من شرم الشيخ 1996 إلى شرم الشيخ 2025.. المقاومة مُستمرّة ومُتصاعدة
بقلم: أ. د. محسن محمّد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
المصدر: موقع "عربي 21"، لندن، 2025/10/31
قمّتان عالميّتان في شرم الشيخ بينهما 29 عاماً، لكنهما عُقِدَتا للهدف نفسه، وهو تحقيق ما يُسَمّى "السلام" ومُحارَبة "الإرهاب". وفي الحالتين كانت حماس هي الجهة المُستَهدَفة بالاقتلاع والتهميش والإقصاء. غير أن مؤشّر الأعوام الـ29 الماضية يُخبرنا أن حماس لم تضعف ولم تتراجع، بل اشتدّ عودها وقَوِيت وزادت شعبيّة ورسوخاً، حتى صارت القوّة الشعبيّة الأولى في الساحة الفلسطينية في الداخل والخارج.
شرم الشيخ 1996:
في الفترة 25 شباط/ فبراير - 3 آذار/ مارس 1996 نفّذت حماس أربع عمليّات مُدَوّيَة انتقاماً لاستشهاد يحيى عيّاش، وأتبَعتها الجهاد الإسلامي بعمليّة خامسة في 4 آذار/ مارس 1996. وقد هَزّت العمليّات الكيان الصهيوني، وشعرت الجهات المعنيّة بمسار التسوية السلمية أن مشروعها أصبح في "مهبّ الريح"، على حدّ تعبير القيادي الفلسطيني صائب عريقات. وهو ما دفع إلى عقد مؤتمر دولي في شرم الشيخ بمصر، أطلقوا عليه "قمّة صانعي السلام" ضدّ الإرهاب، بدعوة من الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الأمريكي بيل كلنتون. وشارك في المؤتمر ممثّلون لأكثر من ثلاثين دولة، بالإضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وحضَر المؤتمر رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، ورؤساء وقادة كبار لروسيا وفرنسا وبريطانيا واليابان وكندا، ودول "الاعتدال" العربي.. وغيرها.
هذه القمّة التي ركّزت قراراتها على إدانة "الإرهاب" والتعاون لمُكافَحته، خدَمت الاحتلال الإسرائيلي عندما جعلت المقاومة في خانة "الإرهاب"، بينما تابع الإرهاب الإسرائيلي احتلاله ومُمارَساته الوحشيّة ضدّ الشعب الفلسطيني.
شرم الشيخ 2025:
القمّة الثانية في شرم الشيخ في 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2025، برعاية مشتركة مصرية -أمريكية، وبحضور أكثر من عشرين من قادة الدول ورؤساء الحكومات وممثّلي الدول، وبمشاركة الرئيس المصري السّيسي والرئيس الأمريكي ترامب. ومثّلت دعماً لخطّة الرئيس ترامب لإنهاء الحرب على غزة وتصوّرات اليوم التالي لحكم غزة؛ وركّزت على دعم مسار التسوية. وخطّة ترامب تُحاول أن تعيد "تأهيل" الكيان الإسرائيلي، وتسعى لفرض الوصاية على الفلسطينيين في غزة، وتتجاهل حقوقهم السياسية والسيادية والقانونية.. كما تسعى لإغلاق ملف المقاومة المسلّحة في غزة.
هل سقطت المقاومة أم تصاعدت؟
في أجواء قمّة شرم الشيخ 1996، تعرّضت حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة لضربات قاسية جداً، في أجواء تحريض عالمي عليها؛ وكانت مُعاناتها هائلة، إذ لم تترك السلطة بالتعاون مع الاحتلال "حجَراً على حجَر" في بنية العمل التنظيمي والمُقاوم. فقد تمّت تصفية ما تبقّى من خلايا المقاومة، واستشهد قادتها، أمثال محي الدين الشريف وعماد عوض الله وعادل عوض الله، واعتُقِل حسن سلامة جريحاً.. فهل تمّ القضاء على حماس وعلى المقاومة؟! لا.
بعد نحو أربع سنوات اندلَعت انتفاضة الأقصى. وخلال بضعة أشهر كانت كتائب القسّام تتصدّر العمل المُقاوم، بينما تستعيد حماس شعبيّتها؛ بعد أن تكشّفت للجميع، وعلى رأسهم ياسر عرفات نفسه، حقيقة العقليّة الإسرائيليّة، وعدم جديّتها في مسار التسوية. قدّمت حماس أثماناً هائلة، واستشهد أكبر قادتها ورموزها؛ الشيخ أحمد ياسين ود. عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإسماعيل أبو شنب وجمال سليم وجمال منصور.. وغيرهم، رحمهم الله؛ واعتُقِل عدد من أبرز قياداتها العسكرية والتنظيمية، مثل إبراهيم حامد وعباس السيّد وعبد الله البرغوثي وجمال النتشة وغيرهم. فهل تمّ القضاء على حماس وعلى المقاومة؟! لا
لم تسقُط حماس.. ولم تُسحَق؛ بل زادت قوّتها وزادت شعبيّتها. وبعد انتهاء الانتفاضة، حصدت الأغلبيّة الساحقة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني للسلطة سنة 2006 بــ78 مقعداً، بينها أربعة مستقلّين على قائمتها، مقابل 45 مقعداً لفتح (الحزب الحاكم).
لم تُعطَ حماس فرصة حقيقية لإدارة السلطة، وقامت قيادة فتح ومؤيّدوها بتَعَمُّد عرقلة عملها وإفشاله. كما تَعَمَّد الاحتلال الإسرائيلي التصعيد الأمني والعسكري، وقامت الرباعيّة الدولية بإجراءات حصار وتعطيل سياسي واقتصادي عالَمي.. وحدَث الانقسام وسيطرت فتح على إدارة الضفة، بينما تابعت حماس السيطرة على قطاع غزة، الذي عانى من أشدّ أنواع الحصار. وخاضت حماس ومعها قوى المقاومة أربع حروب قاسية مع الاحتلال الإسرائيلي في 2008/2009، و2012، و2014، و2021. فهل تمّ القضاء على حماس وعلى المقاومة؟! لا. على العكس، خرجت حماس بعد كلّ حرب، بالرّغم من الأثمان الباهظة، أقوى وأكثر شعبيّة.
وفي طوفان الأقصى، وطوال سنتين من العدوان والحرب الصهيونية الوحشيّة على قطاع غزة، تمكّنت حماس من الصمود، وقدَّمت (إلى جانب قوى المقاومة) أداءً مُذهِلاً. وفي كلّ استطلاعات الرأي ظلّت الأكثر شعبيّة، وبفارق كبير، عن فتح، بالرّغم من فقدانها لأبرز قياداتها السياسية والعسكرية، خصوصاً في قطاع غزة، وبالرّغم من التضحيات والمُعاناة الهائلة الناتجة عن العدوان الصهيوني.
29 عاماً كانت كافية لتُثبِت أن حماس حركة مُتجذّرة في الوجدان الفلسطيني، ومُنسجمة مع نفسها في خطّ المقاومة، وخطّ حفظ الثوابت، مع الاستعداد لدفع الأثمان من قياداتها وكوادرها، وأنه لا يمكن تجاوزها لمجرّد رغبات الإسرائيليين أو الأمريكان أو قيادة المنظمة وسلطة رام الله.
لماذا استمرّت حماس والمقاومة:
بالإضافة إلى العوامل الذاتيّة المتعلّقة بحماس كحركة إسلامية معتدلة ذات روح رساليّة، وبنية تنظيميّة شوريّة مُتماسكة، وطبيعة ديناميّة عالية، تؤمِن أنها تتبنّى قضية عادلة تستحق التضحية، فإن سلوك الفعلي للأطراف المعنيّة عمّق القناعات الشعبية الفلسطينية والعربية والإسلامية ولدى أحرار العالم، بضرورة مُتابَعة حماس وقوى المقاومة لدورها.
فقد استغلّ الاحتلال الإسرائيلي مسار التسوية، كغطاء لمزيد من برامج التهويد والاستيطان، وتصاعدت إجراءاته لتهويد الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس، وضمّها، وتهويد الأقصى، وتجاوز أوسلو، وإغلاق الملف الفلسطيني. ومع الزمن، تعثّر مسار التسوية السلمية، مع فشل اتفاقية أوسلو، وانعدام الأفق العملي لمشروع الدولة الفلسطينية وحلّ الدولتين بالوسائل السلمية. وتحوّلت السلطة الفلسطينية إلى أداة وظيفيّة في خدمة الاحتلال، وتركّزت مهامها في قمع ومُطارَدة المقاومة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني، مع زيادة مظاهر فسادها. ومن جهة أخرى، تزايدت حالة الضعف العربي والإسلامي؛ وتراجع اهتمام أنظمتها السياسية بقضية فلسطين، مع جنوح عدد منها للتطبيع مع "إسرائيل"، بالإضافة إلى تهميش قضية فلسطين في الساحة الدولية؛ وهو ما جعل القضية في مهبّ الريح. ولذلك ترسّخت القناعات بأن الاحتلال لا يفهم إلّا لغة القوّة والمقاومة؛ وهو ما عبّرت عنه حماس.
المقاومة مُستمرّة ومُتصاعدة:
يبدو أن المُجتَمِعين في شرم الشيخ الثاني لم يستوعبوا درس شرم الشيخ الأوّل!! فبعد 29 عاماً تأتي قمّة شرم الشيخ (وليس بعيداً عنها مؤتمر نيويورك) للتوافق على إخراج حماس من المشهد السياسي، تحت ذريعة عدم الالتزام باتفاق أوسلو (الذي لم يلتزم الاحتلال الإسرائيلي به أصلًا)، ولنزع أسلحتها؛ وبالتالي محاولة إفقادها مُبَرّر وجودها؛ وجعل الشعب الفلسطيني شعباً بلا أظافر ولا أسنان، ومُعاقبته على حقّه المشروع في مقاومة الاحتلال. غير أن المقاومة باقية ما بقي الاحتلال، وهي إرادة شعب وأمّة وليست مجرّد إرادة حزب أو فصيل؛ وستَظلّ تُعَبِّر عن نفسها بأشكال ووسائل إبداعيّة مختلفة؛ وستستمر وتتصاعد.
غير أن الفَرْق هذه المرّة، أن احتمالات قدوم موجة كبيرة سيزداد ويتسارع، خصوصاً بعد الزلزال الهائل الذي أحدَثته عملية طوفان الأقصى. ولن تحتاج المقاومة 29 عاماً أخرى لتُثبِت صحّة رؤيتها، ولا فشل الآخرين في تطويعها؛ لأن الأسباب الموجِبة للمقاومة، مع تصاعد العدوانية الصهيونية والسعي لحسم الصراع مع الفلسطينيين، ستوجِد بيئات أقوى وأوسع وأكثر فعاليّة لدعم العمل المُقاوِم. وما حدَث في طوفان الأقصى ليس إلّا جولة من جولات الصراع، ستَتبَعها جولات أخرى.
2025-11-21 13:51:20 | 71 قراءة