سيناريو الجمود المؤقّت:
أسباب وكوابح التصعيد غير المسبوق بين اليابان والصين
محمود قاسم 03 ديسمبر، 2025
باحث متخصّص في قضايا الصراعات المسلّحة، ونائب رئيس تحرير دوريّة "اتجاهات آسيويّة"
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
دخلت العلاقات بين اليابان والصين مرحلة غير مسبوقة من التوتّر والتصعيد، منذ تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية الجديدة "ساناي تاكايتشي" بشأن تايوان، حينما أعلنت أمام البرلمان الياباني، يوم 7 نوفمبر 2025، أن "أيّ تحرّك عسكري من الصين تجاه تايوان سيستَلزم رداً عسكرياً من اليابان".
ومع أن التوتّر هو سِمَة أساسيّة للتفاعلات بين الدولتين رغم ما بينهما من اعتماد اقتصادي وتجاري مُتبادَل، إلّا أن الأزمة الراهنة كانت مُفاجئة من حيث حدّتها وتوقيتها، بالنظر إلى عامِلَيْن، أوّلهما دخول تايوان للمرّة الأولى على خط المواجهة الخطابيّة المباشرة بينهما؛ وثانيهما أنها جاءت على عكس تَوَجُّه الدولتين نحو بناء الثقة، بما يُناقِض لقاء الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، مع رئيسة وزراء اليابان، تاكايتشي، في 31 أكتوبر الماضي، وانعقاد قمّة مشتركة بين الدولتين على هامش مُنتَدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبك) في كوريا الجنوبية.
ولا ينفصل التصعيد الحالي بين الدولتين عن الموروثات التاريخية بينهما، ولا عن التحوّلات التي تشهدها الساحة اليابانية، داخلياً وخارجياً، والتي تتقاطع بدورها مع التفاعلات الراهنة في قارّة آسيا بشكل عام، بما تتضمّنه من إعادة تشكيل للتوازنات وللتحالفات الأمنيّة، في ظلّ حالة الترقّب والحذر من جانب الولايات والدول الآسيوية الحليفة لها تجاه صعود الصين من جانب، واشتعال التنافس الجيوسياسي بين هؤلاء الفاعلين من جانب آخر.
اعتبارات وأبعاد مُتَشابِكَة:
يكشف التصعيد بين اليابان والصين عن أهميّة موقع تايوان ودورها في رسم خطوط المُواجَهَة المُحتمَلَة في شرق آسيا، بل والقارّة بأكملها، في ظلّ تقارير أمريكية تُفيد باقتراب ضمّ الصين تايوان؛ فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث، في شهر مايو الماضي، أن الصين تُخَطّط لغزو تايوان في عام 2027، وحذَّر من أنّ أيّ مُحاوَلة للغزو قد تؤدّي إلى عواقب مُدَمّرَة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ والعالَم.
في هذا السياق، تُعَدّ تصريحات "تاكايتشي" تحوّلاً جوهرياً في موقف اليابان المُعلَن تجاه تايوان، رغم أنها لم تكن صادمة بالكامل للصين؛ إذ سبَق لنائب رئيس الوزراء الأسبق، تارو آسو، أن أكّد في عام 2021 أن أيّ هجوم على تايوان يُشَكِّل تهديداً وجودياً لأمن اليابان.
ومع ذلك، يكمن عنصر المفاجأة في صدور هذا الموقف الصريح عن رئيسة الوزراء نفسها، بعد أن تجنَّب قادة اليابان السابقون الإفصاح عن الكيفيّة التي ستتعامل بها بلادهم مع سيناريو غزو تايوان المُتَوَقَّع، خاصّةً احتمالات الردّ العسكري. وحتى رئيس الوزراء الراحل، شينزو آبي، الذي يُعَدّ الأب الروحي لـ "تاكايتشي" وصاحب التوجّه الأمني الأكثر تشدّداً، لم يذهب يوماً إلى القول بأن غزو تايوان أو مُحاصَرتها يُبَرِّر رداً عسكرياً يابانياً، وذلك على الرغم من أنه هو من أقرّ قانون الدفاع الذاتي الجماعي في عام 2015، والذي يُتيح لليابان اتخاذ إجراءات عسكرية واسعة إذا تعرَّض أمنها لتهديدٍ تَعتبِره وجودياً.
وبذلك يكشف موقف "تاكايتشي" بشأن تايوان عن تجاوُز اليابان مبدأ الغموض الاستراتيجي الذي سيطَر على الموقف الرسمي لعقود. كما أن وضع غزو تايوان كتهديد وجودي لليابان يعني الانتقال إلى مُرَبّع جديد في إدارة العلاقات مع الصين بهذا الخصوص، والتخلّي عن اللغة الدبلوماسية أو أدوات الردع المُنضَبط التي رسمَتها اليابان خلال العقود الماضية.
هذا الموقف الجديد بشأن تايوان لا ينفصل عن صعود الخطاب القومي في السياسة اليابانية؛ إذ يُمَثِّل صعود "تاكايتشي" لرئاسة الوزراء، كأوّل امرأة في تاريخ اليابان الحديث، صعوداً للتيّار القومي الأكثر تشدّداً، بما يحمله من توجّهات نحو إعادة صياغة السياسة الخارجية اليابانية، ورغبته في استعادة مكانة اليابان التاريخية، ودعوته لإعادة النظر في الدستور السلمي لليابان، والتوجّه نحو تعزيز القدرات الدفاعية والعسكرية، وزيادة الإنفاق الدفاعي الياباني إلى 2% بحلول مارس 2026، أي قبل عامَيْن من الموعد المُخَطَّط له.
وبالطّبع، يتناسب موقف "تاكايتشي" الأخير مع توجّهاتها المُحافِظة ومواقفها المتشدّدة تجاه الصين. فقد سبق وأن زارت تايوان أكثر من مرّة بصفتها عضواً في مجلس النوّاب. وفي شهر إبريل 2025، وخلال ندوة في تايبيه، دعت "تاكايتشي" إلى ضرورة استثمار اليابان وتايوان في قدراتهما الدفاعية؛ بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حينما اقترحت تشكيل تحالف شِبْه أمني بين اليابان وتايوان وأستراليا والهند والفلبّين.
بناءً على ما سبَق من موقف ياباني مُستجَّد، لم يقتصر موقف الصين على التذكير بالخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها بشأن تايوان؛ بل إنها استدعت تلقائياً الذاكرة التاريخية والموروث العدائي بين الدولتين، قبل وأثناء الحرب العالميّة الثانية، والذي لا يزال عاملاً محورياً في الموقف الرسمي والشعبي الصيني تجاه اليابان. وقد عَبَّر وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، عن هذا المنحى بوضوح، في 23 نوفمبر، حين قال: "إذا واصلت طوكيو هذا المسار الخاطئ، فإنّ من حقّ الدول والشعوب أن تُعيد التذكير بجرائم اليابان التاريخية، والتصدّي بحَزم لعودة النزعة العسكرية اليابانية".
إجراءات تصعيديّة مُتَبادَلة:
تبلوَرت مجموعة من المواقف والتحرّكات من قِبَل اليابان والصين تدفع باتجاه مزيد من التصعيد وإضفاء طابع "العسكرة" على التفاعلات بينهما خلال الفترة القادمة، حيث يعمل كلّ طرف على استعراض قوّته ومحاولة رسم خطوط حمراء للطرَف الآخر.
على الجانب الصيني، حذّرت وزارة الدفاع، في 14 نوفمبر، اليابان من هزيمة عسكرية ساحقة إذا استخدمت القوّة للتدخّل في تايوان. وأعلن خفر السواحل الصيني، في 16 نوفمبر، نَشْر تشكيل من سُفُنِه بالقرب من مياه جزر سينكاكو المُتَنازَع عليها مع اليابان. كما بدأت الصين مُناوَرات عسكرية بالذخيرة الحيّة بالقرب من اليابان خلال الفترة من 17 إلى 25 نوفمبر. ورغم أن هذه المُناوَرات متكرّرة ومعتادة من الصين، إلّا أن توقيتها لا يخلو من رسائل مباشرة لليابان.
في المقابل، قامت اليابان، في 23 نوفمبر، بنشر صواريخ أرض جو متوسّطة المدى على جزيرة يوناغوني، والتي تبعد 110 كيلومتر عن تايوان؛ وهو ما يُمَثِّل تحوّلاً استراتيجياً في الفكر الياباني، حيث ستُصبح الجزيرة حائط الصدّ الأول وخط دفاعها ضدّ أيّ محاولات عسكرية من جانب الصين؛ وهي الخطوة التي أثارت ردّ فعل غاضب من الصين، التي اعتبرت أن هذه التحرّكات قد تؤدّي إلى إشعال مواجهة إقليميّة، بينما اعتبرها وزير الدفاع الياباني، شينجيرو كويزومي، ضرورة دفاعيّة لتعزيز الحدود الجنوبية للبلاد، وتقليل احتمالات وقوع هجوم مسلّح، بحسب رؤيته.
وعلى المستوى الاقتصادي، بدأت الصين على الفور في انتهاج سياسة الضغط والإكراه الاقتصادي تجاه اليابان. فعقب تصريحات "تاكايتشي" مباشرةً، عمَدت الصين على رفع التكلفة الاقتصادية والدبلوماسية بالنسبة لليابان؛ فقد فرَضت قيوداً على الواردات اليابانية، وأوقفت استيراد المأكولات البحرية اليابانية في 19 نوفمبر، وذلك بعد نحو خمسة أشهر من استئنافها، حيث كانت الصين قد فرَضت حظْراً مُماثلاً على المُنتَجات البحرية اليابانية في عام 2023؛ عِلماً بأن السوق الصينية تُمَثِّل أكثر من 20% من صادرات اليابان البحرية قبل هذا الحظْر الجديد.
كما ألغَت الصين حجوزات مُواطِنيها إلى اليابان، التي تستضيف أكثر من ثمانية ملايين سائح صيني سنوياً؛ وهو ما قد يؤدّي لخسارة قطاع السياحة الياباني حوالي 14 مليار دولار إذا استمرّ الحظْر في العام المقبل 2026. وعلاوة على ذلك، أوقفت السلطات الصينية عرْض الأفلام اليابانية داخل الصين.
ومن المُتَوَقَّع أن تستمرّ الصين في مُمارَسة الضغوط الاقتصادية خلال الفترة القادمة، وقد يأخذ ذلك أشكالاً تدريجيّة من حيث الحدّة، ومن حيث القطاعات التي يمكن أن تشملها، حيث قد تتّجه إلى حظْر تصدير المعادن النادرة لليابان على غرار ما حدَث في عام 2010، وهو ما قد يُصيب القطاعات الصناعية والتكنولوجية وصناعة السيّارات في اليابان بهزّة كبيرة.
وعلى المستوى السياسي، نقلَت الصين نزاعها مع اليابان إلى الأمم المتحدة، إذ اتّهمت طوكيو بتهديدها "بتدخّل مسلّح" في قضية تايوان، وتعهّدت بالدفاع عن نفسها؛ وأعلنت الصين كذلك عن تأجيل اجتماع ثلاثي كان مُقَرّراً لوزراء الثقافة الياباني والصيني والكوري الجنوبي، ورفضت مُقتَرَحاً يابانياً بعقد قمّة بين زعماء الدول الثلاثة في شهر يناير المقبل.
وتَستهدِف الصين من هذه الضغوط تحقيق هدفين رئيسيين، أوّلهما إعادة تشكيل المشهد السياسي في اليابان، وربما دفع رئيسة الوزراء للتراجع عن موقفها أو تقديم اعتذار؛ إذ تُدرِك بكين أن ائتلاف رئيسة الوزراء "تاكايتشي" لا يزال هشاً وأنها بحاجة إلى دعم المعارضة اليابانية كشرط رئيسي لاستمرار حكومتها؛ وثانيهما توجيه الصين رسالة للدول الآسيويّة الأخرى بأنها لن تكون بمنأى عن الضغوط إذا ما تبنَّت مواقف مُماثِلَة فيما يتعلّق بتايوان.
سيناريو الجمود المؤقّت:
لم تمنع الإجراءات التصعيديّة السابقة الدولتين من الاحتفاظ بقنوات التواصل الدبلوماسية مفتوحة بينهما في محاولات للتهدئة؛ فعلى سبيل المثال، أجرى "ماساكي كاناي"، المسؤول الأعلى في وزارة الخارجية اليابانية لشؤون آسيا والمحيط الهادئ، مُحادَثات، يوم 18 نوفمبر، في الصين، مع نظيره الصيني ليو جين سونغ. كما دخل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على خط التهدئة، من خلال مُحادَثات هاتفيّة مع الرئيس الصيني ورئيسة وزراء اليابان. وربما يستغلّ "ترامب" زيارته المُرتَقَبَة للصين في شهر إبريل المقبل لمُناقَشة سُبُل التهدئة بين الطرفين، خاصّةً وأنه لم يُعَلِّق علَناً على التوتّر الراهن بينهما، ولم يُثِر مسألة مواقفه من تايوان، في ظلّ التوتّر الياباني- الصيني، حتى الآن.
من ناحية أخرى، تزيد العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية بين الدولتين من فُرَص الابتعاد عن التصعيد للحدّ الأقصى؛ حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 308.3 مليار دولار أمريكي في عام 2024، وبلغت واردات الصين من اليابان 156.25 مليار دولار أمريكي، فيما بلغت صادرات الصين إلى اليابان 151.988 مليار دولار في العام نفسه. كما يُوجَد أكثر من 31 ألف كيان تجاري ياباني في الصين بحسب تقديرات عام 2023. ويُضاف لذلك الجالية الصينية الكبيرة في اليابان، والتي تُشَكِّل 7% من إجمالي الأجانب في اليابان، والذي بلغ نحو 870 ألف في عام 2024. وعليه، فإن الاعتماد الاقتصادي المُتَبادَل يمنَع الطرَفيْن من المواجهة المفتوحة في الوقت الراهن.
وفيما يتعلّق بالإجراءات العسكرية التي تتّخذها الدولتان، فمن غير المُرَجَّح مُطلَقاً أن تتحوّل لأيّ نوع من الصدام المباشر، فثمّة مجموعة من العوامل تكبح الانفلات العسكري، من أبرزها إدراك الطرَفيْن للتكلفة الاستراتيجيّة الباهظة لمثل هذا السيناريو، الذي لن يقتصر تأثيره عليهما فحسب، بل قد يتوسّع ليشمل قوى دولية كبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة. وتعي الصين أن أيّ مواجهة من هذا النوع محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدّي لعواقب وخيمة، خاصّة وأن تركيزها الاستراتيجي الرئيسي ينصب على قضية تايوان، ما يجعلها تتجنّب الدخول في صراعات اختياريّة يمكن تفاديها.
ومن ثمَّ، يمكن القول إن التفاعلات الصينية - اليابانية الراهنة تُشير إلى أن حالةً من الجمود المؤقّت سوف تكون السيناريو الأرجح في المدى القريب؛ فلا يُرَجَّح أن تحدُث انفراجة قريبة؛ ولا يُرَجَّح كذلك أن تحدُث مواجهة مفتوحة. فالعلاقة بينهما ستكون بعيدة عن الصدام وبعيدة في الوقت نفسه عن المصالحة، وسوف تحتاج وقتاً أطول للترميم هذه المرّة.
وفقاً لذلك، لا يُتَوَقَّع أن تتراجع رئيسة وزراء اليابان عن موقفها سريعاً، خاصّةً وأن مثل هذه الخطوة قد تؤثّر على مصداقيّتها الداخلية، في وقتٍ لا تزال تتمتّع فيه بقاعدة شعبية تضمن لها الصمود لفترات أطول ضدّ الضغوط الصينية. ومن ناحية الصين؛ فإنها تُجيد سياسة النفَس الطويل، ويُرَجَّح أن تزيد من ضغوطها على اليابان؛ لكنها تُدرِك أنه من غير الطبيعي أن يستمرّ التوتّر إلى ما لا نهاية.
2025-12-20 21:24:31 | 39 قراءة