المجموعات العميلة المسلّحة في قطاع غزّة.. إلى أين؟
بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
موقع عربي 21
28/11/2025
العصابات والمجموعات المسلّحة التي أنشأها الاحتلال الإسرائيلي، أو وَفّرَ الغطاء لإنشائها، لم تتجاوز أكثر من كونها أداة تكتيكيّة مؤقّتة، ومُرتَهَنَة بدور وظيفيّ لخدمة الاحتلال في الضغط على المقاومة وحاضنتها الشعبية، ومحاولة فَرْض بيئة تستجيب لشروط الاحتلال. غير أنّها ورقة يمكن التخلّي عنها في أيّ لحظة عندما تفقد قيمتها، أو عندما يصبح ضرَرها أكثر من نفعها. وحتى الآن، فإنّ تجربة عصابات ياسر أبو شباب في رفح وحسام الأسطل في خان يونس ورامي حلِّس وياسر خنيدق في شمال القطاع.. لم تُقَدّم نموذجاً ناجحاً يمكن للإسرائيليين البناء عليه؛ ولا حتى السلطة الفلسطينية في رام الله التي تتحدّث بعض المؤشّرات عن صلة أجهزتها الأمنيّة بها.
شَهِدَ التاريخ الفلسطيني الحديث تجارب لعصابات أو جهات استُخدِمَت لطعن الثورة أو كأدوات للاحتلال، كان أبرزها "فصائل السلام" التي عملت في الفترة 1938-1939 بالتعاون مع الاحتلال البريطاني، لإخضاع الثورة الفلسطينية الكبرى في تلك الفترة، ومثّلت عامل قلَق وتشويه للثورة. وكان من أبرز قادتها فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي، اللذين تمّ اغتيالهما فيما بعد. كما ظهَرت مجموعة "روابط القرى" في النصف الأوّل من ثمانينيّات القرن العشرين، وحاولت أن تقدّم نفسها بديلاً عن منظمة التحرير والقوى والفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية. غير أنّ الأمر انتهى بفشلها بعد مُقاطعتها شعبياً وفصائلياً، واستهداف المقاومة لرموزها.
رعاية إسرائيلية:
تُمَثّل مجموعة ياسر أبو شباب أبرز هذه المجموعات. وتُشير تصريحات أبو شباب نفسه وعدد من المصادر الإسرائيلية إلى أنّها تعمل تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، وتستفيد من دعمه وحمايته وتسليحه.
وتتلخّص علاقة الاحتلال الإسرائيلي بهذه المجموعات المسلّحة في:
- تزويدها بالسلاح والوسائل القتاليّة، التي تمكّنها من أداء مهامها، وحماية نفسها.
- توفير مناطق ومُرَبّعات أمنيّة إسرائيلية لحماية هذه المجموعات.
- بينما يقوم الاحتلال الإسرائيلي بضرب الطواقم الحكومية التي تحمي وتُرافِق قوافل المساعدات التي تدخل القطاع، بحجّة أنها محسوبة على حماس، فإنّه يُوَفّر لهذه المجموعات البيئة المناسبة للسطو على القوافل، وإعادة بيعها للناس بأسعار عالية وابتزازهم مالياً، أو بتوزيع أجزاء منها بطُرُق كيفيّة لشراء الولاءات. وقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست أن مُذَكّرة داخلية في الأمم المتحدة حدّدت مجموعة أبو شباب بوصفها الجهة الرئيسة والأكثر نفوذاً وراء النهب المنهجي والواسع النطاق لقوافل المساعدات.
- التعاون والتخابر مع الاحتلال، وتوفير المعلومات عن المقاومة وكوادرها؛ والمشاركة في الأعمال الميدانيّة لتسهيل مهام جيش الاحتلال؛ بما في ذلك مُهاجَمة عناصر المقاومة والمراكز المدنيّة والحكوميّة.
- إنشاء فراغ أمني من خلال منع الشرطة الفلسطينية والقوى المدنيّة من القيام بمهامها؛ بقصفها وقتل عناصرها وتدمير إمكانيّاتها اللوجستيّة، بحجّة أنّها محسوبة على المقاومة؛ وبالتالي توفير أجواء الفوضى والسرقات وقطع الطُرُق والسيطرة لهذه المجموعات العميلة.
- محاولة البناء على تجربة أبو شباب وتعميمها سعياً لتفكيك هيمنة حماس، والحلول مكانها في التحكُّم بقطاع غزة.
دور سلطة رام الله:
هناك مؤشّرات أنّ هذه المجموعات تضمّ ضبّاطاً سابقين في الأجهزة الأمنية الفلسطينية التابعة لرام الله، من أبرزهم غسان الدهيني. وقد نقلت صحيفة جيروساليم بوست عن ياسر أبو شباب أنه يتعاون مع شخصيات نافذة في المخابرات الفلسطينية في رام الله. وأكّد أبو شباب في مقابلة مكتوبة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي أنّه يتعاون مع مسؤولين في سلطة رام الله.
وذكَر تقرير موقع "i24News" الإسرائيلي أنّ محمود الهباش، مُساعِد الرئيس عباس، هو أحد قنوات التواصل مع أبو شباب، وأنّ الرأس المُدَبّر لتشكيل الميليشيات من طرف السلطة هو بهاء بعلوشة، أحد أكبر ضبّاط المخابرات العامّة لدى سلطة رام الله، والذي أوكَل إلى فايز أبو هنّود، المسؤول عن المنطقة الجنوبية (قطاع غزة) في جهاز المخابرات، قيادة عملية تجنيد الميليشيا.
ونقَل موقع صحيفة يديعوت أحرونوت عن مسؤول أمني كبير أنّ ميليشيا أبو شباب تتلقّى دعماً من "إسرائيل" ومن سلطة رام الله ومن دحلان، وأنّهم يتلقّون رواتبهم من السلطة ويحظون برعايتها المباشرة.
تُشير هذه التسريبات أنّ سلطة رام الله شكّلت جسر عبور للجيش الإسرائيلي، للتواصل مع قادة هذه العصابات، في إطار التنسيق الأمني الفعّال بين السلطة والاحتلال الإسرائيلي. ولعلّ سلطة رام الله ظنّت أنها بذلك تُقَدّم نفسها بديلاً عن قيادة المقاومة لقطاع غزة، وتُعطي شهادة "حسن سلوك" للاحتلال بقدرتها على التعاون ونزع سلاح المقاومة، كما تفعل في الضفة الغربية. وبالرّغم من أنّ سلطة رام الله تنفي صِلَتَها رسمياً بهذه المجموعات، إلّا أنّ تسريبات أخرى تُشير إلى أنّ قيادة السلطة ترغب في التعامل مع هذا الملف "القذِر" دون أن تتلطَّخ فيه؛ ولذلك حافظت على سريّة صِلَتِها به.
خلفيّات تشكيل المجموعات المسلّحة:
تعود أسباب وخلفيّات تشكيل هذه المجموعات إلى:
- أنها تُوَفّر غطاءً للسلوك الإجرامي والمُنحرِف لعصابات السرقة والإتجار بالمخدّرات والبلطجيّة.
- أنها تُلَبّي الاحتياجات الماليّة والاقتصادية للمُنخرِطين فيها من ضعاف النّفوس، خصوصاً في ضوء أجواء ضغطٍ هائلٍ من التجويع والمُعاناة وشدّة الاحتياج.
- التوظيف السياسي، خصوصاً لخصوم المقاومة، حيث تتقاطع مصالح سلطة رام الله أو المُعارِضين لنهج المقاومة، مع تشكيل هذه المجموعات لإضعاف سلطة المقاومة والحلول مكانها. ويتم ذلك بتلبيس هذه المجموعات "ثوباً وطنياً" في مواجهة "الإرهاب"، أو استرجاع "الشرعية" الرسمية لسلطة رام الله وغيرها.
- تطلّعات زعامة لمُتَهَوّرين مُغامِرين انتهازيين، وفق حسابات سياسية واجتماعية خاطئة.
- انتقام شخصي وثأر عائلي لدى بعض من قامت المقاومة بمُعاقَبة أفراد من عائلاتهم، نتيجة عمالة مع العدو أو تجارة مخدّرات وبلطجة وغير ذلك.
إلى أين؟
بعد نحو عام ونصف على بدء ياسر أبو شباب نشاطاته، ومضيّ أشهر على ظهور مجموعات أخرى، يبدو أن الأقدام التي تقف عليها هذه المجموعات أقدام اصطناعية إسرائيلية، تفتقر للكفاءة والقدرة على الاستمرار.
فعمالتها المكشوفة للاحتلال، ورعايته وحمايته لها، تتسبّب بحالة سخط واحتقار شعبي لها، ويُسقِطها من أعين الناس؛ خصوصاً في أجواء المجازر الوحشيّة وعمليّات التدمير التي يرتكبها الاحتلال.
ومن ناحية ثانية، فإنّ الكثير من أعضاء هذه المجموعات هم من المُجرمين وأصحاب السوابق وتجّار المخدّرات، وممّن ارتبطت أسماؤهم بالاعتداء على قوافل الإغاثة والمساعدات، وسرقة أقوات الناس وابتزازهم.
ومن ناحية ثالثة، فإنّ العديد من عائلات وعشائر هؤلاء قد أصدرت بيانات تتبرّأ فيها من هذه العناصر، وترفع أيّ غطاء عائلي عنها، خصوصاً وأنّ عائلاتهم مليئة بالشرفاء والوطنيين.
كما تمكّنت المقاومة، من ناحية رابعة، من توجيه ضربات قاسية لهذه المجموعات، بما في ذلك مجموعات أبو شباب والأسطل وحلِّس. وتبيّن أن هذه المجموعات لا تستطيع البقاء دون غطاء إسرائيلي، وأنها مُرتَهنَة بوجود الاحتلال. وقد دفع ذلك العديد من عناصر هذه المجموعات للتراجع، وتسليم أسلحتهم للمقاومة بعد أن فتحت المقاومة المجال لذلك.
من ناحية خامسة، كان ثمّة قلَق إسرائيلي في إمكانيّة نجاح هذه المجموعات وقيامها بالمهام الإسرائيلية المطلوبة. إذ بالرغم من دورها في "هندسة الفوضى" وإرباك الوضع الداخلي الفلسطيني وطعن ظهر المقاومة؛ فإنّ كونها "عصابات إجراميّة" جعَل الزعيم المُعارِض أفيغدور ليبرمان يَعُدُّ ذلك مُقامَرة خطيرة. وتظلّ بشكل عام أداة مؤقّتة، لا تملك الكفاءة ولا المهارة ولا المصداقيّة للتحوّل إلى إدارة أو قيادة دائمة؛ ولا يمكن الاعتماد عليها فيما يتعلّق بمستقبل قطاع غزة. كما أن كميّة كبيرة من أسلحة هذه المجموعات وصلت إلى يد المقاومة عندما قامت بتأديبها وضربها؛ ممّا ضاعف من القلَق الإسرائيلي.
ومن ناحية سادسة، فإن هذه المجموعات تعيش حالة قلَق وخوف مُتواصل على مستقبلها، إذ إن عملها يحمل طبيعة المُغامَرة عالية المَخاطِر، بسبب سلوكها الإجرامي، وفقدانها للغطاء الشعبي والوطني، وبسبب الضربات القاسية التي تلقّتها من المقاومة؛ وكذلك لاحتمال تخلّي الاحتلال الإسرائيلي عنها في أيّ لحظة، باعتبارها أدوات "رخيصة" تُرمى بعد استنفاد أغراضها.
ولذلك، فإنّ المصير النهائي لهكذا مجموعات هو الزوال. أما في المستقبل القريب، فستظلّ أداة تكتيكيّة بيَد الاحتلال الإسرائيلي؛ وقد تُراهِن عليها سلطة رام الله كعنصر مؤقّت في ضرب المقاومة، وفي الترتيب لما بعد حماس في إدارة القطاع. وقد يُحاوِل الاحتلال تفعيل دورها في مناطق سيطرة المقاومة في التخابر وإثارة الفوضى وضرب المقاومة، وإفشال أيّ ترتيبات فعّالة لعودة الناس للحياة المدنيّة العاديّة. وربما يتطلّع الاحتلال، وكذلك سلطة رام الله، لإدماجها في قوّات الشرطة الفلسطينية التي يُفتَرض أن تنفّذ الاشتراطات الإسرائيلية، وتقوم بمُلاحقَة حماس ونزع أسلحتها وفق خطّة ترامب وقرار مجلس الأمن الدولي.
غير أنّها في كلّ حال ليس لها مكان في وسط الشعب الفلسطيني ولا قواه الحيّة، ولن يطول الأمر حتى ينتهي "عمرها الافتراضي"، ويتجاوزها الشعب والمقاومة، في المسيرة المستمرّة نحو العودة والتحرير.
2025-12-20 21:15:45 | 39 قراءة