التصنيفات » دراسات

الوحدة الوطنية الفلسطينية: الفرص والتحديات(*)

أ. حميدي العبدالله
توطئة

يشكّل استمرار الخلافات الفلسطينية، التي بلغت مستوىً من الخطورة بات يهدّد مصير القضية الفلسطينية، أمراً لا يمكن السكوت عنه في ضوء التداعيات السلبية المترتّبة على هذا النزاع. إن خطورة استمرار الخلافات لا تنحصر فقط في حال الإحباط الشديد الذي تولّده على مستوى الشعب الفلسطيني، حيث ابتعدت غالبية هذا الشعب عن المنظّمات والفصائل الفلسطينية، وباتت على قناعة بأن غالبيّة هذه المنظّمات تُعلِي شأن مصالحها الخاصّة أكثر من إيلائها أهمّية حقيقية للعمل من أجل إزالة الاحتلال؛ وما زاد من وقع حالة الإحباط أن حركة حماس وقوى المقاومة الأخرى في مناطق غزّة اضطرّت إلى قبول تفاهمات التهدئة التي أدّت إلى تجميد الكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل على جبهة قطاع غزّة، في محاولةٍ لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الذي يواجه حصاراً محكماً تساهم فيه "إسرائيل" ويتواطأ معها فيه أطرافٌ عربية، بعد أن بلغت المعاناة حداً وضع قوى المقاومة أمام خياراتٍ صعبة: إما وقف المقاومة مؤقّتاً لفكّ الحصار أو تخفيف حدّته؛ أو مواصلة المقاومة، ولكن مع تحميل الشعب معاناة لم يعشها منذ سقوط القطاع تحت نير الإحتلال في حزيران عام (1967).
وإذا كان خيار وقف المقاومة مؤقّتاً لا مفرّ منه لإعطاء الشعب الفلسطيني فرصة لالتقاط أنفاسه، وإتاحة المجال أمام المقاومة لبناء قوّة عسكرية قادرة على خلق معادلة جديدة بعد العودة إلى العمليات العسكرية، إلاّ أن هذا الواقع رسم مفارقة خطيرة من وجهة نظر غالبيّة المواطنين الفلسطينيين؛ وتتلخّص هذه المفارقة في حقيقة أن الفلسطينيّين استبدلوا المواجهة مع المحتّل بصراعٍ فيما بينهم على السلطة. وأيّ سلطة تلك الخاضعة للحصار، وتعمل تحت إشراف العدوّ الإسرائيلي؛ ولعب ذلك دوراً كبيراً في خلق حالة من الإحباط الشديد. والوضع في الضفة الغربية لا يختلف عن الوضع في غزة، في رسم المفارقات من وجهة نظر غالبيّة الفلسطينيين؛ ففي حين تقوم قوّات الاحتلال باغتيال الناشطين الفلسطينيين يومياً على امتداد مساحة الضفّة الغربية واعتقال العشرات، ومصادرة الأراضي لإقامة الجدار العازل عليها، وإتلاف مواسم المزارعين ومنعهم من جنْيها، فإنّ السلطة الفلسطينية الأمنية منهمكة بمطاردة الفدائيين والمقاومين والعمل على اعتقالهم ومصادرة أسلحتهم، بدلاً من مساعدتهم على التوجّه لضرب الاحتلال وحماية المواطنين من عسفه، وتسعى إلى تأجيج الخلافات الفلسطينية تحت شعار الإيفاء بالالتزامات التي تمليها اتفاقات أوسلو؛ وكأنّ إسرائيل تحترم هذه الاتفاقات. ويسهِم ذلك أيضاً في تعميق حالة الإحباط واليأس التي بدأت تسيطر على الناس؛ بل أكثر من ذلك، إن الخلافات الفلسطينية، وخصوصاً بين حركتي فتح وحماس، بدأت تسدّ الأفق أمام هذا الشعب. ففي ظلّ الانقسام الحاد، وسيطرة حماس على قطاع غزّة، وسيطرة السلطة الفلسطينية على الضفّة الغربية، بات من الصعب أن يتّحد الفلسطينيون حول الخيارات الكبرى، وتحديداً خيار التسوية أو خيار المقاومة. فالسلطة غير قادرة على إنجاز تسويةٍ مع "إسرائيل" تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وحتّى لو قرّرت هذه السلطة التفريط بالحقوق الفلسطينية، فإنها غير قادرة على الالتزام بالتعهّدات التي تقطعها على نفسها؛ وتستغلّ إسرائيل هذا الواقع للتنصّل من أيّ التزامات. وقوى المقاومة غير قادرة على مواصلة الكفاح المسلّح بفعاليّة في ظلّ الخلافات الحادّة بين كبرى الفصائل الفلسطينية، وتحوّل الإولوية من مواجهة الاحتلال إلى مواجهة بعضها بعضاً؛ فضلاً عما يتركه هذا الخلاف من آثارٍ سلبيةٍ على الدعم الذي يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون من الأمّة العربية والعالم الإسلامي، ودول العالم الأخرى التي كانت ولا تزال تتعاطف مع القضية الفلسطينية.
هذا المستوى الذي بلغه الخلاف بين حماس وفتح، والنتائج السلبية المترتّبة عليه، وتوازن القوى الذي يحول دون قدرة أيّ فريقٍ على حسم الصراع لمصلحته في وقتٍ قريب، بفعل التأثيرات الإقليمية والدولية على الشعب الفلسطيني، يجعل من الملحّ والضروري البحث عن إمكانية وضع حدٍ لهذا الخلاف، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتدارك الواقع الخطير الذي ترتّب على الانقسام المستمّر.
الوحدة الوطنية - العقبات والعراقيل:
إن استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ووضع حدٍ للخلاف بين حركتي حماس وفتح، لن يتمّ بالمناشدة الأخلاقية، ولا من خلال كشف مستوى الأخطار والكوارث المترتّبة على استمرار الانقسام الفلسطيني، بل من خلال رؤيةٍ واقعيةٍ لحقيقة وجذور هذا الانقسام، لأن القاعدة الطبّية تصلح هنا في معالجة هذه المسألة، من خلال المقولة التي تؤكّد أن التشخيص السليم للمرض يساوي نصف العلاج؛ والتشخيص السليم لأسباب الخلاف الفلسطيني يساوي نصف التصدّي لهذه المعضلة، لأنه من دون التعرّف إلى جذور وحقيقة الصراع بين حماس وفتح، يصعب اقتراح حلولٍ واقعيةٍ يمكنها أن تبصر النور. وفي هذا السياق، يمكن لحظ الحقائق التالية:
أوّلاً؛ الخلاف القائم بين حماس وفتح هو خلافٌ سياسيٌ في جانبٍ كبيرٍ منه. وبالتالي، من دون معرفة طبيعة هذا الخلاف واقتراح الحلول لـه، يصعب وضع حدٍ للأزمة واستعادة الوحدة الوطنية. والمقصود بالخلاف السياسي هو أن السلطة الفلسطينية - وحركة فتح - تبنّت اتفاقات أوسلو، وتتبنّى مفهوماً للتسوية ينطوي على تباينٍ حادٍ مع رؤية حركة حماس، ومعها عددٌ معتبرٌ من القوى الفلسطينية الأخرى. فاتفاقات أوسلو ثُبت فشلها، ولم تلتزم بها "إسرائيل". وأظهرت الوقائع أن غالبيّة الشعب الفلسطيني ترفض التخلّي عن القدس الشرقية وحقّ اللاجئين في العودة إلى ديارهم وفقاً، على الأقل، لقرار الأمم المتحدة (194)؛ كما ترفض دولة فلسطينية هي بمثابة حكمٍ ذاتيٍ وكيانٍ محدود السيادة خاضعٍ للوصاية الإسرائيلية. وفي ظلّ الخلاف بين فتح وحماس حول رؤيتهما السياسية لمفهوم التسوية، يصعب التوصّل إلى الوحدة الوطنية؛ بل يمكن القول إنه لو كانت هناك وحدة وطنية راسخة، لأدّى الخلاف حول مفهوم التسوية إلى تصديعها. وفعلاً، هذا ما حدث في فتح قبل "اغتيال" الرئيس ياسر عرفات، إذ أدّت الخلافات بين قياداتها حول التسوية وحدود التنازلات إلى نشوب خلافات حادة كانت أحد الأسباب التي قادت إلى فوز حماس في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني 2006.
ثانياً؛ الخلاف الإيديولوجي؛ إذ من المعروف أن حركة فتح هي حركة فلسطينية ليس لها خلفيّات أو جوهر ديني، في حين أن حركة حماس هي حركة ذات جذورٍ دينية، وهي تجاهر بالتزاماتها الفكرية، وتعلن أن جزءاً من توجّهاتها السياسية نابعٌ من التزاماتها الإيديولوجية. ورغم أن الخلافات الإيديولوجية أقلّ تأثيراً فيما لو تمّ إيجاد حلٍ للخلافات السياسية، إلاّ أن تأثيرها يكون كبيراً في ظلّ الخلافات السياسية.
ثالثاً؛ تناقض المصالح؛ فالقوى السياسية والأحزاب والفصائل الفلسطينية المقاومة، شأنها شأن القوى السياسية في أيّ بلدٍ في العالم، لها مصالح، ولا يمكنها أن تكون مجرّدة من هذه المصالح. وقد تعزّزت المصالح المتناقضة بين حماس وفتح، في ضوء سيطرة كلّ فريقٍ على منطقة في فلسطين، حيث بات يدير سلطة بحوزته، وتحت تصرفه موازنات تقدّر بعشرات بل بمئات ملايين الدولارات؛ والسلطة دائماً لها إغراءات، وتخلق مصالح للقيّمين عليها، وليس من العدل عدم شمول الفلسطينيين بتأثير هذا القانون. فصراع المصالح صار يملك تأثيراً سلبياً يعيق ويعرقل إمكانية التوصّل إلى الوحدة الوطنية، خاصّة أن هذا العامل يتفاعل مع عوامل أخرى ولا يعمل بمفرده.
رابعاً؛ الدور الإسرائيلي والأميركي أوّلاً في تأجيج الخلافات؛ وثانياً، في عرقلة تحقيق الوحدة الوطنية، حيث لم يعد خافياً على أحد أن إسرائيل والولايات المتحدة قامتا بتهديد السلطة وفتح، وحذّرتاهما من مغبّة الانفتاح على حماس ووضع حدٍ للخلاف معها. ومن الواقعية والإنصاف القول إن السلطة - وحركة فتح - التي تعمل تحت كنف قوّات الاحتلال، لا تملكان القدرة على ردّ الطلبات الإسرائيلية والأميركية دون تعريض وجودهما للخطر، كسلطةٍ من جهة، وكأفرادٍ من جهة أخرى. وقد لعب هذا التحذير أو التهديد دوراً مهماً في عرقلة التوصّل إلى تسويةٍ للخلاف بين حماس وفتح في المراحل السابقة.
خامساً؛ لعبت بعض الدول العربية، وخصوصاً ما يسمّى بدول الاعتدال، دوراً مؤثّراً في الفترة السابقة، في عرقلة التوصّل إلى اتفاقٍ بين حماس وفتح. وقامت هذه الدول بممارسة تأثيرها على حركة فتح والسلطة الفلسطينية، استجابة للضغوط الإسرائيلية والأميركية، ورهاناً على احتمال أن تؤدّي الضغوط على حماس وقوى المقاومة، والحصار المفروض على غزّة، إلى إضعاف معسكر المقاومة والممانعة على امتداد المنطقة، وليس على مستوى فلسطين وحدها.


عوامل تعمل في مصلحة الوحدة الوطنية الفلسطينية:
هذه هي الأسباب الموضوعية التي تفسّر الخلاف الدائر وتوضح جذوره وتؤكّد طابعه. وهذه أيضاً هي الأسباب التي حالت دون نجاح الجهود المبذولة في السابق من أجل وضع حدٍ للخلاف بين حماس وفتح واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية. فهل لا تزال الظروف هي ذاتها؛ وبالتالي، ليست هناك فرصة لاستعادة الوحدة الوطنية؛ أم أن هناك تغييراً في هذه الظروف والمعطيات، وما هي طبيعة هذا التغيير الحاصل؟
أوّلاً، موقف إسرائيل والولايات المتحدة:
يمكن القول إن صمود حركة حماس في وجه الضغوط التي تعرّضت لها منذ فوزها في الانتخابات في العام (2006)، بفضل الدعم الذي قدّمه لها معسكر المقاومة والممانعة،  قد خلق ثغرة يمكن الإفادة منها لشلّ قدرة إسرائيل والولايات المتحدة، ومن ورائهما السعودية ومصر، على عرقلة المصالحة ومنع إنجازها، ذلك أن إسرائيل تعارض المصالحة الفلسطينية للأسباب التالية: 
• عندما يكون هناك اقتتال فلسطيني- فلسطيني، فإن هذا الاقتتال يضعِف الفلسطينيين ويغيّر أولوياتهم، ويحرف نضالهم عن مساره الطبيعي، أي مقاومة الاحتلال.
• عندما تكون هناك فرصة لسيطرة السلطة الفلسطينية وحركة فتح على مجمل الوضع الفلسطيني، بما فيه الوضع في قطاع غزّة، فإن قيادة فتح الحالية، وبالتالي السلطة الفلسطينية، ترفض خيار المقاومة والانتفاضة، وتقيم علاقات طيّبة مع إسرائيل، وتساندها في توجيه الضربات إلى قوى المقاومة، بما في ذلك اعتقال الناشطين الوطنييّن الفلسطينييّن.
• الخلاف يمنح إسرائيل القدرة على استثمار الصراعات الفلسطينية والنتائج السلبية المترتّبة عليها، للقيام بعمليةٍ عسكريةٍ تنهي قوى المقاومة، سواء في قطاع غزّة، أو في الضفّة الغربية.
واليوم، وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على نجاح حماس في الانتخابات، وعلى صمودها في وجه الضغوط وسيطرتها على قطاع غزّة (في حزيران 2007)، نشأ واقع جديد يتميّز بالآتي:
1) لم يعد هناك اقتتال فلسطيني- فلسطيني مسلّح في قطاع غزّة، بل سيطرة كاملة لحماس وقوى المقاومة. وباتت أولويّات حماس الاستعداد عسكرياً للمواجهة مع إسرائيل، إضافة إلى فكّ الحصار عن قطاع غزة؛ حيث نجحت حتّى الآن، عبر التهدئة وعبر الضغط على مصر، في التخفيف من حدّته. وبالتالي، بات عامل الزمن يعمل في مصلحة حماس وقوى المقاومة، وليس في مصلحة إسرائيل، كما كان عليه الحال قبل فوز حماس في الانتخابات وسيطرتها المنفردة على قطاع غزّة. وهكذا، تبدّدت رهانات إسرائيل على الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني بسبب التحوّل الحاسم الذي حصل في قطاع غزة.
2) الرّهان على قدرة فتح على استعادة السيطرة على قطاع غزّة والقضاء على حماس تبدّد نهائياً. ويمكن القول حتّى إن وضع فتح بات أصعب ممّا كان عليه في السابق؛ وعامل الزمن لم يعد يعمل في مصلحتها، لا في غزّة ولا في الضفّة الغربية، بل يمكن أن تنهار السلطة التي أصبحت مجرّد هياكل خاوية؛ وسيطرة فتح على الضفّة لم تكن ممكنة، لولا مساندة الاحتلال لها، وهذا يقوّض شرعيتها الوطنية ويضعِف التأييد الشعبي لها.
3) قدرة إسرائيل على القيام بعمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ ضدّ قطاع غزّة أصبحت أصعب من أيّ فترةٍ سابقة، لأن كلفتها السياسية والبشرية كبيرة جداً في ضوء استعدادات قوى المقاومة عسكرياً، وعدم وجود السلطة الفلسطينية بشكلٍ فاعلٍ في القطاع، بما يمكّنها من إرباك المقاومة في التصدّي لإسرائيل، كما كان يحدث في الماضي!
ومن كلّ هذا الواقع الجديد، يمكن استنتاج مايلي:
1- تواجه إسرائيل اليوم خياراتٍ صعبة، بعد تبدّد الرهان على الاقتتال الداخلي، كما على سيطرة فتح، وعجزها من القيام بعمليةٍ عسكرية. وأمام إسرائيل الخيارات التالية:
• الخيار الأوّل، التعايش مع الواقع القائم حالياً. لكنّ ذلك ليس من مصلحة إسرائيل، لأن حماس ترفض الموافقة على أيّ تسويةٍ ضمن الشروط الإسرائيلية؛ وفتح غير قادرة على الوفاء بمتطلّبات أيّ تسويةٍ لضعف سيطرتها ميدانياً. وبالتالي، فإن بقاء الوضع معلّقاً يعني استمرار الصراع، مع تنامي قوّة المقاومة الفلسطينية وتعاظم قدرة حلفائها، وبخاصّة سوريا وإيران والمقاومة اللبنانية. وكلّ ذلك يشكّل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، يتحدّث عنه يومياً قادتها السياسيون والعسكريون.
• الخيار الثاني، هو تسهيل التوصّل إلى تسوية للخلاف الفلسطيني-  الفلسطيني على أسسٍ تحول دون انهيار حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وتحفظ لهما دوراً موازياً لحركة حماس، في الإشراف على الوضع في مجمل الساحة الفلسطينية، وتوفير دعمٍ للمفاوض الفلسطيني استناداً إلى التفاهمات السابقة بين حماس وفتح، التي أطاح بها استمرار الخلاف وتصاعده؛ هذا الأمر الذي يتيح فرصة جدية للمفاوضات مع إسرائيل مدعومة من القوى الفلسطينية الفاعلة، واحتمال التوصّل إلى تسويةٍ تختلف عن التسويات المطروحة حالياً. 
2-  لم تعد مصالح إسرائيل تتعارض جذرياً مع احتمالات تسويةٍ هذا مضمونها، خاصّةً بعد تجربتها الممتدّة منذ عام (1967) وحتى اليوم، حيث وصلت إلى قناعة عبـّر عنها أولمرت مؤخراً، يعترف فيها بتبدّد حلم إسرائيل الكاملة، ويحذّر من أن ضياع فرصة التسوية الآن ستدفع ثمنه إسرائيل غالياً لاحقاً، وأن توازن القوى الاستراتيجي لم يعد يعمل لمصلحة إسرائيل. وبالتالي، فإن أيّ تسويةٍ للخلافات الفلسطينية- الفلسطينية على قاعدة حماية وجود السلطة الفلسطينية والحؤول دون انهيارها، ومشاركة "فتح" الندّية لحماس في هذه السلطة، وتوفير دعمٍ لمسار مفاوضاتٍ جديد وجدّي، لا يضرّ بمصالح إسرائيل، بعد أن توقّف الاقتتال الفلسطيني الذي كانت تستفيد منه إسرائيل، وانحصر فقط بصراعٍ سياسي. وبات عامل الوقت يعمل في مصلحة تعزيز قوى المقاومة وسيطرتها على حساب "فتح" وسلطة محمود عباس، وبناء قوّة عسكرية داخل قطاع غزّة تشكّل تهديداً يقلق إسرائيل التي لا تمتلك حلاً جذرياً لهذا التهديد.
3- أيّ اتفاقٍ ينهي الخلاف بين حماس وفتح، قد يفتح باب التسوية مع إسرائيل، بينما البديل الآخر يفتح الباب لسيطرة القوى الأكثر راديكالية، والتي تدعو إلى تصعيد المواجهة معها.
4- الواقع الجديد ينطوي على ثغرةٍ تساعد في خلق واقعٍ موضوعي، يتيح فرصة جدّية لإتمام المصالحة الفلسطينية.
ثانياً، موقف السلطة الفلسطينية وحركة فتح: 
لم يعد موقف السلطة الفلسطينية - وحركة فتح - من جهود تسوية الخلاف بينها وبين حماس يتّسم بالسلبية التي كان عليها في السنتين الماضيتين. وقد وجّه عباس بتاريخ 2-6-2008 نداءً إلى الدول العربية للعمل من أجل المصالحة الفلسطينية؛ وقبلت حركة فتح والسلطة ورقة العمل المصرية لإجراء الحوار الذي استضافته القاهرة دون التمسّك بشرطٍ مسبقٍ طالما كانت تصرّ عليه السلطة، وهو إعادة الأوضاع في قطاع غزّة إلى ما كانت عليه قبل سيطرة حماس عليه. ومع هذا التطوّر في مواقف رئيس السلطة وحركة فتح، طرِح السؤال عمّا إذا كان ذلك الموقف يحمل جديداً في مصلحة الوحدة الوطنية؛ والأرجح أن الرغبة في إيجاد تسويةٍ للخلاف بين حماس وفتح، وبالتالي سلطة محمود عباس، هي رغبة جدّية هذه المرّة، وذلك في ضوء الحسابات التالية:
1) الأزمة السياسية والحكومية التي تعصف بإسرائيل، والتي تجعلها في وضعٍ لا يؤهّلها للتوصّل إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين قبل نهاية هذا العام، أي قبل رحيل إدارة بوش، كما كانت تشير إلى ذلك تصريحات الرئيس الأميركي. وبالتالي، فإن تحقيق أيّ إنجازٍ سياسيٍ في المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية بات مؤجّلاً لأكثر من عام. وبديهي أن الأزمة الفلسطينية الداخلية لا يمكنها الانتظار كلّ تلك الفترة. وكان محمود عباس يراهن على أن التوصّل إلى اتفاقٍ على التسوية مع إسرائيل، وطرح الاتفاق على الاستفتاء، قد يجنّبه المصالحة مع حماس. وبالتالي، يؤدّي إلى تقوية موقعه وموقع حركة فتح، وربما يؤدّي إلى إسقاط الحركة. لكن الاتفاق على التسوية في ظلّ الأزمة التي تعصف بالحكومة الإسرائيلية أصبح حلماً بعيد المنال. ولهذا، فإن من مصلحة فتح وسلطة عباس تسهيل الوساطات والعمل على إنجاحها للتوصّل إلى تسوية ما للخلاف مع حماس، خاصةً أن ضغوط الشعب الفلسطيني تصاعدت بقوّة في الفترة الأخيرة، مطالبة بإنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية، وكلّ جهة تعرقل التوصّل إلى المصالحة تتحمّل المسؤولية وتخسر جزءاً من شعبيّتها.
2) إنجاز اتفاق التهدئة المتبادلة الذي تمّ بموجبه فتح المعابر بين القطاع والأرض الفلسطينية المحتلّة عام (1948). ذلك الاتفاق أدّى إلى توليد ضغوطٍ على السلطة الفلسطينية بعد أن أدركت أنه لم يعد واقعياً الرهان على إبقاء الأزمة واستمرار الحصار على غزة، إلى أن ترضخ حركة حماس وتقبل عودة السلطة وإشرافها على المعابر. بل إن جميع الجهات المعنيّة بما يجري في غزة، وفي مقدّمتها إسرائيل، باتت على قناعةٍ بأن الوضع هناك لا يمكن أن يستمّر لفترةٍ طويلة، وأن احتمالات انفجاره في وجه مصر عبر اجتياحٍ جديدٍ للمعابر، وتصعيد العمليات ضدّ إسرائيل عبر جبهة القطاع هي مسألة وقت؛ وأن الرهان على إركاع حماس لم يعد ممكناً، حيث لعبة عضّ الأصابع تتساوى فيها حماس وإسرائيل ومصر. ولهذا، لا بدّ من أخذ الواقع الجديد بعين الاعتبار ، أي الإقرار بأن المصالحة هي المخرج لتهدئة الوضع وخلق توازنات جديدة تحدّ من تفرّد حركة حماس في التصرّف بالشأن الفلسطيني، على حساب تراجع دور فتح والسلطة الفلسطينية. لكلّ هذه الحسابات، يبدو أن دعوات المصالحة جدّية هذه المرّة، وأن شروط نجاحها حالياً أفضل ممّا كانت عليه في أيّ فترةٍ سابقة، بما في ذلك الفترة التي سبقت توقيع اتفاق مكّة.
3) لم يعد بمقدور حركة حماس تجاهل خطورة الانقسام الوطني الفلسطيني، وانعكاساته السلبية على القضية الفلسطينية، وذلك في ضوء الآتي:
1- دور الخلافات في صرف الأنظار عن ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وخصوصاً في الضفّة الغربية، حيث تقوم بمداهمة المدن والقرى وبناء المستوطنات؛ وتوجَه انتقادات لحماس مماثلة للانتقادات الموجّهة لفتح بأنها مسؤولة عن وضع أولويات أمام الشعب الفلسطيني غير أولوية معاداة للاحتلال.
2- تأثير تجاهل حماس لأهمّية الحوار الوطني في تعميق الانقسام وتعطيل جهود استعادة الوحدة الوطنية. لقد كانت استراتيجية حماس تقوم على تحميل السلطة مسؤولية الانقسام عندما كانت ترفض مبدأ الحوار وتصرّ على شروطٍ تعجيزية. ولكن، بعد طلب السلطة للحوار، فإنّ حماس باتت تتحمّل مسؤولية معيّنة عن الانقسام الفلسطيني.
3- لعبت أخطاء حماس دوراً في فشلها بتقديم نموذجٍ مختلفٍ في قطاع غزة، حيث تساوى (نسبياً) نموذج غزة مع نموذج الضفّة الغربية وممارسات السلطة فيه، وهذا يضغط في مصلحة الوحدة الوطنية، وليس في مصلحة تغليب فريقٍ على آخر.
4- انغماس حركة حماس في صداماتٍ مع عشائر وقبائل غزّة، ودخولها في توتّرات مع بقيّة فصائل المقاومة الأخرى.
كل ذلك أدّى إلى شعور حماس بأنها غير قادرة على تجاهل أهمية إنهاء الخلاف الفلسطيني دون أن تدفع ثمناً باهظاً لذلك. وهذا كلّه يدفعها للتعامل بإيجابية حذرة مع الجهود المبذولة لتحقيق الوحدة الوطنية.
فرص تعمل في مصلحة الوحدة الوطنية
إضافة إلى العوامل التي مرّ ذكرها، والتي تعمل في مصلحة الوحدة الوطنية، ينطوي الواقع السياسي القائم على فرصٍ مماثلة. ويمكن التعرّف على هذه الفرص من خلال:
1- ارتباط التوصّل إلى التسوية بوضع حدٍ للانقسام الوطني الفلسطيني؛ ذلك أن هذا الانقسام، مثلما أنه يحدّ من قدرة الفلسطينيين على الكفاح ضدّ الاحتلال، فإنه في الوقت ذاته يقوّض إمكانية التوصّل إلى التسوية. وكان يمكن أن يكون ذلك في مصلحة إسرائيل، لو أن البيئة الاستراتيجية وعامل الوقت يعملان في مصلحتها؛ لكنّ إسرائيل باتت تواجه تحدّياتٍ كبيرة، وتواجه بيئة متغيّرة في غير مصلحتها؛ إن على المستوى الدولي، بعد تراجع مكانة الولايات المتحدة بسبب تعثّر احتلالها للعراق وأزمتها الاقتصادية واندلاع الخلاف من جديد بين روسيا والغرب، وما تركه ذلك من تأثيرٍ على العلاقات الدولية، أو على المستوى الإقليمي لجهة تعاظم قوّة إيران، وحتّى على مستوى الصراع العربي - الإسرائيلي، حيث باتت المقاومة الفلسطينية تملك أسلحة أرغمت إسرائيل على قبول التهدئة التي تتيح الفرصة أمام المقاومة لبناء قوّتها. إضافة إلى القوّة التي بلغتها المقاومة اللبنانية بعد إعادة بناء ذاتها بعد حرب تمّوز عام (2006)، ونجاح سوريا في تعزيز قدراتها العسكرية. في ظلّ هذه المتغيّرات، يصبح خيار التسوية ملحاً لإنقاذ إسرائيل من أخطارٍ كثيرة، ولكنّ التسوية لن تتحقّق في ظلّ الانقسام الفلسطيني.
2- عدم ضمان نجاح التهدئة، أوّلاً مع استمرار الانقسام الفلسطيني، وثانياً مع وصول التسوية إلى طريقٍ مسدود. ذلك أن إغلاق أفق التسوية واستمرار إسرائيل باعتداءاتها وممارساتها التعسّفية بحقّ الفلسطينيين، يجعلهم في وضعٍ لا يمكن معه قبول التعايش لفترةٍ طويلةٍ مع هذه الممارسات. لهذا، تتحدّث التقارير عن احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة؛ ذلك أن الانتفاضة الثانية اندلعت عندما وصلت تطبيقات اتفاقات أوسلو إلى طريقٍ مسدود، واستمرّت ممارسات الاحتلال على ما هي عليه. والأرجح أن شروطاً موضوعية مماثلة لتلك التي سبقت انتفاضة الأقصى تتجمّع الآن؛ وبديهي أن احتمال انهيار التهدئة، واقتراب موعد اندلاع انتفاضةٍ ثالثة، يوفّر فرصة، عبر الضغط على القوى الفلسطينية الفاعلة، وخصوصاً تلك التي راهنت على التسوية والتهدئة لتغيير موازين القوى لمصلحتها، للكفّ عن الرهانات التي لا تبدو أنها تستند إلى أيّ أساس. وبالتالي، تسهيل التوصّل إلى اتفاقٍ ينهي الصراع الفلسطيني ويقلّص رقعة الخلاف السياسي.
3- ثمّة قلق حقيقي ينتاب بعض الجهات الأمنية في إسرائيل، من أن استمرار الخلاف بين حماس وفتح يفسح في المجال أمام نموّ قوىً فلسطينية أكثر تشدّدا. ويشار في هذا السياق إلى ولادة عددٍ من التنظيمات في قطاع غزّة التي تتّخذ مواقف أكثر تشدّداً إزاء قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي؛ ووجود مثل هذه التنظيمات يحفّز ليس إسرائيل وحدها، بل حماس وفتح، على سدّ هذه الثغرة؛ وهذا يوفّر فرصة للوحدة الوطنية، أو على الأقلّ يشكّل عاملاً لـه تأثير جزئي لمصلحة الوحدة الوطنية.
4- انتهاء ولاية رئيس السلطة الفلسطينية في (9) كانون الثاني المقبل. وبديهي أن انقضاء مدّة ولايته كرئيسٍ منتخب، وإعلان حماس رسمياً أنها لن تعترف به بعد ذلك التاريخ كرئيسٍ للسلطة إذا لم يكن هناك تفاهم فلسطيني شامل على مجمل القضايا، يشكّل حافزاً استثنائياً يدفع حركة فتح للبحث الجدّي في تسوية الخلاف مع حماس وتحقيق الوحدة الوطنية. ويدرك محمود عباس أن موقعه هو وسلطته سيكون ضعيفاً بعد (9) كانون الثاني، إن لم يبدأ حوار جدّي بين فتح وحماس.
5- القلق من احتمالات سقوط السلطة الفلسطينية. فهذه السلطة لم تعد موجودة عملياً إلاّ في الضفة الغربية، وتمارس عملها تحت إشراف الاحتلال وبالتنسيق معه، وبدأ يدور صراع بين حكومة سلام فيّاض وحركة فتح، لدرجة أن فتح تتحدّث عن تعرّضها لانقلابين: عسكري في غزّة على أيدي حماس، وانقلاب أبيض في الضفّة الغربية على أيدي حكومة فيّاض! وبدأ هذا الواقع يرسم إشارات استفهام قويّة حول "وطنية" السلطة وجدوى العمل الذي تقوم به، بحيث تحوّلت إلى ما يشبه روابط القرى التي أسّسها الاحتلال في نهاية الستّينات وبداية عقد السبعينات. كما أن حركة فتح باتت على قناعةٍ بأن حكومة فيّاض التي تفتقر إلى أيّ قاعدةٍ جماهيريةٍ أو تنظيمية، لا تلتزم بسياسات وتوجّهات الحركة؛ ويدور خلاف بين الطرفين ظهر إلى العلن أكثر من مرّة، لأن سند حكومة فيّاض هو الاحتلال والولايات المتحدة، ولم تعد تربطها بالشعب الفلسطيني صلات قويّة، باستثناء الإشراف على إنفاق بعض الموازنات التي تأتي من الدول المانحة من أموال، إلى الضرائب الفلسطينية التي تجنيها إسرائيل. والخوف من انهيار السلطة الفلسطينية يدفع بقوّة إلى إنهاء الخلاف، لأن ضعف السلطة سببه الخلافات الحادّة بين حماس وفتح.
كي ينجح الحوار ولا تتكرّر انتكاسات التجارب السابقة
بعد توفّر شروطٍ أفضل لمصلحة الحوار، وبعد تخلّي الطرفين المتنازعين عن شروطهما التعجيزية، فإن السؤال الكبير المطروح الآن، مرّة أخرى: هل ينجح الحوار الجديد، أم يكون مصيره كمصير الحوارات السابقة التي أسفرت عن اتفاق القاهرة في آذار (2005)، ووثيقة الوفاق الوطني في أيار (2006)، واتفاق مكّة (2007)، التي ظلّت جميعها حبراً على ورق، ما عدا تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي لم تعمّر سوى أشهرٍ قليلة؟
ثمّة رهان على أن حوار القاهرة، الذي يأتي في سياقٍ سياسيٍ مختلفٍ عن الحوارات السابقة، قد يفضي إلى نتائج مغايرة. ولكن، هل تشكّل ورقة العمل المصرية أساساً صالحاً للتوصّل إلى اتفاقٍ ينهي الخلاف بين حماس وفتح؟
أوّلاً، معظم بنود ورقة العمل المصرية، وخصوصاً البنود التي تتعلّق بقضايا الخلاف الأساسية، انطوت على صياغاتٍ عامة؛ وبالتالي، هي لا تصلح لأن تكون اتفاقاً قابلاً للتطبيق. ومثال ذلك الفقرة (7) التي تنصّ على المرجعيّات السابقة؛ ومعروف أن هذه المرجعيّات تتناقض نصوصها إلى حدٍ كبير، وخصوصاً ما جاء في اتفاق القاهرة، مع مبادرة الرئيس محمود عباس؛ وهذا يعني أن الورقة أرادت إرضاء طرفي النزاع، لكنّها لم تبلور صياغة مشتركة تمثّل تنازلاتٍ متبادلة تصلح لأن تكون حلاً. مثالٌ آخر ما جاء في الفقرة (6) حول أن «المقاومة في إطار التوافق الوطني هي حقٌ مشروعٌ للشعب الفلسطيني ما دام الاحتلال قائماً». لكن، منذ أن تشكّلت السلطة الفلسطينية، استناداً إلى اتفاقات أوسلو التي تنصّ على التخلّي عن المقاومة، لم يتحقّق هذا الإجماع. ومثالٌ ثالث، الفقرة (8) التي نصّت على ما يلي «تأليف حكومة توافق وطني ذات مهام تتمّثل في رفع الحصار، وتسيير الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، والإعداد لإجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ وتشريعيةٍ جديدة، والإشراف على إعادة بناء الأجهزة الأمنية». والمعروف أن ثمّة خلافاً حاداً بين فتح وحماس حول تشكيل هذه الحكومة، ونسبة توزّع مقاعدها بين الطرفين ومع باقي الفصائل الأخرى، وما إذا كانت حكومة من المستقلّين أم من فصائل المقاومة. ورغم أن تعبير حكومة توافق وطني يوحي وكأنّ الحكومة الجديدة ستكون مؤلّفة من الفصائل، إلاّ أنها لا تزال دون المستوى الذي يمكن أن يتمّ الاتفاق عليه. وينطبق الأمر ذاته بالنسبة للصياغة التي تتعلّق بالأجهزة الأمنية وإعادة بنائها؛ أي أن هذه الصياغة هي الأخرى صياغة عامة ترضي الجميع، لكنّها لا تضع حداً للخلاف.
 ثانياً، تحسّبت الورقة المصرية لاحتمالات الفشل. ولهذا نصّت الفقرة (14) على ما يلي «الاتفاق على تشكيل اللجان التي تتولّى مهمّة بحث التفصيلات المطلوبة وآليات عملها، لوضع ما يتمّ التوصل إليه موضع التنفيذ، وذلك في إطار المعالجة (لجنة الحكومة، لجنة الانتخابات، لجنة الأمن، لجنة منظّمة التحرير، لجنة المصالحة الداخلية)، على أن تبدأ هذه اللّجان عملها بعد انتهاء اجتماعات الحوار الشامل مباشرة»!
وهذا يعني أن كلّ قضايا الخلاف الرئيسية سوف يتمّ إحالتها إلى اللّجان، وأن مؤتمر الحوار سيكون احتفالياً لا أكثر ولا أقلّ، في حين أن الحوار الحقيقي سيدور في اللّجان.
ثالثاً، اللّجان لن تكون مؤّهلة أو قادرة على التوصّل إلى حلول، رغم أن ورقة العمل المصرية لحظت وجود مشاركةٍ عربيةٍ في مجمل اللّجان لمساعدتها على التوصل إلى حلٍ «إذا طلبت التنظيمات ذلك»، وقديماً قيل أن اللّجان هي "مقبرة" القضايا؛ والأرجح أن هذا ينطبق على الحوار الفلسطيني بالقوّة ذاتها التي كانت وراء استخلاص هذه الحكمة.
رابعاً، الصياغات العامة لورقة العمل المصرية، رغم أنها أخذت ملاحظات واعتراضات حركة حماس بعين الاعتبار، إلاّ أنها ظلّت أقرب إلى وجهة نظر محمود عباس وفريقه، في كثيرٍ من النقاط التي هي موضع خلافٍ بين التنظيمين الأساسيين.
خامساً، الأرجح أن ورقة العمل المصرية لا تصلح أن تكون أساساً لاتفاقٍ فلسطينيٍ شامل، ينهي الخلاف بين حماس وفتح. وتواجه الورقة واحداً من احتمالين: إما تعديلها برضى حماس وفتح بما يقود إلى الاتفاق؛ وإما فشل الحوار نتيجة للنقص أو الصياغات العامة التي انطوت عليها الورقة، حيث لم تأخذ بعين الاعتبار الواقع الفلسطيني الجديد.
سادساً، المشكلة القائمة هي بين حماس وفتح. ولكن هناك إصرار على إقحام الفصائل الفلسطينية الأخرى في محاولةٍ لتطويق حماس وعزلها، وتصويرها على أنها قوّة نشازٍ عن الوحدة الوطنية. وإذا لم تحلّ المشكلة بين حماس وفتح، لن تحلّ مسألة الخلافات الفلسطينية. من هنا جاء إصرار حماس على أن تتمثّل الفصائل الفلسطينية التي مقرّها دمشق في الحوار على قدم المساواة مع ما يسمّى بفصائل منظمة التحرير، لخلق توازنٍ يرضي أطراف النزاع الأساسية، أي فتح وحماس، ويبدّد القلق من مشاركة فصائل أخرى في الحوار المزمع عقده في (19) تشرين الثاني المقبل.
سابعاً، الأرجح أن بدء الحوار الذي جرى اختيار توقيته ليكون بعد إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، التي سيكون لها تأثير في قضايا عديدة ضمنها الصراع العربي- الإسرائيلي، سيؤدّي إلى تخفيف حدّة الاحتقان في الساحة الفلسطينية، حتّى وإن لم يؤدّ إلى التوصّل إلى اتفاقاتٍ بانتظار جلاء تطوّر الوضع في المنطقة في العام (2009).
لكن المطلوب، ليس فقط تنفيس الاحتقان، إنما العمل على وضع حدٍ نهائيٍ للخلاف واستعادة الوحدة الوطنية، لأنّ الشعب الفلسطيني لا يزال في مرحلة الكفاح لإجلاء الاحتلال عن أرضه. وخطر جداً أن ينغمس في صراعاتٍ على سلطةٍ غير موجودة بالمعنى الكامل للكلمة. لهذا، ولكي ينجح الحوار، فإنه بحاجة إلى اعتماد مقاربةٍ تتضمّن حلولاً تختلف عن تلك التي تضمّنتها الورقة المصرية. ولا بدّ أن تنطلق هذه المقاربة من التسليم بالوقائع التالية:
1) السلطة بمكوّناتها الثلاثة، الرئاسة، والحكومة، والمجلس التشريعي، لا تحظى الآن باعترافٍ وطنيٍ شامل. فالمجلس التشريعي لا يقوم بعمله بسبب الاعتقالات الإسرائيلية التي أفقدته النصاب، وبسبب الخلاف بين فتح وحماس. والحكومة المنتخبة جرى حلّها من قبل فتح، ولم تعترف بذلك حركة حماس، التي لا تزال تدير شؤون قطاع غزة؛ وحكومة سلام فيّاض مطعون بشرعيّتها من قبل حماس، وجاء تشكيلها مخالفاً للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية. وحتى فتح لها اعتراضات عليها؛ ومحمود عباس سوف يفقد شرعيته كرئيسٍ منتخبٍ بعد انتهاء ولايته في كانون الثاني المقبل. وهكذا أصبحت كلّ مؤسّسات السلطة مطعوناً بشرعيتها، ولا يمكنها أن تشكّل الإطار المعبّر والجامع للإرادة الوطنية الفلسطينية.
2) التوازن القائم بين حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، وفتح والسلطة التي تهيمن، بمساعدة إسرائيل، على الضفّة الغربية، يجعل أيّ تسوية للخلافات الفلسطينية خارج إطار الاتفاق بين حماس وفتح، أمراً مستحيلاً.
لهذا، فإنّ نجاح أيّ حوار مرهون بمدى موضوعيّته ولحظه حقائق الواقع القائم. وفي سياق إنجاح هكذا حوار، لا بدّ أن يرتكز على الآتي:
1- تشكيل حكومةٍ انتقالية، لكنّها ليست من المستقلّين، بل مكوّنة من حماس وفتح والفصائل الفلسطينية التي ترغب بالمشاركة.
2- تتولّى الحكومة الانتقالية صلاحية الرئاسة والحكومة في آنٍ واحد، طيلة الفترة الانتقالية.
3- إبقاء الوضع على ما هو عليه في الضفّة الغربية، وعلى مستوى أجهزة السلطة كافّة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
4- تمتدّ الفترة الانتقالية لمدّة عامٍ كاملٍ من تاريخ تشكيل الحكومة الانتقالية التي ستكون وظيفتها الأساسية خلق مناخٍ ملائمٍ لإجراء الانتخابات والإشراف عليها.
5- السلطة التي ستنبثق عن الانتخابات المقبلة، أي الرئيس، والمجلس التشريعي، والحكومة، (بالتكامل والتعاون مع ممثّلي الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة المقيمين خارج فلسطين)، هي التي تقرّر مضمون وبرنامج وآلية الإصلاحات، سواء ما يتعلّق بالسلطة وأجهزتها المختلفة بما في ذلك الأجهزة الأمنية، أو منظّمة التحرير التي يمثّل إصلاحها أمراً ملحاً، كونها هي التي ستقود أو تشرف على المفاوضات مع إسرائيل، وهي الإطار الوطني الذي يتوجّب أن يكون جامعاً للفلسطينيين، داخل وخارج فلسطين المحتلّة.


          


 

2009-06-23 11:05:42 | 1762 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية