التصنيفات » دراسات

المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى



المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939..(1/3)/ د.محمود محارب*
• دائرة العلوم السياسية - جامعة القدس
 
 
" في الفترةالاخيرة وفي اطار المحاولات المحمومة التي تبذل لفرض التطبيع مع العدو الصهيوني بشكل مترافق مع خطط وسيناريوهات  يجري طبخها لتصفية القضية الفلسطينية تزايدت المقالات التي تحمل وجهة نظر صهيونية او تتطابق معها وتنشر في الكثير من وسائل الاعلام العربية ‘ ولفهم حقيقة ذلك الدور المشبوة ، نعيد نشر هذه الدراسة القيمة "   باحث نت


مقدمة: 
أولت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، التي قادت السياسة الصهيونية تجاه الأقطار العربية، أهمية كبيرة لرأي النخب العربية وللرأي العام في الأقطار العربية، وسعت للتأثير عليهما.

وقد تنبه القادة الصهيونيون مبكراً الى دور الصحافة العربية، وأدركوا انها تحتل مكانة هامة في التأثير على الرأي العام في الأقطار العربية. وازداد إدراكهم هذا على أثر ثورة البراق في فلسطين في العام 1929، حيث غطت الصحافة العربية هذه الثورة، وأوصلت ما يدور من أحداث في فلسطين إلى الرأي العام العربي، وساهمت في بلورة وحشد الرأي العام العربي في الأقطار العربية لمناصرة الشعب العربي الفلسطيني.

وتهدف هذه الدراسة إلى كشف النقاب عن مساعي الدائرة السياسية للوكالة اليهودية التأثير على مواقف الصحافة العربية، في ثلاثينات القرن الماضي، من القضية الفلسطينية والصهيونية؛ والى تسليط الضوء على المقالات الصهيونية المدسوسة، والأخبار التي زرعتها الوكالة اليهودية، في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936-1939.

فخلال العامين الأخيرين من هذه الثورة زرع جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية ما لا يقل عن 280 مقالا مدسوسا في الصحف اللبنانية والسورية، والتي نشرت إما باسم هيئات تحرير تلك الصحف أو باسماء عربية مستعارة أو على شكل تقارير وكأنها من مراسلي الصحف؛ من أجل إخفاء كاتبها الحقيقي.

تستند هذه الدراسة إلى مصادر أولية وفي مقدمتها تقارير مسؤولي جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية، المحفوظة في الأرشيف الصهيوني المركزي، وخاصة تقارير الياهو ساسون الذي كان مسؤولا عن نشر هذه المقالات المدسوسة.

ودأبت هذه الدراسة على ذكر أسماء الصحف العربية اللبنانية والسورية التي نشرت المقالات المدسوسة، وتاريخ نشرها، والمواضيع التي طرحتها وعالجتها المقالات المدسوسة، لإتاحة الفرصة أمام القارىء والباحث المختص العودة إليها إذا اراد التوسع في هذا الموضوع.

لقد وفرت الوثائق التي استندت عليها الدراسة، والتي كانت سرية للغاية في حينه، وفتحت لجمهور الباحثين بعد مرور العقود الطويلة، فرصة هامة لنا للولوج الى داخل ذهنية قيادة الوكالة اليهودية في تلك الفترة؛ ومكنت هذه الدراسة من الإطلال مباشرة على الأهداف التي سعت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية إلى تحقيقها، وعلى الوسائل التي اتبعتها، وعلى النقاشات الداخلية التي كانت تجري بين قادتها حول أنجع الطرق لتحقيق الأهداف الصهيونية، وعلى مدى الجهود التي بذلتها الدائرة السياسية للوكالة اليهودية لتحقيق أهدافها، وعلى كيفية كسبها للعمل لصالحها وإغوائها الكثير من الصحافيين واصحاب ومحرري الصحف العربية، وغيرهم، في لبنان وسوريا في تلك الفترة.

وحرصت الدراسة على عرض المواضيع التي طرحتها وعالجتها المقالات المدسوسة، التي مثلت بدورها سياسة الوكالة اليهودية تجاه القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى.

ويتضح من خلال عرض مواضيع المقالات المدسوسة أن الدائرة السياسية للوكالة اليهودية لم تكتف بطرح وجهة النظر الصهيونية ومفهومها وأجندتها، وكذلك لم تكتف بالعمل على تشويه النضال الوطني الفلسطيني، أو طرح أجندات بديلة للقضية الفلسطينية؛ وإنما أيضا شوهت الحقائق وزرعت أخبارا مختلقة، هدفت من ورائها التأسيس إلى رأي عام عربي يقف ضد الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني ويتقبل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

وتظهر الدراسة كيف استعملت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية المقالات المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية لتحقيق أغراض سياسية أخرى. ففي كثير من الأحيان، أعادت الدائرة السياسة للوكالة اليهودية نشر المقالات المدسوسة، كاملة أو مختصرة، في "وكالة الشرق" وفي صحيفة "دافار" العبرية، وفي صحف بريطانية وفرنسية؛ وقامت أيضا في العديد من الحالات بإيصالها إلى متخذي القرار في لندن وباريس، وكأن هذه المقالات المدسوسة من بنات أفكار محرري صحف عربية يمثلون شريحة هامة في الرأي العام العربي في لبنان وسوريا.

***
في أعقاب ثورة البراق في فلسطين قي العام 1929، بذل مسؤولو الدائرة السياسية للوكالة اليهودية وجهاز مخابراتها جهوداً مكثفة من أجل التأثير على الصحافة العربية. وفي هذا السياق زار حاييم كالفاريسكي، مسؤول جهاز المخابرات في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، بيروت في كانون الثاني ( يناير ) 1930، وأفضت زيارته إلى تشكيل لجنة في بيروت مكونة من أربعة نشيطين يهود لبنانيين بغرض التنسيق مع جهاز مخابرات الوكالة اليهودية بخصوص التأثير على الصحف اللبنانية والسورية لاتخاذ مواقف موالية للصهيونية (1).

وقد منح جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية هذه اللجنة 150 جنيها فلسطينيا لتمكينها من القيام بمهامها (2). وأشار كالفاريسكي في تقرير له أن هذه اللجنة تمكنت من تغيير مواقف بعض الصحف العربية في لبنان مثل صحيفة "الأحوال"، وكذلك تغيير مواقف صحيفتي "لورينت" و "له – سيري" الصادرتين في بيروت باللغة الفرنسية (3).

وأضاف كالفاريسكي في تقريره أنه أثناء وجوده في بيروت اجتمع مع خير الدين الأحدب، محرر صحيفة "العهد الجديد"، والذي أصبح لاحقا رئيس وزراء لبنان؛ وقد أسهب كالفاريسكي في حديثه أثناء الاجتماع، عن ضرورة "التفاهم بين العرب واليهود"، وطلب من خير الدين الأحدب تقديم المساعدة للوكالة اليهودية بواسطة نشر مقالات موالية للصهيونية في صحيفته. وفي نهاية الاجتماع سأل كالفاريسكي خير الدين الأحدب عن المبلغ الذي يريده مقابل خدمته هذه. أجابه خير الدين الأحدب أنه يريد "مبلغ 400 جنيه فلسطيني في السنة، وهو مبلغ اعتقدت أنه مبالغ فيه. واتفقنا على مبلغ 200 جنيه فلسطيني تدفع بأقساط كل ثلاثة شهور" (4).

في الوقت نفسه الذي كان ينشط فيه كالفاريسكي في بيروت، زار دافيد يلين، أحد المسؤولين في جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، القاهرة، وثم تبعه الكولونيل فريدريك كيش رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، والتقى كل منهما مع العديد من المسؤولين في مصر ومع قادة الطائفة اليهودية فيها. ووفق تقرير كيش، حققت زيارتهما النتائج التالية:

أولاً: تنظيم مجموعة من اليهود المصريين للقيام بنشاطات في الصحافة المصرية من أجل أن تتخذ مواقف مناصرة للصهيونية.
ثانياً: مصادرة الحكومة المصرية كراسات مناهضة للصهيونية نشرت في مصر.
ثالثاً: تنظيم مجموعة من المخبرين للعمل لصالح جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية (5).

شهدت الدائرة السياسية تطوراً ملحوظاً في نشاطها تجاه العرب بعد تولي حاييم أرلزوروف رئاستها في العام 1931 على أثر استقالة فريدريك كيش. فمنذ أن ترأس الدائرة السياسية أولى حاييم ارلوزوروف، أحد أبرز قادة حزب "مباي"، أهمية كبيرة للسياسة الصهيونية تجاه الأقطار العربية، وسعى إلى بناء جهاز مخابرات عصري، ليشكل أداة فعالة في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية لتحقيق أهدافها(6).

توجه حاييم أرلوزورف إلى جيل الشباب فاستقطب موشيه شرتوك (7) وعينه سكرتيراً للدائرة السياسية للوكالة اليهودية، ثم استقطب رؤوفين زيسلني ( شيلواح ) (8)، عندما كان طالباً في قسم الدراسات الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس، وأرسله إلى بغداد، في العام 1931، لمدة عام، بهدف التجسس على العراق. كما جند ارلوزوروف الطالب الياهو ابشتاين (ايلات) عشية سفره إلى بيروت لإكمال تعليمه للقب الجامعي الثاني في الجامعة الأميركية في بيروت، ليقوم بنشاط تجسسي في لبنان وسوريا وليقدم تقريراً أسبوعياً للدائرة السياسية عن الأوضاع في البلدين (9).

لم يكتب لارلوزوروف أن يرى ثمار ما شرع بعمله منذ تبوئه رئاسة الدائرة السياسية للوكالة اليهودية. فقد اغتيل في تل أبيب في العام 1933، على خلفية احتدام الصراع بين التيار العمالي والتيار اليميني في الحركة الصهيونية (10)، فحل مكانه موشيه شرتوك (شاريت) في العام 1933، وظل في منصبه هذا حتى العام 1948 حيث أصبح وزيراً للخارجية في الدولة العبرية ومن ثم رئيساً للوزراء. وقد بلور وقاد كل من موشيه شرتوك ودافيد بن غوريون، الذي شغل منذ العام 1935 منصب رئيس إدارة الوكالة اليهودية وأصبح أول رئيس وزراء في إسرائيل، السياسة الصهيونية تجاه الأقطار العربية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.

استمر موشيه شرتوك في سياسة سلفه في استقطاب الكوادر الشابة. ففي العام 1933 وظف شرتوك الياهو ساسون في جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية(11). وفي نهاية العام نفسه وظف شرتوك في الجهاز نفسه الطالب عاموس لندمن الذي كان طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت والطالبة أفيفه طوروفسكي التي كانت تدرس في الجامعة الأميركية في بيروت للقب الثاني، واختارت موضوع رسالتها "الحركة القومية العربية" ليتسنى لها شرح اهتمامها بالسياسة والسياسيين السوريين واللبنانيين.

وأثناء دراستها ونشاطها في بيروت تزوجت من عاموس لندمن فشكلا سوية بؤرة تجسس على لبنان وسوريا لعدة سنوات(12).
 
 
"وكالة الشرق" 
في سياق سعيها إلى اختراق الصحف العربية والوصول إلى الرأي العام العربي، أسست الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في القاهرة وكالة أنباء باللغة العربية. ففي كانون الثاني (يناير) 1934 أسس ناحوم فيلنسكي عميل الوكالة اليهودية، وسجل رسميا في القاهرة، وكالة أنباء أطلق عليها اسم "وكالة الشرق – شركة تلغرافية لإذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية" (13).

ومنذ إنشاء "وكالة الشرق" ظلت الوكالة اليهودية تزودها بالمواد الصهيونية الدعائية الإعلامية لنشرها وتوزيعها، خاصة على الصحف الصادرة في البلاد العربية.

طلب موشيه شرتوك من ناحوم فيلنسكي، مسؤول "وكالة الشرق"، وكان مقره في القاهرة، الانتباه وأخذ الحيطة والعمل بحذر واخفاء العلاقة بين "وكالة الشرق" و الوكالة اليهودية كلية، والتظاهر بالحيادية وإبراز الأرقام والحقائق بخصوص تطور المشروع الصهيوني، وذلك "لكي لا تتعرض وكالة الشرق للمقاطعة من قبل الصحافة العربية".

وأضاف موشيه شرتوك "علينا إغواء ونيل رضا" الصحف العربية بتزويدها أخباراً مثيرة وحيوية متعلقة بما يحدث في عالم الشرق الأوسط السياسي، ولكن "عندما نكون معنيين تحويل موضوع ما إلى موضوع مثير فإنك ستقوم بذلك بحذر وتكتيك كما تصرفت حتى الآن" (14).

وضع حاييم فيلنسكي نصب عينيه هدفاً سياسياً كبيراً، كما ذكر في أحد تقاريره، وهو منع قيام جبهة عربية موحدة ضد الصهيونية وذلك بشق شرخ واسع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والأقطار العربية، وبخلق مصاعب أمام الحركة الوطنية الفلسطينية في كل الشرق (15). ففي ضوء تمسك قادة الصهيونية المستمر بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، وتعاظم تدفق الهجرة اليهودية الى فلسطين في تلك الفترة، والرفض الصهيوني الدائم لاستقلال فلسطين، وفي ضوء ازدياد التعاطف الشعبي العربي مع الشعب العربي الفلسطيني، اقترح حاييم فيلنسكي شن حملة سلام إعلامية في الصحف العربية لخلق انطباع عن الصهيونية في الرأي العام العربي، مغاير لماهيتها ومناقضا لأهدافها، وإظهارها وكأنها تحب السلام وتسعى لتحقيقه.

فقد اقترح فيلنسكي، في تقريره إلى موشيه شرتوك، الشروع "بهجوم سلام كبير" وذلك عبر نشر مقالات في الصحافة اليهودية في فلسطين تدعو إلى السلام مع العرب لتقوم "وكالة الشرق" بترجمتها ونشرها في الصحافة في الأقطار العربية.

اعتقد حاييم فيلنسكي أن هذه الحملة يتوجب أن تتوجه إعلامياً ليس إلى الفلسطينيين وإنما إلى البلاد العربية التي يمكن أن تتأثر بها وكذلك الى الدوائر الأوروبية المهتمة بفلسطين (16).

استمر نشاط "وكالة الشرق" سنوات طويلة زرعت خلالها المعلومات الهادفة إلى الإساءة للحركة الوطنية الفلسطينية، والى خلق وتغذية الصراعات العربية – العربية، وإلى غرس أوهام حول سعى الصهيونية تحقيق السلام.

علاوة على ذلك، استخدم العديد من قادة جهاز المخابرات التابع للوكالة اليهودية صفة "مراسلي وكالة الشرق"، وفي مقدمتهم الياهو ساسون والياهو ابشتاين، في زياراتهم الكثيرة للعواصم العربية في تلك الفترة، للتغطية على عملهم التجسسي ضد العرب (17). 
 
تكثيف النشاط أثناء 1936-1939 الفلسطينية: 
مع تصاعد الكفاح الوطني الفلسطيني المسلح، الذي وصل إلى إحدى ذراه، باغتيال حاكم لواء الجليل أندروز ومساعده في 26 – 9 – 1937.

صعدت سلطات الانتداب البريطانية من بطشها بالشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. فقد أقدمت سلطات الانتداب، بعد خمسة أيام من مصرع اندروز، على حل اللجنة العربية العليا واللجان القومية في فلسطين، وأصدرت أمراً بعزل المفتي الحاج أمين الحسيني من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وشنت حملة اعتقالات واسعة شملت قادة وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد لجأ المفتي الحاج أمين الحسيني إلى المسجد الأقصى تجنباً لاعتقاله، ثم غادر القدس سراً إلى لبنان.

لقد شكلت سوريا ولبنان ساحة هامة لدعم الثورة الفلسطينية منذ اندلاعها في العام 1936. وازدادت أهمية سوريا ولبنان، وشكلتا مركزاً وقاعدة إسناد هامة للثورة الفلسطينية، بعد لجوء الحاج أمين الحسيني إلى لبنان في تشرين الثاني (أكتوبر) 1937.

أدركت قيادة الوكالة اليهودية أهمية كل من لبنان وسوريا للثورة في فلسطين وتابعت عن كثب توجهات رأي النخب والرأي العام في البلدين.

وتكشف الوثائق الإسرائيلية، وخاصة تقارير الياهو ساسون والياهو ابشتاين، أن الوكالة اليهودية اهتمت جداً بالصحافة اللبنانية والسورية أثناء ثورة 1936 – 1939 الفلسطينية، وبذلت جهوداً كبيرة للتأثير عليها. ففي كانون الثاني (يناير) 1937 اجتمع كل من الياهو ساسون والياهو ابشتاين مع وديع تلحوق، المحرر في صحيفة " الإنشاء" السورية، في فندق أمية في دمشق، وبحثا معه إمكانية أن يقوم بنشر مقالات في الصحافة السورية تشرح المشروع الصهيوني في فلسطين.

وقد تمخض هذا الاجتماع عن موافقة وديع تلحوق القيام بهذا الدور، شريطة أن تزوده الوكالة بمواد معتدلة (18). وبعد أن عاد الياهو ساسون والياهو ابشتاين من دمشق إلى القدس، أرسل الياهو ابشتاين إلى وديع تلحوق "مقالة تبحث في العلاقات الاقتصادية بين فلسطين وسوريا مبنية على أرقام ووقائع معتدلة كل الاعتدال في أسلوبها ومبناها"، ورجاه أن يقوم "بنشرها في صحيفة الإنشاء، أو في أحدى الصحف الكبرى في دمشق"، وطلب منه أن يرسل للوكالة اليهودية ثلاثة – أربعة أعداد، وأخبره أنه سيرسل له قريباًَ مقالات أخرى. ولم ينس الياهو ابشتاين أن يعلمه أنه "لكم الحرية في إدخال قلمكم على المقالات وجعلها عند الضرورة ملائمة للنشر بالجرائد السورية بدون أن يحصل لكم بسبب ذلك أي متاعب" (19).

في ضوء تفاقم الأوضاع في فلسطين في خريف 1937، شدد مجدداً الياهو ساسون على أهمية دور الصحافة اللبنانية والسورية في التأثير على الرأي العام في البلدين. ففي تقرير له من بيروت في بداية تشرين الثاني (أكتوبر) 1937 ذكر الياهو ساسون أنه "رأى بأم عينيه الناس وهم يركضون وراء بائعي الصحف ويختطفون الصحف كي يقرأوا الأخبار حول الوضع في فلسطين".

وأضاف الياهو ساسون أن اهتمام الجمهور اللبناني بالوضع في فلسطين يفوق بكثير اهتمامهم بمعركة الانتخابات للبرلمان اللبناني التي كانت تجري في تلك الأيام(20).

وأثناء وجوده في دمشق في تلك الفترة، ومن خلال متابعته الوضع في سوريا عن كثب، لاحظ الياهو ساسون في تقرير له من دمشق، أن عادل العظمة ونبيه العظمة والدكتور صبحي أبو غنيمة وشكيب أرسلان والشيخ كمال القصاب يؤيدون الثوار الفلسطينيين، ويضغطون بشدة على الحكومة السورية بأن لا تعرقل فعالياتهم.

وذكر في تقريره أن الحكومة السورية في وضع صعب بسبب النزاعات بينها وبين مناطق عديدة في سوريا وكذلك بسبب رفض فرنسا المصادقة على الاتفاقية الفرنسية – السورية، لذلك لا تتجرأ الحكومة السورية منع النشيطين السوريين والفلسطينيين من القيام بفعالياتهم داخل سوريا (21 ).

بعد تحليله للوضع في سوريا قدم الياهو ساسون خطة للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، اقترح فيها أن تقوم الوكالة اليهودية بجملة من الخطوات لكي تؤثر على الوضع في سوريا أبرزها:

1. الاتصال مع باريس وحثها للضغط على الحكومة السورية لتقوم بوقف الدعاية المناهضة للصهيونية في الصحف السورية.

2. حث باريس على عدم المصادقة على الاتفاقية الفرنسية – السورية، فمن شأن ذلك أن يرغم الحكومة السورية أن تضبط نفسها تجاه القضية الفلسطينية من ناحية، وأن يزيد من معارضة الشعب السوري للحكومة السورية من ناحية أخرى، وهو ما يقود إلى إضعاف الحكومة السورية وإضعاف اهتمام السوريين بالقضية الفلسطينية.

3. نشر مقالات في الصحف السورية، كل يوم تقريباً، تدعم الطروحات الصهيونية المركزية إزاء الوضع في فلسطين وسوريا.

4. إثارة مسألة لواء الاسكندرونة في الصحف ونشر مقالات حوله، وكذلك نشر جميع الخطب التي ألقاها القادة السوريون حول لواء الاسكندرونة في كتيبات لكي ينصب اهتمام السوريين بلواء الاسكندرونة ويكفون عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية. وأضاف ساسون أنه توجد في حلب معارضة قوية ضد الحكومة والتي يمكن استغلالها بسهولة، وأن صحف حلب ستكون على استعداد نشر مقالات تهاجم الحكومة السورية و"الكتلة الوطنية" لأهمالهما مسألة لواء الاسكندرونة.

5. إثارة الصحف الإنجليزية وحثها على مهاجمة حكومتي سوريا وفرنسا لأنهما تسمحان للصحافة السورية وللسوريين التدخل تدخلاً فعلياً في قضية فلسطين (22).

وفي ما يخص الصحافة في لبنان اقترح الياهو ساسون في رسالته إلى برنارد جوزيف، نائب رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، إرسال رسالة شخصية إلى رئيس الجمهورية اللبنانية اميل اده ولفت انتباهه إلى ما تنشره الصحف اللبنانية وإلى ردود فعلها الشديدة على ما يجري في فلسطين، وإن يعرب برنارد جوزيف في رسالته عن أمله "أن تقوم الحكومة اللبنانية التي حافظت خلال كل الفترة على حيادها تجاه القضية الفلسطينية، بالطلب من الصحافة اللبنانية الكف عن التدخل في القضيةالفلسطينية " (23).

____________
يتبع..... 
 
المراجع: 

1- Col. F. H. Kisch , Letter to the chairman of the Political Commission , XVllth Zionist Congress to the Chairman of the Political Commission , 2nd Assembly of the Council of the Jewish Agency for Palestine , accompanied by a report on the work of the Joint Bureau For Arab Relations. 1931 , p.28
2- تقرير حاييم كالفاريسكي بتاريخ 12-1-1930، ملف 3562/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- Col. F. H. Kisch , Letter to …، مصدر سبق ذكره.
6- الياقيم روبينشتاين "هطيبول بشئيلاه هاعرفيت بشنوت هعسريم فهشلوشيم: هيبطيم موسدييم" (معالجة المسألة العربية في سنوات العشرينات والثلاثينات: نظرة مؤسساتية ) هتسيونوت، الجزء الثاني عشر، 1987.
7- المصدر نفسه.
8- لعب رؤوفين شيلواح دورا هاما في تأسيس وبلورة أجهزة المخابرات الإسرائيلية وقد رأس جهاز الموساد بعيد إقامة إسرائيل. للمزيد انظر إلى حجاي ايشد، موساد شل ايش أحاد: رؤوفين شيلواح افي هموديعين هيسرائيلي، (موساد لرجل واحد: رؤوفين شيلواح أب المخابرات الإسرائيلية)، القدس: عيدنيم، 1988.
9- الياهو ايلات، شيبات – تسيون فعراف، (عودة صهيون والعرب) تل أبيب: دفير، 1974، ص11.
10- عبد الحفيظ محارب، هاغاناة، اتسل، ليحي، العلاقات بين التنظيمات الصهيونية المسلحة 1987 – 1948، بيروت: مركز الأبحاث الفلسطيني، 1981، ص 40.
11- الياقيم روبنشتاين... مصدر سبق ذكره. ولد الياهو ساسون في دمشق في العام 1902 وهاجر في العام 1920 إلى فلسطين، وكان يكتب ويتحدث العربية بطلاقة.
12- يوآب غيلبر، شورشي هاحفتسيليت: هموديعين بييشوف، 1918 – 1948،(جذورالزئبقة: المخابرات في الييشوف 1918 – 1947 ) تل أبيب: وزارة الدفاع، 1992، ص128.
13- الياقيم روبنشتاين... مصدر سبق ذكره.
14- المصدر نفسه.
15- رسالة فيلنسكي إلى ابشتاين، بتاريخ 15 – 12 – 1934، ملف 3135/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
16- رسالة فيلنسكي إلى موشيه شرتوك بتاريخ 9 – 12 – 1934، ملف 3135/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
17- الياقيم روبشتاين... مصدر سبق ذكره.
18- الياهو ساسون، بديرخ ايل هاشلوم، (في الطريق إلى السلام) تل أبيب: عام عوفيد، 1978، ص 48. يخفي هذا الكتاب الكثير من تقارير ورسائل الياهو ساسون، وكذلك حذفت من التقارير المنشورة في هذا الكتاب، اتصالات وعلاقات الياهو ساسون مع "زبائنه" ذات الصلة المخابراتية.

19- رسالة الياهو ابشتاين إلى وديع تلحوق في 24 – 1 – 1937، ملف 22229/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي (بالعربية).
20- الياهو ساسون، الطريق إلى السلام... مصدر سبق ذكره ص،78.
21- المصدر نفسه، ص 80.
22- المصدر نفسه، ص 80 – 81
23- المصدر نفسه، ص 82.


المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939 (2/3) د.محمود محارب*
 
* دائرة العلوم السياسية - جامعة القدس 

نشاط إلياهو ساسون: 
في بداية تشرين الأول (أكتوبر) 1937 كثف الياهو ساسون من نشاطه لنشر مقالات في الصحف السورية. فقد أرسل إلى عميل الوكالة اليهودية في دمشق الصحافي ع.ع. ثلاثة مقالات لنشرها. ونشر العميل ع. ع. مقالين في صحيفتين دمشقيتين، والمقال الثالث في صحيفة الدستور الصادرة في حلب.

وأثار المقال الذي نشر في صحيفة الدستور بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1937 ضجة كبيرة في حلب. فقد جاء المقال المدسوس على شكل افتتاحية في الصفحة الأولى احتلت عنواناً رئيسياً: "نحن أولى بلجنة دفاع عن سورية من لجنة دفاع عن فلسطين وباقي بلاد العرب". وذكرت الافتتاحية "... أن ينصرف السوريون مثلاً – وهم في حالتهم الحاضرة المليئة بالفقر المدقع والاضطراب والاختلافات والتحزبات – إلى معالجة المشكلة الفلسطينية وغيرها وهم على ما هم عليه من تفكك وخور، فذلك فضلاً عن أنه يؤخرهم عن تدارك أمرهم الذي قد يؤدي إلى الهلاك والدمار، فهو يؤدي أيضاً إلى الهزء منهم والاستخفاف بهم من جانب الأجانب الطامعين... فنحن والحالة هذه أولى بلجنة دفاع عن سورية منا عن لجنة دفاع عن أية بقعة من بلاد العرب العزيزة... ولا نظن أن عاقلاً مهما بلغ منه التهور والتطرف يترك باب داره مفتوحاً أمام عصابات اللصوص المحدقة به من كل صوب، ويهب لمساعدة جاره المنكوب بدوره بهؤلاء اللصوص... " (24).

في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1937 أرسل الياهو ساسون تقريراً من بيروت إلى برنارد جوزيف نائب رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، ذكر فيه أنه أنهى كتابة 12 مقالاً لنشرها في الصحف اللبنانية والسورية، وأنه طلب من عميل الوكالة اليهودية الصحافي ع. ع. القدوم من دمشق إلى بيروت لمساعدته في إيصال المقالات التي خصصها الياهو ساسون للصحف البيروتية، إلى محرري هذه الصحف.

وبعد أن قاما بالمهمة غادر الياهو ساسون وعميل الوكالة اليهودية بيروت، وتوجها إلى حلب ومنها أرسل الياهو ساسون تقريراً إلى برنارد جوزيف أخبره فيه أنه نجح أثناء زيارته حلب بترتيب نشر سبعة مقالات في صحيفتين تصدران في حلب هما صحيفة "الدستور" وصحيفة "الجهاد". وذكر الياهو ساسون في تقريره أن المقالات المنشورة في الدستور تهاجم لجنة الدفاع عن فلسطين، وتطالب الحكومة السورية بمصادرة جميع الأموال التي جمعتها اللجنة لصالح فلسطين وتوزيعها على فقراء سورية وعمالها الذين يتضورون جوعاً. أما المقالات المنشورة في صحيفة "الجهاد" فتنتقد الحكومة السورية والشعب السوري لأنهم أهملوا مسألة لواء الاسكندرونة، وتدعو إلى إيقاظ الشعب السوري وتأسيس لجان دفاع عن لواء الاسكندرونة.

وأضاف الياهو ساسون في تقريره إلى برنارد جوزيف أنه وعد الصحيفتين أن يرسل لهما مقالات جديدة لنشرها. وأردف: "كما ترى هذا عمل ثمنه قليل ونتائجه كبيرة ". وطلب ساسون في ختام تقريره من برنارد جوزيف الإيعاز إلى مدير "وكالة الشرق" حاييم فيلنسكي بأن ينشر تلخيصاً للمقالات في "وكالة الشرق"، وكذلك أن ينشر المقالات المدسوسة بكاملها في صحيفة "دافار" كي "يثبت للعرب والانجليز أنه ليس كل السوريين يتضامنون مع عرب فلسطين " (25).

في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1937 أرسل الياهو ساسون إلى برنارد جوزيف تقريراً من دمشق مرفقاً إياه بنسخ من المقالات المدسوسة التي نشرت في الصحف السورية في اليوم ذاته. وذكر الياهو ساسون في تقريره أن جميع المقالات تطرقت إلى مسألة لواء الاسكندرونة، وأن بعضها انتقد موقف الحكومة من هذه المسألة في حين أن بعضها الآخر شدد على الخطر التركي الذي يتربص بلواء الاسكندرونة. وناشدت المقالات المدسوسة الشعب والحكومة السورية بذل كل ما بوسعهم للدفاع عن عروبة لواء الاسكندرونة. وأشار ساسون إلى إن أهمية المقال الذي نشر في صحيفة "القبس" تعود إلى كون "القبس" صحيفة حكومية (26).

في كانون الأول/ ديسمبر 1937 عاد الياهو ساسون وكثف من نشاطه في نشر المقالات المدسوسة، ففي الرابع عشر من هذا الشهر أرسل تقريراً من بيروت إلى موشيه شرتوك أخبره فيه عن نجاحه في نشر خمسة مقالات في صحف عربية تصدر في بيروت ودمشق، وأرفق ساسون تقريره بنسخ عن هذه المقالات (27). وذكر ساسون في تقريره أنه نشر مقاله الأول في صحيفة "بيروت"، ودار موضوعه حول ضرورة محاربة "الدعاية الأجنبية " في البلدان العربية والمتمثلة أساساً في الدعاية الألمانية والايطالية.

وجاء المقال الثاني، الذي نشره الياهو ساسون في صحيفة "لسان الحال" الصادرة في بيروت، على شكل تقرير من فلسطين ودار موضوعه حول مقتل شرطيين عربيين مسيحيين بالقرب من عكا، بهدف إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين. ونشر الياهو ساسون مقاله المدسوس الثالث في صحيفة "فتى العرب" الصادرة في دمشق، وعالج المقال الوضع في لواء الاسكندرونة، وشدد على أن واجب العالم العربي تجاه قضية لواء الاسكندرونة يسبق واجبه تجاه قضية فلسطين.

ونشر الياهو ساسون المقال الرابع في صحيفة "صوت الأحرار" على شكل تقرير من فلسطين حيث سعى إلى إظهار الارتباك في صفوف العرب والتناقض بين موقف القيادات الفلسطينية من ناحية وموقف ملوك العرب من ناحية أخرى، واستعرض كذلك العوامل التي شجعت "لجنة بيل" البريطانية على التوصية بتقسيم فلسطين، وحاول إثبات أنه لا طريق أخرى أمام العرب لحل القضية الفلسطينية سوى التفاهم مع اليهود أو قبول تقسيم فلسطين.

ونشر ساسون مقاله الخامس في صحيفة "البلاد"، تحت اسم مستعار وكأن المقال من نشيط سياسي عربي فلسطيني يمكث في بيروت. ونسب المقال سلبيات وعيوب كثيرة إلى النضال الفلسطيني، وتحدث عن عدم كفاءة القيادة الفلسطينية، وعن عدم توفر الأمن وعدم تحلي القيادات الفلسطينية بالشجاعة للإقدام والتفاوض مع الوكالة اليهودية، ووسم الثورة في فلسطين بأنها "حرب عنصرية في فلسطين"، ودعا إلى إقامة علاقات صداقة بين الإسلام واليهودية، وحذر من مخاطر محاولة الفلسطينيين استغلال التناقض ما بين ايطاليا وألمانيا من ناحية وفرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى. وفي نهاية تقريره أشار ساسون أنه نشر منذ قدومه إلى بيروت وحتى الآن ثمانية مقالات وأنه بقي عليه نشر عشرين مقالاً آخر، يتأمل نشرها خلال أسبوع (28).

في 15 كانون الأول ( ديسمبر ) 1937 نشر الياهو ساسون ثلاثة مقالات مدسوسة في الصحف اللبنانية (29)، وجاء المقال الأول، والذي نشره في صحيفة "صوت الأحرار"، على شكل تقرير من القدس، ودار موضوعه الرئيسي ضد "الإرهاب" العربي في فلسطين. وتمحور أيضا موضوع المقال الثاني، والذي نشره في صحيفة "بيروت"، ضد "الإرهاب" العربي في فلسطين. وهاجم المقال الثالث، والذي نشره في صحيفة "النهضة"، "مكتب الدعاية والنشر" في دمشق وصاحبه فخري البارودي، الذي كان يزود الصحافة العربية بمعلومات وتحليلات مناصرة للشعب الفلسطيني.

أشار الياهو ساسون في تقريره إلى شرتوك أنه نشر حتى الآن أحد عشر مقالاً في الصحف اللبنانية والسورية، وأنه لم يتوقع مثل هذا النجاح. فلم يكن يتوقع أن تقبل الصحيفتان "الأكثر انتشاراً"، وهما صحيفتا "بيروت" و"صوت الأحرار"، نشر مقالات تدين "الإرهاب" العربي في فلسطين، وتطالب بوقفه وتهاجم قادته، وتبرر سياسة القبضة الحديدية البريطانية ضده.

وطلب ساسون من شرتوك قراءة المقال الذي نشره في صحيفة "صوت الأحرار" لرؤية كم هو منطقي وقوي، وأضاف ساسون أنه بالإمكان استغلال هذا المقال في صحف مصر وانجلترا وفرنسا وفي مكاتب "كي دورسي" و"داونينغ ستريت" في لندن. وأكد ساسون في تقريره وجود عدد كبير من الصحف في سورية ولبنان "المستعدة أن تنشر المواد التي نزودها بها"، وأنه ينبغي عدم تفويت هذه الفرصة.

واستطرد ساسون في تقريره، أن نشر هذه المقالات هو أفضل الطرق "للحرب ضد الإرهاب وإفشال قادته وإهانتهم أمام العالم الشرقي والغربي"، ولذلك يتوجب عدم التوقف الآن في نشر المقالات لئلا تخسر الوكالة اليهودية الصحف التي اخترقتها ولكي لا تسمح للرأي العام الإنجرار وراء الفلسطينيين. وذكر ساسون أنه سيخصص وقته في الأيام القادمة لكتابة المقالات في مواضيع مختلفة ونشرها في صحف مختلفة. واختتم تقريره بطمأنة شرتوك بتأكيده أنه "لن يكلفنا ذلك كثيراً. فأنا لا أدفع أكثر من جنيهين فلسطينيين مقابل نشر كل مقال. وهناك صحف تكتفي بأقل من ذلك، بجنيه ونصف الجنيه الفلسطيني، أو بجنيه فلسطيني فقط، مقابل المقال " (30).

استمر ساسون في نشرمقالاته المدسوسة بهمة ونشاط. ففي تقريره إلى شرتوك من بيروت في السادس عشر من كانون الأول ( ديسمبر ) 1937، ذكر ساسون أنه ظهرت في صباح ذلك اليوم أربعة مقالات له في أربع صحف تصدر في دمشق وبيروت(31). وظهر المقال الأول لهذا اليوم في صحيفة "لسان الحال" الصادرة في بيروت، وجاء على شكل تقرير من القدس، وهاجم بشدة "أعمال العنف" التي يقوم بها الفلسطينيون، وأعرب عن دهشته من صمت رجال الدين الإسلامي عن هذه الأعمال، وتحدث عن إدانة القادة اليهود "لعمليات الانتقام" التي ينفذها "العديد من صغارهم"، وحمل القادة العرب الفلسطينيين مسؤولية الوضع القائم في فلسطين.

نشر ساسون مقاله الثاني في صحيفة "فتى العرب" الدمشقية، ودار موضوعه حول "الاتهامات الخطيرة" التي توجهها الصحف البريطانية إلى المسؤولين السوريين بخصوص موقفهم من القضية الفلسطينية. وذكر المقال أن سفر رئيس وزراء سورية جميل مردم إلى الخارج هدف إلى نفي هذه التهم التي تعرقل مصادقة فرنسا على الاتفاقية الفرنسية – السورية.

وحذر المقال الحكومة السورية وأعضاء البرلمان والصحافيين السوريين من مغبة التطرق إلى القضية الفلسطينية في الوقت الراهن. وأشار ساسون في تقريره إلى أن هذا المقال هو أحد المقالات التي كان ساسون قد قرأها إلى شرتوك في حينه. وظهر مقال ساسون الثالث في هذا اليوم في صحيفة "الإنشاء" الدمشقية، وهاجم المقال "السياسة السلبية" التي اتخذها القادة الفلسطينيون خلال 17 عاماً، واتهمهم بإغلاق الطريق أمام "السياسة الايجابية".

ودعا المقال كل الذين يتبنون "السياسة الايجابية" في البلاد العربية الظهور على الملأ والعمل من أجل تحقيق سياستهم. وظهر مقال ساسون الرابع لهذا اليوم في صحيفة "صوت الأحرار" البيروتية، وجاء على شكل تحقيق وتناول قرار حكومة فلسطين الانتدابية "الحاسم" إعادة الهدوء والنظام إلى فلسطين بمختلف الوسائل، وأكد تصميمها على تنفيذ تقسيم فلسطين وفق توصية لجنة بيل، إذا ما فشلت بريطانيا بإقناع العرب واليهود قبول التقسيم.

ووصف المقال العرب الذين يقومون "بأعمال عنف" بأنهم أشخاص فقدوا وعيهم وعقولهم، وفقدوا كذلك التمييز بين الصالح والطالح، وشن هجوماً على القادة الفلسطينيين، وانتقد الدعاية الأجنبية "التي تستغل الوضع وتصب الزيت على النار"، ودعا حكومة فلسطين الانتدابية السماح "للقادة الفلسطينيين"، الذين لم يبعدوا ولم يسجنوا، باستلام قيادة الشعب العربي الفلسطيني من أجل وضع حد إلى "الإرهاب" والوضع غير العادي السائد في فلسطين.

ودعا الياهو ساسون، في ختام تقريره، شرتوك أن يقرأ المقالات ليأخذ صورة كاملة وليدرك مدى تأثيرها على القارئ، وأخبره أنه نشر منذ وصوله إلى بيروت وحتى الآن 15 مقالاً وأنه يأمل "أن يدخل اليوم مقالاً في "النهار" وآخر في "الاتحاد" لكي يكون الاحتلال كاملاً" (32).


نشر ساسون أثناء مكوثه في بيروت ودمشق احد عشر يوما، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1937، 28 مقالا مدسوسا في إحدى عشر صحيفة بثمن معدله 1،75 جنيه فلسطيني للمقال الواحد (33).

يتبع.......


 
المراجع: 
24- نسخة من هذا العدد من صحيفة الدستور والتي تحتوي المقال المدسوس المذكور موجودة في ملف 22210/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
25- الياهو ساسون، الطريق إلى السلام... مصدر سبق ذكره، ص، 85.
26- المصدر نفسه.
27- تقرير الياهو ساسوسن إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 14 – 12 – 1937، ملف 22179/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
28- المصدر نفسه.
29- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 15 – 12 – 1937، ملف 22179/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
30- المصدر نفسه.
31- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 16 – 12 – 1937، ملف 22179/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
32 – المصدر نفسه.
33 رسالة الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من القدس، بتاريخ 22 – 12 – 1937، ملف 22179 / 25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
 


 



المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939 (3/3) د.محمود محارب
 

بعد عودته إلى القدس اجتمع الياهو ساسون مع مومشيه شرتوك، الذي أبلغه أمرين هامين: أولاً، أن ميزانية الدائرة السياسية للوكالة اليهودية لا تسمح باستمرار نشر المقالات في الصحف السورية واللبنانية بوتيرة مرتفعة. ثانياً، أن نشر 28 مقالاً خلال أحد عشر يوماً هو وتيرة عالية وبالضرورة يثير الشكوك ويقود إلى كشف المقالات المدسوسة،وبناء على ذلك قرر شرتوك الموافقة على نشر مقالين فقط في الأسبوع في الصحف اللبنانية والسورية(34).

أثار قرار شرتوك امتعاض الياهو ساسون بيد أنه لم يستسلم، فقد أرسل ساسون رسالة مطولة إلى شرتوك شرح فيها الأسباب الهامة التي توجب استمرار نشر المقالات في الصحف السورية واللبنانية بوتيرة عالية، وليس مقالين في الأسبوع كما قرر شرتوك (35). وبعد أن أشار إلى التحديات الهامة التي تواجهها الصهيونية من النواحي الأمنية والسياسية، وإلى "الدعاية الفلسطينية المكثفة" في الصحف السورية واللبنانية، أكد ساسون على ضرورة الاستمرار في نشر المقالات، وحاجج ضد قرار شرتوك، وأورد العوامل والأسباب التالية لإقناع شرتوك العدول عن قراره (36):

أولاً: تعالج المقالات مواضيع مختلفة هامة ولم تحصر ذاتها في معالجة موضوع واحد فحسب.

ثانياً: لا يمكن للقارئ أن يدرك أو يشك أن هذه المقالات مشبوهة أو مدسوسة من قبل يهود، لأن قسما منها نشر على شكل تقارير وكأنها من مراسلي الصحف في فلسطين، وقسما آخر تم التوقيع عله بأسماء عربية مستعارة. علاوة على ذلك، كانت المقالات واضحة وعميقة ومطلعة على قضايا العرب الفلسطينيين وسوريا ولبنان، وكتبت وكأنها تحرص على مصالح العرب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ثالثاً: لو كان يصدر في لبنان وسوريا ثلاث أو أربع صحف فقط، لكان بالإمكان الاكتفاء بمقالين في الأسبوع، مقال واحد في بيروت والآخر في دمشق، ولكن تصدر في بيروت ودمشق 27 صحيفة يومية باللغة العربية، 18 في بيروت و 9 في دمشق. وكل صحيفة لها قراؤها وجمهورها. وأضاف ساسون أنه إذا لم تكن جميع هذه الصحف، فإن معظمها يكتب "مقالات سامة مناهضة للصهيونية يومياً حول مؤامراتنا وتطلعاتنا الاستعمارية في فلسطين والبلاد المجاورة". وفي هذه الحالة لن يكون هناك تأثير لمقالين اثنين.

رابعاً: لو كان الهدف من نشر المقالات التصدي فقط للدعاية الأجنبية لتم الاكتفاء بمقالين. ولكن "لا ينحصر هدفنا في معالجة موضوع واحد وإنما الكثير من المواضيع وجميعها جدية وهامة ومستعجلة: "الإرهاب"، ودعم الدول العربية "للإرهاب"، والدعاية الأجنبية، وتدخل البلدان العربية في القضية الفلسطينية، التقسيم، التفاهم المتبادل إبراز قوة الييشوف في فلسطين، الحرب ضد المفتي الحاج أمين الحسيني وأنصاره، قضايا البلدان المجاورة وتأثيرها على شؤون فلسطين الخ.

خامساً: لقد تغيرت الأوضاع كثيراً في الفترة الأخيرة، الأمر الذي يقتضي تكثيف نشر المقالات، فسوريا باتت قاعدة للحركة الوطنية الفلسطينية وتقوم بدور بالغ الأهمية في القضية الفلسطينية، كذلك تكثفت الدعاية الأجنبية في سوريا ولبنان.

سادساً: لن ينجح نشر مقالين اثنين في الأسبوع، مقال في دمشق وآخر في بيروت، فلن توافق أية صحيفة سورية أو لبنانية أن تنفرد في موقفها ضد "المتطرفين" و "القوميين" بنشر مقال واحد عندها. فمن شأن نشر مقالين فقط في صحيفتين فحسب، أن يكشفهما ويثير الشكوك حولهما، وهذا ليس من مصلحة الوكالة اليهودية. وفي ختام رسالته طلب الياهو ساسون من موشيه شرتوك رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، إعادة النظر في قراره (37).

في أعقاب رسالة ساسون إلى شرتوك، وبعد أخذ ورد بينهما، تخلى شرتوك عن موقفه السابق والقاضي بنشر مقالين اثنين فقط في الأسبوع في الصحف اللبنانية والسورية. وعلى أثر ذلك، قدم الياهو ساسون، في أواخر كانون الأول ( ديسمبر ) 1937، برنامج عمل إلى موشيه شرتوك، وضح في مقدمته أن تأثير هذه المقالات على النخب والرأي العام في سوريا ولبنان لن يظهر على الفور، وإنما سيتضح تأثيرها بعد سنة أو على الأقل بعد نصف سنة، شريطة أن تستمر عملية نشر المقالات بثبات وانتظام.

ومن أجل تحقيق ذلك اقترح الياهو ساسون، بناء على تجربته ومعرفته بأصحاب ومحرري الصحف السورية واللبنانية وعلاقاته معهم، واَخذاً بعين الاعتبار مدى انتشار الصحف؛ نشر المقالات المدسوسة في سبع صحف، ثلاث صحف منها سورية هي "فتى العرب" و"الأنشاء" و"الأيام"، وأربع صحف لبنانية هي "صوت الأحرار" و"بيروت" و"لسان الحال" و"النهار"(38).

وأشار ساسون أنه عند الحاجة أو عند عدم القدرة في نشر المقالات في أي من الصحف المذكورة فإنه سيستعمل صحف أخرى. وأضاف، أنه من الأفضل نشر مقالات أكثر في الصحف السورية من الصحف اللبنانية؛ ولكن الصحف السورية، وفق معرفة وتجربة ساسون، تدقق جداً في مضمون واتجاه المقالات، وفي بعض الأحيان ترفض نشرها حتى مقابل ثمن مرتفع. وأعاد ساسون ذلك إلى اهتمام الصحف السورية بما أطلق عليه "البرستيجا" وإلى علاقاتها مع القيادات الفلسطينية الموجودة في سوريا ولبنان، وإلى الدعم المالي الذي كانت تحصل عليه من الحكومة السورية ومن القيادة الفلسطينية ومن حكومات أجنبية. ولكنه ذكر أن الصحف اللبنانية وخاصة الصحف المذكورة أعلاه، أكثر انتشاراً في فلسطين والبلاد العربية الأخرى من الصحف السورية، وأضاف أن " بعض الصحف اللبنانية معنية، لأسباب سياسية واقتصادية، بوقف الإرهاب في فلسطين وبالحرب ضد الدعاية الأجنبية وبتطور المشروع الصهيوني" (39).

ورأي ساسون، في برنامج عمله، أن تكون وتيرة النشر مقال واحد في الأسبوع في كل صحيفة من الصحف السبعة، أي 28 مقالاً في الشهر. اعتقد ساسون أن هذه الوتيرة ليست مرتفعة، خاصة في ضوء "نشاطات المفتي الحاج أمين الحسيني والدعاية الأجنبية" في هذا المضمار. وأضاف أن هذه الوتيرة تمكن الوكالة اليهودية معالجة مواضيع مختلفة، وفي الوقت نفسه تستجيب إلى مطالب الصحف المالية وتبعد الشبهات عن صحيفة أو صحيفتين إذا ما انفردتا في نشر هذه المقالات.

وبناء على تجربته السابقة رأى ساسون ضرورة رصد 60 جنيه فلسطيني في الشهر لدفعها للصحف المذكورة مقابل نشر المقالات، وأنه ينبغي استغلال هذه المقالات وإعادة نشرها في الصحافة الإنجليزية والأوروبية والإشارة لها في "وكالة الشرق". ومن أجل نجاعة العمل وإغنائه ومناقشة مواضيع المقالات، اقترح ساسون عقد اجتماع أسبوعي بين كبار جهاز المخابرات التابع للوكالة اليهودية يشارك فيه بالإضافة له كل من الياهو ابشتاين وآهرون حاييم كوهين(40).

يتضح من تقارير الياهو ساسون أنه واصل نشر المقالات المدسوسة في الصحف السورية واللبنانية وحاول توسيع عدد الصحف التي ينشر بها هذه المقالات. ففي تقرير أرسله إلى موشيه شرتوك ذكر الياهو ساسون أنه نشر سبعة مقالات في الصحف اللبنانية والسورية وأرفقه بنسخ من أعداد هذه الصحف.

ويستدل من هذا التقرير أن الياهو ساسون نشر ثلاث مقالات في صحيفة "الرابطة" بتواريخ 14 و16 و19 من تموز (يوليو) 1938، ونشر في 20 من تموز (يوليو) 1938 مقالين واحد في "لحديث" وآخر في "الاتحاد"، وفي 21 من تموز (يوليو) 1938 نشر مقالين أحدهما في "الأتحاد" وثانيهما في "الرابطة". ونشر معظم هذه المقالات كمقالات رئيسية من قبل هيئات تحرير الصحف وعالج معظمها المؤتمر البرلماني لنواب الدول العربية والإسلامية الذي كان من المزمع عقده في القاهرة لمناصرة الشعب الفلسطيني (41).

وفي 22 تموز (يوليو) 1938 نشر الياهو ساسون مقالين مدسوسين في "الاتحاد" و "الحديث" الصادرتين في بيروت. وفي تقريره ذكر الياهو ساسون أن أحد هذين المقالين، والذي كان من نسيج خياله، يتحدث عن عزم المسلحين الفلسطينيين إلقاء قنابل على المسجد الأقصى واتهام اليهود بأنهم هم من قاموا بذلك. أما المقال الثاني فيدعو إلى عدم مشاركة أعضاء البرلمان اللبناني في المؤتمر البرلماني لنواب البلاد العربية والإسلامية المزمع عقده في القاهرة. واختتم الياهو ساسون تقريره بطلبه من المسؤول في الدائرة السياسية، بنشر ملخص هذين المقالين في صحيفة "دافار" العبرية لكي يرى العالم "مؤامرة" المسلحين الفلسطينيين ولإثبات أن لبنان يقف ضد المشاركة في المؤتمر البرلماني المزمع عقده في القاهرة (42).

في سياق نشاطه لكسب صحف جديدة يشير الياهو ساسون في أحد تقاريره أنه اجتمع في دمشق لمدة ثلاث ساعات، مع توفيق جانه صاحب صحيفة "الاستقلال العربي"، في 29 آب (أغسطس) 1938؛ في بيت عميل الوكالة اليهودية وعضو البرلمان السوري عن الطائفة اليهودية، يوسف لنيادو. ويضيف الياهو ساسون في تقريره أن توفيق جانه وافق على تلك الشروط التي كان الياهو ساسون قد اتفق حولها مع صاحب صحيفة "الحديث" الياس حرفوش، وصاحب صحيفة "الأحوال" سمعان سيف ؛ وهي نشر مقالات لصالح الصهيونية مقابل 12 جنيه فلسطيني في الشهر، وأنّه اتفق مع توفيق جانه أن يبدأ النشر في بداية أيلول(سبتمبر) 1938 (43).

وفي 5 أيلول (سبتمبر) 1938 اجتمع الياهو ساسون مع نصوح بابيل صاحب صحيفة "الأيام" وأحد رموز المعارضة في سوريا حينئذ. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يلتقي بها ساسون مع نصوح بابيل، فقد اعتاد ساسون الاجتماع بنصوح بابيل قبل هذا الاجتماع وبعده. ويمكن القول إن ما ميز هذا الاجتماع أنه عمق تعاون نصوح بابيل مع الياهو ساسون في عدة قضايا.

ووفق تقرير ساسون جاء هذا الاجتماع بمبادرة من الياهو ساسون واستمر ثلاث ساعات، وفي مستهل اللقاء تحدث ساسون عن أن هناك ضرورة ملحة أن تقوم الصحافة السورية بعمل مكثف من أجل تهدئة الأوضاع السورية الهائجة المؤيدة لنضال الشعب العربي الفلسطيني، وذلك "خدمة للمصالح السورية ومصالح اليهود في فلسطين"؛ وطلب الياهو ساسون من نصوح بابيل المساعدة في تهدئة الأوضاع في سوريا (44). شكك نصوح بابيل، وفق تقرير الياهو ساسون، في إمكانية اصغاء الصحافيين السوريين للوكالة اليهودية وذلك لأن المفتي الحاج أمين الحسيني يدفع المال لغالبيتهم. ويضيف ساسون أن نصوح بابيل أبلغه في هذا الاجتماع أنه "هو نفسه استلم من المفتي في الشهور الثلاثة الماضية بدون أن يطلب، على حد قوله، مبلغ مائة جنيه فلسطيني، لكي يدفع إلى العاملين في الجريدة، العاطلين عن العمل، خلال إغلاق الجريدة في الشهور الثلاثة الماضية".

ويضيف الياهو ساسون أن نصوح بابيل أبلغه أن لا فائدة من شراء صحيفة أو صحيفتين، وأن الفائدة لن تكتمل حتى وان اشترت الوكالة اليهودية كل الصحف السورية؛ ما دام ينشط ويعمل "مكتب الدعاية والنشر" التابع لفخري البارودي. واستطرد نصوح بابيل انه لن يكون بالإمكان إسكات "مكتب الدعاية والنشر" بواسطة المال، فالحاج أمين الحسيني يدفع له شهريا الكثير من المال؛ وفقط بواسطة الضغط في باريس ولندن يمكن معالجة هذا الوضع وإسكات "مكتب الدعاية والنشر". وفي ختام الاجتماع وافق نصوح بابيل أن تساهم صحيفة "الأيام" في تهدئة الوضع الهائج في سوريا والمؤيد لنضال الشعب العربي الفلسطيني، مقابل مبلغ مالي (45).

كثف الياهو ساسون، عشية انعقاد ألمؤتمر البرلماني لمناصرة الشعب الفلسطيني في القاهرة، نشاطه واتصالاته مع الصحافيين ومحرري وأصحاب الصحف اللبنانية والسورية ومع جهات لبنانية وسورية عديدة، بهدف عرقلة المؤتمر والعمل على مقاطعة أكبر عدد ممكن من أعضاء البرلمانين اللبناني والسوري.

في تقريره إلى موشيه شرتوك يذكر الياهو ساسون أنه خلال مكوثه أربعة أيام في بيروت، في أواخر أيلول (سبتمبر) 1938 وبداية تشرين الأول (أكتوبر) 1938، التقى ساسون مع العديد من الصحافيين ومحرري وأصحاب الصحف في بيروت ودمشق. وبرز من بين تلك اللقاءات اجتماعه مع إلياس حرفوش صاحب صحيفة "الحديث"، حيث اجتمع معه ثلاث مرّات، وكذلك اجتمع مرتين مع سمعان سيف محرر صحيفة "الأحوال"، ومع أسعد عقل محرر صحيفة "البيرق" مرة واحدة.

وأثناء ذلك سافر إلى دمشق ثلاث مرات واجتمع مع توفيق جانه صاحب صحيفة "الاستقلال العربي" ومع شخصيات سورية أخرى (46). وبحث الياهو ساسون مع جميع من التقى بهم في كيفية عرقلة مشاركة أعضاء البرلمانين اللبناني والسوري في المؤتمر البرلماني. واتفق ساسون مع العديد من أصحاب ومحرري الصحف أن تقوم صحفهم بنشر مقالات باسم هيئات التحرير تدعو إلى عدم مشاركة أعضاء البرلمانين اللبناني والسوري في مؤتمر البرلمانيين العرب.

ويضيف ساسون في تقريره أنه خلال الأربعة أيام المذكورة أعلاه ونتيجة لجهوده، نشر ثمانية مقالات في صحف بيروت: "الأحوال" و"الاتحاد" و"لسان الحال" و"صوت الأحرار"، ضد مشاركة أعضاء برلمان لبنانيين في المؤتمر البرلماني المزمع عقده في القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 1938. وقد شددت المقالات أن كل من يشارك في المؤتمر البرلماني يذهب إلى المؤتمر باسمه الشخصي وأن لا حق له التحدث باسم لبنان أو الالتزام باسم لبنان بأي أمر كان. وطالبت صحيفة "صوت الأحرار"، في مقال رئيسي طويل، المؤتمر البرلماني اتخاذ قرار بضرورة وقف "أعمال الشغب" في فلسطين وإجراء مفاوضات بين الأطراف من أجل التوصل إلى حل مقبول للقضية الفلسطينية (47). ويضيف الياهو ساسون في تقريره أن "الياس حرفوش وعد أن يقوم اليوم بزيارة أميل أده رئيس الجمهورية اللبنانية وزيارة "كيبر" مدير القسم السياسي في الممثليه [ الفرنسية ] العليا لحثهما على الإشارة إلى أعضاء البرلمان الذين يعتزمون المشاركة في المؤتمر، الانسحاب وعدم الذهاب، من أجل الحفاظ على حيادية لبنان وعدم أثارة سخط الانجليز واليهود".

ويشير الياهو ساسون، في تقريره، أن الياس حرفوش التزم أن ينشر خلال اليومين القادمين مقالين شديدي اللهجة ضد المؤتمر وأهدافه بصورة عامة وضد أعضاء البرلمان اللبناني الذين يعتزمون المشاركة في المؤتمر بشكل خاص، وسيقول أنهم حصلوا على دعم مالي من نبيه العظمة للمشاركة في المؤتمر من أجل أظهار تضامن لبنان مع الثوار الفلسطينيين (48).

علاوة على ذلك، يذكر ساسون أنّه تمكن من تجنيد العديد من الشخصيات اللبنانية والسورية للتأثير مباشرة على أعضاء البرلمان بعدم المشاركة في المؤتمر البرلماني. فقد تمكن بمساعدة خير الدين الأحدب، رئيس وزراء لبنان السابق، التأثير على موسى نمور، الذي كان سيرأس الوفد البرلماني اللبناني، الامتناع عن المشاركة في المؤتمر. وكذلك تمكن بمساعدة إلياس حرفوش التأثير على عضوي البرلمان فريد الخازن وأيوب كنعان الانسحاب من المشاركة في المؤتمر (49).

لم تكن المبادرة لنشر مقالات مدسوسة مؤيدة للصهيونية في الصحافة اللبنانية والسورية تأتي دوما من جانب الوكالة اليهودية. ففي العديد من الحالات جاءت هذه المبادرة من أشخاص من هذين البلدين. ففي رسالة بعثها الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك يتضح أن الصحافي م. ن. بادر واتصل بالوكالة اليهودية بغرض نشر مقالات مؤيدة للصهيونية في الصحف السورية واللبنانية. فقد ذكر ساسون في هذه الرسالة: "اجتمعت اليوم وفق تعليماتك مع م. ن. وتحدثت معه حول اقتراحه نشر مقالات في صحف بيروت ودمشق". وقدم م. ن. في هذا الاجتماع، بعد تلقيه توضيحات وتوجيهات من الياهو ساسون، اقتراحا إلى الدائرة السياسية للوكالة اليهودية بنشر 75 مقالا مؤيدا للصهيونية، كل ثلاثة شهور، في أربع صحف ؛ ثلاث منها في بيروت وهي "النهار" و"الأحوال" و "الحديث" وواحدة في دمشق هي "الاستقلال". وطلب م. ن. في اقتراحه أن يتقاضى جنيهين فلسطينيين مقابل كتابة ونشر كل مقال وكذلك الحصول على مبلغ 12 جنيه فلسطيني مع انقضاء كل دورة ثلاثة شهور. وتضمن اقتراحه أيضا نشر هذه المقالات باسم هيئات تحرير الصحف المذكورة أو باسم صحافيين معروفين، وان تعالج هذه المقالات مواضيع سياسية واقتصادية واجتماعية، تحددها له الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، كل أسبوع (50).ويضيف الياهو ساسون أنه وعد م. ن. أن يعطيه جوابا من شرتوك خلال أيام قليلة، وقبل مغادرة م. ن. القدس. ويظهر من التقارير الأخرى (51) أن م. ن. باشر العمل وفق الصيغة التي اتفق حولها مع الياهو ساسون ولكن بوتيرة نشر أقل.


 
شراء الصحف: 
يكشف الياهو ساسون في تقرير له أن "القسم العربي" في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية اشترى لفترة قصيرة صحفا عربية في العام 1938. إذ يذكر ساسون أنه "علاوة على عملية نشر مقالات في الصحف العربية، قام القسم العربي بعملية أخرى، تفوق في أهميتها نشر المقالات وهي شراء صحف عربية في سوريا ولبنان. نجحنا في صيف 1938 في شراء خمس صحف – ثلاث في بيروت واثنتين في دمشق. كان بإمكاننا شراء عدد آخر من الصحف، ولكن لم تكن لدينا الميزانية المطلوبة لذلك. ولنفس السبب اضطررنا إلى وقف العلاقة، بعد وقت قصير، مع الصحف التي كنا قد اشتريناها" (52). ويستعرض الياهو ساسون مهمة الصحف التي اشترتها الوكالة اليهودية، فيقول في تقريره "كانت وظيفة الصحب التي اشتريناها نشر مقالات وأخبار التي زودناها إياها، والامتناع عن نشر مواد الطرف الآخر المعادية للصهيونية ومواد الدعاية الأجنبية، والتقريب من وجهات النظر العربية واليهودية، وإدانة الإرهاب العربي في فلسطين، واتخاذ موقف مؤيد لليهود في كل ظاهرة سياسية.

وأيدت هذه الصحف حرب اليهود ضد الكتاب الأبيض وهاجمت بالأساس قانون الأراضي" (53). ولاحظ الياهو ساسون في تقريره أن المقالات المدسوسة والصحف التي اشترتها الوكالة اليهودية في تلك المرحلة الهامة من التاريخ الفلسطيني، لعبت دورا هاما في التأثير على الساحة الفلسطينية. إذ يقول في تقريره: "من المهم الإشارة أن المقالات ضد الإرهاب العربي وضد المؤامرات والتطلعات الفردية للمفتي ورجاله، التي نشرت في الصحف التي اشتريناها وفي الصحف الأخرى، أعطت دفعة بصورة غير مباشرة لحزب النشاشيبي، للخروج في حرب مكشوفة ضد اللجنة العربية العليا وقيادة الإرهاب" (54).

علاوة على شراء الصحف والمقالات المدسوسة، اصدر "القسم العربي" في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، منذ بداية العام 1938، نشرة "أخبار يهودية"، وكانت تصدر خمس مرات في الأسبوع ويطبع منها 300 عدد، ترسل إلى الصحف الهامة والوزارات والقيادات السياسية في سوريا ولبنان والبلاد العربية الأخرى ( 55). كذلك اصدر "القسم العربي" في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية كتيبين في بيروت في صيف 1938 وبأسماء عربية مستعارة، دار موضوعهما حول "البركة الاقتصادية" التي جلبها اليهود إلى فلسطين والمقاطعة العربية للمنتوجات اليهودية في فلسطين. ونشر "القسم العربي"، عدة مرات، في هذه الفترة أيضا، باللغة العربية وتحث أسماء عربية مستعارة، آلاف المناشير، "ضد الإرهاب العربي في فلسطين" ؛ ووزعت هذه المناشير مرات عديدة في سوريا ولبنان وعواصم عربية أخرى (56).
 
 
الخلاصة: 
عالجت هذه الدراسة موضوعا هاما لم يطرق من قبل واستعرضت مواضيع المقالات المدسوسة التي سعت لتحقيق الأهداف السياسية للحركة الصهيونية إبان الثورة الفلسطينية الكبرى. لم يتأت نجاح نشيطي جهاز الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في اختراق الصحافة اللبنانية والسورية، في تلك الفترة، بهذه السهولة، وشراء خمس صحف منها، ونشر ما لا يقل عن 280 مقالا مدسوسا (57) في الصحف اللبنانية والسورية الأكثر انتشارا؛ نتيجة لتمتعهم بمهارات خارقة أو لامتلاكهم أموالا طائلة، وإنما عاد أساسا إلى ضعف المجتمع العربي والى هشاشة نخبه وفساد بعضها والى احتدام الصراعات بينها على أسس عشائرية وطائفية وجهوية. ومن اللافت للأنتباه أن أولئك الذين مكنوا الوكالة اليهودية من اختراق الصحافة اللبنانية والسورية،بهذه السهولة، هم أنفسهم كانوا يتحدثون باحتجاج عن نفوذ وسطوة اليهود والصهيونية على الصحافة في الدول الغربية. 
 
المراجع: 
34- المصدر نفسه.
35- المصدر نفسه.
36- المصدر نفسه.
37- المصدر نفسه.
38- رسالة الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من القدس، بتاريخ 29 – 12 – 1937، ملف 22179/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
39 - المصدر نفسه.
40- المصدر نفسه.
41- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 21 – 7 – 1938، ملف 4550/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
42- تقرير الياهو ساسون بتاريخ 22 – 7 – 1938، ملف 4550/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
43- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 30 – 8 – 1938، ملف 4550/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
44- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك،من القدس، يتاريخ 7 – 9 – 1938، ملف 5568/25S، الأرشيف الصهيوني.المركزي.
45- المصدر نفسه.
46- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من بيروت، بتاريخ 2 – 10 – 1938، ملف 22211/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
47- المصدر نفسه.
48- المصدر نفسه.
49- المصدر نفسه.
50- رسالة الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك، من القدس، بتاريخ 13 – 5 – 1938، ملف 5568/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
51- رسالة من دافيد لوزيه ( من قادة الطائفة اليهودية في دمشق وعميل جهاز المخابرات في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية) إلى الياهو ساسون، من دمشق، بتاريخ 6 – 12 – 1938، ملف 22835/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
52- تقرير الياهو ساسون إلى موشيه شرتوك من القدس، بتاريخ 19 – 7 – 1938، ملف 22210/25S، الأرشيف الصهيوني المركزي.
53- المصدر نفسه.
54- المصدر نفسه.
55- المصدر نفسه.
56- المصدر نفسه.
57- المصدر نفسه.
نشرت هذه المادة في مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 78 ربيع 2009 



 

2009-08-24 11:22:29 | 2341 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية