواجهة مباشرة مع الحكومة الفدراليّة.
 
[1] Rachel Treisman, “NYC's Next Mayor is a Democratic Socialist. What Does that Mean?” NPR, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BOXX
[2] “Democratic Socialists of America,” accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BP7Z
[3] Ibid.
[4] Jeffrey M. Jones, “Image of Capitalism Slips to 54% in U.S.,” Gallup, 8/9/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPUf
[5] Kiko Llaneras, Sebastián Casse & Daniele Grasso, “Who voted for Mamdani? The New York Election in Seven Charts,” El Pais, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPsP
[6] “New York City Mayoral Primary Election Results,” The New York Times, 23/7/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BOU1
[7] Michelle L. Price & Jill Colvin, “Mamdani tells Trump that New York is Ready to Fight after President's Threats Fail to Thwart Voters,” The Associated Press, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPDj
[8] Price & Colvin.
[9] Anna Betts, “Zohran Mamdani Elected Mayor of New York City in Historic Win,” The Guardian, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BOXt
[10] Llaneras, Casse & Grasso.
[11] Betts.
[12] Llaneras, Casse & Grasso.
[13] Luke Tress, “Exit Poll Finds One-Third of NYC Jews Backed anti-Israel Mamdani; Cuomo took Jewish Areas,” The Times of Israel, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPkU
[14] Stephen Collinson, “If the Trump Wall is about to Crumble, here’s Where it Will Show First,” CNN, 4/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BP7K
[15] John Power, “Trump says Mamdani must ‘Respect’ Washington, wants New York to Succeed,” Aljazeera, 6/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BOVk
[16] Rachel Leingang, “The Mamdani Effect: How His Win Spurred more than 10,000 Progressives to Consider Run for Office,” The Guardian, 5/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BOUG
[17] Astead Herndon & Cameron Peters, “Why Zohran Mamdani’s Victory Will Resonate Beyond New York City,” VOX, 4/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPKv
[18] Ibid.
[19] Emma Goldberg & Benjamin Oreskes, “A Little-Noted Element Propelled Mamdani’s Rise: Gen Z Loneliness,” The New York Times, 4/11/2025, accessed on 10/11/2025, at: https://acr.ps/1L9BPyu
[20] Herndon & Peters.

2025-11-19 12:03:49 | 14 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية