التصنيفات » دراسات

دولة فلسطينية باتفاق ليست في برنامج العمل*



بقلم: د. دان شفتن**

 ليس انشاء دولة فلسطينية باتفاق مطروحا في برنامج العمل. قد تفضي ضغوط خارجية أو خطوات من طرف واحد الى اطار كهذا لكن ليس الحديث حتى آنذاك عن انهاء الصراع بل عن تحريف غير مستقر نازف له يهدد بأن ينزلق الى مواجهة إن عاجلا أو آجلا.
 أصبح واضحا أكثر مما كان في الظروف الراهنة اليوم ان من بنى استراتيجيته الاقليمية على فرض ان انشاء دولة فلسطينية سيجعل الشرق الاوسط مستقرا، ويجعل عداوة الولايات المتحدة عقيمة ويُمكّن من "حلف معتدلين" في مجابهة القوى المتطرفة، يُخطيء فهم القوى التي تعمل في المنطقة وحراك العلاقات المتبادلة بينها. لا يثبت هذا الهذيان الاستراتيجي لامتحان في كل واحد من عناصره – الاسرائيلي – الفلسطيني، والفلسطيني الداخلي والاقليمي والعالمي – فضلا عن تآلف هذه العناصر. إن الأحداث الحاسمة في الشرق الاوسط في الشهور الاخيرة تُثبت أكثر من أي وقت مضى انقطاعه الكامل عن الواقع.
 السياق الاسرائيلي الفلسطيني
 يقترب الطرفان في السياق الاسرائيلي الفلسطيني من اتفاق في ظاهر الأمر فقط. إن الأسطورة المدنية المقبولة في وسائل الاعلام والتي تسود جهات دولية ايضا وكأن "الجميع يعلمون صورة التسوية ويُحتاج فقط الى قرار حاسم سياسي شجاع من القادة"، تقوم على فرض انه يمكن في عدد من الشؤون الحاسمة الأهمية تجاهل الالتزام السياسي الصارم للقادة أن يتمسكوا بمواقفهم المعلنة لأنهم "يعلمون جيدا" انه لا يمكن تحقيقها. هذا الفرض أفشل خلال أكثر من عقد ونصف جميع التقديرات المتفائلة في شأن تسوية قريبة. وهو مبني في الأساس على إقلال حاد لوزن الالتزام الوطني للفلسطينيين لـ "حق العودة" الى داخل دولة اسرائيل وعلى تقدير زائد لاستعداد الفلسطينيين أن يُسلموا لقيود شديدة على سيادة الدولة الفلسطينية تقتضيها حاجات اسرائيل الأمنية الحيوية. من السهل على الفلسطينيين أن يُغذوا وهم أن التزامهم هو من الشفة بلا مواطأة القلب، لانه يسهل عليهم ان يعرضوا على الجمهور في الغرب الديمقراطي وعلى الرأي العام الاسرائيلي أن عقبة انشاء دولتهم تنبع من شره اسرائيل الى الاراضي مع حصر العناية في المستوطنات. وهم غير معنيين بأن يكشفوا في هذه الحلبة عن حقيقة انه ليست لهم سلطة جماهيرية لانهاء الصراع والمطالب من اسرائيل، على نحو يُثبت مؤسسات دولة الشعب اليهودي على حساب لاجئي 1948.
 كذلك فرض انه يمكن تأسيس الحد الأدنى من مطالب اسرائيل في مجال الأمن الاستراتيجي – السيطرة على المجال الجوي والالكترومغناطيسي ورقابة ناجعة على ترتيبات نزع السلاح – باتفاق ليس له أساس سياسي صلب. حتى لو كان نشأ في مباحثات سابقة انطباع ايجابي، وحتى عندما صيغت فيها اتفاقات محددة، فاننا نشك في أن تصمد للامتحان الحاسم عندما يتضح ثمنها العام، بمفاهيم قيود شديدة ظاهرة على سيادة الدولة الفلسطينية. حتى في الحالة الأفضل، ستقوم اتفاقات ممكنة على مشاركة عناصر خارجية. وتدل التجربة على ان هذه ستتلاشى سريعا ويتبين ان قيمتها الامنية مشكوك فيها. إن الحوادث الحادة في الشهور الاخيرة التي تشير الى عدم الاستقرار الراسخ للمنطقة والى ضعف الولايات المتحدة وقوة الجهات المتطرفة ستوجب على كل حكومة ذات مسؤولية في اسرائيل ان تتشدد في مطالبها في هذا المجال، ولا سيما في الرد على تحول سلبي في مجابهة "جبهة شرقية"، قد تقوم من جديد في المنطقة بين العراق والاردن. لن تستطيع أي حكومة في القدس أن تتجاهل الخشية من ان تصبح الدولة الفلسطينية تابعة استراتيجية لهذه الجهات المتطرفة، وأن تهدد ايضا استقرار المملكة الهاشمية. وستقوى هذه الخشية عندما تتصل "دولة حماس" في قطاع غزة بالضفة الغربية من اجل انشاء السيادة الفلسطينية المشتركة كما تُرى في رؤيا الفلسطينيين ورُعاتها الرؤساء في اوروبا وادارة اوباما.
 إن نجاح المتنبئين بالدولة الفلسطينية في أن يطردوا عن وعيهم وعن وعي غيرهم العقبة الكبيرة أمام تحقيق رؤياهم – الشقاق العميق بين القطاع والضفة – يثير العجب. فمن جهة، من الواضح انه لا يمكن ان تنشأ باتفاق مع اسرائيل دولة قابلة للحياة، لأقل من نصف السكان الفلسطينيين في المناطق في حين انشأ نحو من نصفهم لأنفسهم كيانا آخر تسيطر عليه جهة يعارض جوهرها الاجتماعي الثقافي وسياستها الوطنية التصورات الأساسية التي يُجري قادة الضفة التفاوض مع اسرائيل باسمها. ومن جهة ثانية، تراودنا فكرة انه اذا توصل قادة الضفة والقطاع بينهم الى استراتيجية وطنية مشتركة فستكون في جوهرها غير محتملة من اسرائيل حتى لو تم وجود صيغ محكمة تُمكّن الاوروبيين وادارة اوباما من ان يخدعوا أنفسهم. بعبارة اخرى – لا يمكن من غير غزة انشاء دولة ذات بقاء؛ ومن المؤكد انه لا يمكن التوصل مع حماس الى اتفاق ذي بقاء مع اسرائيل. حتى من يتسلى بأمل انه يمكن احراز اتفاق مع أبو مازن وفياض يجعل "حق العودة" عقيما ويُمكّن اسرائيل من ضمان القدر الأمني الأدنى المطلوب لها، يجب ان يتركه عندما ينضم خالد مشعل واسماعيل هنية واحمد الجعبري الى دائرة متخذي القرارات.


 السياق الفلسطيني الداخلي
 في السياق الفلسطيني الداخلي تكمن العقبة الرئيسة للاتفاق. إن من يُجرون مع اسرائيل – مع الولايات المتحدة في الواقع – التفاوض غير قادرين على تجنيد اجماع فلسطيني على مصالحة تاريخية. يستطيع سلام فياض ان ينسب لنفسه لاول مرة في التاريخ الفلسطيني، صرف عناية مدهشا لبناء أمة لا لمواجهة عقيمة مدمرة مع عناصر خارجية. وقد أحسن أبو مازن فهم ضرر الارهاب الفلسطيني الاستراتيجي وناضل في ظروف صعبة للابتعاد عنه. كلاهما يُصرف سياسة بنّاءة للمجتمع الفلسطيني ويدعمان سياسيا مكافحة الارهاب وعناصر متطرفة عنيفة. بيد أن مكانتيهما السياسيتين الضعيفتين لا تضمنان أن يسير الجمهور وراءهما عندما يحتاج الامر الى تنازلات تاريخية في جوهر الرؤيا الفلسطينية. فهذه الاخيرة قائمة على سلب الدولة اليهودية شرعيتها منذ تم انشاؤها وعلى طلب اعادة الساعة التاريخية الى الوراء بواسطة طلب "حق العودة".
 يستطيع هذا الجمهور أن يُسلم لحقيقة ألا تتحقق الرؤيا ما استمر الصراع، لكنه لن يُسلم للتخلي عنها في اطار نهاية الصراع هذا. وهو يستطيع أن يُسلم لحقيقة وجود اسرائيل المرفوض لكن لا لتثبيت الدولة اليهودية باتفاق "دولتين للشعبين"، الى جانب دولة عربية فلسطينية. ويستطيع فياض وعباس أن يطلبا باسمه دولة في حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية بل الموافقة على تبادل اراض طفيف، لكنهما لن يستطيعا التخلي عن الجوهر. فالجمهور الفلسطيني يؤيدهما عندما يأتيانه بمليارات الدولارات وبمشايعة العالم وضغوط على اسرائيل، وعندما يثبتان قدرتهما على أن يُحسنا تحسينا بارزا مستوى حياته ونوعه. لكن فياض وعباس أنفسهما عالمان بحدودهما حتى في الضفة فضلا عن ان يكون الحديث عن الشعب الفلسطيني في المناطق كلها أو بيقين عندما يتم الحديث عن أكثر الشعب الفلسطيني في اماكن الجلاء وبين اللاجئين. عندما تصبح الحدود غير واضحة لعباس، بل عندما يتم الحديث عن أمر تكتيكي بعيد عن تثبيت الانصراف عن "حق العودة" أو شرعية الدولة اليهودية، يتلقى من هذا الجمهور تذكيرا مؤلما فورا. هذا ما حدث مثلا عندما حاول أن يتجاوز الميزة الدعائية لتقرير غولدستون من اجل تقديم التفاوض الجوهري مع اسرائيل برعاية الولايات المتحدة.
 ولما كان عباس وفياض عالمين بحدودهما فليس لهما ولمؤيديهما المباشرين في المرحلة الحالية اهتمام بانشاء دولة فلسطينية باتفاق مع اسرائيل. إن تفاوضا متقدما يُمكّن من ذلك مقرون بالكشف عن عجزهما السياسي حتى في الضفة، فضلا عن القطاع وموافقة الناس في الجلاء. سيُفشل هذا العجز المشروع الوطني في النقطة التي تُلقى فيها المسؤولية على الفلسطينيين. فهم يفضلون أن يعلق التفاوض في المرحلة التي هو موجود فيها الآن – أي المرحلة التي تُلقى فيها التبعة على اسرائيل، وهم يستمتعون بالأفضل في جميع العوالم: فالفلسطينيون يحظون بموالاة العالم كله، وتُدفع اسرائيل الى دفاع استراتيجي عن نفسها وتضعف شرعيتها الأساسية، وهم أنفسهم لا يُطلب اليهم أن يصمدوا لامتحان زعامة بين شعبهم. في هذه المرحلة لا يجب عليهما وعلى الشعب الذي يمثلانه تحمل مسؤولية عن ادارة دولة بائسة متنازعة، بل يستطيعان أن يقوما مقام الضحية الوحيدة ويعيشا على حساب آخرين. وليس لهما أي دافع للخروج من هذا الوضع.
 من حسن حظهم انه لا يجب على القادة الفلسطينيين أن يقلقوا للكشف عن هذا الواقع. فقد تبنى الرئيس اوباما سياسة تُعفيهم من الحاجة الى مفاوضة اسرائيل مباشرة. وجعل الاوروبيون أمر الدولة الفلسطينية أمرا فوق سياسي يشبه الأسطوري ويوجهون ضغوطهم كلها على اسرائيل. وفي مصر خُلع الرئيس مبارك الذي أيد تسوية. وسهّل رئيس الحكومة نتنياهو عليهم أن يتهربوا من الحاجة الى التوصل الى قرارات صعبة عندما تبنى سياسة قصيرة الرؤية في مواجهة سياسة الرئيس اوباما الغامضة وفي محاولة ليتهرب هو نفسه من قرارات صعبة في اسرائيل. والنتيجة التناقضية هي أن عدم التقدم نحو دولة فلسطينية يضغط على اسرائيل أكثر مما يضغط على الفلسطينيين.
 الساحة الاقليمية
 قبل الأحداث الحادة لمطلع 2011 ايضا لم تشجع الظروف الاقليمية تسوية متفقا عليها بين اسرائيل والفلسطينيين. يوجد فرق كبير بين ما كانت النظم المسؤولة في الدول العربية تريد تقديمه وبين ما يستطيع المجموع العربي الموافقة عليه. ثبت هذا الفرق في تناسخ "المبادرة السعودية" الى أن أصبحت في لقاء الجامعة في بيروت في 2002 "المبادرة العربية". بدأت بمبادرة من العربية السعودية في اطار كان يرمي الى التمكين من تسوية بين اسرائيل والفلسطينيين، وأفضت الى طريق مسدود بمبادرة من سوريا إذ قصدت ان تضمن ألا يكون احتمال لهذه التسوية. في اطارها السعودي كانت ترمي الى ان تعوض اسرائيل عن تنازلها للفلسطينيين باعتراف وتطبيع علاقتها بالدول العربية؛ وفي اطارها العربي العام بوحي من سوريا صيغت على أنها إملاء يشمل "عودة" لاجئي 1948 الى داخل "الخط الاخضر" بحسب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة 194 الذي يوجب على اسرائيل ان توقع على الصيغة العربية باعتبارها شرطا مسبقا لكل نقاش في تفصيلاتها وتحقيقها. لم يتجرأ السعوديون والمصريون والاردنيون وكل من أراد أن يدفع الى الأمام باحتمالات التسوية على مواجهة الشارع العربي واخراج العنصر الذي ضمن فشل المبادرة منها وهو طراز الاملاء والعودة. لم يستطع الفلسطينيون أن يطلبوا الى شعبهم أقل مما طلب اجماع دول الجامعة من اجلهم. ولتلك الاسباب التي بيّناها آنفا أصبح فياض وأبو مازن آخر القادرين على أن يعرضا على الفلسطينيين في الضفة – فضلا عن غزة والجاليات – التنازل عن جوهر الروح الوطنية الفلسطينية في حين يُصر العالم العربي كله على تحقيقه.
 اذا كان وُجد احتمال ضعيف أن تمنح جهات مهمة في النظام الاقليمي خطوات جريئة تحطم محظور القيادة الفلسطينية الدعم للمجيء بتسوية يقبلها ايضا الباحثون عن المصالحة في اسرائيل، فان هذا الاحتمال قد تلاشى في المستقبل القريب على الأقل بسبب الزعزعة التي أصابت العالم العربي في الاشهر الاخيرة. إن هذا الدعم يوجب على قادة النظم في تلك الدول عقد جسور فوق الفروق بين تقديراتهم الاستراتيجية وأخذهم في الحسبان أهواء الجمهور. تبين قبل الزعزعة الكلفة السياسية لتسريب الاستعداد الفلسطيني لمرونة في الحد الأدنى (بوثائق "الجزيرة") بعيدة جدا عما هو مطلوب للتوصل الى اتفاق. بعد ذلك سقط النظام الوحيد (نظام مبارك) الذي كان يستطيع أن يقود مسيرة عربية أوسع تدعم هذه المرونة، وأصبحت النظم العربية كلها أشد حذرا مما كانت ألا تجابه أهواء الجمهور حتى في شؤون أقرب وأهم عندهم من تسوية القضية الفلسطينية. اذا أضفنا الى هذا الاحجام زيادة قوة العناصر المتطرفة وضعف الولايات المتحدة وسياستها المبلبلة وخصائص الرأي العام العربي المتقلبة، صعب أن نجد ظروفا أقل ملاءمة لتدخل ايجابي من النظام الاقليمي في تسوية اسرائيلية فلسطينية.
 الساحة الدولية
 من يعرف تاريخ التسويات بين اسرائيل والعالم العربي يعرف أن القوى العظمى على نحو عام لا تستطيع أن تبادر الى تسويات كهذه، لكن مشاركتها مطلوبة لاتمام التسويات وتثبيتها بعد أن يكون باعث طرفي الصراع قد نضج. والحديث في جميع الحالات تقريبا عن مشاركة امريكية.
 في المرحلة الحالية من جهود التسوية بين اسرائيل والفلسطينيين، يبدو ان ادارة اوباما أكثر حماسة للتسوية من الشريكين المباشرين. تبنت هذه الادارة بقوة كبيرة واقتناع عميق التصور الغامض الذي يربط الاستقرار الاقليمي باحتمال مجابهة الجهات المتطرفة التي تعمل فيه (وعلى رأسها ايران)، وانشاء دولة فلسطينية باتفاق. تجاهل اوباما احجام الطرفين عن اتفاق في الظروف الحالية وحاول أن يدفعهما الى انشاء دولة فلسطينية في برنامج زمني مُعجل باعتبار ذلك مرحلة ضرورية اولى في استراتيجية احتواء القوى المتطرفة في المنطقة وخارجها. وقد وجد ان العقبة الرئيسة للتفاوض والتسوية هي المستوطنات التي تُعبر من وجهة نظره عن شره اسرائيل غير الشرعي، ووجه جهوده الى هناك. لم يولِ حقيقة أن عباس اختار عدم التمسك باقتراحات اولمرت لتسوية في 2008 على أساس خطوط 1967 وتقاسم القدس والذي كان يفضي أصلا الى اخلاء جزء كبير من المستوطنات ويعوض الفلسطينيين باراض تساوي بمساحتها الكتل الاستيطانية التي ستبقى في مكانها، لم يولِ ذلك أهمية مناسبة.
 كانت سياسة اوباما ترمي، بل نجحت، الى دفع اسرائيل الى الزاوية في مجال المستوطنات، حيث يصعب عليها أن تجند تأييدا حتى من اصدقائها. وقد قضى طلبه التجميد المطلق الذي اشتمل على الأحياء في شرقي القدس التي جرى الاتفاق مبدئيا على ضمها الى اسرائيل باتفاق، والازمة المصنوعة التي أحدثها بسبب خطوة تخطيطية زمن زيارة نائب الرئيس بايدن للقدس، قضى على باعث الطرفين على التفاوض في ذلك الوقت.
 قد بينا آنفا لماذا لم يكن لأبو مازن باعث على تعريض زعامته لامتحان بمحاولة تجنيد تأييد عام لمصالحة تاريخية. وقد قضت سياسة اوباما ايضا على باعثه على التفاوض. وقد فرض اوباما موافقة اسرائيل على انشاء دولة فلسطينية (خطبة بار ايلان) على نتنياهو في واقع الامر من غير ان يضطر عباس الى الاسهام بشيء من جهته. في خلال شهور التجميد العشرة التي كانت ترمي الى التمكين من تفاوض مباشر لم يُستعمل على عباس ضغط لاجراء تفاوض كهذا. وفي نهايتها لم يكن أبو مازن يستطيع ان يسمح لنفسه بدخول تفاوض ولو أراد ذلك لان اوباما نفسه هو الذي جعل التجميد الشامل شرطا مسبقا، ولم يستطع الفلسطينيون ان يطلبوا الى اسرائيل أقل مما طلب رئيس الولايات المتحدة. وتبين للفلسطينيين سريعا أن التأليف بين الامتناع عن التفاوض والانتقاد الامريكي الشديد على اسرائيل لعدم وجوده هو الوسيلة الأنجع لاستعمال ضغوط لم يسبق لها مثيل على اسرائيل لعزلها في اوروبا وفي الساحة الدولية ولاحراز اعتراف بدولتهم من طرف واحد وتطوير المعركة الدبلوماسية من سانت ياغو ديتشيلي الى لندن.
 تبين لاسرائيل في مقابل ذلك أن كل تسوية تُعبر عن هذا الواقع السياسي يمكن أن تضر بها فقط وتمنعها حتى من أدنى قدر مطلوب للوفاء بالحاجات الأمنية القومية التي يراها التيار المركزي في اسرائيل حيوية. كان لأخطاء رئيس الحكومة نتنياهو الشديدة في الحقيقة نصيب من نشوء هذا الواقع، لكن سياسة اوباما كانت متضمنة في تصور عام شامل واستراتيجية اقليمية وعالمية مبلورة (ومخطوءة) جدا، ما كان حتى سلوك حكيم من رئيس حكومة اسرائيل يستطيع أن يُغير ميزان القوى الذي رجح في غير مصلحتها.
 أضعف رد الولايات المتحدة على الأحداث الحادة في الشرق الاوسط مطلع السنة الحالية باعث الطرفين على تسوية. وقد ذكرنا آنفا أن الفلسطينيين سيصعب عليهم في الظروف الجديدة أكثر مما في الماضي أن يجندوا تأييدا لمصالحة تاريخية حتى لو كان عباس معنيا بذلك. وقد رأى أبو مازن ايضا كيف سلكت الولايات المتحدة مع رئيس مصر الذي قاد مدة طويلة العناصر ذات المسؤولية التي ساعدت الولايات المتحدة في إقرار اوضاع المنطقة. ورأت اسرائيل ضعف الولايات المتحدة وسياسة الرئيس اوباما الواهنة، وتعلمت هي ايضا درس تخليه عن حليفه الرئيس في الشرق الاوسط في ساعة الامتحان الأشد. وأدركت جيدا ايضا ان عزلتها العميقة في الساحة الدولية والتجنيد الواسع في اوروبا لمواجهتها حتى بعد أن تبينت الصلة الداحضة بين القضية الفلسطينية واستقرار الشرق الاوسط، تتغذى بالهام امريكي بتشجيع من واشنطن ايضا أكثر من مرة. حتى لو لم يكن كل ذلك يرمي الى ضعضعة مكانة اسرائيل الاستراتيجية على عمد (حرصت ادارة اوباما على عدم المس بالبعد الأمني من المساعدة بل على تقويته)، فانها كانت ترمي في واقع الامر الى دفع اسرائيل مرغمة الى تسوية في الشأن الفلسطيني، بشروط صعبة حتى على الباحثين عن مصالحة داخلها، من غير ان يُطلب الى الفلسطينيين مصالحة تاريخية عميقة من قبلهم ايضا.

 استنتاجات سياسية لاسرائيل
 يقتضي الواقع غير المغري الذي عُرض هنا – في الساحة الفلسطينية وفي الساحة العربية والاقليمية وفي الساحة العالمية ولا سيما الامريكية – أن يستوضح متخذو القرارات في اسرائيل لأنفسهم سؤالا مبدئيا يتجاوز كثيرا السياق الضيق لصوغ السياسة نحو الفلسطينيين ونحو ادارة اوباما وهو: هل تقاسم البلاد الذي تصاحبه الظروف الراهنة والمتوقعة، وانشاء كيان سياسي فلسطيني، أمر في مجال العلاقة مع الفلسطينيين والعالم العربي أم ان الحديث عن سياق أوسع كثيرا، يتعلق بأهداف الدولة الصهيونية وبخصائص المجتمع في اسرائيل وبقدرته على تأدية عمله في الساحة الدولية من اجل تقديم هذه الأهداف. في الحالة الاولى قد يكون لاسرائيل عناية بالتحصن في مواقفها لان دولة فلسطينية تضم الضفة والقطاع ستكون في الأصل غير صديقة وغير مستقرة وغير مسؤولة ايضا كما يبدو، واحتمالات أن تنضم الى أعداء غرباء وبعيدين من اجل الدوام على مكافحة اسرائيل لا يُستهان بها. يخطر بالبال انه بعد انشائها ايضا ستُلقى المسؤولية عن مشاكلها على اسرائيل، في الساحة الدولية وفي اوروبا وفي حلقات لا يُستهان بوزنها العام في الولايات المتحدة بل في اسرائيل نفسها. وفي هذا السياق يُحتاج الى تحصن كهذا في المرحلة الحالية بسبب عدم اليقين الاقليمي وبسبب سياسة ادارة اوباما المضرة. وفي الحالة الثانية اذا كان السياق صهيونيا يُحتاج الى سياسة مختلفة تماما وراء سؤال العلاقات مع الفلسطينيين والعرب والرئيس اوباما.
 استوعب التيار المركزي في اسرائيل، وبنيامين نتنياهو ايضا منذ زمن الاعتراف بأن الحديث عن السياق الصهيوني الواسع. يشهد الجمهور في جميع استطلاعات الرأي العام على تبني التأليف المركب الناضج بين عدم الثقة بالعرب والشك العميق بالفلسطينيين والصحوة من هذيان "السلام" من جهة، وبين الاستعداد لتقاسم البلاد والتعرض لمخاطرات أمنية منها انشاء دولة فلسطينية، من جهة ثانية. إن نتنياهو أقل حماسة للمحيط العربي واعتمادا على نوايا السلام عند الفلسطينيين حتى من التيار المركزي في الجمهور. وهو يعلم أن مطالب السيادة للدولة الفلسطينية تُعرض أسس اسرائيل الأمنية للخطر وتشترط شروطا ترمي الى مضاءلة هذا الضرر. وبرغم أنه سلم تحليليا للحاجة الى تقاسم البلاد، بسبب معناه الصهيوني وإزاء الظروف في الساحة الدولية، يصعب عليه أن يُعبر تعبيرا عمليا عن معرفته الاستراتيجية. ويستصعب نتنياهو ذلك ايضا بسبب مزاجه وبسبب الائتلاف الذي اختاره، لكن ذلك في الأساس لان من الواضح عنده ان الفلسطينيين غير ناضجين لمصالحة تاريخية، وعدم وجود جمهور فلسطيني مستعد لدفع الثمن الذي تطلبه هذه المصالحة وعدم قيادة عنده قادرة على تجنيد الجمهور لتحقيقها في الواقع.
 منذ عاد نتنياهو الى الحكم أخذ يُدفع كمن به مس، الى مسار سياسي يبدو متسقا جدا. لو أنه اقترح هذا المسار بمبادرة منه في بداية ولايته لجابه بنجاح أكبر كثيرا المناورات المحكمة من القيادة الفلسطينية ونزوات الرئيس اوباما السياسية. كان نتنياهو يستطيع أن يعرض على اوباما اقامة مسارين متوازيين – مسار تفاوض بنية صافية برغم الشك في احتمالات نجاحه والى جانبه مسار تدريجي من جانب واحد في مركزه نقل اراض الى الفلسطينيين (كان الامريكيون يستطيعون تسميته "حل الاحتلال"). وفي هذا المسار تنقل اسرائيل اراض من المنطقة (ج) التي تسيطر عليها سيطرة تامة الى المنطقة (ب) التي تقع تحت سيطرة أمنية اسرائيلية وسيطرة مدنية للفلسطينيين، ومن المنطقة (ب) الى المنطقة (أ) التي تقع تحت سيطرة فلسطينية كاملة وتختار اسرائيل الاراضي التي ستُنقل وبالايقاع الذي تحدده هي نفسها، مع محاولة انشاء اتصال بين المناطق الفلسطينية في مناطق واسعة نسبيا، مع التأكيد أولا لشمال السامرة المحاط بجدار أمن كامل وفيه قليل من المستوطنات. في مقابلة الانسحاب في الشمال يُستكمل جدار الأمن في كل خطوط الاتصال باسرائيل وفي ضمن ذلك ما حول الكتل الاستيطانية المختلفة. وتستمر الانسحابات ما استمرت "قوات دايتون" الفلسطينية في نضالها المنسق مع اسرائيل للارهاب. ليس من المجدي عرض هذا البرنامج باعتباره تعبيرا واضحا عن أحادية الجانب التي تُعبر عن يأس من الفلسطينيين. يمكن الحديث عن "أحادية منسقة" و"موازية" أو "مُتممة"، مع الاجراء الأحادي الجانب لسلام فياض لانشاء مؤسسات الدولة نحو تثبيتها في ايلول 2011.
 كان نتنياهو يستطيع ان يطلب حماية امريكية من مبادرات غير ودية في جهات دولية وفي اوروبا ما استمرت المسيرة، ويخطر بالبال ان اوباما كان سيصعب عليه الرفض. كان هذا الاجراء سيجعل حملة اوباما الشاملة لمواجهة المستوطنات عقيما على نحو كان يُسهل على اسرائيل الحفاظ على الكتل الكبيرة وعلى الأحياء اليهودية في شرقي القدس. وكان يُمكّن ايضا من بحث اخلاء تلك التي تقع في قلب المنطقة المأهولة بحسب تفضيل اسرائيل الملائم للحساسية السياسية التصاعدية لمواقع الاخلاء. كانت الميزة الحاسمة لهذا الاجراء من طرف واحد تكون الحفاظ على حاجات اسرائيل الأمنية الحيوية (مثل السيطرة على المجال الجوي ونشر مرن لقوات الجيش الاسرائيلي) لان الاجراء كله لا يستوجب موافقة فلسطينية.
 بعد ذلك دُفع نتنياهو دون تعويض سياسي الى خطة تشبه ما كان يستطيع عرضه بمبادرة منه: فقد أعلن استعداده لانشاء دولة فلسطينية وسلّم للتجميد عشرة شهور؛ وحقق أصلا خطوات كانت ترمي الى استحثاث الاقتصاد وتسهيل حركة الناس والبضائع؛ ووسع في واقع الأمر جدا سلطة السلطة الفلسطينية الفعلية في أنحاء الضفة. ويُبلغون الآن من محيطه القريب انه يزن ان يمنح هذه الخطوات تعبيرا مناطقيا ايضا.
 ليس هذا التصور الذي ذُكر هنا غير واقعي من جهة سياسية داخلية في اسرائيل. فهو يتسق مع توجه البناء من القاعدة الذي يدعو اليه نتنياهو منذ زمن. وليس يناقض ايضا توجه شريكه الكبير في الائتلاف افيغدور ليبرمان الذي يؤكد ان الفلسطينيين غير ناضجين لتسوية دائمة متفق عليها.
 وستنظر بقايا حزب العمل و"استقلال" وزير الدفاع بايجاب اليها؛ ويخطر بالبال ان المعارضة الرئيسة في كديما لن ترفضها من أساسها، وستراها خطوة في الاتجاه الصحيح وقد تساعد في حمايتها في الكنيست من مهاجميها من اليمين. واضح ان التقدير الموضوعي والأكثرية الممكنة في الكنيست ليسا هما التقدير الوحيد ولا الدائم ايضا – فنتنياهو لا يريد ان يفض الائتلاف مع شاس، وستريد بقايا العمل التمايز ولا مصلحة لكديما في مساعدة ائتلاف يميني – لكن السؤال ما الذي يقف مقابل ذلك باعتباره بديلا واقعيا قُبيل شهر ايلول القريب.
 السؤال الذي يُثار في نهاية هذا النقاش يُعيدنا الى بدايته وهو: ما البديل؟ "لماذا ننزل من طرف واحد عن قلب البلاد ونعرض أنفسنا لأخطار أمنية شديدة اذا كان واضحا أننا لن نحصل مقابلها على السلام وانهاء الصراع. ألم نتعلم درس لبنان وغزة – خرجنا الى الحدود الدولية وحصلنا على الارهاب وحزب الله وحماس". هنا ينبغي لنا ان نعود الى السؤال المبدئي الذي أتينا به في بداية كلامنا وهو: هل تقاسم البلاد شأن سياسي بين اسرائيل والفلسطينيين والدول العربية والولايات المتحدة واوروبا أم ضرورة صهيونية. اذا كان الحديث عن ضرورة صهيونية فان المقابل هو في الحقيقة الانفصال عن حياة مشتركة في نطاق سيادة واحدة مع ملايين الفلسطينيين. التحدي هو ان نضائل من جهة الضرر السياسي والقيمي الذي يتضمنه البقاء الدائم في الارض، وأن نضائل من جهة ثانية الأضرار الأمنية التي يشتمل عليها تسليمها للفلسطينيين.
 إن التجربة الصادمة لارهاب حماس بعد الانفصال عن غزة تردع اسرائيليين كثيرين عن اجراءات من طرف واحد اخرى. إن ما يُحتاج اليه لامتحان السياسة المقترحة هنا بامتحان دروس الانفصال هو فرق واحد حاسم في مجال الأمن وذكر إسهام مهم لا مثيل له في مجال المنعة القومية. الفرق هو في وجود الجيش الاسرائيلي على الارض في كل مكان وزمان يقتضيه الامر. في غزة سُحب الجيش مع المستوطنات وتضررت مكافحة الارهاب بحسب ذلك. في نطاق الاجراء في الضفة يفترض ان يُنشر الجيش الاسرائيلي بحسب ضرورات الأمن – على نحو ضئيل ما بقي الفلسطينيون يعملون على مجابهة الارهاب ولم ينضموا الى جهات متطرفة، وأن يُنشر بقوة واتساع اذا سلكوا بخلاف ذلك. كذلك ستكون التسوية اذا تم احرازها مشروطة بخروج الجيش الاسرائيلي التدريجي المراقب من غلاف المنطقة الآهلة ومع ترتيبات أمنية تُمكّنه من العمل في نجوع لاحباط تهديد شديد. يتم التعبير عن الاسهام بما يراه مؤيدو المبدأ الصهيوني في التيار المركزي في اسرائيل تقوية للمجتمع الاسرائيلي بعد وقف السيطرة على مليون ونصف من الفلسطينيين في غزة. الذخر الرئيس لاسرائيل في صراعها التاريخي لمحيطها العربي هو قدرة المجتمع على الصمود الذي ازداد قوة في العهود الاخيرة مع استعداد متواصل لمصالحة تاريخية حتى مع عدم وجود سلام. وهؤلاء يفترضون ان المجتمع الاسرائيلي دون السيطرة على غزة أمنع كثيرا منه مع السيطرة على سكان القطاع.
 ليس هذا مقام اجراء هذا الجدل المبدئي. حسبنا ان نقول في السياق الذي نبحثه هنا ان التيار المركزي من الجمهور حسم الامر بل لذلك مستمسك قوي حتى في حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية الثانية. من جهة استجمعت الكلفة السياسية والقيمية زخما في السنين الاخيرة وتقترب في هذه الايام حقا نحو الكتلة الحرجة. ومن جهة ثانية لا طريق كما قلنا آنفا الى التوصل في الظروف الراهنة والمتوقعة قريبا لتسوية دائمة متفق عليها مع الفلسطينيين تعفي اسرائيل من عقوبتهم. اذا كان يمكن إزالة هذا العبء على نحو مبادر اليه مراقب، بغير تعلق برغبة الفلسطينيين الخيِّرة، فانه يستحسن الفحص عن هذه الامكانية. واذا كان يمكن فعل هذا في حين لا تقرر اسرائيل من جهة واحدة مسارات الاخلاء بل تلائم خصائص الترتيبات الأمنية لمستوى المخاطرة المحتملة فانه يمكن التوصل الى نتيجة جيدة لاسرائيل مثل الاتفاق الدائم تقريبا من النوع الذي بحثناه الآن بكلفة أقل كثيرا في مجال نوع الترتيبات الأمنية وفي مجال خطر انشقاق داخلي في اسرائيل.
 لو كان "السلام" وابتعاد الفلسطينيين عن الصراع مقابل دولة فلسطينية الى جانب الدولة القومية اليهودية في متناول اليد لكان يمكن رفض بديل أحادية الجانب المعيب. بيد أن جميع توقعات السلام والاتفاق ليست سوى هوى قلب في هذه المرحلة. السؤال المباشر الملح هو هل سيُدفع نتنياهو في اللحظة الاخيرة الى خطوات طواريء سياسية نحو ايلول أم يتبنى متأخرا جدا لكن غير متأخر جدا تماما المبادرة كي يستفيد أكثر في موعد تكون لخطواته فيه فائدة سياسية، مما سيضطر الى فعله في ظروف عزلة وضغط.

* * *



 

2011-07-06 09:54:53 | 1812 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية