التصنيفات » دراسات

دولة جنوب السودان والأمن القومي العربي



محمد حسب الرسول عبد النور*
مدخــل
أعادت نتيجة الإستفتاء الذي جرى في جنوب السودان رسم خارطة سياسية جديدة للسودان ومن ثمَّ للوطن العربي وذلك بعد التاسع من يوليو/ تموز 2011، حينما أُعلن عن قيام دولة جنوب السودان بعد أن أُستُفتى الجنوب وجاءت النتيجة لصالح الإنفصال بنسبة تجاوزت 98% من أصوات الذين شاركوا في الإستفتاء من المواطنيين ذوي الأصول الجنوبية .
لم تكن هذه هيّ المرة الأولى التي تُرسم فيها خارطة جديدة للسودان ، فقد سبقتها سابقة في يونيو/ حزيران من عام 1947عندما أوصى السكرتير الإداري لحكومة الاحتلال البريطاني حينها ، بعقد مؤتمر في مدينة جوبا عاصمة الجنوب لمناقشة وجهة نظر الجنوبيين في تمثيلهم بالجمعية التشريعية التي أراد الاحتلال الإنجليزي تشكيلها من سودانيين في إطار مشروعه السياسي بالسودان ، وقد هدفت حكومة المحتل البريطاني إلى طرح مشروعها لتوحيد الجنوب مع الشمال في هذا المؤتمر([2]) الذي بادر بإقتراح عقده مار وود Mar wood  حاكم الإقليم الإستوائي بجنوب السودان والمتاخم للحدود مع يوغندا([3]).
شارك في هذا المؤتمر إداريون بريطانيون ، كما حشدت حكومة الإحتلال عدداً من الجنويين الذين تدفع لهم رواتب من زعماء القبائل وبعض الموظفين بعد أن إستبعدت المتعلمين الجنوبيين من المشاركة فيه ، في الوقت الذي عملت فيه هذه الحكومة على إشراك شماليين ذوي قدرات عالية من اؤلئك المتبنين لفكرة تحقيق الوحدة بين شمال السودان وجنوبه من أمثال القاضي محمد صالح الشنقيطي الذي كان قائداً لوفد الشمال في هذا المؤتمر ، ولما كانت القدرات التفاوضية للشماليين أكبر من نظيراتها الجنوبية تمكنت الحكومة من فرض خيار الوحدة على المؤتمر بعد أن فرضت وجهة نظرها على الجنوبيين ودفعتهم للإذعان بقبول توحيد الجنوب مع الشمال([4]).
وبذلك رُسِمت خارطة سياسية جديدة للسودان جعلته يعزز مكانته الجيوإستراتيجية في قلب العالم تقريباً ، وأصبح منذ ذلك التاريخ يتمدد في منطقة شرق ووسط أفريقيا ([5])، وبهذا التمدد غدا للسودان حدوداً مع الكنغو (زائير سابقاً) ويوغندا من الناحية الجنوبية التي يتصل عبرها بمنطقة البحيرات العظمى التي ينبع منها بحر الجبل أحد روافد النيل ، كذلك أتاحت له هذه الخارطة الجديدة جواراً مع كينيا التي يتصل عبرها بالمحيط الهندي ([6])، هذا فضلاً عن جواره التاريخى لإثيوبيا وإرتريا من الجنوب الشرقي الذي يُمكنه من الإلتحام بمنطقة القرن الأفريقي حيث ظل يرتبط بهما بعلاقات قديمة قدم ممالك كوش السودانية التي صنعت حضارة وادى النيل حينما حكمت السودان ومصر ،وقد حافظ السودان بالطبع على جواره مع السعودية شرقاً عبر البحر الأحمر ، وحافظ على حدوده مع مصر وليبيا شمالاً ليتصل بالبحر الأبيض المتوسط عبرهما ([7]) فضلاً عن جواره لدولة تشاد التي تحادد دارفور من الناحية الغربية.
 لقد مكنت هذه الاضافة من جعل السودان طوال الفترة من يونيو/حزيران 1947 وحتى يوليو/ تموز 2011 أكبر دولة عربية بمساحة تبلغ مليون ميل مربع .
يقع جنوب السودان بين خطي عرض 4 درجة جنوباً و10 درجة شمالاً ، وتصل مساحته إلى نحو ربع مليون ميل مربع ، وجعل تمدد النيل الأبيض على أراضيه وغزارة أمطاره مساحات واسعة من هذه الأراضي  مستنقعات ([8]) .
يقول الدكتور روفائيل كوبا بادال * : ( كان البريطانيون غير راغبين في الجنوب لأنه ـ على حد وصف أيوارت قروقان أول من قام برحلة من القاهرة حتى رأس الرجاء الصالح ـ أرض خراب ودمار، منطقة لعينة ، أشجار وحشائش ممتدة ، بعوض وذباب وطيور وحميات قاتلة ([9]) ) ، ولعل التقدير البريطاني هذا هو الذي لم يدفع ممالك كوش ـ التي قامت وتمددت في أجزاء واسعة من السودان الشمإلى في الفترة من 2400 ق.م إلى 300 م  ـ للإتجاه نحو الجنوب في الوقت الذي تمدد حكمها شمالاً إلى مصر وفلسطين ، وتمددت صلاتها لما بعد فلسطين إلى بابل، وفي الجنوب الشرقى حتى إثيوبيا حيث حضارة أكسوم .
تشكل اقليم جنوب السودان من أراضي تخلت عنها يوغندا عام 1914([10])  وتعرف الآن بمناطق بحر الجبل التي تقع ضمنها مدينة جوبا عاصمة الجنوب،كما كانت فرنسا تحتل بعض أجزاء الجنوب وبشكل خاص الجزء الغربي منه في المنطقة تسمى بحر الغزال ،وكانت تحتل أيضاً الجزء الشرقي منه في منطقة قبائل الشلك وعاصمتها فشودة،كما استطاع ملك بلجيكا ليوبولد الثاني الاستيلاء على منطقة لادو في أقصى جنوب السودان ([11]) ، وفي ذات الوقت كان منليك الثاني ملك أثيوبيا يهدد بالاستيلاء على وادى نهر السوباط في الشرق ([12]) ، كما ظل يعمل على بناء تحالف بينه وبين الفرنسيين في المنطقة الغربية لعزل المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا ولتعريض حدود مصر الجنوبية للتهديد([13]) ، كان ذلك قبل أن تبسط بريطانيا سلطانها على الجنوب وتجعله جزءاً من مستعمراتها في شرق أفريقيا،ولعل صراع فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وأثيوبيا على الجنوب يؤشر على أهمية الجنوب كمسرح في الصراع الدولى على الإقليم الأفريقي وجواره العربي . 
تتكون التركيبة السكانية لجنوب السودان من عدد من القبائل الزنجية ،أهمها وأكبرها قبيلة الدينكا التي تمثل نحو نصف سكان الجنوب ([14]) ، تليها قبائل النوير والشلك والزاندى والباريا وغيرها من القبائل الصغيرة الأخرى ، ويبلغ عدد السكان به نحو ثمانية ملايين نسمة حسب التعداد الوطني للسكان الذي أجرته الحكومة السودانية عام 2010 .
يتمتع الجنوب بثروات عديدة أهمها البترول الذي تمَّ إستخراجه في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ، وقد بلغت نسبة المستخرج منه في الجنوب نحو سبعين بالمائة من جملة بترول السودان .
بالرغم من وجود ثروات كبيرة ومتنوعة بجنوب السودان إلا أن البريطانيين لم يكونوا راغبين في الجنوب، ففي عام 1897 ظل اللورد كرومر يحذر سالسبوري رئيس وزراء بريطانيا آنئذٍ من عواقب الاستيلاء على ما أسماه مساحات واسعة من الأراضي الخراب التي تتطلب إدارتها تكلفة مالية عالية وتحيطها صعوبات كبيرة ([15])،غير أن اشتداد صراعات القوى الكبرى حول مناطق وادي النيل في نهاية القرن التاسع عشر أدت إلى توقف المناقشات حول جدوى إحتلال المناطق الواقعة جنوب مصر لإعتبارات إستراتيجية تتصل بمصالح وسمعة الإمبراطورية البريطانية الشيء الذي قاد سالسبوري إلى إصدار قرار في يونيو 1898 بالاستيلاء على كل الأراضي الواقعة جنوب مصر في توقيت يمكن أن يُقرأ مع بداية تأسيس الحركة الصهيونية حيث كانت أجزاءاً من جنوب السودان ويوغندا أحد خيارات ثلاثة أُقترح قيام دولة للكيان الصهيونى على ترابها في ما عرف حينها بمشروع يوغندا Uganda project  .
 
التمرد في جنوب السودان
بعد أن رسمَّ الإحتلال البريطاني جغرافية سياسية جديدة للسودان وحد فيها الشمال والجنوب في دولة واحدة ، إنتهج سياسة تعمل على تعزيز الإختلاف بين الشمال والجنوب ، إعتمدت هذه السياسة على مرتكزين أساسيين هما الثقافة والتنمية ، ففي الجانب الثقافي عملت بريطانيا على صناعة هوية للجنوب من خلال المزاوجة بين المسيحية والأفريقانية الزنجية في مقابل الهوية العربية الاسلامية للشمال، بالرغم من أن الاحتلال الانجليزي في بداية عهده سعى إلى عدم دخول المسيحية إلى الجنوب وعبر عن ذلك الحاكم العام الإنجليزي حين قال:(إذا إقتنع الزنجي بتعاليم الدين المسيحي فإنه سيتحول إلى وغدٍ زنيم، وعاطل وسفيه وماكر ،في الوقت الذي يمكن أن نقول فيه أن الزنوج سعداء ،قانعون وشرفاء على ماهم عليه بطبيعتهم ، ولا يعرفون الرزيلة ،وإذا إنتشرت المسيحية في بلادهم فإن قبائلهم ستندثر ) ، كان ذلك رأي الحاكم العام في إعتناق الجنوبيين للمسيحة والذي تغير بعد الضغوط التي مارستها الكنيسة على الحكومة التي استجابت لهذه  الضغوط وسمحت بالتنصير في الجنوب عام 1903 ([16]) ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الكنيسة تمارس نشاطها بالجنوب الذي أضحى مسرحاً للإرساليات الكنسية التي ربطت حياة المواطن بها في تعليم أبنائه وعلاجه وغذائه وكسائه. فأغدقت الكنائس على معتنقي ديانتها في الوقت الذي حرمت فيه المسلمين من التعليم في مدارسها واستبعدتهم من عطائها رغم تفوقهم على المسيحيين في العدد .
إتصلت جهود حكومة الاحتلال والكنيسة على الجانب الثقافي بوصفه أحد أهم ركائز مشروعها ، فجعلت التعليم في الجنوب باللغة الانجليزية على خلاف الوضع بالشمال الذي إعتمد العربية لغةً رئيسةً للتعليم عنده ،وترسيخاً لذلك إعتمدت اللغات المحلية "لهجات" كلغات رسمية للتعليم إلى جانب اللغة الإنجليزية وشرعت في إرسال طلاب الجنوب للتعليم في يوغندا بدلاً عن كلية غوردون التذكارية في الخرطوم ، وتعميقاً لهذا الجهد إستثنى الإحتلال الجنوب من المشاركة في المجلس الاستشاري الذي شكله لمعاونته في الحكم ومضى أكثر من ذلك حين منع هذا المجلس من مناقشة أي أمور تتعلق بالجنوب ([17]) .
 لم تقف هذه الجهود عند هذا الحد بل مضت إلى أبعد من ذلك حين منعت ٍحكومة الإحتلال الجنوبيين من تسمية أبنائهم بالأسماء العربية ، كما حرّمت عليم إرتداء الزى الوطنى للشمال "الجُلباب" بوصفه يحمل دلالة عربية ورمزية إسلامية .
ثم مضت ذات الجهود لإستخدام التنمية كمرتكز وأداة ثانية في تعزيز الإختلاف ،فعملت على إطلاق مشروعات تنمية بالشمال في الوقت الذي كان الجنوب يعيش في حالة من الفقر والتخلف التنموي ، فأقامت عدداً من مشروعات التنمية بالشمال ، وشمل ذلك إمتدادات خطوط السكة حديد من بورتسودان على البحر الأحمر في الشرق حتى مناطق الانتاج الزراعى في الشرق والوسط والشمال حتى سهول كردفان في الغرب ([18]) ، وكان ذلك العمل يحقق للإحتلال هدفين رئيسين الأول هو تعٍزيز الشعور بالإختلاف بين أبناء الجنوب والشمال ،وهدف ثانٍ هو الإستفادة من الإمكانات الإقتصادية التي يذخر بها الشمال سيما في بعدها الزراعي ، ٍحيث تتوفر الأراضي الزراعية الشاسعة الخصبة وتتوافر إلى جانبها المياه المتدفقة عبر الأنهار والأمطار.
زرع كل ذلك البغضاء في نفوس أبناء الجنوب وزاد عليه تنكر الساسة الشماليين لمطالب أهل الجنوب حينها في المشاركة السياسية في مؤسسات الدولة قبل الإستقلال وبعده ، وكذلك عدم استيعاب الجنوبيين في وظائف السلك الادارى خاصة بعد سودنة الوظائف ، حيث حصل الجنوبيين على ستة وظائف فقط من أصل ثمانمائة وظيفة ،وفر كل ذلك بيئة صالحة للتمرد في صفوف بعض الجنوبيين وصنع أسباباً للحرب بين الشمال والجنوب.
كانت شرارة التمرد الأولى بالجنوب تلك التي عرفتها مدينة توريت الواقعة في المنطقة الإستوائية في يوم 18 أغسطس /آب 1955 ، حيث راح ضحيته غالبية الشماليين السودانيين من العاملين في مجالات التعليم والصحة والخدمة العامة وغيرها بفعل تمرد عسكري قاده العسكريون الجنوبيون العاملون بالجيش وقتها ، وأرخت هذه الحادثة لبداية دخول السودان الجديد زمن الأزمات والصراعات المسلحة بين شطريه شمالاً وجنوباً.
عرف الجنوب حركات تمردت على الحكومة المركزية منذ ذلك التاريخ الذي أُرتكبت فيه مجزرة توريت ، فنشأت بعد هذه الحادثة حركة أسمت نفسها حركة أنانيا   Inyenya  وتعني بالغة المحلية سُمّ الأفعى([19])، تزعم هذه الحركة اللواء جوزيف لاقو وسبقه إلى فكرة التأسيس كل من جوزيف أدومو ، قوردون مورتات،وأقري جادين،وقد إستقرت له القيادة بفضل التدريب والدعم الذي تلقاه من"إسرائيل"([20])
أصبح جوزيق لاقو نائباً لرئيس الجمهورية بعدما أبرمت معه حكومة الرئيس جعفر نميري إتفاقية سلام بأديس أبابا في الثاني من مارس /آذار 1972 التي أحدثت حالة من الهدوء والاستقرار في كافة أرجاء السودان شماله وجنوبه إستمرت عشر سنوات بدأت خلالها مخاطبة جذور قضية الجنوب من زوايا المشاركة السياسية والتنمية وغيرها من الزوايا ، وإستمر الحال كذلك حتى مايو /آيار 1983 حين بدأت حكومة الرئيس جعفر نميري في التخلى عن بعض بنود اتفاقية أديس أبابا .
في ذلك التاريخ من عام 1983 ولدت من جديد حركة تمرد جديدة  بقيادة العقيد كاربينو كوانيين والعقيد جون قرنق الذي سرعان ما تولى زعامة الحركة بسبب شخصيته الكارزمية وثقافتة وتعليمه و علاقاته الخارجية.
ولد العقيد جون قرنق في مدينة بور بجنوب السودان عام 1943 وتدرج في الجيش السوداني حتى وصل رتبة العقيد ، درس في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصوله على منحة دراسية بناءاً على توصية سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في كل من كينيا ،أوغندا وزائير ، وحصل من جامعة ايفا بالولايات المتحدة الأمريكية على درجة الماجستير، ثم تلقى دورات عسكرية في المعاهد العسكرية الأمريكية ، بعدها حصل على دورة عسكرية في كلية الأمن القومي في " إسرائيل" ، ثم عاد مرة أخرى إلى أمريكا ليحصل من جامعة ايفا على درجة الدكتوراة في الاقتصاد الزراعي ، ومنها عاد ليعمل رئيساً لمركز الأبحاث السياسية بالجيش السوداني ومحاضراً في جامعة الخرطوم ([21]) .
عَرِفَ شخصية العقيد جون قرنق من تعامل معه من الخبراء الاسرائيليين " رئيس الموساد السابق أدموني ، وديفيد كامحى،ألياهو بن إيليسار، و أوري لوبراني " ولخصوها في مايلي ([22])  :
•        ذو شخصية قوية،يمسك بالهدف،مستعد للقتال من أجله ،مخلص لقومه من سكان الجنوب،حريص على تحقيق أهدافهم وفي مقدمتها حق تقرير المصير،صلب في مواجهة الحكومة المركزية في الخرطوم على مر العهود إبتداءاً من النميري وحتى البشير .
•        ضابط ذو كفاءة وخبرة في شتى المجلات السياسية والعسكرية والتقنية والادارية .
•        متعدد الثقافات من خلال دراساته المتنوعة في العسكرية والزراعة والاقتصاد .
بدأت هذه الحركة التي أسمت نفسها بالحركة الشعبية " لتحرير السودان" في قتال مرير مع الحكومات المتعددة التي حكمت السودان في الفترة الممتدة من عام 1983 وحتى عام 2005 حينما أبرمت إتفاقية سلام مع الحكومة السودانية ، تلقت طوال هذه الفترة الدعم العسكرى والمادي من "إسرائيل" ، وقد روى العميد موشي فرجي في كتابه "إسرائيل" وحركة تحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق الكثير من صنوف الدعم الذي قدمته "إسرائيل" لحركات التمرد .
"إسرائيل" و جنوب السودان
ظلت " إسرائيل شديدة الإهتمام بجنوب السودان وحركات التمرد فيه حيث حظيت برعاية ودعم إسرائيلي كبيرين منذ بداية تشكُلها، ويجىء الإهتمام الإسرائيلي بهذه الحركات في إطار إهتمامها بالسودان وأقلياته ، وقد رأى القادة العسكريون والأمنيون الإسرائيليون أن السودان يشكل خطراً على دولتهم في المستقبل بإعتباره عمقاً إستراتيجياً لمصر ، ورأوا ضروة الإهتمام به بذات القدر الذي يُهتم فيه بالعراق لتماثُل المعطيات بين السودان والعراق سيما في جانب التركيبة الديموغرافية ([23]) .
وفي إطار سعي "إسرائيل" إلى الاحاطة بمجريات الأمور بالسودان ، وسعياً نحو بلوغ غاياتها ومراميها إتجهت في عقد الخمسينات نحو أفريقيا ودولها المجاورة للسودان لتنفذ من خلالها إلى جنوبه، فأقامت علاقات دبلوماسية مع اثيوبيا ثم يوغندا وكينيا والكنغو برازافيل ، وقد عُززت هذه العلاقات الدبلوماسية بعلاقات إقتصادية وأمنية وعسكرية لتجد لها موطىء قدم في جنوب السودان ([24]) .
جاء الإهتمام الإسرائيلى بأفريقيا من خلفيتين هامتين أُولاهما تتصل بتوجهات ثيودور هرتزل التي حملها كتابه "وطن قومي" والذي وعد فيه بالعمل من أجل ما أسماه بإنقاذ أبناء أفريقيا بعد أن يحقق خلاص اليهود ([25]) ،وثانيها من نظرية حلف المحيط التي جاءت في المذكرة التي بعث بها ديفيد بن غوريون رئيس وزراء "إسرائيل" إلى الرئيس الأمريكى أيزنهاور عام 1958 ، طارحاً فيها مقترح إنشاء وتشكيل حلف المحيط الذي تنضم إليه أثيوبيا إلى جانب تركيا وايران بوصفها دولاً مناهضة للعرب وموالية للغرب فضلاً عن علاقاتها التاريخية والأواصر التي تربطها بالشعب اليهودى منذ القدم ([26]) .
من هنا يتضح أن الدوائر الإسرائيلية بدأت منذ وقت مبكر الإهتمام بالدول الأفريقية المحيطة بالسودان إهتماماً لم يكن في يوم من الأيام بمعزل عن الخطط الصهيونية الموجهة ضد الأقطار العربية([27])، التي تعكس عزم "إسرائيل" على إستثمار علاقاتها الأفريقية لتوفير مقومات إستراتيجيتها تجاه السودان لإضعافه وإضعاف الأقطار العربية وتهديد وحدتها ([28]) .
لم يتوقف الإهتمام الإسرائيلي بالسودان من خلال علاقات "إسرائيل" بدول الجوار الأفريقي وحركات التمرد في جنوبه ، بل ظل متصلاً حتى بعد مضى خمسين عاماً على تلك البدايات ، ولعل وزير الأمن الإسرائيلى السابق آفي دختر كان دقيقاً في تعبيره عن إتصال العمل بإستراتيجية حكومات كيانه منذ التأسيس حين قال في محاضرة ألقاها بمعهد الأمن القومي الإسرائيلى في عام 2008 إن أسباب إهتمام    " إسرائيل " بالسودان تتصل بما يلي([29]): 
•        حين بلورت  "إسرائيل" محددات سياستها وإستراتيجيتها  حيال العالم العربي انطلقت من عملية استجلاء واستشراف للمستقبل، وأن أبعاد هذا الاستشراف والتقييمات تتجاوز المدى الحالى أو المنظور.
•        السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول عربية رئيسة مثل مصر والعراق والسعودية .
•        لكن السودان لم يصبح ذا دور كبير نتيجة لأزمات داخلية بنيويه و صراعات وحروب أهلية في الجنوب استغرقت ثلاثة عقود ، ثم الصراع الحإلى في دارفور ناهيك عن الصراعات حتى داخل المركز في الخرطوم والتي تحولت إلى أزمات مزمنة .
•        هذه الأزمات فوتت الفرصة على تحوله إلى قوة إقليمية مؤثرة تؤثر في البنية الأفريقية والعربية .
•        التقديرات الإسرائيلية حتى مع بداية استقلال السودان في منتصف عقد الخمسينات تقضي بعدم  السماح لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي لأن موارده إذا استُثمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب .
•        وفي ضوء هذه التقديرات  كان على "إسرائيل" و الجهات ذات العلاقة و الاختصاص أن تتجه إلى هذه الساحة وتعمل على مُفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلة يصعب معالجتها فيما بعد .
•        طالما أنَّ السودان يشكل عمقاً استراتيجياً  لمصر ، تجسد هذا المعطى في حرب الأيام الستة عام1967عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية هو وليبيا ، ويتعين أيضا أن نذكر بأن السودان أرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الإستنزاف التي شنتها مصر منذ عام 1968 ـ 1970 .
•        لكل ذلك كان لابد أن تعمل "إسرائيل" على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه منعاً  لبناء دولة قوية موحدة تعترف بالتعددية الإثتية والطائفية، لأن هذا من المنظور الاستراتيجى الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي .
إنَّ جهود "إسرائيل" ظلت متصلة دعماً لحركات التمرد بالجنوب منذ حركة انانيا التي أكد قائدها الفريق جوزيف لاقو دعمها لحركته بوصفها أول حركة تمرد جنوبية ، وأعتبر هذا الدعم هو ما جعل حركته تسير بثبات في طريق وحدتها وتماسكها الداخلي ،وجعل لها مصدر إمداد مستقر ومتواصل يمدها  بالأسلحة والمؤن مما مكنه من قيادة هذه الحركة دون منازع([30]) ، حيث أشار في مذكراته إلى أنَّه إستغلَّ  مشاركة لواء مسلح من الجيش السوداني في حرب 1967 ضمن القوات المصرية بأنه كان المدخل الذي عمق علاقته بإسرائيل ويسرت له أول زيارة لها لترتيب تسليمه مساعدات عسكرية ([31])  ولتلقي تدريب عسكري وسياسي وأشار إلى أنه أثناء تلقيه هذا التدريب أبدى له مدربوه ملاحظات حول الأداء الجيد  للمتطوعين السودانيين الشماليين في حرب 1948 ([32]).
إتفـاقية السلام الشامل ( نيفـاشـا )
شهدت ضاحية نيفاشا الكينية توقيع إتفاقية سلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية "لتحريرالسودان" وذلك في التاسع من يناير / كانون الثان/2005 بعد ضغوط دولية ([33]) ، وقد صنعت هذه الاتفاقية واقعاً دستورياً وسياسياً جديداً بالسودان .
قاربت هذه الاتفاقية قضية الجنوب بطريقة مختلفة على ما كانت عليه الاتفاقيات السابقة الموقعة بين الحكومات السودانية وحركات التمرد ، ووضعت منظاراً مختلفاً أيضاً يُنظر به لهذه القضية ، حيث ربطتها بالسودان جميعه شماله وجنوبه ، ومن ثَمَّ هدفت إلى إحداث هيكلة سياسية وثقافية جديدة ، مستفيدةً من الواقع السياسى الذي كان يعيشه السودان في ذلك الوقت والذي إتسم بالهشاشة السياسية وإحتدام حدة الصراع بين الحكومة والمعارضة الشمالية من جهة ، ومن جهة ثانية حالة الانقسامات التي عرفتها الأحزاب السياسية الرئيسة وقتئذٍ ، بما في ذلك الانقسام الشنيع الذي أصاب الحزب الحاكم وتداعياته السالبة الكبيرة على صعيد القوة المعنوية والسياسية للحزب والحكومة والبلاد.
لم يكن الواقع السياسى الداخلى بالسودان فقط هو ما وفر الفرصة وخلق المناخ لمخاض إتفاقية نيفاشا ، إنما توفرت عوامل أخرى أسهمت في مخاض هذه الاتفاقية ، ومن بين هذه العوامل الحصار الغربي الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على السودان والعقوبات السياسية والاقتصادية التي فرضتها عليه بصورة مباشرة أو عبر الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى ، ثم تطويقها للحكومة السودانية من خلال دول الجوار ، فضلاً عن الموقف العربي من السودان عامة وقضية الجنوب بشكل خاص الذي إتسم بقدر عالٍ من السلبية في محصلته النهائية  .
شهدت فترة الصراع العسكري والسياسي بين الحركة الشعبية "لتحرير السودان" بزعامة العقيد جون قرنق (1983 ـ2005) والحكومات التي تعاقبت على حكم السودان خلال تلك الفترة مواقف عربية مختلفة في التعاطى مع قضية جنوب السودان وحركات الجنوب التي تحمل السلاح ، حيث إنقسمت الدول العربية في مواقفها من هذه القضية إلى ثلاثة مجموعات .
أولى هذه المجموعات مجموعة الدعم الايجابي ، وتشكلت هذه المجموعة من العراق وسوريا  حيث تميزت بموقف داعم للحكومة السودانية في مواجهة التمرد الجنوبي المسلح برغم الإختلافات الفكرية بين الحكومات المختلفة التي حكمت السودان خلال فترة الحرب وبين أنظمة الحكم في هذين البلدين مما يُشيرإلى وعى الحكومتين العراقية والسورية بطبيعة الصراع السوداني السوداني وأبعاده الثقافية والسياسية وتأثيراته على الأمن القومي العربي .
وتسجل الذاكرة الوطنية السودانية بتقدير كبير الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته العراق للحكومات السودانية في الفترة من عام 1987 وحتى عام 2003 ، والذي تجلى في تعزيز القدرات العسكرية لحكومة السودان و مكنَّها من إسترداد وتحرير بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة التمرد سيما في منطقة النيل الأزرق .
 وتسجل ذات الذاكرة وبذات التقدير لسوريا دعمها المتنوع والذي تطور حجمه وتنوع مع مجىء حكومة الانقاذ الوطني في يونيو 1989 حينما وجه الرئيس حافظ الأسد بفتح كل الأبواب السورية أمام الحكومة السودانية وتلبية جميع إحتياجاتها ،وإستمرت هذه الأبواب مشرعة في عهد إبنه الرئيس بشار الأمر الذي يُشير إلى نظرة عميقة للنُظُم القومية في العراق وسوريا من قضية كقضية جنوب السودان.
أما المجموعة الثانية فهى مجموعة الدعم السلبى حيث سجل التاريخ وقوف بعض الحكومات العربية إلى جانب حركة التمرد وسجل كذلك ما حُظيت به هذه الحركة من دعم عسكري ومالي وسياسي، وكانت حكومتى العقيد معمر القذافي في ليبيا واللواء حسنى مبارك في مصر رائدتا هذه المجموعة التي تماهت مواقفهما مع الموقف الأمريكى من السودان بشكل عام وحركة التمرد بشكل خاص ، ويذكر هنا أيضاً دور حكومة اليمن الجنوبي الذي أكمل مثلث الدعم والرعاية العربية لحركة التمرد بقيادة العقيد جون قرنق.
تشكلت المجموعة الثالثة من بعض بقية الدول العربية ولم تكن لها مواقف ايجابية تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار بالسودان ، كما أنها لم تسهم في دعم حركة التمرد وظلت أسيرة منطقة ثالثة تتحرك في مدى محدود لايترك مده وجزره كبير أثر على خارطة السودان السياسة والاقتصادية والعسكرية .
في هذا المناخ الوطنى والاقليمى والدولى ولدت إتفاقية نيفاشا ، وهو مناخ يشبه إلى حد كبير المناخ الذي ولدت فيه شقيقتها إتفاقية أوسلو ، فزادت من حالة الإرباك السياسى وأعادت خلط الأوراق السياسية من جديد وجعلت السودانيين بين مؤيد لها ومعارض .
تكونت إتفاقية نيفاشا من ستة بروتوكلات وملحقين عُنيا بوقف إطلاق النار ووسائل تنفيذ الاتفاقية والجدول الزمنى للتنفيذ ، فيما عُنيت بروتكولاتها الست بقضايا السياسة وقسمة السلطة ، والاقتصاد وقسمة الثروة ، والترتيبات الأمنية ،بالإضافة إلى قضايا المناطق الثلاث :أبيي ، جنوب كردفان ، والنيل الأزرق.
اتفـاقية نيفـاشا و حق تقرير المصير
نصت إتفاقية نيفاشا على حق جنوب السودان في تقرير مصيره عن طريق إستفتاء يحدد وضعه المستقبلى([34])، وقد أكدت بذلك على ماجاء به الموقف الموحد لأحزاب المعارضة الذي شكلَّ أحد أهمَّ مُخرجات مؤتمر القضايا المصيرية الذي عقدته في العاصمة الأرترية أسمرا في يونيو 1995 ([35]) ، وقد عزز دستور السودان الانتقالي لعام 2005 حق الجنوب في تقرير مصيره ،و قد ضرب ميقاتاً للإستفتاء يسبق نهاية الفترة الانتقالية بستة أشهر ، كما حدد الستور آلية لإجراءه وفق أحكام المواد 219 و220 ، و 222 *.
وبهذا أصبح تقرير المصير أمراً لا مناص منه ، إذ أجمعت عليه الأحزاب السودانية كافة ،الحاكم منها والمعارض ، كما أصبح محل إتفاق بين الأحزاب الشمالية والجنوبية التي توافقت هى كذلك عليه منذ أكتوبر / تشرين من عام 1993([36])   .
إتفـاقية نيفـاشا و قسمة السلطة  
أعاد بروتكول قسمة السلطة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية "لتحرير السودان" هيكلة السلطة في السودان عبر إعتماد طريقة جديدة في الحكم تقوم على نظامين أحدهما كونفدرالي ينظم العلاقة بين الشمال والجنوب ، ونظام فدرالي يحكم الشمال عبر ولايات بلغ عددها خمسة عشر ولاية .
نصَّ برتكول قسمة السلطة أيضاً على أربعة مستويات يقوم عليها نظام الحكم الجديد بالسودان  هى المستوى الاتحادى ، ثم مستوى حكومة جنوب السودان ، ثم المستويين الولائي والمحلي ، وجعل لكل مستوى سلطات أصيلة يُمارس الحكم من خلالها ، فجعل سلطات رئاسة الجمهورية في كافة الأمور والقضايا الأساسية مقيدة بموافقة الجنوب ومن الأمثلة على ذلك سلطات رئيس الجمهورية في تعيين وإعفاء شاغلى الوظائف الدستورية من الوزراء وكبار المسؤلين ، إعلان حالة الطوارىء ، إعلان حالة الحرب ، ودعوة الهيئة التشريعية للإنعقاد وإنهاء دورتها.
كما نصَّ بروتكول قسمة السلطة كذلك على أن تُشكِل الحركة الشعبية حكومة جنوب السودان من خلال أغلبية ساحقة لها في مجلس الوزراء وبرلمان الجنوب ، وأن تُمثل بنسبة الثلث في الحكومة الإتحادية وبذات النسبة في البرلمان الإتحادي المُعين ، فضلاً عن مشاركتها في الأجهزة التنفيذية والتشريعية لحكومات الولايات الشمالية الخمسة عشر بنسبة لا تقل عن عشرة بالمئة .
لقد عرفت الفترة الإنتقالية التي إستمرت لفترة ستة سنوات دولةً كاملة السيادة بجنوب السودان بكامل عناصر هذه الدولة التي عرفتها النظم السياسية والدستورية فمهدت بذلك للإنفصال وإقامة دولة الجنوب .
الجنـوب الجـديد
بدأت فكرة الجنوب الجديد في التبلور في منظومة فكر الإحتلال البريطاني الحاكم للسودان منذ مراحل باكرة من تاريخ هذا الحكم ، وقد جاءت ضمن فكرة الجنوب الكبير الذي رسمت خارطته الجيوسياسية إعتبارات سياسية وثقافية ترتكز على البعد الإثني ، حيث تحددت معالم هذه الفكرة من خلال قانون المناطق المقفولة الذي أصدره الإحتلال البريطاني عام 1923 ومنع بموجبه التواصل بين الشمال وهذه المناطق التي تحددت في مديريات : جنوب السودان، كُردفان ،النيل الأزرق ،ودارفور ([37]) . والناظر لهذه الخارطة التي شُكِلَّ منها هذا الجنوب لا تخطئ عينه الإعتبار الإثني الذي تشكل منه هذا المشروع ، ذلك لأن الغالبية العظمى من أهل هذه المناطق من غير العرب وأنّ الجغرافيا التي يقوم عليها هي جغرافيا التماس والتواصل بين العروبة والأفريقانية في قلب القارة السمراء .
بموجب هذا القانون منعت حكومة الإحتلال الشماليين من دخول هذه المناطق إلا بإجراءات هجرية ، ثمَّ منعتهم من إتيان كل ما من شأنه أن يرمز للهوية العربية أو يقاربها مما عزز الهوة بين الشمال والجنوب مثلما رسخها بين الشمال وأطراف السودان الممتدة من دارفور غرباً وحتى النيل الأزرق في الجنوب الشرقي ، ثمّ مهدت بروتوكلات المناطق الثلاثة الملحقة بإتفاقية نيفاشا بمضامينها المختلفة لولادة مشروع الجنوب الجديد وإخراجه لحيز الوجود .
ولقد أسهمت طريقة تعاطي الحكومة السودانية مع مطالب الحركة الشعبية المتصلة بهذه المناطق ثم تعاطيها المباشر مع قضايا وشواغل هذه المناطق في تحقيق دفعة هامة في إتجاه التعجيل ببروز هذا المشروع والمساهمة في إستكمال بلورته في بعده الفعلي على الأرض خاصة بعد أن مكنت الحكومة شريكتها الحركة الشعبية من تعزيز وجودها في كامل جغرافيا هذه المناطق ووضعت تحت يدها كامل السلطان عليها وحققت من خلال هذه البروتوكولات ما لم تستطع تحقيقه بالحرب .
لم يكن إختيار المناطق الثلاث لتكون جزءاً من إتفاقية نيفاشا أمراً عارضاً ولا إختياراً دون دراسة أومعرفة ،إنما نتج عن إدراك كبير لأهميتها في الإستراتيجية المرسومة للسودان كونها تشكل جزءاً أصيلاً من التاريخ والجغرافيا والنسيج الثقافي والاجتماعي للسودان الشمإلى .
لقد عملت الحركة الشعبية من خلال وجودها السياسى في أعلى مؤسسات الحكم في هذه المناطق على تعظيم كسبها وقدراتها السياسية ، فإبتدرت خطاباً سياسياً قائماً على إعلاء رايات ما إعتبرته مظلوميات سياسية وتنموية تعيشها هذه المناطق وسكانها ، وحرصت على بناء نسيج سياسى يُعلى من هذه الرايات ويُبرز الحركة بوصفها الكيان السياسي الذي يتبنى دون غيره قضايا التهميش السياسي والثقافي والإقتصادي ، فاستدعت مصطلح الهامش الذي جاء في إعلانها التأسيسى الصادر في 31 يوليو تموز 1983([38]) وأطلقته على تلك المناطق، كما أطلقت مصطلح المهمشين على سكانها.
والحركة وحلفاؤها من الغرب إذ يرسمون مشروع الجنوب الجديد للسودان الشمإلى لم يجعلوا من الجغرافيا مرتكزاً وحيداً لهذا المشروع ، إنما عملوا على إقامته وبنائه على مرتكزات سياسية وآخرى جهوية عنصرية ، ولعل ربط هذه المناطق الثلاثة بمنطقة دارفور وأزماتها خير تجلى لذلك .
 
الجنوب الجديد جدلية الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا
 
أولاً : منطقة أبيي
وهى منطقة غنية بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى ، تسكنها القبائل العربية منذ ما قبل دخول قبيلة الدينكا لمنطقة جنوب السودان قادمة من وسط أفريقيا ، وظلت عبر ذلك التاريخ أرضاًً للقبائل العربية ومسرحاً لرعي أنعامهم .
تقع هذه المنطقة في الجزء الجنوبي الغربي من ولاية كُردُفان وبحكم وقوعها في منطقة تماس بين شمال السودان وجنوبه حدث تداخل بين السكان من المنطقتين ، واستضافت القبائل العربية بعض مشائخ الدينكا ذوي الأصول الأفريقية بأرضها عام 1905 ، لكن نزاعاً نشأ من قِبل الحركة الشعبية بسبب رغبتها في إلحاق هذه المنطقة بجنوب السودان.
أُضيف هذا النزاع على هذه المنطقة ضمن أجندة مباحثات نيفاشا وقبل طرفا المباحثات بالمقترح الذي تقدم به المبعوث الأمريكى السناتور جون دانفورث وحوى بنوداً عديدة نورد منها ما يلى ([39]) :
ـ تُعرّف منطقة أبيي على أنها منطقة مشيخات دينكا نقوك التسعة التي حولت* إلى كردفان عام 1905
ـ تحتفظ قبائل المسيرية وغيرها من القبائل البدوية المترحلة بحقوقهم التقليدية ممثلة في رعي ماشيتهم  والتحرك عبر منطقة أبيي .
ـ يجرى تشاور شعبى بالمنطقة حول إدماجها ضمن جغرافية جنوب السودان لتصبح تابعة للجنوب إدرياً وسياسياً أو لتصبح ضمن حدود الشمال.
وبهذه المبادرة عُِرفت أبيي بأنها منطقة لقبائل دينكا نقوك الجنوبية ، لتفقد بذلك قبيلة المسيرية العربية صاحبت الأرض الحقيقة حقوقها التاريخية وتتحول إلى مجرد مجموعة بشرية وهِبَت حق التنقل بغرض الرعي ، حدث ذلك قبل إجراء التشاور الشعبى الذي يُمكن أن يُفضى إلى تأكيد تبعية المنطقة إلى الشمال، أو يُفضي إلى تحويل تبعيتها إلى الجنوب ، وحينها ستفقد قبائل المسيرية كل شىء وتصبح أقلية أسيرة في محيط مُغاير الأمر الذي ترفضه هذه القبائل لأن ذاكرتها لم تنسى وضعاً مشابهاً حدث في فلسطين التي أراد الصهاينة تهويدها و عملوا على جعل سكانها الحقيقيين ضيوفاً غير مرحب بهم على ترابها.
عاشت هذه المنطقة أزمة حقيقة بسبب اختلاف شريكى الحكم حول تنقيذ ما اتفقا عليه في نيفاشا، ولأسباب آخري سبقت انفصال الجنوب وبقيت بعده وهى :ـ
•        الحشود العسكرية لحكومة الجنوب بالمنطقة والتي كانت سبباً لصراع عسكرى بينها  والحكومة الاتحادية أحياناً وبينها والمسيرية أحياناً أخرى.
•        تعيين الحركة الشعبية مشرف سياسي من قبيلة الدينكا الأفريقية مسئولاً عن المنطقة.
•        حشد أعداد من منسوبى قبيلة الدينكا من مناطق مختلفة وإرسالهم للمنطقة استعداداً لعملية التشاور الشعبى الذي تعمل الحركة ليُفضى إلى ضم المنطقة إلى الجنوب .
أُدخلت منطقة أبيي في متاهات كبيرة بفعل نصوص اتفاقية نيفاشا ومطامع الولايات المتحدة الأمريكية في نفطها وهي مرشحة لأن تكون في أبعادها وتفاعلاتها المختلفة أصعب من مشكلة كشمير وكركوك وحقل الرميلة النفطي بين العراق والكويت .
وسعياً لإيجاد مخرج من هذه المعضلة اتفقت الحكومة السودانية والحركة الشعبية على اللجوء للتحكيم الدولى عبر الغرفة المختصة بالتحكيم التابعة لمحكمة العدل الدولية التي أصدرت حكمها عام 2009 وقضى بتقسيم المنطقة بين الطرفين بطريقة لم ترضي أهل الأرض الحقيقيين من المسيرية ولم تحصد كامل رضاء الطرف الثاني ، حتى تطورت الأوضاع فيها بشكل دراماتيكى إنعكس سلباً على استقرارها ، فجاء قرار مجلس الأمن الدولي منتصف 2011 الذي قضى بإرسل 4200 جندى أممي من أصل أثيوبي إلى هذه المنطقة وفقاً لبنود الفصل السابع من ميثاق المنظمة الأممية لحفظ الأمن ، وجد هذا القرار ترحيباً حاراً من الحكومة السودانية الذي عدته ضمن قائمة إنجازاتها السياسية في الوقت الذي قوبل فيه بالرفض من المسيرية .
وبرغم دخول هذه القوات إلا أن حالة التوتر ماتزال قائمة ونذر الحرب ما تزال قائمة .
ثانياً :منطقة جبال النوبة
تقع منطقة جبال النوبة في الجزء الجنوبي من ولاية كُردُفان الكبرى ، تسكنها قبائل افريقية وعربية ويدين معظم سكانها بالاسلام ، تذخر هذه المنطقة بموارد طبيعية وثروات كبيرة أبرزها اليورانيوم ، وهي بذات القدر من الثراء المعنوى والروحي والتاريخي، حيث تتعد فيها الثقافات وتأتلف فيها القبائل و يسجل لها التاريخ السوداني بفخر كبير نشوء مملكة تَقَـلي الاسلامية على أراضيها .
 تتمتع هذه المنطقة بموقع جيوسياسي هام بحكم تمددها في مناطق تماس بين الشمال والجنوب مما يجعلها مؤهلة بإمتياز للإضطلاع بدور إستراتيجي كبير يخدم الأمن الوطني السوداني ويتصل بذات المستوى للأمن القومي العربي ، سيما وأن سكان هذه المنطقة يُعَدون الأقدر على لعب دور التواصل الثقافي والحضارى بين العرب وأفريقيا بحكم هويتهم الثقافية القائمة على ثانئية الأفريقية والإسلام .
كانت هذه المنطقة عصية على التمرد الذي قادته الحركة الشعبية طوال إثنين وعشرين عاماً ، غيرأنها ظلت هدفاً لها قبل وبعد اتفاقية نيفاشا التي منحتها فرصة الإحتفاظ بحكم كامل المناطق التي إحتلتها قبل الإتفاقية والمشاركة في حكم ما تبقى من أراضيها مناصفةً مع المؤتمر الوطني كما هو الحال بمنطقة النيل الأزرق ، في الوقت الذي أغلقت فيه نصف المنطقة أمام الحكومة المركزية وحكومة الولاية وجعلتها حكراً عليها، فصار الوصول إليها ممنوعاً على غير منسوبي الحركة الشعبية ، وخلق ذلك بها حالة من الاستقطاب الحاد ، الشىء الذي إنعكس سلباً على التماسك الاجتماعي .
دخلت هذه المنطقة حالة الحرب بعد إعلان إنفصال الجنوب وبُعيد إعلان نتيجة الانتخابات التي جرت بها والتي فاز فيها مرشح المؤتمر الوطنى على مرشح الحركة الشعبية لموقع الوالي بفارق ضئيل من الأصوات ، وتقاسم الطرفان المقاعد النيابية على مستوى الولاية والمستوى الاتحادي ، مما جعلها تعيش حالة قاسية من الفرز السياسى والاجتماعى ، وجعل أمر إجراء تسوية سياسية بين طرفي الأزمة أمراً بعيد المنال، مما فتح الباب واسعاً أمام التدخلات الأجنبية التي بدأ سعيها حثيثاً لخلق أزمة مثل أزمة دارفور بها ، مستفيدة من حالة الاستقطاب الحاد ونزوح بعض المواطنيين الذين تأثروا بالحرب فأصبحت ورقة جديدة في يد القوى الدولية التي صنعت بمشاركة سودانية كل أزمات السودان .
ماتزال هذه المنطقة تعيش حالة من عدم الطمأنينة بسبب سياسة الحكومة وبسبب إحتلال قوات الحركة لأجزاء واسعة منها ولإستمرارها في تشكيل تهديد عسكري وأمني لم تُضع أوزاره بعد .
ثالثاً : منطقة النيل الأزرق
منطقة النيل الأزرق من المناطق التي تتمتع بموقع إستراتيجى يتصل بعصب الأمن الوطنى السوداني والمصري لوقوعها في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان الشمالي على الحدود مع أثيوبيا ودولة الجنوب.
 يَعبُرُ أراضيها النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بنحو 85% من ايراداته من المياه ، بُنىّ بها أهم سد لتوليد الطاقة الكهربائية بالسودان ،كما تتمتع بثروات طبيعية كبيرة من الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة فضلاً عن الذهب والكروم والحديد والرخام وغيرها من الثروات .
 وهى إذ تذخر بكل ذلك فإنها تذخر كذلك بتاريخ طويل من التمازج العربي الافريقي الذي أنتج السلطنة الزرقاء (1504 ـ 1821م ) التي تُعد واحدة من أهم الممالك الاسلامية التي عرفها السودان من خلال شراكة أموية أفريقية ، حيث شكلت هذه المنطقة عبر التأريخ رافداً هاماً من الروافد الثقافية والفكرية التي نهل منها السودان القديم المتجدد بثقافته العربية الاسلامية .
فازت الحركة الشعبية بمنصب الوالي فيها في الانتخابات التي جرت في أبريل نيسان من العام 2010 ، وعاشت حالة من الاحتقان السياسى طوال العام الذي تلى الانتخابات ،وتزايدات هذه الحالة بعد إعلان انفصال الجنوب في يوليو / تموز 2011 ، وزاد من حدة الاحتقان والارتباك السياسي بها الحرب التي جرت في منطقة جبال النوبة في ذات الشهر الذي شهد إعلان قيام دولة الجنوب ، وتفجرت الاوضاع بها بعد تمرد الوالي والجيش الشعبي الذي يتبع للحركة الشعبية في مطلع شهر سبتمبر /أيلول/2011 ، مما دفع رئيس الجمهورية إلى إعلان حالة الطوارىء بالمنطقة وعزل الوالي المنتخب وتعيين حاكم عسكري بديلاً عنه.
 وبالرغم من الجهود الهادفة إلى بسط الأمن بهذه المنطقة إلا أنّ وجود قوات الحركة الشعبية ببعض مدنها وقراها يشكل تهديداً كبيراً للأمن الوطني في أبعاده العسكرية والأمنية والاقتصادية ، سيما وأن عدد قوات الحركة بهذه المنطقة يتجاوز العشرين ألفاً وعلى تواصل دائم مع جنوب السودان الذي يشكل حاضنة وعمقاً استراتيجياً له كما يفعل مع قوات الحركة بجنوب كردفان كذلك والتي يصل عددها إلى ذات الرقم الذي تبلغه في النيل الأزرق،وتشير الأنباء إلى أنّ حكومة جنوب السودان ترعى هذه القوات وتقود معاركها ([40]) .
دارفــور
         تقع في أقاصى غرب السودان على حدوده مع مصر، ليبيا، شاد وأفريقيا الوسطى، وهى منطقة غنية بمواردها الطبيعية التي تذخر بها أرضها التي تعادل مساحتها مساحة العراق ، وهي غنية كذلك بسكانها الذين يعتنقون جميعهم الاسلام ويتحدثون جميعهم اللغة العربية (65% من سكانها عرب)، لكنها أغنى كذلك بتاريخها الذي شهد قيام سلطنات إسلامية عديدة كانت سلطنة الفور أشهرها حيث امتد تأريخها حتى عام 1917 ، أدخلها الاحتلال الانجليزي ضمن المناطق المقفولة عام  1933([41])  وأحكم عليها العزلة.
        فدارفور بمواردها وموقعها المفصلي بين أفريقيا جنوب الصحراء وشمالها أُدخلت بتدبير وتخطيط استعماري صهيوني منذ عشر سنوات في متاهات الإحتراب والفتنه الأهلية التي أفرزت أوضاعاً إنسانية صعبة وواقعاً اجتماعيا أصعب ، بل أفرزت واقعاً سياسياً جديداً إختلت فيه الموازين والموازنات التي عرفها الإقليم منذ أزمان طويلة ، فما عادت الخارطة في دارفور في شكلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي كما كانت عليه في السابق ، وتشير العديد من المؤشرات إلى أن أمد هذه الأوضاع يمكن أن يطول إذا لم تتداركه إرادة وطنية موحدة وقادرة خاصة في ظل الوجود الأجنبي الكبير الذي أستقر فيها بموجب القرار1769  والضغوط الدولية والإقليمية الرامية إلى إدخالها في نفق " الفوضى الخلاقة ". ولاستخدامها كمخلب قط يدفع باتجاه إضعاف السودان الشمإلي توطئة لتنفيذ الأجندة الأجنبية ،ومن الشواهد على ذلك رعاية أمريكا لجهود الحركة الشعبية والحركة الشعبية قطاع دارفور بقيادة مني أركو مناوي بواشنطن في حزيران يونيو 2006 ، وإفتتاح مكتب لفرع الحركة الثاني بقيادة عبد الواحد محمد نور بتل أبيب ، وفتح أبواب هجرة أبناء دارفور لإسارئيل ومنحهم حق اللجوء السياسي بها فضلاً عن الدعم اللوجستي والسياسي والاعلامي الكبير .
جاء تصميم هذا الجنوب الجديد من هذه المناطق بكل مقوماتها التاريخية والجغرافية التي بمقدورها تعزيز التواصل العربي الأفريقي وبلورة التلاقح الحضاري بين العرب والأفارقة ، كما جاء كذلك من خلال إدراك كبير لدور هذه المناطق بمقوماتها ومقدراتها الاقتصادية التي يمكن أن تُسهم في تقوية عصب الأمن الوطني السوداني بإنعكاساته الهامة على الأمن القومي العربي .
 
تداعيات قيام دولة الجنوب على الأمنين السوداني والعربي
 
شكل الجنوب عمقاً إستراتيجياً للسودان والوطن العربي في أفريقيا جنوب الصحراء ، ومنح السودان فرصة التفرد بدور إقليمي كبير خاصة في أبعاد حضارية وسياسية وإقتصادية ، سيما في سبيل تحقيق التلاقي العربي الأفريقي بكل ما يحمل في طياته من خير متبادل بين العرب وأفريقيا ، وميزه عن كل الدول العربية الواقعة في أفريقيا بخاصية القدرة على القيام بهذا الدور الشىء الذي عظم من جهده المنتظر في تحقيق الأمن القومي العربي ومن الإضطلاع بدور إقليمي كبير .
إنَّ الناظر لموقع السودان الجيوإستراتيجي ، والقارىء لتاريخه التليد لن تخطىء عيناه ذلك العمق الإستراتيجي الذي أتاحه للأمن القومي العربي جنوباً في قلب أفريقيا ، والسودان بكل ذلك شكل مرتكزاً لاغنىً للعرب عنه في تعزيز أمنهم القومي في أبعاده المختلفة ، وبشكل خاص الأمن الإقتصادي ببعديه المائي والغذائي، وهو كذلك ضامن لتواصلهم مع أفريقيا جنوب الصحراء ، وشريكهم في جعل البحر الاحمر بحيرة عربية وشرياناً يصل العرب بشعوب العالم ، وناقلاً أكبراً لتجارتهم وبترولهم ، وحارساً لأمنهم.
ولئن بدا الصراع الدولى بالجنوب قبل إضافته إلى السودان عام 1947 والذي كان هدفاً من أهدافه محاصرة مصر ، فإن الاستراتيجيتين الصهيونية والدولية عرفتا أنّ عدم إستقرار السودان يخدم أهدافهما في منع السودان من الإضطلاع بدوره الرائد في تحقيق الأمن القومي العربي ، ولذلك أضيف الجنوب للخارطة السودانية وأُشعلت الحرب بينه وبين الشمال طوال ستين عاماً قضاها الجنوب ضمن الخارطة السياسية السودانية لإستنزاف طاقاته عبر هذه الحرب التي عُدت الأطول في أفريقيا ، فإنشغل بها عن البناء والنماء والتطور ، وشغلته من بلوغ درجة من القوة والقدرة والتأثير الاقليمى الذي لاتريده "إسرائيل" كما أشار وزير الأمن الاسرائيلى الأسبق آفي ديختر.
ثم أُدخل السودان مرحلة أُخرى يؤرخ لها بتأريخ إنتاج وتصدير البترول ، حيث وجهت جهوده جُلها للإستثمار في بترول الجنوب بدلاً عن الاستثمار في بترول الشمال الواعد بالوفرة والخير الكثير ،ثم جُعل البترول يشكل نحو 90% بالمائة من صادراته ، فأُهملت الزراعة بترول السودان الأخضر ، وأُهمل الإستثمار في المجالات الأخرى سيما في مجال التعدين ، وبعد كل هذا الإعتماد على عائدات النفط يدخل الاقتصاد السوداني في أزمة تنعكس دون شك على مجمل أوضاعه السياسية وتؤثر على أمنه الوطني ويمتد هذا التأثير إلي الأمن القومي العربي .
مع كل ذلك فإن العلاقة مع دولة الجنوب الوليدة تشوبها كثير من الشوائب بفعل علاقة الأخيرة بمجريات الأحداث الدامية في "الجنوب الجديد" وتبنيها دعم حركات التمرد في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور .
ويزيد من تفاقم الأوضاع بين الشمال والجنوب عدم توصل الدولتين لاتفاق بشأن ما أُسمى بالقضايا العالقة بينهما ومن بين هذه القضايا ما يلى : ـ
ـ الحدود بين الدولتين التي لم يتم الاتفاق عليها بعد والبالغ طولها نحو ألفي ومائة كيلومتر .
ـ الديون البالغة نحو أربعين مليار دولار وعدم الاتفاق على تقاسمها بين الدولتين .
ـ أصول الدولة وكيفية تقييمها وتقسيمها .
ـ البترول والبنية التحتية المتصلة به وكيفية التوافق على معادلة بشأنهما .
ـ الجنسية وما يتصل بها من إقامة مواطنى كل دولة بأراضي الأخرى .
لا ريب إن لإنفصال الجنوب تدعايات سالبة على الأمن الوطني السوداني والأمن القومي العربي، فهو قد صنع سابقة ومثالاً يمكن أن يُحتذى بها من أقاليم سودانية أخرى ، سيما تلك التي أُدخلت في منظومة ما يسمى بالجنوب الجديد ،الأمر الذي يُشجع أقاليم وقوميات في دول عربية لتحذوا حذو جنوب السودان ، فيُقسم الوطن العربي إلى كنتونات ودويلات وتقطَّع أوصاله وتنشأ دويلات جديدة في جهاته الأربعة .
قيام دولة جنوب السودان يجعل الدولة الأم غير مستقرة وتمور بالصراعات الداخلية مع جنوبها الجديد ذو الصلة بالدولة الوليدة على النحو الذي جاء في استعراض الحال في جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي ودارفور، مما يؤثرعلى قدرة السودان في صون أمنه ومن ثم ّ المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي لشعبه وأمته العربية  .
          إنَّ دولة جنوب السودان بمكوناتها الاجتماعية والسياسية وبما تعانيه من تناقضات مزمنة بين هذه المكونات فضلاً عن عدم وجود بنية أساسية للدولة ، وعدم إنتشار الوعى والعلم والمعرفة ، والأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشها المواطن ، والانتشار الواسع للسلاح بين المواطنيين والمليشيات ، تظل مهددة بعدم الأمن والإستقرار ، الأمر الذي سينعكس علي الإقليم بأثره ويفتح الباب واسعاً أمام التدخل الأجني.
وفرَّ قيام دولة الجنوب فرصة لتعزيز الدور الاسرائيلي والغربي بالجنوب ، في تماس مباشر مع المحيط الحيوي للأمن الوطني السوداني والأمن القومي العربي ، وأوجد أرضية مناسبة للوجود العسكري في هذه الجغرافيا التي تؤثر على محيطها العربي شمالاً وعلى البحيرات في الجنوب والجنوب الغربى وكذلك على القرن الأفريقي شرقاً ، وهى بهذا توفر منصة لانطلاق دور صهيو أمريكى جديد بالاقليم .
          حرم قيام الدولة الجديدة الدولة الأم من بعض الموارد الاقتصادية الهامة أهمها البترول الذي شكل نسبة 90% من صادراتها في العشرة سنوات التي سبقت إنفصال الجنوب ، كما حرمها من إستخدام موارد أخري ظل بعضها كامناً في جغرافيا الجنوب مثل موارد الثروات الحيوانية ، والغابية ، والسياحية، وأدخلها في أزمة إقتصادية تجلت في التدهور الكبير الذي أصاب العملة السودانية في مقابل العملات الحرة ، وزيادة معدلات التضخم ، وزيادة مريعة في الأسعار مما ينعكس سلباً علي جملة الأوضاع بالبلاد وعلي أكثر من صعيد .
 أضاف قيام دولة جنوب السودان دولة جديدة إلي منظومة دول حوض النيل مما يهدد تأمين مصالح السودان ومصر في مياه النيل عبر الاستقطاب المتوقع لدولة الجنوب من قبل دول المنبع في إطار صراعها مع دولتي المصب ـالسودان ومصرـ الهادف لايجاد معادلة جديدة تحكم قسمة المياه بين دول الحوض .
وهنا تجدر الاشارة إلى أنّ دولة الجنوب ليس بإمكانها أن توفر لدول المنبع غير السند السياسي، إذ لايمكنها أن تمضي في إتخاذ أي تدابير عملية يمكن أن تؤثر على  تدفق مياه النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا بيوغندا ويعبر أراضيها نحو الشمال وذلك لإعتبارات تعود إلى عدم حاجة الجنوب للمياه في الحاضر والمستقبل المنظور، سيما وأن المناخ الاستوائى الذي يتمتع به الجنوب وفر له أمطاراً غزيرة تستمر لتسعة أشهر بالسنة مما جعل معظم أراضيه عبارة عن مستنقعات يعجز الجنوب عبر السنين في معالجة آثارها السالبة، وهو بهذا ليس في حاجة إلي مياه إضافية تزيد من تعقيدات الواقع الذي يعيشه .
 ثمة إعتبار ثانٍ يعود إلى طبيعة الجنوب الطبوغرافية التي تتبدى في التدفق السلس والتلقائي لمياه النيل الأبيض نحو الشمال الذي يُمَكِن من تغذية نهر النيل بـ 14% من إيراداته المائية وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ 85% من مياه نهر النيل لاتمر عبر جنوب السودان إنما يوفرها النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في أثيوبيا ويصب في نهر النيل عبر مسير يمر فقط بالأراضي التي تقع في شرق السودان الشمالي مما يجعل قدرة الجنوب علي المدى البعيد محدودة جداً في التأثير علي مياه النيل بإجراءات عملية علي النحو الذي فعلته تركيا بحق نصيب سوريا والعراق بالمياه .
 
 
التـوصيات
          إنّ الآثار التي خلقها قيام دولة جنوب السودان في أبعادها الإستراتيجية بصفة عامة تنعكس علي الأمن القومي العربي مثلما تنعكس علي الأمن الوطني السوداني وذلك للترابط والتداخل القائم بينهما بفعل الجغرافيا والتاريخ وعوامل الإنتماء الحضاري فضلاً عن وحدة المصير المشترك ووحدة القضايا والتحديات ، فالأمن الوطني لكل قطر عربي يؤثر بمعطياته دون شك سلباً وايجاباً على الأمن القومي العربي ، وإنطلاقاً من هذا المعطي فإنّ جهوداً كبيرة يجب الإضطلاع بها من السودان وأشقائه العرب يمكن إيجازها في مايلي :ـ     
•        حشد الطاقات الوطنية لمقابلة التحديات العظام التي خلقها إنفصال الجنوب ، والتأسيس لمرحلة جديدة تقوم على قيم وطنية تميز بين ما هو سياسى يجوز الاختلاف والاتفاق عليه ، وبين ما هو وطنى يصبح الاتفاق عليه قيمة وطنية واجبة التقدير والإعتبار.
•        ضرورة أن تؤسس هذه المرحلة على رؤية واضحة للقضايا الوطنية التي ينبغي على كل المكونات السياسية للساحة السياسية السودانية أن تبنى عليها إجماعاً وطنياً يجنب البلاد المخاطر ويمكنها من إطلاق عجلة التقدم التي يستحقها شعبها ويتطلع إليها ، وهنا يبرز الدور الأكبر للحكومة السودانية في أن تصنع البيئة اللازمة لهذه المرحلة الجديدة ، وأن توفر لها البنية التحتية التي تمكن من الإنطلاق.
•         على الحكومة والقوى السياسية الاجماع على إستراتيجية للتعامل مع دولة الجنوب تُبنى على رؤية تمضى بالبلدين إلى حيث الأمن والاستقرار وتعظيم المصالح المشتركة منعاً من الانزلاق نحو الحرب التي لاتُبقي ولاتزر .
•        ضرورة العمل بين حكومتي الدولتين لصياغة منظور جديد للعلاقة بين الشمال والجنوب  يؤسس لحلول منطقية وعادلة للقضايا العالقة بين البلدين ، ويُمكِن من تعزيز مصالحهما المشتركة ، ويدفع لصناعة المستقبل المشترك بآفاقه وتطلعاته المرجوة .
•        العمل الجاد والمخلص لتجنب الإنزلاق بالعلاقة بين الشمال والجنوب إلى مزالق الحرب عبر تعزيز المصالح القائمة بينهما  وتعظيمها والسهر على تطويرها وحسن إدارتها .
•        المضي نحو التكامل الإقتصادي بين البلدين الذي تهيأت مقوماته و إنتصبت منذ عقود من السنين وتوزعت بينهما توزيعاً صنعته الظروف والأقدار ليُصنع هذا التكامل ، فالجنوب الذي ينتج النسبة الأعلي من البترول يحتاج إلي البنية التحتية القائمة في الشمال لإستكمال عملية صناعته ونقله وتجارته ،ولئن وفرت عائدات البترول إلي الجنوب بعضاً من الأموال فإن جُل غذاءه متوافر بالشمال،ولئن حبت الطبيعة الجنوب موارداً فإنَّ طريقها الأفضل للأسواق لن يكون إلا عبر الشمال وموانئه المطلة على البحر الأحمر ، ولئن عُرف الجنوب بتعدد القبائل والألسن فإنه عُرف كذلك بتدني المستوى الثقافي والمعرفي والشمال وحده من يُسهم في معالجة ذلك لأن اللغة العربية هى وحدها التي يمكن أن يُرتقي عبرها بالمستوي الثقافي والمعرفي بوصفها اللغة الوحيدة والأولى التي يتخاطب بها سكان الجنوب .
•        حشد الحضور العربي بالجنوب في بعديه الرسمي والشعبي ، فالوجود الرسمي العربي ضرورة لتأسيس علاقات رسمية تُمكِن من خلق مصالح سياسية وإقتصادية ، و الحضور الشعبي عبر التجارة والإستثمار يُمكن من تحقيق مصالح كبيرة لا تُحصر فقط في  تعزيز الحضور الثقافي العربي بالجنوب والمساهمة في بناء الثقة بين الجنوب والعرب  .
•        العمل علي محاصرة الحضور الصهيوني الذي بدأ يتمدد بالجنوب عبر عمل عربي مشترك ووفق إستراتيجية متكاملة محددة الغايات والأهداف والسياسات والوسائل.
•        خلق مصالح لدولة الجنوب في الدول العربية وتطويرها وتوظيفها في خدمة الإستراتيجية العربية المتكاملة .
•        أن تعمل مراكز الدراسات الإستراتيجية والجامعات ومؤسسات صناعة القرار في الدول العربية علي إبتدار حلقات دراسية متخصصة تتعمق في دراسة تداعيات قيام دولة جنوب السودان ، والمساهمة في إبتداع إستراتيجية عربية للتعامل مع هذه الدولة .
خاتمـة
إنّ الوعي بأهمية الجنوب من منظور الأمن الوطني السوداني يتطلب جهوداً مدروسة ومتصلة ، ويتطلب حشد كل الطاقات للحؤول دون تأزم الأوضاع بين الشمال والجنوب ، مثلما يتطلب رص الصف الوطني السوداني لمقابلة تحدي إحالة محنة الإنفصال إلي منحة تُمكن الشمال من صون أمنه وأمن أمته ، ومن ثمَّ الإنطلاق نحو آفاق النهوض والإرتقاء الذي حالت تداعيات الحرب دون بلوغها .
إنَّ الوعي بأهمية السودان من منظور الأمن القومي العربي يتطلب كذلك حراكاً واعٍ ومدروس من العرب حكاماً وحكومات وشعوب لطي صفحة تقصير وسمَّ المرحلة الماضية من التاريخ الذي أنتج دولةً إسمها جمهورية جنوب السودان .
 
مـراجـع                                
      1.            إبراهيم محمد آدم، الأبعاد الفكرية والسياسة التنظيمية للحركة الشعبية لتحرير السودان،مركز البحوث،جامعة أفريقيا العالمية،إصدارة رقم 44.
      2.            إتفاقية السلام الشامل بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية "لتحريرالسودان" ،كينيا، يناير2005.
      3.            السير جيمس زوبرتسون،السودان من الحكم البريطاني إلى فجر الإستقلال ، تعريب مصطفي عابدين الخانجي،دار الجيل،الطبعة الأولى1996
      4.            جوزيف لاقو، مذكرات الفريق جوزيف لاقو،ترجمة محمد على جادين،مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية،2005 .
      5.            هيئة البحوث والدراسات الأفريقية جامعة أفريقيا العالمية،مآسي الإنجليز في السودان ،هيئة الأعمال الفكرية ،2006.
      6.            تاج السر عثمان الحاج ،الجذور التاريخية للتهميش في السودان ،مكتبة الشريف ، 2005.
      7.            حسن صالح عمر محمد دين ،السودان في الاستراتيجية الأمريكية بين الشرق الوسط الكبير وأفريقيا جنوب الصحراء،دار السداد ، الخرطوم، 2006.
      8.            دستور السودان الانتقإلى للعام 2005 .
      9.            روفائيل كوبا بادال،فردوس الإمبريالية:الإدارة البريطانية في جنوب السودان 1900- 1956، ترجمة محمدعلى جادين،مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية جامعة أمدرمان الأهلية،2007.
  10.            عوض صالح الكرنكى،اليهود في السودان ،الأثر الثقافي والإجتماعى والسياسى ،مجموعة الراصد للبحوث والعلوم ، 2010.
  11.            محمد أبو الخير سعيد ، الأبعاد الدولية لقضية جنوب السودان ، مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا ،الخرطوم ،2004.
  12.            موشى فرجى ،"إسرائيل" وحركة تحرير جنوب السودان ، نقطة البداية ومرحلة الانطلاق ، مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا ، جامعة تل أبيب ، 2004.
  13.            صحيفة الأهرام اليوم السودانية .
  14.            يوسف تكنة، كتابات سودانية،مركز الدراسات السودانية ،العدد 42، 2007.
  15.            Radionews للأنباء


2013-05-07 13:08:07 | 4979 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية