التصنيفات » دراسات

كنيسة المهد

                     
د.أمل خليفة – باحثة متخصصة فى الشأن الفلسطينى           
                                                                                       
كانت الإمبراطورية الرومانية وثنية الديانة ، وتكرر اضطهادها للمسيحيين فى موجات متتالية ، باعتبار أن دخول الناس في المسيحية تسبب فى حرمان المعابد من القرابين والهبات ، التى كان الناس يقدمهونها أول الأمر للمعابد ، ثم صارت تُقدم عبادةً للإمبراطور شخصياً .
وفى النصف الأول للقرن الرابع ، تولى الإمبراطور قسطنطين ، المعروف باسم قسطنطين العظيم عرش الإمبراطورية الرومانية ، وكانت أمه مسيحية ، وتدعى هيلانة .
أراد قسطنطين أن يكسب المسيحيين فى أرجاء إمبراطوريته ، فأظهر العطف عليهم ، واختلف المؤرخون إن كان قد تنصرقبل موته ، أو لم يفعل .
وفى عام 326 م زارت الملكة هيلانة فلسطين ، لمشاهدة الأماكن التى عاش فيها السيد المسيح ، والمواقع الهامة التى شهدت مراحل حياته، مثل موضع ولادته ، وأماكن ترحاله ، والمواقع التى ارتادها فى الأيام الأخيرة له فى الأرض المقدسة ، والمكان الذى يظنون أنه دُفن فيه ..
وفى بيت لحم ، على بعد عشرة كيلومترات من القدس ، زارت مغارة ،تحدث المسيحيون فى المدينة ، أنها شهدت مولد المسيح .
الروايات التى فى الأناجيل ذكرت أن المسيح تمت ولادته فى فى مغارة ، وأنه حين ولادته جاء مجوس من المشرق إلى القدس يسألون عنه ، ويقولون أنهم رأوا نجمة فى المشرق تدل عليه ، فجاءوا ليسجدوا له . ثم ساروا نحو بيت لحم ، خلف النجم الذى تراءى لهم ، وتوقف حيث المسيح وأمه ، ففتحوا كنوزهم ، وقدموا له ذهباً ولباناً ومراً .
وفى الموضع ذاته أمر قسطنطين ببناء كنيسة المهد 335 م ، وكان البناء مثمناً ، فيه فتحة تؤدى إلى المغارة ، وهو البناء الأول للكنيسة .
بعد هذه الوقعة بقرنين ، قامت ثورة ، عُرفت بثورة السامريين ، ضد البيزنطيين ، تعرضت خلالها الكنيسة للتدمير ، مما دفع الامبراطور البيزنطي جستنيان الأول لإعادة بناءها 535م  ، لكنه زاد فى مساحتها .
وفى عام 614م دخل الفرس إلى الشام ، وهدموا كثيراً من المبان ، لكنهم أبقوا على كنيسة المهد تحديداً ، لأنهم رأوا على جدران الواجهة الغربية للكنيسة الصورة التى تمثل المجوس بزيهم الفارسى التقليدى ، وهم يقدمون الهدايا للطفل .
من المعلومات التى لا يتداولها الناس كثيراً ، أن المؤرخ ابن الأثير فى كتابه الكامل ذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، مر ببيت لحم ، وصلى فيها قبل أن يتابع طريقه إلى بيت المقدس .
وعندما قدم الخليفة عمر بن الخطاب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس ، عرج على بيت لحم ، وأعطى لسكانها أماناً مثل الذى أعطاه لسكان القدس ، وذكرت الكثير من الروايات أنه صلى فى الناحية الجنوبية من الكنيسة ، وهو الموضع الذى بنى فيه المسلمون بعد ذلك مسجداً مجاوراً للكنيسة معروفاً باسم "جامع عمر بن الخطاب"  ، فى موقف مشابه لما حدث فى كنيسة القيامة بالقدس .
وعندما قدمت جيوش الفرنجة إلى الشام ، وأقاموا لهم بها الأمارات الصليبية ، تم تتويج بلدوين الأول أول ملك لمملكة بيت المقدس فى كنيسة المهد ،كما أضاف الفرنجة إلى الكنيسة ديراً ملحقاً بها .
ظلت كنيسة المهد مزاراً للمسيحيين فى كل بقاع الأرض ، ويعتبر الانحناء أمام النجمة الفضية فوق موضع ولادة المسيح هو أحد الطقوس الأساسية فى الحج ، كما عظم من شأنها المسلمون على مر العصورباعتبارها موضع يُنسب إلى نبى الله عيسى المسيح عليه السلام ، على الرغم من أن النص القرآنى يُفهم منه أن السيدة مريم قد ولدته فى مكان مفتوح ، به نخل ، وأجرى الله نهراً من تحت قدمها .
كنيسة المهد فى العصر الحديث :
ارتبط اسم كنيسة المهد بحرب كبرى فى منتصف القرن التاسع عشر الميلادى ، وهى المعروفة باسم "حرب القرم " 1854-1856م ، وكانت شرارتها الأولى فى كنيسة المهد ،حيث تم تبادل الاتهامات بين الطائفة الأرثوذكسية ، التى ترعاها روحياً وقتها الامبراطورية الروسية ، مع الطائفة الكاثوليكية التى تحظى برعاية فرنسا داخل الكنيسة ، كان نتيجتها أقامت الحرب بين روسيا من جهة ، وبين الدولة العثمانية وإنجلترا وفرنسا من جهة أخرى، وأنتهت بهزيمة روسيا .
وانتهت النزاعات إلى الإقرار بإشراف ثلاث طوائف مجتمعة على الكنيسة هم الروم الأرثوذكس ، واللاتين الكاثوليك ، والأرمن  ، ولا يزال هذا الوضع قائماً حتى الآن . وفى واجهة الكنيسة ثلاث صلبان مختلفة الشكل ، يرمز أحدهما إلى الكاثوليك الفرنسيسكان ، فى الجهة الشمالية الشرقية ، وإلى جواره صليب يتبع الأرثوذكس اليونان ، والثالث فى الجهة الجنوبية الشرقية على شكل برج يرمز إلى الأرمن الأرثوذكس .
ورغم هذا التقسيم إلا أن الكنيسة شهدت صراعات متكررة، ومشادات لا تنتهى بين الرهبان حول القيام بالإشراف على الكنيسة ، حتى فى الواجبات اليومية البسيطة ، مثل كنس الساحة .                                
أما أكثر المواقف سخونة فكان حصار كنيسة المهد عام 2002م .
حصار كنيسة المهد :
اشتعل فتيل الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى سبتمبر2000م ، ووصل الصراع منتهاه ، عندما قامت قوات الصهاينة بإعادة احتلال مدن الضفة فى عام 2002 ، الواحدة بعد الأخرى .
وفى مطلع إبريل 2002م بدأت الدبابات الإسرائيلية باجتياح مدينة بيت لحم ، واحتمى بالكنيسة نحو 300 فلسطينى ، منهم 70 من رجال الدين والرهبان ، بالإضافة إلى 12 طفلاً ، وأنضم إليهم عدد من المسلحين الفلسطينيين، وتحولوا جميعاً إلى محاصرين ، بعد أن طوقتهم قوات الصهاينة ، بما فيهم محافظ بيت لحم الذى توجه لتفقد الحوال فى الكنيسة .
احتل الجنود الإسرائيليون ساحة الكنيسة والمبانى المحيطة بها ، شاركت فى الحصار 200 دبابة ، 3000 جندى ، بالإضافة إلى 30 مروحية مقاتلة .
وقامت القوات الإسرائيلية بتفجير الباب الخلفى للكنيسة ، كما قتلوا قارع الأجراس الخاص بالكنيسة ، وتركز القناصة حول الكنيسة لإطلاق النار على كل ما يتحرك فى فناء الكنيسة .
حاولت القوات الإسرائيلية اقتحام الكنيسة ، أو إجبار المحصرين على التسليم من خلال منع دخول الأطعمة، والماء ، والمواد الطبية ، وقطع الكهرباء ،لكن كل المحاولات لم تجد نفعاً .
وحسب روايات الرهبان والمحاصرين، فقد اضطروا لطبخ أوراق الشجر ، وشربوا ماءً راكداً كان فى صهريج قديم ، بعد القيام بغليه .  اما الكنيسة فقد تعرضت جدارانها للقصف ، وتحطمت النوافذ الزجاجية وكذلك بعض التماثيل بها ، كما اشتعلت النار فى 4 غرف للرهبان .
وبعد مفاوضات ، وتدخلات دولية من كل شكل ، خرج المحاصرون من كنيسة المهد ، يوم الجمعة 10 مايو بعد حصار دام 38 يوماً ، مرفوعى الرأس . وأخرجت السلطات الإسرائيلية 13 منهم إلى مطار بن جوريون ، حيث تم ابعادهم إلى دول أوربية ، بينما أبعدت 26 إلى غزة ، من غير أن تسمح لهم بتوديع أهليهم الذين أصطفوا على البعد لمشاهدة ذويهم ، وهم يخرجون من الكنيسة إلى الحافلات مباشرة .
وبحسب ما صرح به الأب إبراهيم فلتس الوكيل العام لحراسة الأراضى المقدسة ، فإنها كانت هى المرة الاولى فى التاريخ التى تغلق فيها كنيسة المهد أمام المصلين .
وفى ظل الإحتلال الصهيونى لفلسطين دخلت كنيسة المهد إلى حلبة السياسة أكثر من مرة ، فزارها الرئيس الأمريكى بوش يناير 2008م ، وكانت زيارته مناسبة لإعلان بعض الجهات عن موقفها المعارض له ، ممن رفضوا الحضور أثناء الزيارة .
كنيسة المهد ، وقائمة التراث العالمى :
يتردد اسم كنيسة المهد هذه الفترة ، وذلك بعد أن أصبحت مرشحة لأن يتم إدراجها على قائمة التراث العالمى التابعة لليونسكو، تحت اسم دولة فلسطين ، باعتبارها من المواقع ذات الأهمية الخاصة للبشرية .
وكانت اليونسكو قد منحت العضوية الكاملة لفلسطين فى 31 أكتوبر 2011م ، وسط احتجاج أمريكى إسرائيلى ، أعقب ذلك  صدور قرار أمريكى بوقف لتمويلها للمنظمة ، الذى يشكل 22% من ميزانيتها .
ومن المعروف أن هذه المواقع المختارة تظل تابعة للدولة التى تقع فيها ، بالإضافة إلى أنها  تحصل على اهتمام من المجتمع الدولي ، للتأكد من الحفاظ عليه للأجيال القادمة .  وتشترك جميع الدول الأعضاء فى اتفاقية حماية التراث العالمى ، والبالغ عددها 180 دولة، في حماية والحفاظ على هذه المواقع .
وكان من ضمن المطلوبات من السلطات الفلسطينية لإدراج الكنيسة ، أن تقدم تقييماً  للتهديدات التى تواجه الموقع ، وعلى الرغم من ان المجلس الدولى للمواقع الأثرية قد أعترف بسوء حالة الكنيسة  ،واحتياجها للعناية والحماية ،  بسبب غياب التنسيق بين الكنائس الثلاثة القائمة بالإشراف على الكنيسة ، لكنه اعترض على عدم تقديم التقييم من جانب السلطات الفلسطينية  بصورة كاملة .
وسوف تعقد اللجنة اجتماعها فى روسيا فى الفترة ما ين 24 يونيو ، حتى 6يوليو لمناقشة ضم 36 موقع إلى القائمة ، ضمنها كنيسة المهد وطريق الحج المجاور ،  وسط محاولات جادة من السلطات الإسرائيلية لمنع إدراجها .



 

2012-08-24 11:00:44 | 2341 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية