التصنيفات » مقالات سياسية

شطب المقاومة أم شطب فلسطين

شطب المقاومة أم 

شطب فلسطين

 بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
المصدر: الجزيرة.نت، 2025/11/6

كان مسار شطْب فلسطين قائماً على قدَم وساق قبل طوفان الأقصى. وقبيل الطوفان بأيام وقف نتنياهو يخطب بأسلوب مُتَعَجرِف في الأمم المتحدة، وهو يُظهِر خريطةً تغطّي كلّ فلسطين التاريخية، بما في ذلك الضفة والقطاع، مكتوباً عليها “إسرائيل”.. لكنّ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل عطّل المَسار.
لقد كانت استحقاقات السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل كبيرة، وأثمان الحرب على القطاع هائلة؛ ولكنها أفشلت مسار شطْب فلسطين، وجعَلت فلسطين على رأس الأجندة العالميّة، وأسقطت السرديّة الصهيونيّة، وحَوّلت "إسرائيل" إلى كيان معزول منبوذ، وفعّلت الاعتراف العالمي بدولة فلسطين، حتى في مَعاقل الغرب الأوروبي المُتَحالف مع “إسرائيل”. والآن، يُراد لخطّة ترامب أن تُعيد الأوضاع إلى المَسار السابق، الذي يؤدّي للشطب التدريجي لقضية فلسطين، وليس مجرّد شطب المقاومة.
خطّة ترامب تلتقي في جوهرها مع خطّة “الحسم” الإسرائيلية التي تشكّلت على أساسها الحكومة الإسرائيلية الأشدّ تطرّفاً في تاريخ الكيان، في نهاية 2022 (قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل بتسعة شهور)، بتحالف الليكود بقيادة نتنياهو مع الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش وبن غفير؛ وهي تستهدف حسم مصير الأقصى والقدس والضفة الغربية. ولذلك أُوكِل ملف إدارة الضفة لسموتريتش كوزير في وزارة الجيش الإسرائيلي، بحيث يُشرِف على الإدارة الإسرائيلية المدنية للضفة، وكلّ ما يتعلّق بالاستيطان والتهويد. وأوكِلَت وزارة الأمن القومي (وزارة الداخلية سابقاً) لـ"بن غفير" ليتولّى بنفسه التعامل مع ملف القدس واقتحامات اليهود الصهاينة للأقصى، وبرامج تهويده، وقمع الفلسطينيين، وتسليح المستوطنين في الضفة وتغطية جرائمهم.
هذا الاستهداف كان يتضمّن في أجندته الضم التدريجي للضفة، وإسقاط السلطة الفلسطينية أو تفتيتها لتتحوّل إلى كانتونات مُنفَصِلَة في الضفة الغربية، باتجاه إنهاء أيّ مظاهر سياسية سيادية فلسطينية.
لقد كان مسار التسوية السلمية هو الغطاء الذي استخدَمه الاحتلال الإسرائيلي لمُتابعة برامج التهويد والاستيطان والضم؛ حتى إذا استنفَدت اتفاقات أوسلو أغراضها، أخذ نتنياهو ومنظومة حُكمِه يتحدّثون بشكل مكشوف عن تجاوزها، ويسعون عملياً لإغلاق الملف الفلسطيني.
ولذلك، فإن الذين يظنّون أن حلّ الدولتين سيتحقّق من خلال ضرب المقاومة، وتخفيف الضغط عن الاحتلال، مُخطِئون؛ وتجربة 32 عاماً من مسار التسوية تُثبِت ذلك.
خطّة ترامب لغزة ليست مجرّد خطّة لإنهاء الحرب وعزل حماس ونزع أسلحتها، وإنما هي أوسع من ذلك بكثير؛ إذ إنها في جوهرها تُحاوِل إعادة وضع المسار الفلسطيني في المسار "السلمي" المنزوع منه كلّ عناصر القوّة والضغط، والمُرتَهَن بأدوات التحكّم الإسرائيلية، والخاضع لمعاييرها وشروطها. وهو ما سَيُوَفّر فرصة قويّة لمنظومة الحُكم الإسرائيلي لمُتابعة مسار الشطب الهادئ المُريح للملف الفلسطيني؛ والذي كانت قد تكاثرت مظاهره قبيل الطوفان.
كما أن الخطّة تتعامل مع الشعب الفلسطيني كشعب قاصر، غير مؤهّل لحُكم نفسه؛ بل هي لا تتعامل معه أصلاً كشعب له هويّته الوطنية؛ وهي تنزع عن الفلسطينيين حقوقهم الطبيعية السياسية والقانونية، وعلى رأسها حقّهم في تحرير أرضهم وتقرير مصيرهم والسيادة على أرضهم، وحُكم أنفسهم بأنفسهم.
أحبَبنا أم كرِهنا، فإن خطّة ترامب نجحت بشكل سريع (وخلال بضعة أيام) في تحويل مركز الاهتمام العالمي من الضغط الهائل على "إسرائيل" ومسار تجريمها ونبذها وعزلها عالمياً، ومن الاندفاع القوي في مسار الاعتراف بدولة فلسطين الذي وصل ذروته في سبتمبر/أيلول 2025، إلى مسار يضغط أساساً على المقاومة لتسليم ما تبقّى من جثث للرهائن الإسرائيليين، وإلى مسار يضغط على المقاومة لتسليم أسلحتها، وإلى مسار لا يولي اهتماماً حقيقياً وجاداً وضاغطاً للانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، ولفكّ الحصار عن غزة وإدخال احتياجاتها ومُستَلزمات الإعمار، وإلى مسار يُترك التحكّم بمَعابر غزة للشروط والمعايير الإسرائيلية؛ مسار يُعَبّر "العالَم" بالكاد عن "انزعاجه" من الخروقات الإسرائيلية، بينما يُترَك للاحتلال الهيمنة البريّة والجويّة والبحريّة، ويُسكَت فيه عن القتل والاغتيال المُنَظّم لرجال المقاومة، وعن التعطيل المتعمّد للمؤسّسات الحكومية المدنية، وعن التشجيع المنظّم لعصابات العملاء، بل ومحاولة تقديمها كقوى حُكم "وطنية" بديلة.
في الأيام القادمة، ستكون هناك محاولات إسرائيلية - أميركية لتحقيق “شطب مُريح” لحماس والمقاومة، ومحاولة تكرار نموذج الأمر الواقع في لبنان (وربما أسوأ). إذ مع الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب، ستأخذ المعركة شكلاً جديداً يستهدف خنق المقاومة وتحييدها وتشويهها واغتيال قياداتها، دون أن تملك حق الدفاع عن نفسها.
حماس مُقبِلَة على معركة مصيرية، بشكل جديد، ليس لمجرّد أنها تمثّل قلب مشروع المقاومة وكتلته الصلبة؛ بل لأن المطلوب هو شَطبُ فلسطين؛ وشَطبُ فلسطين لا يمرّ إلّا بشَطب المقاومة؛ وبالتالي يصبح شَطب حماس شرطاً لذلك.

خذلان عربي
المقاومة الفلسطينية والحاضنة الشعبية قدّمت بطولات وتضحيات هائلة، وتحمّلت غزة فوق طاقتها أضعافاً مُضاعَفة، وسط قمّة الطغيان الإسرائيلي -الأميركي، وقمّة الضعف الدولي، والخذلان العربي والإسلامي. وهي لم تُوافق إلّا على الشق الأوّل من خطّة ترامب المتعلّق بوقف الحرب، ومنع التهجير، وإدخال احتياجات القطاع، ومُستَلزمات الإعمار، وعمل صفقة تبادل الأسرى.
لكن الخذلان أتى من تلك الأنظمة التي لم تُفَرّق بين الغث والسمين في خطّة ترامب؛ وبالتالي وفّرت غطاء لتسويقها، وجعلها مُنطَلقاً لفرض تصوّرات إسرائيلية - أميركية على مستقبل غزة، بغضّ النظر عن بعض التحفّظات “المكتومة” لبعض هذه الأنظمة على الخطّة.  وهذا حشَر المقاومة في زاوية صعبة. لقد كان على الأنظمة أن تكون واضحة وحاسمة فيما يتعلّق بالحقوق الأساسيّة والسياديّة للشعب الفلسطيني.
بالتأكيد، ليست كلّ الأنظمة العربية والإسلامية سواء في التعامل مع الشأن الفلسطيني، ومع غزة ومع المقاومة. وصحيح أن أداءها العام لم يتناسب مع تطلّعات الفلسطينيين أو الأمّة، غير أنها تفاوَتت في مستويات الدعم أو “الخذلان”؛ كلٌ وفق رؤيته السياسية، وظروفه وإمكاناته وحساباته الواقعية، وما يرى أنه مصالح عليا لبلده.
فبعضها قدّم الدعم الإنساني والإعلامي والسياسي، وأفسح المجال للعمل الشعبي، وقام بالوساطة لإنهاء الحرب، وتخفيف المُعاناة عن الشعب الفلسطيني، وتحمّل الضغوط؛ وبعضها اكتفى بشيءٍ من ذلك؛ وبعضها بالَغ في خنق التعاطف والتفاعل الشعبي، وفي الخصومة مع المقاومة وتشويه أدائها، والتعاون مع الاحتلال.

سلطة رام الله
أما اللافت للنظر، فهو أن تقوم قيادة منظمة التحرير وسلطة رام الله في اللهاث لإيجاد مكان لها في "الرّضا الترامبي". وبالرّغم من أنها لم تحصل على مجرّد "فيزا" لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة، ولم تجد لنفسها مكاناً في خطّة ترامب لإدارة قطاع غزة، وتمّ تجاهلها في الدعوة لمؤتمر شرم الشيخ المعني بتدشين خطّة ترامب، ولم يُلتفت إليها إلّا في “الوقت الضائع”؛ فإنها سعَت بكلّ ما لديها من قوّة لتقديم أوراق اعتمادها لتكون طرَفاً مقبولًا في المُعادَلة التي يجري طبخها.
السلطة بين يدي إثبات التزامها بالمعايير الإسرائيلية -الأميركية، أغلقت الباب في وجه حماس وقوى المقاومة ومُعارِضي اتفاقيّات أوسلو (وهم أغلبيّة الشعب الفلسطيني) دون المُشارَكة في أيّ انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني أو المجلس التشريعي الفلسطيني، وللقيادة الفلسطينية، ولإعادة بناء منظّمة التحرير ومؤسّساتها؛ فاشترطت التعهّد بالالتزام بهذه الاتفاقيّات لكلّ من يريد المُشارَكة في الانتخابات. وفوق ذلك، تعهّدت بالقيام بنزع أسلحة حماس والمقاومة إذا تولّت السلطة في القطاع.
وهكذا، ظنّت قيادة السلطة أن التماهي مع هكذا شروط يوفّر لها فرصة الاستفراد بالحُكم، وشطْب أبرز مُنافسيها، وبغطاء عربي ودولي. ولكن ربما لم تُدرِك هذه القيادة (ولا تريد أن تُدرِك) أن شطْب حماس والمقاومة هو خطوة أساسية في شطْبها هي. وأنها تُمثّل حكاية “الثور الأبيض” في أسوأ تجلّياتها.
السلطة التي تُدرِك تماماً هذا الحظر، وتُعايِشه بأمّ عينها، فضّلت مُتابعة تنفيذ المهام التي يطلبها الإسرائيليون، من مُطارَدة للمقاومة، وتطويع للبيئة الشعبية في الضفة، مع التكيّف مع وقف مخصّصات عائلات الشهداء؛ وحتى القيام بحملات تشويه للمقاومة وبطولاتها في غزة، وتحميلها مسؤولية الجرائم الإسرائيلية؛ بالإضافة إلى التواصل سراً مع العصابات العميلة في القطاع ودعمها. وهذا كلّه صبّ في جيب الاحتلال وأجندته؛ التي تُفضي في النهاية إلى شطْب قضية فلسطين. وبالتالي لم تكن السلطة فقط كمن يُطلِق الرصاص على رجليه، وإنّما على قلبه!!
وأخيراً، فالمقاومة فكرة وحركة متجدّدة لا تتوقّف إلاّ بزوال الاحتلال؛ وقد تأخذ أسماء وشعارات مختلفة؛ وقد تأخذ شكل موجات تصعد وتهبط، لكنها لا تتوقّف أبداً؛ وهي ستتواصل بحماس أو بغيرها، حتى يتم التحرير. وجوهر المشكلة هو الاحتلال؛ والتركيز يجب أن يتركّز على إزالته، وليس على إزالة المقاومة!!
لم تُهزَم حماس والمقاومة، وعلى مدى عامَيْن من المواجهة والصمود، بالرّغم من تقديمها قياداتها والآلاف من كوادرها وعائلاتهم شهداء، من بين نحو77 ألف شهيد في القطاع. كانت التضحيات والخسائر كبيرة، لكن الاحتلال فشل في تحقيق كلّ أهدافه المُعلَنة. وما تزال حماس اللاعب الأساس في القطاع، وما تزال الأكثر شعبيّة في القطاع والضفة وحتى خارج فلسطين، والأكثر حضوراً في الأمّة.
ولذلك، فإنه يجب منع الاحتلال الإسرائيلي من قطف ثمار انتصار زائف، وتضييع تضحيات الشعب الفلسطيني ومُنجَزاته. ويجب أن تحذر البيئة العربية والإسلامية والدولية من أن تجِد نفسها تُمَهّد الطريق للاحتلال ليحقّق بالسياسة ما لم يحقّقه بالقتال، أو تجِد نفسها شريكاً في مُكافَأة المُجرِم ومُعاقَبة الضحيّة؛ تحت ذرائع وأوهام ساقطة مثل "مُحارَبة الإرهاب"؛ بينما يتم شطْب قضية فلسطين.

2025-11-26 13:47:05 | 11 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية