التصنيفات » مقالات سياسية

أميركا تتحوّل.. استراتيجيّة أمنها القومي بأولويّات تاريخيّة مختلفة!

 أميركا تتحوّل.. استراتيجيّة أمنها القومي بأولويّات تاريخيّة مختلفة! 

بسام خالد الطيّارة
موقع 180 بوست
07/12/2025

 تكشف وثيقة استراتيجيّة الأمن القومي التي أعلنتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس الأوّل (الجمعة)، عن تحوّل تاريخي في نظرة واشنطن إلى العالَم، ومن ضمنه الشرق الأوسط وأوروبا، كما إلى تحالفاتها التقليدية. وتُجاهِر الوثيقة بتحديث "مبدأ مونرو" (نسبة للرئيس الأميركي الأسبق جيمس مونرو)، عبر إطلاق ما أسمَته "مُلحَق ترامب" الذي ينصّ على اتّباع مبدأ السلام من خلال القوّة. 
في الماضي، كانت هناك معاهدة وستفاليا (1648)، واتفاقيّات يالطا (1945)؛ ولكن كلّ ذلك بات الآن في سلّة المُهمَلات. سيَذكر التاريخ عام 2025 كنقطة انطلاق لعصر جديد من "MAGA  ".
لماذا هذا الاستنتاج؟ 
تحت عنوان “استراتيجيّة الأمن القومي”، تؤكّد الوثيقة التي نشرَها البيت الأبيض يوم الجمعة في 5 ديسمبر/كانون الأوّل، هذا التحوّل التاريخي الاستراتيجي: دونالد ترامب يُفَكّك مبادئ القانون الدولي؛ ولكنه أيضًا، وقبل كلّ شيء، يُدَمّر التحالفات التقليدية التي لم تَعُد تُلزِم واشنطن. نعم، هذا تحوّل تاريخي. تُشير هذه الوثيقة الأميركية الرسمية إلى غياب خصوم مُباشرين لأميركا، لكنها تُثير أيضًا تساؤلات حول العلاقة مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، وبخاصّة الأوروبيين. في الوثيقة، يُرَتّب ترامب إطار عمل جديدًا للعلاقات على المستوى الجيوسياسي والاستراتيجي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وبقيّة العالَم. ويمكن القول إن ستارًا من MAGA  يفصل الولايات المتحدة عن العالَم. ويرتكز العنصر الرئيسي لهذه الاستراتيجيّة على مبدأ بسيط: يجب ألّا تعتمد الولايات المتحدة أبدًا على قوّة أجنبيّة في توفير المُكَوّنات الأساسيّة لاقتصادها والضروريّة لدفاعها من المواد الخام، إلى قطع الغيار والمُنتَجات النهائية. وهذه بعض النقاط التي يُمكِن استخلاصها من الوثيقة الأميركية الجديدة:
-الأمن الاقتصادي، الذي يُمَثّل أساس الأمن القومي، يُعَزّز الاقتصاد الأميركي بشكل أكبر. 
-تأمين الموارد اللازمة (وهذا يُفَسّر تطلّعات ترامب نحو آيسلندا وكندا ووسط أوكرانيا؛ ومؤخّرًا فنزويلا وكولومبيا..). 
-تعزيز النفوذ العالمي للولايات المتحدة من خلال مُواءمة الدول والمناطق مع المصالح الأميركية.
-فتح أسواق جديدة، وأيضًا خفض العجز التجاري، ومُكافَحة العوائق الجمركية أو التنظيمية أمام الصادرات. 
-مكافحة الإغراق والمُمارَسات المُناهِضة للمُنافَسة التي تضر بالصناعات والعمّال الأميركيين.
-إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، وضرورة «إعادة» الإنتاج الصناعي وجذب الاستثمارات الأجنبية. 
-استعادة الهيمنة الأميركية على قطاع الطاقة (في قطاعات النفط والغاز والفحم والطاقة النووية)، وذلك عبر رفض الأيديولوجيّات المتعلّقة بـ«التغيّر المناخي». 
-الاستفادة من القوّة الأميركية وهيمنتها في مجال التمويل الرّقمي.
 أوروبا.. وخطَر الزوال
ويأتي موضوع أوروبا في الفصل المُخَصّص لـمُكافَحة الهجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا. وتُستَخدَم المصطلحات نفسها السائدة في دوائر اليمين المتطرّف الأوروبي. وتُحَذِّر الوثيقة أوروبا من “الغزوات” وخطَر “محوها الحضاري”. ويبدو أن واشنطن تسعى إلى «استحواذ أوروبا أيديولوجيًا» حتى تتمكّن من استعادة «عظمَتها». ولا تستخدم الوثيقة مصطلح «الاستبدال الكبير»، لكنها تنصّ عليه بشكل شبه مباشر، إذ تكتب بأن أعداد الأشخاص الذين تقبلهم دولة ما على أراضيها سيُحَدّد مستقبلها حتمًا. من هنا يجب أن ينتهي عصر الهجرة الجماعيّة، لأسباب حضارية؛ ولكن أيضًا للحماية من الإرهاب والمخدّرات والتجسّس والإتجار بالبشر. ومع ذلك، لا يمنع هذا ترامب من التذكير بأن الصلاحيّات المَمنوحة للمؤسّسات (شرطة وقضاء ومؤسّسات حكومية) لا يجوز أن تتسبّب بانتهاك حقوق أساسية، مثل حريّة التعبير وحريّة الدين والضمير والحقوق السياسيّة. وهذه المقدّمة مَوَجّهة أيضًا لأوروبا، إذ إنّ الوثيقة تشدّد على معارضة القيود «المُناهِضة للديموقراطية»، حسب قولها، التي تفرضها النخب على الحريّات الأساسيّة في أوروبا وبين الحلفاء. وتُظهر هذه الوثيقة أن خطاب نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس في مُنتَدى ميونيخ، حين انتقد قوانين أوروبية تُحارِب اليمين المتطرّف، كان بمثابة مقدّمة لهذا الاستحواذ الأيديولوجي على «الحلفاء».
لا يتوقّف انتقاد أوروبا عند الجانب الأيديولوجي؛ فقد تراجعت حصّتها من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي (من 25% عام 1990 إلى 14% حالياً) بسبب القوانين الصارمة العابرة للحدود الوطنية. وهو ما يقود إلى «محو حضاري» لأوروبا. ومن وجهة نظر واشنطن، يقع اللوم على الاتحاد الأوروبي (الذي ذُكِرَ بالاسم)، إذ تُوصَف المفوّضيّة الأوروبية بأنها تسبّبت بالصراعات، وبأنها تفرض الرقابة على حريّة التعبير، وتقمع المعارضة السياسية، ما يؤدّي إلى فقدان الهويّات الوطنيّة مع تدفّق الهجرة. وتخلص الوثيقة أوروبيًا إلى أن «القارّة ستُصبح بلا هويّة خلال عشرين عامًا». وتشدّد على الرغبة في «أن تبقى القارّة أوروبيّة»، وأن تستعيد ثقتها بحضارتها، وتتخلّى عن هوَسها بالقوانين الاجتماعية والاقتصادية الخانقة وتشبّثها بالمبادئ الجامدة.
 ملحق ترامب لمبدأ مونرو
وبالنسبة إلى الحرب الروسية-الأوكرانية، تُشير الوثيقة إلى أن الافتقار إلى الثقة بالنفس يتجلّى بشكل خاص في علاقات أوروبا مع روسيا. وهذا يُحَتّم على واشنطن إدارة العلاقات بين أوروبا وروسيا، وبالتالي تحمّل دور دبلوماسي كبير، سواء لاستعادة ظروف الاستقرار الاستراتيجي في القارّة الأوراسية، أو للتخفيف من خطَر الصراع بين روسيا والدول الأوروبية. وتُعلِن الوثيقة الرسمية بصوتٍ عالٍ أن المصلحة الأساسيّة للولايات المتحدة تَكمُن بالتفاوض على وقف سريع للأعمال العدائيّة في أوكرانيا، من أجل استقرار الاقتصادات الأوروبية. وتُشير الوثيقة إلى أن «أيام دعم الولايات المتحدة للنظام العالمي بأكمله قد وَلّت»، وأن سياسة الولايات المتحدة “ستكون واقعيّة في تعاملاتها مع الدول، حيث ستسعى إلى علاقات تجارية سليمة مع دول العالم، دون فرض تغييرات ديموقراطية أو اجتماعية أخرى”. وتضيف الوثيقة: «سوف نَفرض ملحق ترمب لمبدأ مونرو، الذي يُعيد تأكيد أن النصف الغربي من الكرة الأرضية هو منطقتنا الحيويّة، وأن أيّ تدخّل أجنبي فيه – سواء كان صينياً أو روسياً أو أوروبياً – سيُقابَل بردٍ حاسم». هذا يعني عملياً إعادة توجيه القوّات والميزانيّات وجهود الدبلوماسية الأميركية نحو جيرانها في أميركا اللاتينية والكاريبي، مع وعود باستعادة «التفوّق الأميركي الكامل» في المنطقة، ومنع أيّ قوّة خارجيّة من السيطرة على موانىء أو ممرّات أو قَنَوات أو مَوارِد استراتيجيّة؛ في إشارة مباشرة إلى قناة بنَما ومعادن الليثيوم والنحاس وغيرها. 
الشرق الأوسط لم يَعُد أولويّة 
وتنصّ الوثيقة الاستراتيجيّة على أن الولايات المتحدة لم تَعُد بحاجة إلى إعطاء الأولويّة لمنطقة الشرق الأوسط في سياستها الخارجية، وتقول إن الأيام التي كانت فيها المنطقة تحتلّ مركز السياسة الخارجية الأميركية في التخطيط البعيد المدى “قد انتهت؛ ليس لأنّ الشرق الأوسط لم يَعُد مهماً، بل لأنه لم يَعُد منبعاً مستمرّاً للاضطراب أو مصدراً للكوارث الوشيكة كما كان في السابق”؛ وتضيف: «لقد تنوّعت مصادر الطاقة بشكل كبير، وأصبحت الولايات المتحدة مرّة أخرى مُصَدّراً صافياً للطاقة». وتُشير الوثيقة إلى إن منطقة الشرق الأوسط “ستُصبح بشكل مُتزايد وجهة للاستثمار الدولي، في صناعات تتجاوز النفط والغاز إلى الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيّات الدفاع”، وهو ما تشجّعه السياسة الأميركية، شريطة التخلّي عن «التجارب الخاطئة» للولايات المتحدة في ترهيب هذه الدول، وبخاصّة دول الخليج، وذلك من أجل إجبارها على تغيير تقاليدها وأشكال حُكمها التاريخية. وتشير الوثيقة إلى ضرورة الإشادة بالإصلاحات من دون فرْضها من الخارج، وترفع شعار: «مفتاح العلاقة المُثمرة مع الشرق الأوسط هو قبول المنطقة وقادتها ودولها كما هي”. 
وماذا عن النفط؟ 
سيكون للولايات المتحدة دائمًا مصلحة أساسية في ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة الخليجية في أيدي عدوٍ مُعلَنٍ (الصين التي لم يُذكَر اسمها)، وأن يظلّ مضيق هرمز مفتوحًا، وأن يبقى البحر الأحمر صالحًا للملاحة، وأن تبقى إسرائيل آمنة. ومن هنا يجب على واشنطن أن تكفّ عن الانخراط في عقود من الحروب العقيمة من أجل «بناء دول على نمَط لا يَصلُح لها»، وأن تعمل على ضمان امتداد اتفاقيّات إبراهام إلى دول أخرى في المنطقة ودول أخرى في العالم الإسلامي. 
الصين ليست تهديداً وجوديًا
 أما بالنسبة للصين، فتُكَرّر الاستراتيجيّة الدعوة لتكون منطقة آسيا والمحيط الهادئ «حرّة ومفتوحة»، مع التركيز على بكين مُنافِساً اقتصادياً في المقام الأوّل. وعلى عكس كلّ استراتيجيّات الأمن القومي منذ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لم تُدرِج الوثيقة الصين كـ«تهديد وجودي»، بل كـ«مُنافِس اقتصادي شَرِس». ووفقاً لترامب، فإن الجهود الأميركية السابقة لإدخال الصين في نظام قائم على القواعد لم تُسفِر إلّا عن «تقوية الدولة الشيوعية على حساب الولايات المتحدة». 
وبعد تكهّنات عديدة بشأن ما سيكون عليه موقف ترامب من تايوان التي تُطالِب بها بكين، توضِح الاستراتيجيّة أن الولايات المتحدة تؤيّد الوضع القائم منذ عقود، لكنها تدعو حليفَتيْها اليابان وكوريا الجنوبية للمساهمة أكثر في ضمان قدرة تايوان على الدفاع عن نفسها أمام الصين. 

 

2025-12-20 21:19:01 | 33 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية