تحوّلات العقيدة العسكرية الإسرائيلية.. من "الردع" إلى "الحرب الدائمة"
بقلم: حلمي موسى
الجزيرة نت
26/7/2025
|عقَدت قيادة الجيش الإسرائيلي، برئاسة الجنرال إيال زامير، أوّل وأهم مُنتَدى فكري لمُناقشة العقيدة الأمنيّة للدولة العبريّة في عهد ما بعد 7 أكتوبر. وبدا أن الهدف الأساس من هذا المُنتَدى هو التكيّف مع تعليمات القيادة السياسية اليمينيّة المتطلّعة إلى "الحرب الدائمة" أوّلاً، وتطوير القدرات العسكرية لاحقاً، وفقاً لذلك، وبما يتناسب مع الواقع. وكان أبرز استخلاص للمُنتَدى هو وجوب العمل على وقف إطلاق النار ومنح الجيش فرصة لإعادة تشكيل نفسه وقدراته وفق الرؤية الجديدة.
وطبيعي أنه لا يمكن استيعاب ما يُراد من تغييرات في العقيدة العسكرية الإسرائيلية من دون عودة ولو موجزة إلى أصولها. ويُعتَبر أوّل رئيس حكومة ووزير للدفاع في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، واضع أُسُس العقيدة العسكرية الأولى. وقد انطلَقت أساساً من واقع أن إسرائيل قليلة المساحة وتُحيط بها دول عربية مُعادِية تريد تدميرها. لذلك كانت أوّل مبادئ هذه العقيدة هي الضربة الاستباقية ونقل الحرب إلى أراضي العدو وتوفير قدرات عسكرية واستخبارية لهزيمة الدول العربية المحيطة، مُجتَمِعة أو مُتَفَرّقة. وبُنِي الجيش الإسرائيلي وفقاً لذلك على أساس جيش نظامي قوي وجيش احتياطي هائل. وتلخّصت هذه العقيدة التي أثبتَت نفسها في حربي 1956 و1967 بمبادئ الردع والإنذار والحسم.
لكن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء وهضبة الجولان بعد هزيمة الجيوش العربية، وفّر لإسرائيل عمقاً لم يكن يتوافر لها. كما أنه عمّق التحالف مع أميركا بما لا يستدعي البحث عن حلول سياسية. وبدأ منطق التوسّع عبر مشروع ألون في الضفة، والاستيطان في سيناء، ما قاد موشي ديان لإعلان أن إسرائيل مع شرم الشيخ من دون سلام أفضل من سلام من دون شرم الشيخ. وقد تضعضعت ثقة إسرائيل بذلك بعد حرب 1973 واتفاقيّات فصل القوّات وبدء تراجع الاحتلال. وجاءت اتفاقيّات كامب ديفيد وإبرام سلام مع مصر بتغيير البيئة الاستراتيجيّة لمحيط إسرائيل. ووفقاً للعقيدة العسكرية التي صارت تتبلوَر، لم يعُد الجيش فقط للدفاع عن إسرائيل، وإنما أيضاً عامل لتغيير محيطها. وهكذا كانت حرب لبنان، وصولًا إلى احتلال عاصمة عربية لأوّل مرّة.
دبّابات إسرائيلية من طراز سنتوريون تتحرّك في جبهة الجولان في حرب 1973 (الفرنسية-أرشيفية).
تغيير العقيدة
فالسلام مع مصر، الذي أتاح إبعاد خطَر أكبر وأقوى دولة عربية، فتَح الباب واسعاً لتغيير جوهري في العقيدة العسكرية الإسرائيلية. وقد ترافَق ذلك مع تطوّرات تكنولوجيّة وتسليحيّة هامّة، تمثّلت في امتلاك قدرات لم تكن إسرائيل تحلم بها في الماضي. صحيح أن إسرائيل أدخلت السلاح النووي في عقيدتها، كعنصر ردع قيل إنها فكّرت في استخدامه العام 1973، لكن ذلك لم يُغَيّر جوهر عقيدتها. لكن امتلاك إسرائيل أقماراً تجسّسيّة من طراز "أفق" من ناحية، وامتلاك غوّاصات دولفين ألمانية قادرة على حمل سلاح نووي، وفّر أهم أساس لتغيير العقيدة. فلم يَعُد الأمن القومي الإسرائيلي يُقاس ببُعدَي المساحة، وإنما بثلاثة أبعاد الحجم. وهذا ما أنشأ نظريّة حدود الأمن القومي من مراكش إلى بنغلاديش، والذراع الطويلة للجيش الإسرائيلي.
وفي هذا الوقت بالذات صارت العقيدة العسكرية تستَند إلى التكنولوجيا أكثر من أيّ وقت مضى. ولهذا السبب، وفي عهد رئاسة إيهود باراك لأركان الجيش، تبلوَرت نظريّة "جيش صغير وذكي"؛ وهي النظريّة التي قادت إلى تقليص عديد الجيش النظامي والقوّات الاحتياطيّة. وحسب قائد عسكري إسرائيلي كان يخدم في العام 1984، فإن عديد القوّات النظامية حالياً يكاد يبلغ ثلث عديد القوّات حينما كان في الخدمة. وتأكيداً على ذلك، يدور الجدَل واسعاً هذه الأيام عن حاجة الجيش إلى كثير من المُجَنّدين، لتقليص أعباء الخدمة على القوّات الاحتياطيّة.
عموماً، في هذه الفترة نشأت مفاهيم جديدة جوهرها الاحتواء، خصوصاً بعد تطوير وسائل دفاعية ضدّ الصواريخ، وكذلك خوض ما سمّي بمعارك ما بين الحربيْن ونظريّة "جزّ العشب". وقامت هذه المفاهيم الجديدة في جوهرها على نظريّة ردع تستند إلى أن العداء دائم والهدنة مؤقّتة. ولكن بسبب اتفاقيّات السلام وتوسّعها، صارت تتبلوَر نظريّة تعاون، ولو أمني، مع الدول العربية التي أبرِمت معها هذه الاتفاقيّات. وبسبب تطوير نظريّات عسكرية، منها "نظريّة الضاحية" التي بلوَرها الجنرال غادي آيزنكوت في الحرب على لبنان عام 2006، وتقضي بتدمير حيّ بكامله مُقابِل أي إضرار ببناية في إسرائيل، صار الرّكون أكثر إلى نظريّة الردع. ولذلك كان تعبير "حماس مُرتَدعة" أكثر التعابير استخداماً في وصف الفشل الاستخباري الإسرائيلي في 7 أكتوبر.
ردّ فعل انتقامي
وهذا بالذات ما قادَ القيادة السياسيّة والأمنيّة بعد صدمة 7 أكتوبر إلى الانتقال بنوع من ردّ الفعل الانتقامي إلى المُطالَبة بعقيدة عسكرية تستند إلى مبدأ الحرب الدائمة. وبرّر هؤلاء هذا الانتقال بالقول إن الاستناد إلى مبدأ الردع يعتمد أساساً على نوايا العدو التي يمكن أن نُخطئ في قراءتها. لذلك ينبغي على إسرائيل أن تُلاحِق كلّ احتمال للخطَر يقع في محيط أمنها القومي، وتُزيله. وبعدما كانت هذه الفكرة جوهر "عقيدة بيغن"، وتبلوَرت لمنع أيّ دولة عربية من إنشاء مشروع نووي خاص بها، كما حدَث مع العراق وبعدها مع سوريا، ثم بتعاون أميركا على ليبيا، صارَت هذه نظريّة واسعة تُغَطّي أيّ خطَر. وواضح أن هذه النظريّة تنسف من أساسها العقيدة التي كانت تقول بمُراقَبة الخطَر أثناء تبلوره، ثم ضربه عندما يتحوّل إلى خطَر فعلي.
في كلّ حال، ومع أن الجنرال زامير وصل إلى رئاسة أركان الجيش في نوع من التوافق السياسي بين قوى اليمين، فإنه اضطرّ لمُكاشَفة هذه القوى بالواقع. والواقع يقول إن جيش إسرائيل، ورغم التكنولوجيا المتقدّمة التي يمتلكها في سلاحي الاستخبارات والجو، فإنه جيش يحتاج إلى إعادة بناء حتى يتوافق مع العقيدة الجديدة المطلوبة. وهذا يعني زيادة عديد الجيش، خصوصاً قوّاته البريّة والمُدَرّعة، بعد أن ثبت أنه ومهما بلغت قدرات سلاح الجو، فإنه أعجز عن حسم الحروب.
وهكذا، وعلى مدى أيام، عقِد في قاعدة غليلوت مُنتَدى القيادة العليا في الجيش الذي يضم كلّ من يحمل رتبة عميد فما فوق، لمُناقَشة التعديلات والمتطلّبات اللازمة للتعامل مع الوضع الجديد. وأعلَن زامير أن عام 2026 سيكون عام الاستقرار وإعادة بناء قوّة الجيش، حيث "سنَعود إلى الكفاءة والأساسيّات خلال عام، مع تعظيم إنجازاتنا واستغلال الفرص العملياتيّة". واعتَبر زامير أن مسرح العمليّات انطلق من غزة، وهو يعود إليها، في إشارة للتحدّي الذي تمثّله غزة باعتبارها ساحة رئيسية. وللمرّة الأولى يتحدّث رئيس أركان عن مبادئ مثل الدفاع من خلال الهجوم، وأحزمة أمنيّة على طول الحدود في أراضي العدو، وجيش يُواجِه التحدّيات ولا يُهمِل النوايا والقُدرات. ويوضِح أن ساحات القتال ليست مُتَشابِهة، وعلى الجيش أخذ التغييرات الجيوسياسية في المحيط بالحسبان.
شفافيّة زامير
وأشار زامير أساساً إلى ما فعَله القتال في غزة في المجتمع والجيش عموماً. وقال إنه في ظلّ غياب الدعم الشعبي الواسع للقتال في غزة، وعلى النقيض من الوضع بعد 7 أكتوبر، يجب على الجيش أن يظلّ شفّافًا تجاه الجمهور الذي يُرسِل أبناءَه للقتال. وقصَد كلّ ما يتعلّق بأساليب القتال في غزة والأهداف الحقيقية للقتال في قطاع غزة.. وشدّد على وجوب "أن نكون مُتَواضِعين ومُتَشَكّكين في تقييماتنا؛ وعلى القادة أن يأخذوا ما يُقال في الاعتبار عند اتخاذ القرارات".
عموماً، وعلى مستوى هيئة الأركان العامّة، فإن إعادة بناء قوّة الجيش الإسرائيلي، بإنشاء المزيد من الألوية والوحدات التي يُطالِب رئيس الأركان بتشكيلها، يتطلّب ليس فقط جنوداً جُدُداً، وإنما أيضاً سعي لتشكيل "جيش إسرائيلي جديد". وهذا الجيش سيكون أقوى وأكبر، وأشدّ حرصاً على تحقيق الأهداف المرصودة له. وفي نظَر زامير، فإن أيّ دفاع عن الحدود سيكون من خلال عمليّات هجوميّة داخل أراضي العدو وخارجها، مع تمركز الجنود بعيدًا عن المدنيين، مُلَمّحًا بذلك إلى استمرار وجود جيش الدفاع الإسرائيلي في الأحزمة الأمنيّة المُقامَة في ثلاث مناطق مُعادِية حول إسرائيل: في خمسة مواقع في جنوب لبنان؛ وفي تسعة مواقع في الجولان السوري؛ وفي أكثر من عشرة مواقع قيْد الإنشاء في قطاع غزة.
وأكّد زامير: "لم نَعُد نتجاهل نوايا وقدرات العدو"، بعد أن تبيّن "أن التغييرات الهائلة التي يشهدها الأعداء في كلّ مكان، وفي جميع الساحات، تتطلّب المزيد من الاستثمار والموارد للاستخبارات وأدوات جديدة". ولذلك أمَر بتشكيل إدارة تدريب جديدة تابعة للكليّات العسكرية، والتي ستستَوعب دروس القتال الطويل في العامَيْن الماضيين في جميع أنحاء الجيش. ومعروف أن الجيش أنشأ أخيراً قيادة مركزية جديدة تُسَمّى "قيادة جبهة العمق"، وهي تختلف عن قيادات الجبهات الشمالية والجنوبية والوسطى والداخلية، وأنّ تركيزها سيكون على عمق محيط الأمن القومي الإسرائيلي.
صورة وزّعها الجيش الإسرائيلي تُظهِر جنوداً يتوغّلون في تل السلطان برفح ) رويترز(
نتائج صعبة
وفي نظَر معلّقين عسكريين، بدَت كلمات زامير أقرب إلى عناوين غامضة، لكنها تعبّر عن قلق بشأن العواقب الإشكاليّة لمثل هذا القتال المُطَوّل في أراضي العدو، لأكثر من 20 شهرًا، دون تحقيق أهداف الحرب. بل إن قادة القوّات جادَلوا أثناء المناقشات، بأن القتال المُتَواصِل والنظرة إلى الجنود كمَورِد لا ينضب ولا ينضب يؤدّيان إلى… نتائج ميدانيّة صعبة.
وفي هذا السياق حذّر البروفيسور بوعز أتزيلي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية بواشنطن، متخصّص في الدراسات الأمنيّة والنزاعات الحدوديّة، من مَخاطِر تغيير العقيدة العسكرية. ونشَر مقالاً في موقع "زمان إسرائيل"، رأى فيه أن حكومة إسرائيل وجيشها غَيّرا من أكتوبر 2023، وجذرياً، العقيدة العسكرية للدولة؛ ولاحظ أنه "مع قلّة الوعي العام، وضعف الوعي داخل المؤسّسة الأمنيّة على ما يبدو، تمّ التخلّي تمامًا عن أحد ركائز السياسة الأمنيّة الإسرائيلية -الردع التقليدي- ووُضِع على الرف ليتَراكم عليه الغُبار. انتهى الأمر، كما هو الحال في حالات أخرى كثيرة في عالم الارتجال و"كلّ شيء سيكون على ما يُرام"، دون أيّ تفكير مُسبَق. هذا التغيير الحاسم خطِر للغاية على مستقبل البلاد، ويستحق نقاشًا معمّقًا وشاملًا، وهو ما لم يُناقَش حتى الآن".
واعتبَر أن "المشكلة هي أنه لم يكن هناك، ولن يكون هناك، تفكير منهجي وعميق في آثار التغيير - في مزاياه وعيوبه الاستراتيجية. لطالما اتّجهت الثقافة الاستراتيجية لجيش الدفاع الإسرائيلي، منذ القِدَم، إلى تجاهل التفكير المتعمّق والاعتبارات طويلة الأمَد. جيش الدفاع الإسرائيلي مُمتاز في التكتيكات وضعيف جداً في الاستراتيجيّة. والحكومة الإسرائيلية، التي تولّت هذا الدور أحيانًا، مُنشَغِلَة باعتبارات انتخابيّة ومسيحانيّة، لا باعتبارات عقلانيّة تتعلّق بمصالح الدولة".
2025-11-26 13:50:45 | 8 قراءة