التصنيفات » دراسات

تضعضع منظومة اسرائيل الاستراتيجية*




بقلم: رون تيره
معهد بحوث الامن القومي

 مقدمة:
 يتضعضع في المدة الاخيرة المحيط الاستراتيجي الذي تعمل فيه اسرائيل، الى درجة التهديد بانهيار أجزاء كبيرة من المنظومة التي اعتمدت سياستها عليها. وأحد العناصر البارزة هو أنه بازاء غياب أو خفوت أكثر اللاعبات "الثقيلات الوزن" في العالم العربي، بقيت السعودية عاملا أخيرا تقريبا ما يزال يعمل باصرار على صد ايران وهو قادر على ان يكون معادلا لتركيا. ان الضعف الذي يُلم بالعالم العربي قد أصبح على نحو غير متوقع مشكلة لاسرائيل ويزيد احتكاكها بالقوى الاقليمية وراء منطقة سايكس بيكو – التي تحاول أن تُعمق تأثيرها في الساحة. وعلى هذه الخلفية تصبح السعودية فجأة دولة قريبة جدا من اسرائيل في قراءة الخريطة الاقليمية ووضع أدلة العمل الاستراتيجي.
 في الجانب الآخر من التل تقرأ ايران الخريطة نفسها. ان نضال السعودية لصد ايران يمتد من اليمن مرورا بالعراق ومصر ثم الى لبنان. وكانت اللحظة التأسيسية التي غيرت طبيعة هذا النضال هي تدخلها غير العادي والمباشر في البحرين. وقد أصبحت الأسرة المالكة أسرة آل سعود بفاعليتها النسبية والمثابرة التي تصاغ بالتدريج، أصبحت هدفا رئيسا لايران. وعلى هذا فان ايران ربما تحصر عنايتها في المرحلة التالية في تحدي الأسرة المالكة السعودية، ومن الضروري أن نعرف أهمية بقائها. لأنه اذا سقطت أسرة آل سعود فهناك خطر تهاوي بقايا المقاومة العربية لايران.
 ان تضعضع المحيط الاستراتيجي قد يراكم ايضا صعابا جديدة أمام محاولة التوصل الى تسوية اسرائيلية فلسطينية. وان أكثر اللاعبات التي شاركت في الماضي في منح غلاف استراتيجي يؤيد تسويات سياسية قد اختفت أو ضعفت أو بردت علاقاتها مع الولايات المتحدة.
 تضعضع المنظومة الاستراتيجية
 تضعضع عدد من مُقرات الاوضاع الحيوية في منظومة اسرائيل الاستراتيجية أو هي معرضة لعدم يقين:
 نهاية توازن القوى بين ايران والعراق: تصارعت ايران والعراق سنين، وهو صراع شغلهما كلتيهما وحد من امكانية نشوء جبهة شرقية فعالة. ان حل النظام السني – البعثي في العراق وانسحاب الولايات المتحدة من هذه الدولة يُحدثان شروطا لتضعضع توازن القوى وجعل ايران هي العامل المهيمن على العراق. وقد تصل ايران الى باب الاردن وتنشيء بهذا "امتدادا شيعيا" من العراق وسوريا الى جنوب لبنان. وتطور ايران بوسائل غير مباشرة ومباشرة "قدرة وصول استراتيجية" تبلغ حتى البحر المتوسط.
 عدم استقرار في مصر: ان خروج مصر الصوري من دائرة القتال في السبعينيات قد جعل منظومة اسرائيل الاستراتيجية تستقر، لكن التطور الذي لم يكن يقل عن هذا أهمية كان نشوء شراكة استراتيجية. وقد نشأت الشراكة بالتدريج في السنين الاخيرة وظهرت بوضوح في حربي 2006 و 2008 وفي النضال لصد ايران. ومن المبكر جدا اليوم ان نُقدر الى أين تتجه مصر، وماذا ستكون مكانة الحركات الاسلامية، وهل سيمنع المال من السعودية انجرار سياسة مصر، وهل ستبقى مصر لاعبة اقليمية فعالة أم تنطوي على نفسها. وعلى أية حال نشأ عدم يقين في مستويين: الاول – وهو بعيد قليلا – يتعلق بمستقبل الاطار الصوري لاتفاق السلام، والثاني – وهو أكثر مباشرة – بالشراكة الاستراتيجية.
 نشأ على أثر تنحية مبارك لأطراف ثالثة القدرة على تحدي علاقة اسرائيل بمصر. فعلى سبيل المثال، يجب على اسرائيل لتحمي علاقتها بمصر ان تضبط نفسها في مواجهة حماس، لكن حريتها في العمل تتسع بهذا. ان منظمة حماس تستطيع ان تتحكم بمسار التصعيد، وبقدرتها في المقابل على رفع اللهب الى درجة يصعب فيها على اسرائيل (برغم ملاحظة الشرك السياسي) الامتناع عن عملية عسكرية في غزة – وقد يفضي هذا الشيء في هذه المرة الى احتكاك دبلوماسي بين اسرائيل ومصر يصعب التنبؤ بتطوره.
 تركيا تتغير: كانت تركيا شريكة في احداث توازن قوى مع سوريا وبقدر ما ايضا مع ايران والعراق، لكنها غيرت سياستها. وليس لتركيا عداوة استراتيجية حقيقية مع اسرائيل، لكن عند قادتها الرغبة باستغلال العداوة مع اسرائيل لتدفع الى الأمام بمصالحها مع أطراف ثالثة. وقد أثمرت هذه السياسة الجديدة اجراءات مثل القافلة البحرية الى غزة، والمبادرة التركية – البرازيلية في الشأن الذري الايراني، وتجميد العلاقات بين حكومتي تركيا واسرائيل. كذلك يوجد احتمال احتكاك ينبع من اتفاق بين اسرائيل وقبرص على تطوير حقول الغاز شرقي البحر المتوسط.
 في ضوء سياسة تركيا الجديدة، قد تضائل زيادة أثرها الاستراتيجي في المنطقة وعلى حلفاء وشركاء محتملين، حرية عمل اسرائيل. وتركيا تصبح في واقع الامر جزءا من جملة التقديرات الاستراتيجية بل العملياتية لاسرائيل. لكن وكما سنبحث ذلك بتوسع بعد ذلك، فان موقف تركيا الجغرافي السياسي أكثر تعقيدا من أن تُصنف على أنها عدو ببساطة.
 تضعضع النظام العلوي: للجيش الاسرائيلي قدرة ممتازة على تهديد النظام العلوي في دمشق، ومكّن هذا اسرائيل من كف جماح سوريا والتمتع بأربعة عقود هادئة كثيرا. هذا الى ان اسرائيل في السنين التي سبقت انسحاب سوريا من لبنان قد استعملت تهديدها لسوريا، والنظام السياسي السوري في بلاد الأرز أداة للحفاظ على هدوء في الشمال: فلم يكن من المجدي على سوريا ان تخاطر مخاطرة كبيرة من اجل حزب الله وحرصت سوريا على ضبطه ما ظلت تسيطر على لبنان. فقد مكّنت فاعلية تهديد النظام العلوي اذا من استقرار نسبي للنظام الشمالي كله.
 ان اخراج سوريا من لبنان ضاءل تأثير دمشق في بيروت وضاءل بذلك ايضا فاعلية كف اسرائيل غير المباشر لجماح حزب الله. وانجر لبنان بقدر كبير من كونه تابعا لسوريا الى كونه تابعا لايران. وربما لهذا السبب ايضا كانت حرب لبنان الثانية أطول وأقل جدوى من عمليات سابقة مشابهة – عملية "تصفية الحساب" وعملية "عناقيد الغضب". وربما لم تستدخل اسرائيل معنى انسحاب سوريا من لبنان في سنة 2005 ومن هنا جاءت صعوبة تطبيق خطوط العمل في سنة 2006، التي نجحت نجاحا نسبيا في سنة 1993 وسنة 1996.
 ان العصيان الحالي في سوريا يضع علامات سؤال على مستقبل النظام العلوي. ان الوضع المعروف في الماضي يضمن الاستقرار، لأن النظام العلوي حساس للاصابة ولاسرائيل حسن تعامل عسكري معه. لكن اذا سقط النظام فستكون النتيجة المباشرة عدم يقين وضعضعة طائفة من الوسائل التي تكف جماح سوريا. ويبدو أنه أفضل لاسرائيل عدو هو دولة متسقة نقاط الضغط عليها معروفة جيدا من خطر تحويل سوريا الى شبه عراق، أي انحلالها الى دولة شبه فاشلة. وان ادارة سورية جديدة تكون تابعة لتركيا ايضا غير نافعة لاسرائيل بالضرورة لأن هذا قد يزيد في شدة احتكاك اسرائيل بتركيا ويُغير طبيعته ويزيد سوريا قوة. لهذا قد يكون العلويون حالة خاصة تختلف معها مصلحة اسرائيل عن المصلحة السنية في ضعضعة قوة شريكات ايران.
 الولايات المتحدة تفقد الفاعلية: ان الولايات المتحدة هي عامل الاستقرار الرئيس في الشرق الاوسط، لكن مكانتها باعتبارها النقطة الارخميدية للجغرافية السياسية الاقليمية تتضعضع. فالولايات المتحدة أولا أقل جدوى في صد أعدائها، ونشاط ايران في العراق في مواجهة الولايات المتحدة ونشاطها في الشأن الذري مثلان جيدان على هذا، وينبع هذا الامر ايضا من ان الادارة الحالية طرحت عن برنامج عملها في الواقع امكانية استعمال القوة في ميادين جديدة.
 وثانيا، تضطر حليفات الولايات المتحدة الى ان تفحص من جديد أما يزال السير في المسار الامريكي يضمن حماية معقولة لمصلحتها. ان ادارة الادارة الامريكية ظهرها لمبارك أثارت مخاوف عند نظم الحكم العربية الموالية لامريكا. وفي نفس الوقت فان عدم فاعلية الولايات المتحدة في مواجهة ايران، في البحرين مثلا، قد اضطر الملكيات السنية الى ملء الفراغ الاستراتيجي والى ان تعمل بنفسها عملا لم تكن تحتاج اليه في الماضي تقريبا.
 يجب على اسرائيل ايضا ان تكون قلقة من تضعضع الثقة الاستراتيجية بالولايات المتحدة، كما تعلمنا من تنكر ادارة اوباما لرسالة الرئيس بوش في 14 نيسان 2004 وهي رسالة صادق عليها الكونغرس بالاجماع تقريبا. لكن المشكلة أعمق من دبلوماسية ادارة اوباما أو من دبلوماسية حكومة نتنياهو الفظة (اذا لم نشأ المبالغة). لم تكن هناك علاقات دافئة بنيكسون، ولم يكسب نتنياهو أشياعا في ادارة كلينتون ايضا. وقد كان لادارة كلينتون الليبرالي تصور يختلف عن تصور ادارة ريغان المحافظة مثلا، لكن أكثر الادارات الامريكية في العقود الاخيرة قرأت في خريطة استراتيجية متشابهة وكانت فعالة نسبيا في تحقيق سياستها مهما تكن السياسة.
 والمشكلة الجذرية هي أنه ليس واضحا ما هي الخريطة التي تُصرف ادارة اوباما الامور بهدي منها. فليس واضحا أما تزال تُفسر الواقع بحسب مبدأ جغرافي سياسي لجبهة ذات حلفاء يجب تعزيزهم ومحور عدوات ينبغي احتواؤها. فعلى سبيل المثال تؤمن حلقات واسعة في واشنطن بوجود "ربيع عربي"، وهذا الامر يجعلها في مواجهة مع أكثر شريكاتها في المنطقة. يصعب في الواقع ان نحدد "الربيع"، ويصعب ان نشير الى دولة عربية واحدة أصبح فيها لقوى ليبرالية ديمقراطية موطيء قدم. حتى في القاهرة تجري اللعبة بين الجيش وحزبه التابع وبين الحركات الاسلامية. وهكذا لا يبدو ان ادارة اوباما تنظر بالجدية المطلوبة الى انتقال العراق واليمن أو لبنان الى ايران: فهذه ربما تكون اتجاهات غير مرغوب فيها تسوغ بحسب رأيها معارضة اسمية، لكن لا يبدو ان الادارة تعتقد أنها تسوغ عملية قوية أو مخاطرة متميزة. والادارة لا تعمل ايضا بالحزم الذي يقتضيه كون المعسكر الموالي لامريكا ينتقض وأنه قد بقي لها شريكتان مؤكدتان ومهمتان في الشرق الاوسط هما اسرائيل والسعودية.
 وفي نفس الوقت يصعب تحقيق ارادة ادارة اوباما – ولتكن سياسته ما كانت. فمن افغانستان وباكستان مرورا بالعراق ثم سوريا، لا تصبح ارادة الادارة الامريكية واقعا. فقد تعلمت العدوات والشريكات معا (من ايران الى تركيا ثم السعودية) أنه يمكن تجاهل ارادة الادارة الامريكية من غير تحمل نتائج مميزة. وعلى ذلك تُقصى الولايات المتحدة ايضا عن مسارات مركزية مثل تأليف الحكومة الجديدة في لبنان، وإقصاء جيش تركيا عن السياسة وتبديل قيادته، واتفاق المصالحة الفلسطينية. ان انحطاط فاعلية الولايات المتحدة الاستراتيجية يجر انحطاط الفاعلية الدبلوماسية.
 ان المضمون الدقيق لسياسة الولايات المتحدة من وجهة نظر اسرائيل أقل جوهرية. فقد عرفت اسرائيل كيف ترتب امورها مع الكتف البارد لبوش الأب ومع الاحتضان الدافيء لبوش الابن. ان الشيء الحيوي لمنظومة اسرائيل الاستراتيجية هو ان ترى الولايات المتحدة نفسها لاعبة في لعبة القوى الاقليمية، وان تحقق سياستها المختارة بنجاعة.
 الاستعداد للمعركة الاخيرة: النضال من اجل بقاء آل سعود
 ربما يكون الحديث اليوم  عن معسكر الاستقرار ومعسكر التغيير أصح من الحديث عن معسكر موال لامريكا وآخر معاد لامريكا. ان اسرائيل والسعودية تريدان مضاءلة الزعزعات للوضع الراهن، ومعهما ايضا دول أقل تأثيرا كالاردن ودول الخليج. وتطمح ايران الى زعزعة الوضع الراهن. ومن وجهة النظر هذه على الأقل تُعد تركيا ايضا في المعسكر العدو لأنها تطمح ايضا الى ان تنظم علاقات القوى من جديد. ويُحتاج الى زمن بعد للحصول على منظار يتعلق بنظرة ادارة اوباما الى نسيج القوى في الشرق الاوسط. وعلى أية حال، فان الامور ما تعلقت بمنظار آل سعود فان الصورة قد اتضحت وذاك ان السعودية قد بقيت وحدها تقريبا. وترى الأسرة المالكة السعودية ان الصفقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة – النفط مقابل الأمن – تفقد من فاعليتها وذاك لسببين: الاول، ان الولايات المتحدة غيرت سياستها من وجهة نظر الأسرة المالكة وهي تترك آل سعود يواجهون بأنفسهم تحدياتهم في الداخل والخارج. وهذا يُحدث فروقا أخذت تتسع بين السعودية والولايات المتحدة، بدءا بطلب الولايات المتحدة اصلاحات ديمقراطية في النظم الملكية السنية مرورا بحوارها مع "الاخوان المسلمين" في مصر، وصورة علاج الازمة في البحرين، وانتهاءا الى سحب قواتها من العراق بما يشبه "ليكن الطوفان من بعدي"، والذي يأتي بايران لتقف على عتبة السعودية.
 وثانيا، تُقدر السعودية ان فاعلية الولايات المتحدة قد قلت وبدأت تفكر بمفاهيم عهد ما بعد امريكا. وبرغم ان حكام السعودية يبذلون جهودا للاقتراب من الصين والهند وباكستان فانه لا يوجد بديل على هيئة قوة عظمى اخرى أكثر تأييدا وجدوى. لكن السعودية تدرك ان الحاجة الى اعتمادها على نفسها قد زادت وان عليها ان تحاول ان تملأ بقواها الذاتية جزءا من الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة. وأصبح هذا الادراك يثمر صفقات سلاح بمبلغ متراكم يبلغ 70 مليار دولار، وقد يفضي بالسعودية الى تقدير انه يجب عليها ان تملك سلاحا ذريا.
 وترى السعودية أنها قد فقدت شريكاتها المهمات في الجبهة العربية السنية، فقد سقط مبارك ومستقبل مصر غير واضح، وبعد انسحاب الولايات المتحدة ستصبح ايران الجهة المهيمنة في العراق. وقد اضطر هذا الوضع الجديد الشديد السعودية الى تغيير استراتيجيتها. ان من فضل في الماضي ان يعمل من وراء أبواب مغلقة ويتهرب من المخاطرة قد دُفع الى عمل مكشوف مباشر في البحرين. وقد بدأت السعودية بنفس روح الجرأة الجديدة (أو التعجل) تعمل على ضعضعة حليف ايران في دمشق أي النظام العلوي.
 بقي آل سعود هم المحاربين العنيدين الرئيسين وربما الآخِرين لصد ايران. ان الأسرة المالكة السعودية تحاول باستثمار مليارات الدولارات في مصر مرورا باستخدام سلاح النفط والصراعات داخل الـ "اوبيك"، والصراع على القنوات الى باكستان والهند ثم محاولة توسيع الـ "جي.سي.سي" وجعل هذه المنظمة شبه حلف اطلسي سني، تحاول ان ترسم خط وقف ايران. وهي تجعل نفسها بذلك هدفا رئيسا لايران. وفي كل واحدة من الحلبات يمتحن الجانبان وتجري الحرب ايضا في شبه الجزيرة العربية. وزيادة على اليمن والبحرين يتم الغليان بين الشيعة في شرقي السعودية، وأُبلغ في التقارير ان الحرس الثوري بدأ اعداد جيش المهدي لعمل يواجه الأسرة المالكة في شبه الجزيرة. وهناك مكان لتقدير أنه يتوقع اجراءات تزداد قوة من ايران على آل سعود.
 ان ضعضعة الأسرة المالكة السعودية، بعمل مباشر أو بوسائل غير مباشرة، قد يفضي بايران الى شفا القدرة على ان تسقط نهائيا النظام الاقليمي المعروف. وكذلك يوجد خوف من تحولات استراتيجية تنبع من تبديل الأجيال في قيادة آل سعود، أو من تقدير السعودية ان مكافحة ايران خطيرة جدا واحتمالات نجاحها ضئيلة جدا، وعلى ذلك يجب على السعودية ان تبحث عن توافق يعتمد على اعتراف لتقدم ايران.
 من هنا تأتي الأهمية الكبيرة لآل سعود بالنسبة لاسرائيل. بازاء الفروق الثقافية يصعب الحديث عن شراكة مكشوفة بين اسرائيل والسعودية. لكن الدولتين تقرآن بصورة متشابهة الخريطة الاستراتيجية وتسيران في مسارات استراتيجية متوازية ولهذا يوجد مكان للفحص عن توسيع الحوار بينهما.
 الفلسطينيون: تضعضع الغلاف الاستراتيجي للاتفاق
 تُحدث التغييرات والزعزعات الموصوفة في هذه المقالة صدوعا اخرى في الدعامة الاستراتيجية التي يفترض ان تخدم اسرائيل في توصلها الى تسوية مع الفلسطينيين. فالجهاز الفلسطيني يعاني منذ البدء صعوبات محايثة، ومن جملة اسباب ذلك انه تعمل فيه قوى طاردة عن المركز كحكومة السلطة وحكومة حماس وقوى خارجية حكومية قوية. ويصعب إحداث توازن مع جهة تعاني كثرة قوى تشد الى اتجاهات مختلفة. وتزداد هذه المشكلات حدة بسبب تضعضع المحيط الاستراتيجي والغلاف السياسي الذي يفترض ان يُمكّن من احراز الاتفاق والحفاظ عليه زمنا طويلا. سيصعب على الفلسطينيين ان يعرضوا تسوية بغير حصول على تأييد عربي حقيقي وهذا مؤكد ازاء المعارضة الداخلية. لكن التأييد العربي العام قد بذله في الماضي في الأساس مبارك الذي كان اللاعب الرئيس الذي عمل على اضعاف حماس واحتوائها في الجهاز الفلسطيني. وتُحدث تنحية مبارك عن الساحة وازدياد قوة التيار الاسلامي السياسية في مصر، وهو المقرب من حماس، فروقا داخل الغلاف الذي يؤيد تسوية في المستقبل.
 حظيت خطة "خريطة الطريق" مثلا بمباركة مصر والسعودية والاردن والبحرين. وليس واضحا هل ستستطيع الادارة الامريكية بازاء التوجهات الجديدة في مصر والتوترات بين الولايات المتحدة والدول الملكية السنية، ان تساعد على تجنيد جبهة مشابهة. وكما قلنا آنفا فان الثقة الاستراتيجية بالولايات المتحدة عند الطرفين قد ضعفت ولم يعد من المفهوم من تلقاء نفسه ان تستطيع ان تُقدم كما في الماضي، الدعامة الاستراتيجية المطلوبة للاتفاق.
 ويتصل بهذا الشأن سؤال هل يحق لاسرائيل ان تفترض ان تعمل الولايات المتحدة عملا مجديا في مواجهة لاعبين يحاولون تحدي الواقع الذي سينشأ بعد اتفاق اسرائيلي – فلسطيني. ويبدو من نظرة في سلوك الولايات المتحدة من العراق الى سوريا ثم ليبيا ان الادارة الامريكية ليست مستعدة لتحمل مخاطرة أو دفع ثمن استراتيجي ذي شأن. ولا يفترض ان تُضعف ذكرى السنتين 1967 و1970 فقط شهوة اسرائيل الى ضمانات دولية؛ فالذاكرة الجديدة ايضا تفعل ذلك لأن الجماعة الدولية قد فشلت في تطبيق نظم فرض قرار مجلس الامن 1701 وفشلت تماما في الترتيب الامني على الحدود مع غزة – مصر في سنة 2005 في اثناء انفصال اسرائيل عن غزة.
 وتقوى هذه المخاوف ازاء ازدياد أثر ايران الاستراتيجي قوة على سواحل البحر المتوسط، ومن ضمن ذلك الدخول عن طريق غزة الى داخل الجهاز الفلسطيني. ان فاعلية ايران وجرأتها تقويان ولا تحجم عن تحدي النظام الامريكي القائم وحليفات الولايات المتحدة والولايات المتحدة نفسها. ان التسويات السلمية القائمة مع مصر ومع الاردن، والتسويات التي سيتم احرازها في المستقبل القريب، معرضة اذا لقوتين قد تضعضعاها: ايران، وضغط قوى "الربيع العربي" على نظم الحكم.
 لاسرائيل طموحان أعليان في كل تسوية مع الفلسطينيين، مهما يكن مضمونها. الاول ان يتم تحقيق الاتفاق في الواقع وألا يكون بمثابة اشارة ميتة. والثاني المتمم هو ان يكون الواقع الذي يولده الاتفاق مستقرا ويستطيع ان يصمد زمنا طويلا لمحاولات تحديه. وللأسف الشديد فان  القاعدة التجريبية التي تُمكّن من الحكم بأن هذين الطموحين قابلين للانجاز قد أخذت تضعف.
 فرص
 كلما تدخلت ايران في حلبات اخرى أو عمقت تدخلها في حلبات قائمة اقتربت من شد زائد. ان انتاج ايران الخام أقل من انتاج الارجنتين أو جنوب افريقيا، وان تدخلا اقليميا بقدر واسع يُصعب على اقتصاد ايران. ان طريقة عمل ايران تعتمد على توابع من غير الدول وعلى أنصار محليين ولهذا فانها مقتصدة في الموارد لكن تبني عدواتها استراتيجية حكيمة قد يجرها الى شد زائد.
 وتكمن فرصة اخرى في العلامات على تجدد المنافسة التاريخية بين الفرس والعثمانيين التي قد تصبح محورا رئيسا للحراك الجغرافي السياسي الاقليمي. وبازاء هذه الطاقة الكامنة فمن العجيب ان النهج الاستراتيجي التركي يساعد ايران احيانا أكثر من احباطه جهودها، في المجال الذري مثلا. ان مصالح تركيا وايران قد تتصادم حقا في آسيا الوسطى وفي العراق وسوريا. وقد طلبت تركيا في السنين الاخيرة الاقتراب من النظام العلوي لكن الاضطرابات في سوريا أحدثت خطرا على مستقبل النظام وامكانية تولي قوى سنية زمام الامور. ينبغي ان نتذكر ان العثمانيين (وهم أنفسهم سنيون) حكموا سوريا مئات السنين بواسطة النخبة العربية – السنية المحلية. وعلى ذلك فربما ينشأ تنافس في السيطرة على سوريا بين ايران والعلويين وبين تركيا وقوى لسوريين سنيين.
 ولبنان هو ميدان تنافس ممكن آخر. فأولا، تحاول تركيا ان تكتسب تأثيرا في بلاد الأرز. وثانيا، وبرغم ان سوريا تمتنع عن تعريف وضعها الاستراتيجي بأنه وضع تنافس مع ايران وحزب الله للهيمنة على لبنان، فان ايران وحزب الله استغلا انسحاب القوات السورية من لبنان ليحلا محل سوريا باعتبارهما الجهة المهيمنة على لبنان. اذا انقضت "أحداث الربيع" في سوريا، فربما يجب ان تتجه استراتيجية اسرائيل الدبلوماسية والعسكرية، الى اعادة سوريا الى لبنان بتأييد من السعودية (اتفاق طائف ثانٍ) وذلك لاحراز ثلاثة أهداف: أ – العودة الى واقع يمكن فيه ضبط ما يجري في لبنان بواسطة ضغط على سوريا. ب – احداث توترات في محور ايران – سوريا – حزب الله. ج – الحفاظ على مجال فصل جغرافي سياسي بين تركيا واسرائيل. ومن المرغوب فيه من وجهة نظر اسرائيل ان تكون سوريا ولبنان متجهتين الى السعودية لا الى تركيا أو ايران ومصلحة اسرائيل هي في توازن القوى لا في هيمنة عربية أو ايرانية أو تركية، وقد بقيت السعودية اللاعبة العربية الاخيرة التي ما تزال تستطيع ان تكون معادلة لايران وتركيا.
 بحسب تصور اسرائيل التقليدي فان الظروف الجغرافية السياسية تُحدث شراكة مصالح بين اسرائيل وتركيا، بدأت بصد نظم عربية عروبية، ونمت لتصبح صد نظم عربية موالية للسوفييت، وأصبحت تماثل مصالح في صد ايران. لكن ليس واضحا هل يرى اردوغان في حساباته الحالية جبهة اسلامية في مواجهة اسرائيل أم جبهة مع اسرائيل والسعودية في مواجهة ايران، أو جبهة مع ايران وسوريا في مواجهة الأكراد، أو أنه لا يريد ان يلتزم بجبهة ما.
 والى ذلك، تبدو سياسة تركيا غير مشحوذة وغير ناضجة؛ والدليل على ذلك التقلب بازاء سوريا؛ وعدم بت الامور بين الرغبة في التعاون مع ايران (حتى عسكريا على مواجهة الأكراد) وبين الخوف من انتشار تأثيرها؛ أو التهديد بقطع العلاقات مع الاتحاد الاوروبي اذا أصبحت قبرص رئيسة دورية مع الموافقة في نفس الوقت على نصب اجهزة رادار لحلف شمال الاطلسي للتحذير من صواريخ تُطلق من ايران؛ ويبلغ ذلك الى التهديد باستعمال القوة العسكرية على قبرص واسرائيل. وليس واضحا ايضا الى أي حد تُحرك تركيا تقديرات استراتيجية أو عقائدية أو اقتصادية كالمصلحة الاقتصادية في حقول الغاز شرقي البحر المتوسط، وربما لم تدرك اسرائيل معنى حقول الغاز هذه في نظر تركيا. ان تجاذب القوى لتركيا قد يصحبنا في السنين القريبة.
 والانباء السيئة بالنسبة لاسرائيل هي ان مؤشر العمل التركي ليس واضحا وربما ليس مبلورا؛ والانباء الحسنة ان جميع الامكانات ما تزال مفتوحة. وعلى ذلك يجب على اسرائيل ان تبحث عن المشترك مع تركيا وان تجد مسارات يمكن إشراكها فيها، وان تبحث في نفس الوقت عن الشراكات الضرورية لمعادلة قوتها.
 معانٍ عسكرية
 لتضعضع منظومة اسرائيل الاستراتيجية معنيان عسكريان متناقضان بادي الرأي: فمن جهة غياب عوامل استقرار الوضع أو ضعفها يزيد في خطر اشتعال عسكري؛ ومن جهة ثانية الرغبة في حماية اتفاقات السلام القائمة والامتناع عن ورطات لا داعي لها يصعب التنبؤ بآثارها، كل ذلك يقيد حرية عمل اسرائيل العسكرية. وفي الظروف الحالية ينشأ عدم تناسب بين الانجازات السياسية – الاستراتيجية المتواضعة الممكنة بمعارك عسكرية كما في غزة، وبين طاقة الضرر الكامنة الاقليمية الكبيرة المقرونة بها. ولهذا توجد حاجة الى التعجيل بزيادة القوة العسكرية وبناء قوة مناسبة للتحديات الجديدة لكن الى جانب ضبط أكبر لاستعمال القوة.
 بناء القوة: في كل ما يتعلق بمسارات بناء القوة في الأمد البعيد، ينبغي الفحص هل تكفي الحقائق المعلومة اليوم لتزويد اسرائيل بانذار استراتيجي بامكان تحول في سياسة مصر أو تبلور جبهة شرقية من دول في المستقبل. وينبغي التحقق من ان الجيش الاسرائيلي لن يفاجئه امكان عودة العدو من الدول. وهناك حاجة ايضا الى تطرية القدرة اللوجستية والقدرات التي تُمكّن الجيش الاسرائيلي من استغلال امكانات العمل في خطوط داخلية. في العقود الاولى لوجود الجيش الاسرائيلي كان العمل في خطوط داخلية من أسس مزاياه النسبية. لكن نشأ في العقود الاخيرة خطأ انطباع ان هذه الحاجة قد غمضت.
 ولما كانت ايران تطور "قدرة وصول استراتيجية" الى اسرائيل، وطورت في واقع الامر قدرة غير مباشرة على اجراء معركة واسعة مع اسرائيل، فانه يجب على اسرائيل ان تفحص ما هي الفكرة الاستراتيجية المضادة وما هو بناء القوة الذي سيمنع حصول إظهار القوة في الأمد البعيد على قدرات ذرية. وتتعلق التوترات الاستراتيجية اليوم بقوى اقليمية لا تحاذي اسرائيل بقدر لا يقل عن تعلقها بدول محاذية؛ والقوى الاقليمية غير المحاذية هي احيانا أقوى من الدول المحاذية. فهناك حاجة اذا الى زيادة قوة كمية والى تحسين القدرة على إبراز القوة في البحر والجو بصورة بعيدة المدى.
 استعمال القوة: ان العلاقات مع مصر (والاردن) كنز من الطراز الاول، ولهذا توجب الاجراءات التي تجري في المنطقة على الجيش الاسرائيلي ان يخطط لمعارك في المستقبل مع أطراف ثالثة تحت تقديرات تختلف عن تلك التي كانت في الماضي. ينبغي ألا يُقبل بعد فرض عمل يقول ان مصر ستدعم اسرائيل في المستقبل كما دعمها مبارك في 2006 و 2008. ويجب ان يكون فرض العمل ان تكون ادارة مصر في المستقبل، مهما تكن صبغتها الدقيقة، مستصعبة ان تتنحى جانبا في الوقت الذي يعمل فيه الجيش الاسرائيلي اسابيع طويلة. ولهذا ينبغي الاستعداد لواقع تكون فيه المعارك مع طرف ثالث – اذا كانت محتومة – محدودة وألا تستمر أكثر من ايام قليلة تستطيع فيها الادارة المصرية ضبط نفسها. وتوجد حاجة أكثر مما كان في الماضي الى مضاءلة الضرر المحيطي وأن يتم وزن البديل الدفاعي بحسب الظروف ايضا. وقد تنشأ هذه الضرورات ايضا عن التقدير الاستراتيجي في مواجهة تركيا.
 وفي النهاية يقوى الخوف من ألا يضمن الانطواء تحت جناح الولايات المتحدة كما في الماضي قدرا كافيا من الدفاع عن الامن القومي. ولهذا تشتد الحاجة الى اعتماد على الذات ويشمل هذا الشأن الذري الايراني. قد توجد آراء مختلفة في سؤال هل يجب على اسرائيل ان تهاجم ايران، لكن من الصعب جدا الاستمرار في التمسك برأي أنه لا يجب على اسرائيل ان تهاجم بحجة ان الولايات المتحدة ستزود بالسلعة بطريقتها. هناك فرض عمل أقوى وهو ان ادارة الولايات المتحدة لن تنجح في منع تقدم ايران في برنامجها الذري.
 سياسة اسرائيل: تحدٍ في ثلاثة عوالم متوازية
 ان أحد التحديات المعقدة لاسرائيل هو ضرورة العمل في نفس الوقت في ثلاثة عوالم متوازية في حين ان كل واحد من هذه العوالم يجري بحسب قوانين آلية مختلفة (ومتناقضة بقدر ما) ويقوم على حقائق مختلفة بادي الرأي. ففي طرف واحد عالم الواقع الاستراتيجي البارد. وهو عالم صارم حيث صراعات القوة فيه هي اللغة المتحدث بها واسرائيل تميل الى الشعور بأنه يجب عليها ان توجد فيه في كل وقت ويدها هي العليا.
 وفي الطرف الآخر عالم الرأي العام العالمي. وهو عالم تصورات وصور بعيدة احيانا عن الواقع القاسي في الميدان، لكنها نالت موطيء قدم في وسائل الاعلام وعند منظمات دولية. وهذه التصورات والصور بقدر كبير، مصدر للشرعية الدولية أو عدمها. والشرعية تؤثر ايضا في حدود حرية العمل وفي قدرات اسرائيل على الصمود والبقاء في عالم الواقع الاستراتيجي. وبين الطرفين يوجد عالم ما بين الحكومات. فالحكومات تُبدي خبرة – جزئية على الأقل – بالحقائق وبالآلية الاستراتيجية لكن نشاطاتها يوجهها الرأي العام بقدر كبير.
 ان الفرق بين قوانين الحركة وبين تصور الحقائق في العوالم الثلاثة قد أخذ يتسع. ففي عالم الرأي العام العالمي يُطلب الى اسرائيل ان ترتب امورها ولا سيما القضية الفلسطينية، بلا تأخير. والتسامح والاستعداد للاستماع لهذه الدعاوى وغيرها ضئيلان. ويمتد عالم ما بين الحكومات ما بين اعتقاد ان الصراع الاسرائيلي الفلسطيني هو جذر عدم الاستقرار في الشرق الاوسط وبين عدم اكتراث وراء الأبواب المغلقة مع الاستقامة الاعلامية مع الرأي العام. لكن الامور أكثر تعقيدا في العالم الاستراتيجي.
 في الواقع الذي وصفته هذه المقالة يُكشف بالتدريج عن خريطة جديدة لعدم استقرار وعدم يقين وتهديدات، ولا تستطيع سياسة اسرائيل ان تتجاهل الخريطة التي تتشكل. وفي نفس الوقت يجب على اسرائيل ايضا ان تطمح الى الحفاظ على آفاق تعاون مع مصر والاردن وتركيا والى تطوير آفاق تعاون مع السعودية والى استغلال الفرص لاضعاف الزعزعات الاقليمية.
* * *

2012-01-04 09:06:55 | 1990 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية