التصنيفات » دراسات

تداعيات فشل العدوان على غزة على قوى المقاومة ودول الممانعة



أ. حميدي العبدالله(*)
فشل العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي حظِي مثل عدوان تموز 2006 على لبنان، بدعمٍ دوليٍ وعربيٍ كبير، في تحقيق أهدافه، إن لجهة القضاء على حركة حماس وقوى المقاومة الأخرى، أو لجهة وقف إطلاق الصواريخ على المستعمرات الصهيونية في النّقب، أو في خلق معادلةٍ ردعيّةٍ جديدةٍ لمصلحة "إسرائيل"،  أو حتى في إضعاف حركة حماس واحتلال ممرّ صلاح الدين(فيلادلفي)  واستجلاب قوّاتٍ دوليةٍ أو قوّات السلطة الفلسطينية للمرابطة فيه. وهذا الفشل الإسرائيلي الاستراتيجي ستكون لـه تداعياتٌ إيجابيةٌ كبرى على قوى المقاومة ودول الممانعة في المنطقة.
أوّلاً، التداعيات على قوى المقاومة والكيان الصهيوني
ليس من المغالاة في شيءٍ الاستنتاج بأن قوى المقاومة خرجت بعد فشل العدوان أقوى ممّا كانت عليه قبله. ويمكن القول إن قوى المقاومة في كلّ الساحات، وخصوصاً في فلسطين ولبنان، أصبحت في وضعٍ أفضل. ومن المفيد التوقّف عند الوقائع التي تؤكّد هذا الاستنتاج:
• على الصعيد الفلسطيني، هدف العدوان إلى تدمير قدرات المقاومة العسكرية، وإلى عزلها سياسياً وشعبياً، والإخلال بتوازن القوى بينها وبين الأطراف التي اختارت سلوكاً مغايراً ومناهضاً لخيار المقاومة. ولكن المقاومة لم تخسر المعركة، بل هي ربحت سياسياً وجماهيرياً؛ فالالتفاف الشعبي حول خيار المقاومة كان كبيراً على المستوى الفلسطيني. وفي مناطق الشّتات في الدول المحيطة بفلسطين، أو على مستوى العالم، أبرزت ردود فعل الفلسطينيين مدى تمسّكهم بخيار المقاومة؛ وفي الضفة الغربية، حيث يفرض الاحتلال هيمنته، ورغم أعمال القمع التي مارستها أجهزة السلطة، إلاّ أن الشعب خرج إلى الشوارع معبّراً عن التفافه حول المقاومة، ودعم خيارها، باعتباره الخيار الوحيد الذي يراهِن عليه. وإذا كانت الجماهير قد هتفت لمصلحة الوحدة الوطنية، وخصوصاً بين فتح وحماس، وردّد هذا الهتاف المتظاهرون في رام الله ونابلس وغيرها من مدن الضفة الغربية، إلاّ أنهم دعوا إلى وحدةٍ وطنيةٍ على أساس خيار المقاومة، وليس استناداً إلى تسويةٍ تسلب الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. وهذا تطوّرٌ مهمٌ في وعي الجماهير، بعد التشويهات الكثيرة التي حدثت على هذا الصعيد منذ توقيع اتفاقات أوسلو (1993)، والتي ترسّخت أكثر بعد رحيل ياسر عرفات، وتبوّء أبو مازن وفريقه سدّة المسؤولية في السلطة وفي منظمة التحرير؛ حيث وظّف هذا الفريق التطوّرات السلبية التي شهدها العالم بعد أحداث (11) أيلول، ووصول المحافظين الجُدد إلى البيت الأبيض في الولايات المتحدة، وقيام هذه الإدارة المتطرّفة باحتلال العراق وأفغانستان، وتبنّيها سياسات داعمة بالمطلق لإسرائيل، ووضع كلّ الإمكانيات الأميركية بتصرّفها. فقد سادت النزعات الانهزاميّة صفوف بعض القوى العربية، وخصوصاً الفريق الفلسطيني الذي قاد السلطة ومنظمة التحرير، حيث ما جرى ذلك في الترويج لحلولٍ تسووية مع العدوّ الإسرائيلي، ونبّذ خيار المقاومة، بل التصدّي لـه ووضعه في خانة الخطر على المصالح الفلسطينية العليا. وهذه هي المرّة الأولى التي تخوض فيها المقاومة معركة عسكرية كبرى مع العدو، وتمنعه من تحقيق أهدافه الاستراتيجية، وتكشف تهافت منطق الرافضين للمقاومة.
 لقد خاضت المقاومة في مراحل سابقةٍ معارك كثيرة. لكنّها لم تربحها مثلما ربحت معركة غزة. فالحملة الإسرائيلية على الضفة الغربية نجحت بإعادة احتلالها. وكان الهدف الرئيسيّ للحملة الوحشيّة على غزة، احتلال القطاع مثلما حدث في عملية "السّور الواقي" في الضفة الغربية؛ لكنّ ذلك لم يحدث. وهذا الفشل يعود الفضل فيه لقوى المقاومة وللشعب في غزة والتضحيات الكبيرة التي قدّمها. وهكذا، فإن هذه التضحيات لم تذهب سدىً، بل حقّقت الهدف المرجوّ منها؛ فالشعب الفلسطينيّ صار في غالبيّته مؤيّداً لخيار المقاومة ومراهناً عليه، على عكس ما كان عليه الحال بعد توقّف الانتفاضة وعودة الاحتلال إلى الضفة الغربية، حيث "انتعشت" المفاهيم التي تدعو إلى التخلّي عن خيار المقاومة، والزعم أن شروط النجاح في المواجهة مع الكيان غير متوفّرة.
واليوم، هناك تجربة صمود غزة في وجه العدوان، رغم الحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من عامين، ورغم تواطؤ النظام المصري مع الكيان، الذي وصل إلى درجة التعاون الاستخباريّ مع قوّات الاحتلال وإعطائها معلوماتٍ عن وجود المقاومين وأماكن تمركزهم؛ وبعد كلّ هذا الصّمود، لم يعد هناك من يشكّك في صواب أو جدوى خيار المقاومة. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن التأييد الجماهيري  للمقاومة وصل إلى مستوىً غير مسبوق، فأصبحت المنظّمات التي تتمسّك بهذا الخيار، مثل حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والقوى الوطنية داخل حركة فتح، قادرة على الدفاع عن خيار المقاومة في وجه الذين حاولوا مراراً الإدّعاء بأن هذا الخيار غير مجدٍ، وأن المقاومة لن تستطيع، بإمكانيّاتها المحدودة وفي ظلّ الوضع الدولي والعربي الذي لا يناصر خيار المقاومة، الصّمود في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية.
ولم يكن هذا هو الأثر الإيجابي الوحيد على المقاومة في فلسطين. بل إن حركة حماس، وفصائل المقاومة الأخرى التي كانت عرضة للعزل والحصار من قبل قوىً دوليةٍ عديدة، خرجت من هذه المواجهة أقوى من السابق، حيث باتت تعالت التي تدعو إلى الاعتراف بحماس والتعامل معها كقوّةٍ ممثّلةٍ لجزءٍ كبيرٍ من الشعب الفلسطيني. ولم تقتصر دعوات الانفتاح على حماس على دولٍ مثل قطر وتركيا؛ بل إن مصر اضطرّت إلى تعديل موقفها والتراجع عن أسلوبها السّابق في إدارة الحوار الفلسطيني- الفلسطيني، حيث عكست ورقة العمل الجديدة التي أرسِلت للمنظّمات الفلسطينية المشاركة في الحوار هذا التبدّل. فقد أعطى جدول الأعمال الأولويّة للحوار، ومن ثمّ تأتي النتائج، على عكس ما حاولت القاهرة سابقاً فرضه على قوى المقاومة من صيغٍ تشترط الموافقة على ورقتها، وبعد ذلك يتمّ الحوار على هذه الصيغ!
وليست مصر وحدها التي غيّرت مواقفها من حماس بعد فشل العدوان. بل إن ممثّل اللّجنة الرباعية، طوني بلير، دعا إلى الحوار مع حماس، ولكن ضمن شروط! كما أن مراكز أبحاث وشخصيات أميركية عديدة، وبالأخصّ وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر، طلب من الإدارة الأميركية فتح حوارٍ مع حركة حماس. وجاء طلب بيكر في حوارٍ مع مجلة «نيوزويك» الأميركية، حيث دعا إدارة الرئيس أوباما، الذي سوف يدير عملية "السلام" في المستقبل، إلى إشراك حماس في جهود التسوية، وقال حرفياً « يجب أن يشرِك الرئيس الأميركي حماس في (المفاوضات)، إذ لا يمكن أن يناقش السلام فيما نصف الأطراف السياسيين الفلسطينيين فقط موجودون على الطاولة». واقترح بيكر أن يتّبع الرئيس الأميركي إزاء حماس «مقاربة كتلك التي لجأنا إليها، وأدّت إلى عقد مؤتمر مدريد عام (1991)» . وفي السّياق ذاته، جاءت تصريحات وزير الخارجية الفرنسية، وزيارات وفودٍ برلمانيةٍ أوروبيةٍ إلى قطاع غزة والالتقاء مع مسؤولين في حماس. ويمكن القول إن الانعكاس الإيجابي الأهمّ لفشل العدوان الإسرائيلي على غزة على قوى المقاومة الفلسطينية، تمثّل في أن نجاح اتفاق التهدئة الجديد بات يتوقّف على فتح المعابر وإنهاء الحصار وإيجاد ترتيباتٍ خاصّةٍ لمعبر رفح وفق الرّؤية التي اقترحتها قوى المقاومة، وليس وفق الصيغة التي فرضها شارون قبل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في آب 2005.
وبديهيٌ القول إن الرّهان على الحصار لإسقاط قوى المقاومة ودفعها للتراجع وقبول الاعتراف بإسرائيل والتخلّي عن المقاومة، قد تبدّد نتيجة العدوان على غزة، والذي جاء بمثابة الورقة الأخيرة في مخطّطٍ نفّذت منه سلسلة من الحلقات، ولكنّها جميعها فشلت في إخضاع المقاومة ودفعها للرّضوخ للضغوط والإملاءات. ومن الآن وصاعداً، لم يعد بوسع القوى المعادية امتلاك وسائل إضافية للضغط، توازي العدوان الذي نفّذ لإرغام المقاومة على تغيير خياراتها أو إسقاطها.
على الصعيد الإسرائيلي
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن انتصار قوى اليمين في إسرائيل في الانتخابات الأخيرة، والتي كانت تطالب باستمرار الهجوم على غزة وتوسيعه وصولاً للقضاء على المقاومة، سيقود إلى تنفيذ عدوانٍ جديد، وينعش الرّهان مرّة أخرى على احتمال القضاء على المقاومة. ومن دون التقليل من خطورة سيطرة اليمين على سلطة القرار في الكيان، واحتمال تنفيذه مغامراتٍ عسكريةٍ جديدة. إلاّ أنه لا بدّ من التأكيد على أن المقاومة صمدت في وجه الجيش الإسرائيلي، الذي أرغم حكومة أولمرت على وقف العدوان لأنه لم يعد قادراً على فعل أيّ شيء؛ بل إن استمرار العمليات العسكرية سيؤدّي فقط إلى وقوع خسائر بشريةٍ في صفوف الجانبين، ونتائج ذلك لن تكون في مصلحة إسرائيل، سياسياً وميدانياً. والجيش الإسرائيلي استخلص درساً رئيسياً من فشل عدوانه على غزة، وهو أن إمكانيّة ربح المعركة عسكرياً بات أمراً صعباً جداً، ولن تستطيع الحكومة الجديدة إرغام هذا الجيش على خوض مغامراتٍ جديدةٍ يعتقد سلفاً بأنها ستكون فاشلة، وتفتقر إلى التفهّم الدولي. والأرجح أنه سيتصدّى للدّعوات التي تطالبه بشنّ عدوانٍ جديد، مثلما تصدّى للدّعوات التي أطلِقت داخل حكومة أولمرت أثناء العدوان وطالبته بتوسيع عملياته واحتلال مناطق ذات كثافةٍ سكّانيةٍ عالية. وأكثر من ذلك، فإن أيّ عدوانٍ جديدٍ على قطاع غزة في ظلّ الحكومة اليمينية سوف يسهّل توجيه الاتهام إلى هذه الحكومة، عربياً ودولياً، بأنها المسؤولة عن العدوان. كما أن بعض الدول العربية والسلطة الفلسطينية التي تواطأت مع العدوان بذريعة أن حماس وقوى المقاومة رفضت التهدئة، وتتحمّل جزءاً من المسؤولية، لن تكون قادرة على التعامل مع أيّ عدوانٍ جديدٍ بنفس الطريقة؛ وسيكون لذلك تأثيرٌ كبير، ليس فقط على الرأي العام في الوطن العربي وفي العالم، بل وأيضاً على قرار الكثير من الحكومات وموقفها من إسرائيل، بما في ذلك الإدارة الأميركية التي سوف تنظر إلى العدوان الجديد (المفترض) بوصفه تقويضاً نهائياً لجهودها لاستئناف عملية "السلام"، والتأثير على أولويّاتها في المنطقة، حيث يحتلّ العراق، والوضع المتدهور في أفغانستان الأولويّة، بعد أن اعترف المسؤولون الأميركيون أن الوضع في أفغانستان بالغ الصعوبة، وأن القرارات المتعلقة بالعراق هي قرارات مصيرية أيضاً!
ومعروفٌ أن الجيش الإسرائيلي أحجم عن تنفيذ ما يسمّى بالمرحلة الثالثة من العدوان، لقناعته بأن تكلفة توسيع العمليات ستكون باهظة، سياسياً وبشرياً. وهكذا يمكن القول إن انعكاسات فشل الحرب على غزة لم تعزّز فقط خيار المقاومة، بل عزّزت مكانة فصائل المقاومة سياسياً، وكان لها الدور الرئيسي في فكّ الحصار وفتح المعابر، وخلق معادلة ردعٍ تحدّ من قدرة العدوّ على الاندفاع السريع لتنفيذ اعتداءاتٍ جديدةٍ ضدّ الفلسطينيين على جبهة قطاع غزة؛ إضافةً إلى أن قوى المقاومة خرجت أقوى سياسياً ممّا كانت عليه قبل العدوان. كما أن مستقبل الوحدة الوطنية وإعادة تأسسيها على قاعدة الالتزام بخيار المقاومة، أصبح اليوم أفضل منه من أيّ فترةٍ سابقة. فلم يعد واقعياً بالنسبة لقيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير تجاهل دور ومكانة قوى المقاومة، لأن استمرار الانقسام يحمل خطراً على وجود السلطة ومنظمة التحرير؛ وتوازن القوى الجديد يجعل أيّ إصلاحٍ محكوماً بما أسفرت عنه المواجهة الدامية في قطاع غزة. وكلّ ذلك يشير إلى أن قوى المقاومة ستكون قادرة على فرض رؤيتها، أو على الأقلّ عدم تجاهل هذه الرؤية، عند صياغة أيّ اتفاقٍ ينتهي إليه الحوار الفلسطيني- الفلسطيني (المتواصل في القاهرة).
• على الصعيد اللّبناني، شكّلت تداعيات فشل العدوان تعزيزاً واضحاً لخيار المقاومة، وتأكيداً لمعادلة الرّدع التي تمكّنت المقاومة من فرضها في نهاية عدوان تموز 2006. فعلى المستوى الرسمي اللبناني، أعلن رئيس الجمهورية ميشال سليمان في احتفالٍ أقامته قيادة الجيش اللبناني لـه أنه «في حرب غزة، تمّ تطبيق أمرٍ بديهيٍ في الاستراتيجية التي نسعى إليها من دون أن يكون مكتوباً، وتتلخّص في كيفيّة منع الجرائم المرتكبة في غزة من التأثير على الوضع اللبناني. لقد قام الجيش بدوره، وكانت المقاومة جاهزة للمشاركة في الدفاع عن لبنان في حال تمّ الاعتداء عليه أو احتلال جزءٍ منه. هذا التفاهم بين الجيش والمقاومة يشكّل أساساً صالحاً لبناء الاستراتيجية الدفاعية» . وكلام سليمان يصبّ في نفس الاتجاه الذي تحدّث عنه مسؤولو المقاومة، وعلى رأسهم قائدها السيّد حسن نصر الله، الذي أكّد أن دروس العدوان على قطاع غزة قد حسمت الجدال حول الاستراتيجية الدفاعية وماهيّة العلاقة بين المقاومة والجيش والدولة، إذ بات الرّهان على خيار المقاومة محسوماً، لأن من يطالب بالتخلّي عن هذا الخيار يريد أن يبقي لبنان فريسة للاعتداءات الإسرائيلية من دون رادع، ويعيد إسرائيل لتكون لاعباً وعابثاً باستقرار لبنان، الأمر الذي يعني إعادة الويلات التي عانى منها منذ عقودٍ طويلة، ولم تتوقّف إلاّ بعد وصول المقاومة إلى قدراتها الرّدعية. فالمقاومة الآن باتت محطّ إجماع اللبنانيين، ولم تعد تخصّ القوى التي أيّدتها في السابق، خاصةً أن العدوان الإسرائيلي على غزة بدّد أجواء الفتنة التي عمدت إلى إثارتها قوى (14) شباط بعد عدوان تموز، وحتى قبل العدوان، في محاولةٍ منها لطعن المقاومة في ظهرها. وأصبحت غالبيّة كبيرة من شرائح المجتمع التي كانت متأثّرة بالأطروحات المذهبية مدركة لحقيقة الصراع وأقرب إلى خيار المقاومة، وخصوصاً في المناطق التي يحوز فيها تيّار المستقبل على نفوذٍ جماهيريٍ واسع.
ولعلّ التعليق الذي كتبه أحد مسؤولي جماعة الإخوان المسلمين (السورية) حول تداعيات عدوان غزة على الساحة اللبنانية، يوضح وجهة انعكاس انتصار غزة على المقاومة في لبنان حيث يقول: «لن نجادل الذين يشيرون إلى علاقة التنسيق بين حماس وحزب الله في لبنان»، «لكنّنا نسأل هؤلاء من أرغم حماس حتى تميل هذا الميل»! «أليست الدول العربية التي تعيب على حماس سلوكها ذاك هي من ألجأها إلى ذلك». ويحذّر كاتب التعليق من رهان قوى (14) شباط «على الحصان الخاسر»؛ والحصان الخاسر هي الدول التي تناهض خيار المقاومة: «في حساب الانتخابات في لبنان: إذا لم يوقِف بعض رموز قوى (14) آذار ورموز تيّار المستقبل انتقاداتهم لحركة حماس، فسيخسرون أصوات كثيرين من أهل السنّة الذين اقترعوا لهم عام (2005). ولو حجب هؤلاء أصواتهم عن تيّار المستقبل، حتى لو لم يصوّتوا لمصلحة خصومه، فسيخسر خسارة كبيرة» . وتشير تقديراتٌ ميدانيّةٌ لقوىً عديدةٍ في لبنان إلى أن غالبيّة ساحقة من الذين كانوا يؤيّدون تيّار المستقبل وصدّقوا اتهاماته ضدّ المقاومة في لبنان، وخصوصاً ربطها بأجندةٍ إقليمية، تأكّدوا الآن أن عداء "المستقبل" وحلفائه في (14) آذار لحزب الله هو عداءٌ للمقاومة، بمعزلٍ عن هويّتها وحلفائها، لأنهم جزءٌ من المعسكر الآخر. ولهذا، فإن غالبيّة واسعة شعرت بأنها خدِعت وضلّلت، وجاء عدوان غزة ليرفع الغشاوة عن عيونها، وباتت الآن في مواقع المقاومة، وتكنّ لها الاحترام وتمنحها التأييد. ولعلّ ذلك من المكاسب أو التداعيات الهامّة للعدوان الإسرائيلي على غزة.
لكن الانعكاس الأكثر أهميّة يتمثّل في فشل إسرائيل في استعادة قدرتها الرّدعية. إذ من المعروف أن الحكومة الإسرائيلية حاولت إيهام الرأي العام بأن فشلها في حرب تموز 2006 على لبنان يعود إلى ثغراتٍ تمّ عرضها بالتفصيل في تقرير لجنة فينوغراد. ومنذ صدور تقرير اللّجنة، أطيح بقياداتٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ جرى تحميلها مسؤولية التقصير في الحرب، والنتائج التي أسفرت عنها، فيما واصل الجيش الإسرائيلي خلال سنتين ونصف تدرّبه على سدّ هذه الثغرات؛ ولكن العدوان على قطاع غزة أكّد من جديد أن فشل الكيان في حرب تموز لم يكن نتيجة للثغرات التي جرى الحديث عنها، بل بفعل تحوّلٍ تاريخيٍ واستراتيجيٍ في المواجهة صنعته المقاومة. إن هزيمة الجيش الإسرائيلي في عدوان تموز 2006 تعود إلى ثلاثة عوامل أساسية: العامل الأوّل، إرادة المقاومة التي تحلّى بها المقاتلون اللبنانيون والذين دافعوا ببسالةٍ عن أرض وطنهم؛ العامل الثّاني، نوعيّة السلاح الذي كان بحوزة المقاومة. ورغم أن هذا السلاح لا يمكن مقارنته إطلاقاً بالسلاح الذي بحوزة العدوّ الإسرائيلي، إلاّ أنه أثبت جدواه وفعاليّته في المواجهة عندما توفّرت إرادة القتال والعزم على المواجهة، وعندما أحسنت المقاومة استخدامه وتدرّبت عليه جيّداً؛ والعامل الثّالث هو القيادة والسيطرة والتخطيط، حيث برهنت المقاومة على قدراتٍ ضاهت، بل فاقت قدرات الجيش الإسرائيلي، رغم امتلاكه للتكنولوجيا الأكثر تطوّراً بالمقارنة مع ما تملكه المقاومة. هذه العوامل الثلاثة كانت أيضاً وراء فشل الحرب على غزة، مع أن العدوّ ادّعى أنه تخلّص من عقدة حرب لبنان واستعاد قدرته الرّدعية؛ بيد أن نتائج حرب غزة أكّدت العكس تماماً. فرغم أن قطاع غزة محاصرٌ منذ أكثر من سنتين، والشعب الفلسطيني يتحمّل عبء مواجهة الاحتلال منذ أكثر من أربعين سنة، والمقاومة في القطاع تفتقر إلى العمق الاستراتيجيّ الذي توفّر للمقاومة اللبنانية، بسبب الدور المتواطئ الذي قام به النظام المصري، ورغم الحصار وعدم القدرة على إيصال السلاح بسهولةٍ إلى المقاومين، وأن أغلب سلاح المقاومين في غزة هو من صنعٍ محلّي، إلاّ أن المقاومة صمدت في وجه جيش الاحتلال الذي حشد قوّاته العاملة وقوّات الاحتياط، واستمرّ في القتال مدّة تزيد على ثلاثة أسابيع، من دون أن يتمكّن من تحقيق أهدافه. وبديهي أن الجيش الذي فشل في تحقيق أيّ إنجازٍ ضدّ مقاومةٍ محاصرةٍ ولا تحوز على عمقٍ حيوي، وتفتقر إلى الأسلحة المتطوّرة، لن يتمكّن من استعادة قوّته الرّدعية في مواجهة المقاومة اللبنانية التي تمتلك أسلحة أكثر تطوّراً ومسرح عمليّاتٍ أفضل من قطاع غزة، المكشوف والمحدود الرّقعة؛ كما تمتلك عمقاً عربياً وإقليمياً مفتوحاً؛ وهي تمكّنت من تعزيز قدراتها العسكرية على نحوٍ يفوق بكثير ما كان بحوزتها في أثناء عدوان تموز. فإسرائيل اليوم على قناعةٍ أكثر من أيّ وقت بأن عجزها عن ربح الحرب في غزة يؤكّد عجزها بالضرورة عن ربحها في لبنان. وإذا كانت تراهن في السابق على احتمال أن تؤدّي المراجعة التي أجرتها طيلة السنتين الماضيتين إلى امتلاك زمام المبادرة من جديد، فإن نتائج العدوان على غزة أثبتت عجز إسرائيل عن ذلك مهما فعلت، لتتكرّس معادلة القوّة الجديدة التي صنعتها فصائل المقاومة في حرب تموز وفي صدّ الهجوم على غزة. وهكذا يمكن القول إن احتمالات قيام الكيان بشنّ عدوانٍ جديدٍ على لبنان في وقتٍ قريب، هي احتمالاتٌ ضعيفةٌ. وهذا الاستنتاج واحدٌ من أهمّ تداعيات فشل العدوان الصهيوني على غزة.
ثانياً: التداعيات على دول الممانعة:
كان لفشل الحرب على غزة إنعكاسات إيجابية كثيرة على دول الممانعة، حيث أدّى الصمود الفلسطيني الأسطوري، وفشل العدوان في تحقيق أهدافه، إلى تعزيز مكانة دول الممانعة، عربياً وإقليمياً ودولياً. ومن أبرز تجلّيات نصر غزة:
أوّلاً، تعزيز الفرز داخل "النظام العربي" بين دول "الاعتدال" المتواطئة مع العدوّ، والمندمجة بالاستراتيجية الأميركية، وبين دول الممانعة الداعمة للمقاومة. ولأوّل مرّةٍ منذ رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تتكوّن منظومة عربية تضمّ دول الممانعة التي تؤيّد خيار المقاومة، حيث جرى التعبير عن وجود هذه المنظومة في قمّة غزة الطارئة في الدّوحة، والقرارات التي صدرت عنها، واحتضانها لقوى المقاومة التي شاركت للمرّة الأولى في اجتماعٍ عربيٍ رسمي، وأسمعت صوتها وشرحت موقفها. إن التحوّل الذي حدث على هذا الصّعيد لم يكن عابراً، ولم يكن وليد اللّحظة؛ فدول الممانعة التي تتفهّم أهداف المقاومة وتقدّم الدعم لها، موجودة منذ أن وجِدت المقاومة. لكنّها لم تكن بالقوّة التي أصبحت عليها أثناء العدوان على غزة، وخصوصاً بعد فشله وصمود المقاومة في مواجهته. ومن نافل القول، أنه لو لم يفشل العدوان، لما أمكن لهذه المنظومة أن تبصر النور وتفصح عن نفسها رسمياً. والأهمّ من ذلك أن وجود تلك المنظومة قد منع تفرّد الأنظمة العربية "المعتدلة" من قيادة النظام العربي الرسمي، حيث تجسّد ذلك في قمّة الكويت، حين رفضت دول الممانعة تمرير مشاريع قراراتٍ صاغتها دول "الاعتدال" التي اعتادت رسم معالم السياسة العربية! وهذا تحولٌ مهمٌ لمصلحة خيار المقاومة والممانعة. ومن الآن وصاعداً، فإن "النظام العربي" يواجه خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا أن يأخذ وجهة نظر دول الممانعة بعين الاعتبار ويراعي مصالحها، ولا يتجاوز طروحاتها، كي يستمرّ هذا النظام موحّداً ومتماسكاً؛ وهذا يعني أن السياسة الرّسمية العربية لن تظلّ على ما كانت عليه طيلة العقدين الماضيين، أو يتمّ تكريس الفرز بين نهجين، مع ما يترتّب على ذلك من عزلٍ وحصارٍ وتعريةٍ لمعسكر "الاعتدال" العربي، لأن الجماهير الغاضبة التي خرجت إلى الشوارع من المحيط إلى الخليج أيّدت طروحات معسكر الممانعة، وأدانت مواقف وسياسات ما يسمّى محور الإعتدال.
ثانياً، سوريا، الدولة العربية الممانعة التي تعرّضت لضغوطٍ كثيرة، أمريكية وعربية وإسرائيلية. وقد بلغت هذه الضغوط حدّ الاعتداء على أراضيها من قبل القوّات الأميركية وسلاح الجوّ الإسرائيلي، واستصدار قراراتٍ من مجلس الأمن ضدّها، وفرض الحصار الاقتصادي الأميركي عليها، ومحاولة عزلها دولياً، وخصوصاً من قبل أوروبا. سوريا هذه تعزّزت مكانتها بعد صمود المقاومة في غزة وفشل الحرب عليها. فالسياسة السورية تحظى بتأييدٍ شعبيٍ واسعٍ. وقد زاد انتصار المقاومة الفلسطينية من هذا التأييد، لأنها كانت الحاضن لحماس والفصائل المقاومة الأخرى. وحتى قوى المعارضة المرتبطة بالخارج، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين السورية، اضطرّت لتجميد معارضتها ضدّ النظام، كي لا تتّهم بالتواطؤ مع العدوّ الإسرائيلي. ويعترف أحد قادة الإخوان المقيمين في الخارج بالدور الذي لعبه العدوان على غزة وفشله، وطبيعة السياسة السورية تجاهه، في إرغام الجماعة على تجميد نشاطها المعارض. فقد كتب الطّاهر إبراهيم، القيادي في الجماعة المعارضة: «إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين السورية قد علّقت معارضتها للنظام السوري بسبب تعاطفها مع الشعب في غزة، ولترسل رسالة إلى حماس التي تحظى بعطف سوريا، بأن الإخوان يعيشون مع همّ حماس، كما يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها» . ويعترف "الإخوان" السوريون أن دعم سوريا لحماس وضع هذه الجماعة المعارضة أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا مواصلة معارضتها، والاصطدام مع رغبة غالبيّة أبناء الشعب في سوريا والوطن العربي والعالم الإسلامي في «مشارق الأرض ومغاربها»؛ وإمّا وقف معارضتها، مع ما يعنيه ذلك من الاعتراف بصحّة خيارات سوريا الكبرى التي ينتهجها نظامها الوطني.
وبديهيٌ أن الالتفاف الجماهيري الواسع حول السياسة السورية، شكّل واحداً من الانعكاسات الإيجابية لتداعيات فشل العدوان الصهيوني على غزة. كما أن مكانة سوريا الدولية قد تعزّزت بعد فشل العدوان؛ فسوريا اليوم التي تربطها علاقات وطيدة مع فصائل المقاومة الفلسطينية باتت دولة "راعية للحلول" التي يشتغل عليها وسطاء كُثر، بما في ذلك الدول الأوروبية وتركيا، وحتى الإدارة الأميركية الجديدة. فنتائج الحرب على غزّة عزّزت مكانة سوريا، داخلياً، وعربياً، وإقليمياً، ودولياً، وأثبتت صحّة رهانها على خيار المقاومة، رغم أن هذا الخيار قد عرّضها لضغوطٍ كثيرةٍ في الفترات السابقة. إن المصالحة العربية الأوّلية التي شهدتها قمّة الكويت، والتي ينتظر كثيرون أن تتطوّر في المستقبل، في ضوء اتصالاتٍ بين دمشق والرياض بدأت لأوّل مرّةٍ بعيد مصالحة الكويت، تشير إلى أن مكانة سوريا تعزّزت بعد فشل الحرب على غزة في مواجهة الأنظمة العربية التي سعت إلى إضعاف موقفها والنّيل منها.
ثالثاً، إيران؛ وهي الدولة الإقليمية الأولى الممانعة، التي قدّمت - وتقدّم - الدّعم القويّ للمقاومة، مادّياً وعسكرياً وسياسياً، تعرّضت، مثلها مثل سوريا، لضغوطٍ شديدةٍ بسبب سياستها الدّاعمة لقوى المقاومة. لكن انتصار المقاومة في لبنان وفلسطين عزّز مكانة إيران، إقليمياً ودولياً. ويمكن القول إن من أبرز التداعيات الإيجابية لدعم إيران للمقاومة، ولانتصار المقاومة الفلسطينية الأخير، إسقاط الإدعاءات الزّائفة التي روّجت لها دول "الاعتدال" العربي، ومحاولاتها اختراع عدوٍ وهميٍ للعرب هو إيران، ليحلّ محلّ العدوّ الحقيقي، أي إسرائيل التي تحتلّ الأراضي الفلسطينية والعربية وتشرّد الشعب الفلسطيني من أرضه؛ فيما توازن القوى الذي جرى ترسيخه بعد فشل العدوان على غزة، بين معسكر المقاومة والممانعة من جهة، والمعسكر الآخر من جهةٍ أخرى، قد أضعف كثيراً احتمالات تعرّض إيران لهجومٍ عسكري، سواء من قبل إسرائيل أو من قِبل الولايات المتحدة.
إن تراجع أجواء التحريض ضدّ إيران، أو على الأقلّ عدم التفاعل إيجاباً معها من قبل الرأي العام في الوطن العربي والعالم الإسلامي، يعتبر واحداً من الانعكاسات الإيجابية الهامّة لصمود المقاومة وسكّان غزة. بل إن إيران توّجت من قبل قوى المقاومة شريكاً في انتصار غزة، مثلما كانت شريكاً في انتصار تموز، بفعل دعمها الكبير  للمقاومة. وقد زار قادة المقاومة طهران بعد انتهاء العدوان لتقديم الشكر لقيادتها على الدّعم الذي قدّمته، بما يعني أن كلّ ما لدى قوى المقاومة من نفوذٍ وحضورٍ بات جزءاً من الرّصيد السياسي الكبير لإيران، وسوف يصبّ في تعزيز مكانتها، ويدعم خيار المقاومة والممانعة الذي تتبنّاه القيادة الإيرانية؛ وهذا مكسبٌ كبيرٌ يعزّز التلاحم العربي-الإسلامي، ويسقط محاولات إثارة الفتن بين العرب والإيرانيين التي سعت إليها بكلّ قوّة الولايات المتحدة وإسرائيل ودول "الاعتدال" العربي.
رابعاً، منذ عدوان تموز 2006 على لبنان، تميّزت مواقف قطر عن غيرها من الدول الخليجية الأخرى، وتطوّر موقفها لتصبح، رغم علاقاتها الإيجابية مع الولايات المتحدة ووجود مكتب اتصالٍ إسرائيليٍ في الدّوحة، واحدة من دول الممانعة. وتكرّس هذا الدّور أثناء العدوان على غزة بسبب مواقف قطر الإيجابية من المقاومة، وإقفالها مكتب الاتصال الإسرائيلي. وقطر التي غرّدت خارج السّرب الخليجيّ وانضمّت إلى دول الممانعة، لم يكن في قرارها هذا أيّ مغامرة، بل هو جاء نتيجة لحساباتٍ دقيقة؛ فمعسكر "الاعتدال" العربي إلى أفولٍ في ضوء التحوّلات الدولية والإقليمية وبعد تعزّز قدرات معسكر قوى المقاومة والممانعة في المنطقة. وبالتّالي، فإنّ الرهان على معسكر "الاعتدال" هو رهانٌ خاسر؛ وانضمام قطر إلى دول الممانعة هيّأها لأن تلعب دوراً مهماً على الصعيدين العربي والإقليمي، وأن تعزّز مكانتها الدولية بفعل هذا الدور، الذي برز بقوّةٍ خلال وبعيد فشل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
خامساً، أدّى فشل العدوان إلى تتويج تركيا كواحدةٍ من الدول الإقليميّة الممانعة. ورغم الملابسات التي تحيط بمواقف وسياسات تركيا إزاء إسرائيل، إلاّ أن وقوفها إلى جانب دول الممانعة، وتفهّمها لقوى المقاومة، كانت لـه انعكاساتٌ إيجابيةٌ داخل تركيا، وعلى دورها الإقليمي والدولي. فغالبيّة الشعب التركي التي نزلت إلى الشوارع وواصلت تنظيم المظاهرات والاحتجاجات طيلة فترة العدوان، واستنكرت مواقف بعض الأنظمة العربية وموقف السلطة الفلسطينية المتواطئ مع العدوّ الصهيوني، دفعت بالحكومة التركية إلى اتخاذ مواقف سياسية ضدّ الكيان المعتدي جعلتها أقرب إلى دول الممانعة، العربية والإقليمية. وهي شاركت في قمّة الدوحة، فيما وقف رئيس وزرائها وقفته المشهودة في منتدى دافوس (ضدّ شمعون بيريس)؛ وبديهيٌ أن انضمام تركيا إلى معسكر الممانعة الإقليميّ والعربيّ انعكس إيجاباً على حكومة حزب العدالة والتنمية، لأن أكثر من (90%) من الجماهير التركية، رغم اختلاف انتماءاتها الحزبية والسياسية، كانت مع الشعب الفلسطيني ومع قوى المقاومة. وبقدر ما اتخذت الحكومة التركية مواقف مستنكرة للعدوان ومؤيّدة للمقاومة، بقدر ما حازت على تأييدٍ شعبيٍ داخل تركيا. كما أن موقف الحكومة التركية الإيجابي أهّلها لتلعب دور الوسيط في الحوار الفلسطيني،  حيث دفع هذا الدّور بالعديد من الدول الأخرى المعنيّة بالصراع العربي - الإسرائيلي للرّهان على تركيا في المستقبل، وهذا زاد من أهمّيتها، دولياً وإقليمياً.
ثالثاً- إستنتاجات:
1- يسود اليوم في المنطقة، بعد فشل العدوان الإسرائيلي على غزة (ك2 2009) وبعد عدوان تموز 2006 على لبنان، توازن ردعٍ يميل لمصلحة المقاومة. ويحدث هذا للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، لأن الدول العربية فشلت في خلق هذا التوازن، وإن كانت قد حقّقت تقدّماً كبيراً في حرب تشرين أوّل أكتوبر عام (1973). لكنّ المكاسب التي تحقّقت على هذا الصّعيد في تلك الحرب بدّدتها اتفاقات كامب ديفيد (1979)، حيث حدث اختلال في التوازن الرّدعي، استمرّ يعمل في مصلحة إسرائيل، إلى أن استعادت المقاومة زمام المبادرة في حرب تموز (2006). وقد تكرّس هذا التوازن بعد الحرب الوحشيّة على غزة، في ضوء الصّمود البطوليّ للمقاومة وللشعب الفلسطيني.
2- إن احتمال شنّ الكيان الإسرائيلي لاعتداءاتٍ جديدةٍ على قوى المقاومة ودول الممانعة على أيّ جبهةٍ من الجبهات، بما في ذلك الاعتداء على إيران، تراجع بشدّةٍ في ضوء النتائج التي أسفر عنها انتصار غزة. ذلك أن أيّ عدوانٍ جديدٍ سوف يلاقي مصير العدوانين على لبنان وعلى غزة؛ والأرجح أن الجيش الذي يُدفّع الثمن في الحروب التي يُدفع إليها بفعل مزايدات القوى السياسية والحزبية في إسرائيل، أو من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وبعد تجربتين فاشلتين مكلِفتين، لن ينقاد بسهولةٍ إلى مغامراتٍ جديدةٍ يكون هو وقودها، ليس لأنه أقلّ تطرّفاً من الأحزاب السياسية، بل لأن الفشل المتكرّر بدأ ينال من هيبته ويبدّد الأسطورة التي رُسِمت حوله منذ عام (1948) وحتى تموز عام (2006)، وصولاً إلى محرقة غزّة.
3- توازن القوى بعد العدوان على غزة، بين معسكر المقاومة ودول الممانعة من جهة، وبين معسكر "الاعتدال" العربي من جهةٍ أخرى، أصبح يميل بقوّةٍ لمصلحة معسكر الممانعة والمقاومة. ويواجه معسكر "الاعتدال" أزمة حقيقية بدأت تظهِر تبايناً في مواقف حكّام وقادة دوله الرئيسية، وخصوصاً بين كلٍ من السعودية ومصر والأردن، حيث أبدت السعودية استعدادها لإجراء مصالحةٍ عربيةٍ شاملة، وهدّدت بسحب المبادرة العربية عن الطاولة، في حين لوحظ أن مصر لا تزال تتبنّى مواقف تصعيدية ضدّ معسكر المقاومة والممانعة، وتصرّ على التمسّك بالمبادرة العربية! ويواجه معسكر "الاعتدال" عزلة شعبية، عربياً وفلسطينياً، بعد أن قالت الجماهير العربية كلمتها وحدّدت مواقفها من سياسات هذا المعسكر أثناء العدوان، عبر المسيرات المليونية التي غطّت العديد من العواصم العربية والمدن الفلسطينية ومعظم أنحاء العالم الإسلامي.
4- التسوية الاستسلامية، التي جرى الترويج لها منذ انهيار معسكر الصمود والتصدّي العربي في نهاية عقد الثمانينات، لم تعد ممكنة، بعد أن تعزّزت مكانة قوى المقاومة والممانعة، التي لن تسمح بتمرير أيّ تسويةٍ لا تلبّي الحدّ الأدنى من الحقوق العربية، وفي مقدّمتها تحرير الأرض الفلسطينية. فقد ولّى، وإلى الأبد، الزمن الذي تستطيع فيه الأطراف السّائرة في ركب الاستسلام إملاء إرادتها على قوى المقاومة والممانعة، التي باتت تمتلك وسائل القوّة القادرة على فرض إرادتها وإلحاق الهزيمة بالخطط والمشاريع المعادية.

2009-07-24 09:08:20 | 1818 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية