التصنيفات » دراسات

الحصار والانقسام وآثارهما الاقتصادية والاجتماعية على قطاع غزة




غازي الصوراني
25/8/2009


الحصار المفروض على قطاع غزة، هو جزء لا يتجزأ من الحصار المفروض على أبناء شعبنا الفلسطيني كله، سواء بصورة مباشرة كما هو الحال في الضفة الفلسطينية، عبر الاعتقالات اليومية والحواجز والجدار، أو بصورة غير مباشرة كما هو حال اللاجئين الفلسطينيين في المنافي، الذين يتعرضون للعديد من الإجراءات التي تكرس معاناتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكن الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة يتميز في كونه الأكثر بشاعة وهمجية سواء في دوافعه وأسبابه الاقتصادية والسياسية المباشرة أو الآنية، أو في دوافعه السياسية البعيدة المدى وفق المخطط الإسرائيلي، وهو أيضاً حصار يختلف من حيث شكل ممارسته وأهدافه عن أشكال الحصار المعروفة في التاريخ الحديث والمعاصر فهو على النقيض من حصار القوى الإمبريالية للثورة الروسية عام 1917، وعلى النقيض من حصار الثورة الكوبية، كما هو على النقيض من حصار العراق وكوريا الشمالية، فهو حصار لا يستهدف إنهاء الانقسام أو إسقاط حكوماته، بقدر ما يستهدف تفكيك البنيان السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي للشعب الفلسطيني كله، وإيصاله إلى حالة من الإحباط واليأس عبر تراكم عوامل الإفقار والمعاناة والحرمان التي تمهد بدورها إلى إرباك الأولويات في الذهنية الشعبية الفلسطينية تجاه الصراع مع العدو والصمود في مواجهته ومقاومته، ليصبح أولوية ثانية أو ثانوية، لحساب أولوية توفير الحد الأدنى من مستلزمات الحياة ولقمة العيش، ارتباطاً بانسداد الأفق السياسي، وتفاقم مظاهر البطالة  والفقر التي تراكم بدورها مظاهر الإحباط واليأس، حيث "يغيب العقل حين يغيب الدقيق" كما يقول ماركس، فما هو مآل فقراء شعبنا الذين قد يصبرون على غياب الدقيق في ظروف التوحد السياسي والاجتماعي الداخلي، التي توفر مقومات الصمود الوطني والمجتمعي بمثل ما تحافظ على بقاء الآمال الوطنية الكبرى حية وقوية في عقول وقلوب الجماهير، لكنهم في ظروف الانقسام والتفكك السياسي والاجتماعي، علاوة على الحصار المحكم، تعرضوا – وما زالوا- لحالة من القلق والإحباط قد تدفع بهم صوب المزيد من نفاذ صبرهم، في ظل انسداد الأفق –راهناً- في وجه أهدافهم الوطنية أو آمالهم الكبرى وهي أهداف وآمال هبطت إلى قاع مشاعرهم وسلم أولوياتهم بعد أن باتت "الكابونة" أو "سلة الغذاء" المدفوعة الثمن من الخارج، ملاذاً يسعى إليه المحرومين مع اضطرارهم إعلان الولاء لهذه الجهة "المغيثة" أو تلك من الأحزاب والفصائل أو المنظمات غير الحكومية لا فرق عندهم في ظل تراجع الآمال بالنسبة للاستقلال والوحدة الوطنية، وفي ظل انتشار البطالة والفقر المدقع والعوز والحرمان بصورة غير مسبوقة في قطاع غزة، تعمقت وتزايدت بعد العدوان الهمجي نهاية ديسمبر 2008 وأول يناير 2009 الذي أعاد إلى أذهان العالم صور ومشاهد المحرقة النازية في القرن الحادي والعشرين الأكثر بشاعة من سابقتها، بما يؤكد على أن الهدف الإسرائيلي منذ فرض الحصار والعدوان والعودة مجدداً للحصار، هو تحديداً استمرار تفكيك النظام السياسي الفلسطيني وانقسامه، بما يضيف إلى الذرائع الإسرائيلية في رفضها لمبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة، ذرائع فلسطينية داخلية تتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية بطريق مباشر أو غير مباشر.
أما الهدف الثاني، والأهم، فهو تحقيق تفكك وانقسام الهوية الوطنية بين هوية وطنية رثة فاقدة لجوهرها النضالي وبين هوية الإسلام السياسي بقيادة حركة حماس، التي يبدو أنها في ظل الانقسام، تسعى إلى استغلال دورها الوطني الذي ساهم خلال سنوات ما قبل الانقسام في تعطيل مشاريع التصفية، وتجييره لحساب منطلقاتها السياسية الخاصة ضمن الرؤية الشمولية لحركة الأخوان المسلمين، حيث تمارس اليوم نوعاً من الاستبداد و الإقصاء السياسي إلى جانب سعيها عبر وسائل غير ديمقراطية ، محكومة بالإكراه والتفرد لإصدار أنظمة ومشاريع قوانين لفرض أيديولوجيتها ورؤيتها الحزبية على مجمل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على النقيض من "النظام الأساسي" الذي دخلت حركة حماس إلى الانتخابات في 25/يناير/2006 وحققت فوزها بموجب نصوصه، ثم بدأت تتخلى عن تلك النصوص والمحددات الديمقراطية، حيث أدت ممارساتها منذ الانقسام إلى اليوم، إلى تضييق أو إغلاق أبواب الحريات الشخصية والعامة و حريات الرأي والمعتقد والتعددية السياسية والديمقراطية تمهيداً لمصادرتها، الأمر الذي يعني مصادرة أو تعطيل النضال التحرري الوطني كله كنتيجة طبيعية تولد من رحم تقييد الحريات السياسية والفكرية في الرأي والمعتقد على مستوى المجتمع أو على مستوى الأفراد أو على مستوى الأحزاب والفصائل، ذلك أن تجربة النضال الوطني التحرري في فلسطين كما هو حال كل التجارب التحررية في العالم، استهدفت دوماً تحقيق حرية الفرد وتوفير المقومات المطلوبة لاستنهاضها وتطورها كمدخل أول وشرط وحيد لضمان صيرورة النضال التحرري الفلسطيني، وبالتالي فإن ممارسات حركة حماس الهادفة إلى طمس مبدأ الحريات الشخصية والعامة إلى جانب الصمت عن تفاقم البطالة والفقر بسبب انتشار مظاهر الاحتكار والتهريب والسوق السوداء وانهيار القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية في قطاع غزة، إنما تصب –بوعي أو بدونه – باتجاه المزيد من تفكك النضال الوطني الفلسطيني تمهيداً لإسدال الستار عليه بذرائع دينية، لا علاقة لها بجوهر الدين من ناحية ولا يجوز لحركة حماس استخدامها انطلاقاً من كونها – بالأمس واليوم وغداً- حركة سياسية ليس من حقها على الإطلاق أن تفرض مثل هذه الممارسات التي لا تصيب مكونات المجتمع الفلسطيني كله بالضرر البالغ من حيث تفككه وإضعاف صموده ومقاومته للعدو فحسب بل ستصيب بالضرر البالغ حركة حماس نفسها التي كانت  الشعارات الوطنية ومقاومة الفساد والاستبداد السبب الرئيسي في فوزها في الانتخابات (يناير 2006) فهل نسيت ذلك أم تناست ؟ وبالتالي فإننا نقول للأخوة في حركة حماس:
لقد باتت ممارساتكم اليوم عاملاً إضافياً، وعبئاً ثقيلاً ينوء بحمله شعبنا في قطاع غزة، بعد أن أدت إلى تفكيك شعار "الوحدة الوطنية" الذي تم إفراغه من مضمونه الوطني، ومحتواه التحرري الديمقراطي الجامع بسبب تلك الممارسات التي ألغت مفهوم "الوحدة" لحساب منظوركم الفئوي، الذي أسهم في تشجيع نمو بعض التيارات العدمية الرجعية المتخلفة باسم الدين أو أوهام الإمارة الإسلامية، فالوحدة المطلوبة هي تلك الموجهة إلى مجابهة العدو الصهيوني الأمريكي ومشاريعه، الوحدة التي تقوم على رفض كل مظاهر الفساد والاستبداد وقمع حرية الرأي والتعبير والحريات العامة وتعزيز الصمود والتوافق على إستراتيجية للصمود والمقاومة بكل أشكالها في الضفة والقطاع، الكفيلة وحدها بضمان التأييد الشعبي الفلسطيني والعربي إلى جانب التضامن الفعال لدى كل المناصرين لقضيتنا في العالم، بذلك نكون بالفعل قادرين على كسر الحصار وتحقيق الانتصار بعد أن نعيد لشعار الوحدة الوطنية وتعدديتها السياسية والفكرية مضمونه الحقيقي في إطار الممارسة الوطنية الديمقراطية الجماعية لكل فصائل وحركات وأحزاب القوى السياسية الفلسطينية من ناحية ولكل أبناء شعبنا الفلسطيني من ناحية ثانية، كطريق وحيد للصمود والتلاحم الشعبي الذي يوفر كل عناصر المقاومة الوطنية بكل أشكالها السياسية والمسلحة الهادفة إلى كسر الحصار وتحقيق أهداف شعبنا في التحرر والاستغلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا السياق نشير إلى عدد من الحقائق المرتبطة بعنوان هذه الورقة:
- الحصار ليس جديدا ، فهو سمة من سمات العدو الإسرائيلي وجزء حيوي من سياساته ضد شعبنا في الضفة وقطاع غزة، حيث تم فرض الحصار والاغلاقات على قطاع غزة بدرجات وأساليب متنوعة خلال السنوات 1995 حتى عام 2000، حيث اشتدت وتائره وأساليبه  أثناء الانتفاضة وبعدها حتى يناير 2006 وصولاً إلى الانقسام في 14/6/2007 حيث أصبح الحصار مطبقاً بصورة شاملة على قطاع غزة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم،عبر تراكمات دفعت إلى مزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية لمعظم سكان القطاع المعزولين تماماً عن بقية العالم يعتمدون في جانب من معيشتهم على المساعدات الاغاثية من وكالة الغوث والتبرعات من الخارج، الأمر الذي خلق ما يسمى بالاقتصاد الموازي أو اقتصاد الاغاثة والتواكل جنباً إلى جنب مع أنشطة اقتصاد السوق السوداء والمحتكرين والمهربين والمافيات المتنوعة بعد أن تراجع القسم الأكبر من الأنشطة الاقتصادية الرئيسية.
- اعتماد الاقتصاد الفلسطيني –بدرجة عالية- على الدول المانحة مع إدراكنا أن القسم الأكبر من هذه الدول منحاز لسياسات العدو الإسرائيلي، وهنا لابد من أن نشير بوضوح إلى الدور الرئيسي للولايات المتحدة، المقرر والشريك الاستراتيجي للعدو الإسرائيلي، فيما وصلت إليه أوضاعنا الفلسطينية من تراجع اقتصادي واجتماعي أدت إلى مزيد من مظاهر التبعية والتخلف والخضوع.
- التراجع الحاد في الدور العربي الرسمي الداعم للأهداف الوطنية الفلسطينية وللاقتصاد الفلسطيني، وهو أمر غير مستغرب بالنظر إلى خضوع وارتهان النظام العربي الرسمي عموماً، وأنظمة النفط خصوصاً للسياسات الإمبريالية وشروطها، ولكن بالرغم من وعينا لهذه العلاقة ، إلا أن ظروف الحصار الراهنة، والمعاناة غير المسبوقة التي يتعرض لها شعبنا، تفرض العمل على تعرية وفضح الموقف المريب للجامعة العربية وأنظمة النفط العربي التي تدرك طبيعة الأزمة الخانقة الناجمة عن استفحال مظاهر الفقر والبطالة في بلادنا ، لذلك فإن أي مواجهة لمشكلة البطالة لا بد لها من دور عربي لفك الحصار و فتح سوق العمالة  العربي لعمالنا العاطلين عن العمل، وفي هذا السياق، فإنه لكي يصل مستوى البطالة في قطاع غزة كما هو عليه في الضفة الفلسطينية (19.5%) ينبغي توفير (42) ألف فرصة عمل في قطاع غزة بكلفة لا تتجاوز 546 مليون دولار على أساس أن كل فرصة عمل تتطلب توفير (13) ألف دولار، إلى جانب تأمين الاستثمارات المطلوبة للضفة والقطاع معاً بملغ 1.5 مليار دولار بمجموع إجمالي يصل إلى 2 مليار دولار أي ما يعادل أقل من 3% من إيرادات النفط العربي لعام 2008.
- الحصار والعدوان الصهيوني/الأمريكي الحالي، يتخذ أبعاداً سياسية واجتماعية ترتبط بمستقبل النظام السياسي أو المشروع الوطني الفلسطيني المهدد بالتفكك والانقسام السياسي والقانوني، علاوة على البعد الاقتصادي الذي يمثل مصدر المعاناة والألم المباشر لشعبنا، حيث يتعرض الاقتصاد الفلسطيني لحالة من التراجع الكبير في كل أنشطته، الذي يكرس العديد من الصفات التي تميز الاقتصاد الهش والضعيف والمأزوم وتميز المستقر ، من أهمها :
- معدلات بطالة وفقر عالية تضعف من ترابط النسيج الاجتماعي.
- تشويه كبير في البنية الهيكلية للاقتصاد، تتجسد في انخفاض مساهمة القطاعات الإنتاجية (الصناعة، الزراعة) في الناتج المحلي الإجمالي، لصالح الأنشطة المنخفضة الإنتاجية والمتدنية الأجور.
- انتقال أعداد كبيرة من العمال في القطاع المنظم إلى القطاع غير المنظم .
- انتقال منشآت عديدة إلى البلدان المجاورة، ولجوء آخرين إلى الاستثمار في الخارج.
- حدوث هجرة أصحاب الكفاءات إلى الخارج.
- استمرار سوء توزيع الدخل والاستهلاك وبروز شرائح جديدة من أثرياء الإنفاق وتجار السوق السوداء والتهريب، مقابل ازدياد عمليات التهميش والإقصاء في الشرائح الفقيرة والمعدمة.

- أما بالنسبة للمأزق الاقتصادي الذي يتعرض له قطاع غزة اليوم فهو يتمثل في مجموعة من المؤشرات نذكر منها:
1. انخفاض الدخل الحقيقي للفرد إلى أكثر من 50% عما كان عليه عام 1999 ، إذ أنه بلغ في ذلك العام حوالي 1750 دولار للفرد في السنة، هبط في قطاع غزة إلى حوالي 850 دولار فقط عام 2008، وهذا يعني انخفاض في الناتج المحلي بما يزيد عن 40% قياساً بعام 1999، علماً بأن الأسعار في أسواق الضفة والقطاع أعلى من الأسعار السائدة في السوق الإسرائيلي، الذي بلغ متوسط نصيب الفرد فيه من الناتج القومي الإجمالي 21 ألف دولار ، أي أكثر بـ2 ضعف من الناتج الفردي للضفة والقطاع، إلى جانب انخفاض المدخرات وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي بصورة ملحوظة بسبب استمرار سياسة الحصار الاقتصادي المشدد ، مما يعني أن هناك تراجعا حادا في مختلف المؤشرات الاقتصادية الكلية بسبب فقدان الدخل وانخفاض الإنفاق الأسري ارتباطا بالتراجع الحاد في القوة الشرائية الناجم عن الغلاء الفاحش في الأسعار ، مما أدي إلي تغيير الأنماط الاستهلاكية الذي تزامن مع التراجع في الدخل وانتشار ظاهرتي البطالة والفقر في الأراضي الفلسطينية.
2. الانهيار المتواصل في البنية الاقتصادية لقطاع غزة ، سواء بالنسبة للموارد المادية الضعيفة تاريخيا ، أو بالنسبة للمنشات الصناعية التي توقف أكثر من 90% منها عن العمل ، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع الزراعة الذي توقف عن التصدير بصورة شبه كلية ، إلى جانب التدهور المريع في قطاع الإنشاءات و التجارة والخدمات في سياق التراجع الحاد للواردات والصادرات بصورة غير مسبوقة، إلى جانب إفلاس العديد من الشركات في قطاع غزة حيث هبط عدد المؤسسات من 17796 مؤسسة عام 2007 إلى 15483 مؤسسة بنسبة انخفاض 13% .
3. الارتفاع المتوالي للأسعار ( أدى إلى تغير إكراهي مرير ومذل في  أنماط الاستهلاك لدى الأسر الفلسطينية من أصحاب الدخل المحدود ) و في هذا السياق فلا السلطة في رام الله و لا حركة حماس في غزة عملتا على تثبيت أسعار السلع الأساسية أو تنفيذ أية برامج داعمة لقطاع الصناعة أو الزراعة أو الإنشاءات أو للفقراء بصورة ملموسة ومتصلة .
4. اتساع حجم البطالة و الفقر، و ارتفاع نسبة الإعالة 1-6 تقريباً (البطالة في قطاع غزة –منتصف عام 2009- تصل إلى 35.6%  ، من مجموع القوى العاملة البالغة حوالي 348 ألف منهم (105000) في القطاع العام  (منهم 75 ألف يقبضون رواتبهم من حكومة رام الله، و 30 ألف من حكومة غزة) إلى جانب (119) ألف يعملون في القطاع الخاص منهم حوالي (20) ألف عامل في الاونروا والمؤسسات غير الحكومية، أما العاطلين عن العمل فيقدر عددهم بحوالي (124) ألف عاطل عن العمل ، وهؤلاء المتعطلين يعيلون ما يقرب من 615 ألف نسمة (بمعدل إعالة 1-5) (ما يعادل 41% من مجموع سكان القطاع البالغ 1.5 مليون نسمة) يعيشون تحت مستوى خط الفقر أو في حالة من الفقر المدقع في ظروف لا يعرفها إلا من يكتوي بنارها .
5.  ثبات الأجور وانخفاض الدخل لمعظم العاملين في قطاع غزة بالنسبة إلى العاملين في الضفة، فقد بلغ معدل الأجرة اليومية للمستخدمين في قطاع غزة 60.9 شيكل مقابل 85.5  شيكل في الضفة الغربية، مع العلم أن متوسط الأجر اليومي في القطاع الخاص نحو (40) شيكل ، أما في القطاع الحكومي فقد بلغ (78)  شيكل ، بينما بلغ هذا المتوسط نحو (89) شيكل في الاونروا والمنظمات غير الحكومية ، وفي هذا الجانب فإن الدخل الأكثر انخفاضا نجده في قطاع الزراعة الذي لا يتجاوز فيه متوسط الأجر اليومي للعامل (29) شيكل فقط ، وفي هذا السياق فإن أعلى معدلات الفقر في القطاع تنتشر في مخيماته أولا وفي شرق وشمال محافظة غزة ومدينتي رفح وخان يونس .
6. قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باتخاذ جملة من الإجراءات ضد سكان قطاع غزة في أعقاب الحسم العسكري في منتصف حزيران الماضي ، تمثلت بفرض حصار اقتصادي مشدد تمثل بإغلاق المعابر والمنافذ، وإلغاء الكود الجمركي الخاص بقطاع غزة ومنع رجال الأعمال الفلسطينيين من الخروج للعالم الخارجي ومنع دخول المواد الخام اللازمة للصناعة ، والتضييق على البنوك في استجلاب الشيكل وفرض ضغوطات على البنوك في قطاع غزة ، وأغلقت المعابر التجارية في وجه الاستيراد والتصدير، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي وما رافقه من تزايد نسب البطالة والفقر وكل مظاهر المعاناة والحرمان التي تنتج بدورها مزيداً من مظاهر القلق والإحباط واليأس وغياب الآفاق السياسية، وفي هذا السياق نشير  إلى القرار الإسرائيلي باعتبار قطاع غزة كيان معادي ، وهو قرار يثير السخرية ، فالضفة الفلسطينية وكل الأرض العربية كيان معاد، ورغم ذلك نقول أن هذا القرار يمكن أن يوفر فرصة لتكريس المقاطعة مع السوق الإسرائيلي والعمل في نفس الوقت على فتح معبر رفح وتشغيله  بقرار فلسطيني مصري بدعم الجامعة العربية ارتباطا بقرار الاسرائليين اعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، مقابل الحديث عن الدعم المالي الموعود والمشروط في الضفة من الولايات المتحدة و أوروبا وإسرائيل ، الهادف إلى إخضاع مشروعنا الوطني والقومي لمقتضيات التوسع الامبريالي الصهيوني ، بمثل ما يهدف إلى توسيع الهوة بين القلة من أصحاب المصالح و بين الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا ، فهو دعم يهدف إلى المزيد من تغييب مبادئ العدالة الاجتماعية و المساواة ، ما يعني اتساع إطار الفساد وآلياته وأدواته ، إنه الدعم الذي يحول المعادلة من حرب ضد الفقر و البطالة إلى حرب ضد الفقراء أنفسهم كما يمارسونها اليوم في قطاع غزة ، سفينة نوح الفلسطينية و الحاضنة للهوية الوطنية، مستهدفين تركيع القطاع و إذلاله و استسلامه للمخطط الامبريالي الصهيوني لكي يتحول أبناء شعبنا في الوطن و الشتات إلى مجرد كائنات اقتصادية تستسلم للقمة العيش و ضروراتها تمهيدا للنكبة الاجتماعية و الثقافية تضاف إلى النكبة السياسية أو التكيف الذي ترفضه جماهير شعبنا من الفقراء و الكادحين مثلما ترفض و تلفظ أدواته في هذه اللحظة السوداء المؤقتة .

إن حديثنا عن هذه المؤشرات لا يلغي وجود أنماط استهلاكية في قطاع غزة وصلت حد الترف المفجع لدى بعض الشرائح الاجتماعية البورجوازية العليا عموماً والتجارية الكومبرادورية وتجار الأنفاق خصوصاً عبر التحكم في الأسعار واحتكار السلع والتهريب وغير ذلك من الممارسات التي ساهمت في تزايد الارتفاع في الأسعار بصورة غير مسبوقة.

- على أي حال في ظروفنا الفلسطينية الراهنة، فإن الفقر لا يتوقف عند نقص الدخل أو البطالة و انخفاض مستوى المعيشة، بل يشمل أيضا غياب الإمكانية لدى الفقراء و أسرهم من الوصول إلى الحد الأدنى من فرص العلاج و تأمين الاحتياجات الضرورية.
- والأخطر أن هذه الظاهرة من استفحال الفقر و البطالة قد ساهمت في توليد المزيد من الإفقار في القيم مما سهل و يسهل استغلال البعض من الفقراء و المحتاجين في العديد من الانحرافات الأمنية و الاجتماعية بحيث لم تعد ظاهرة الفقر مقتصرة على الاحتياجات المباشرة بل أصبح مجتمعنا الفلسطيني عموماً يعيش فقراً في القيم و فقراً في النظام و في القانون و العدالة الاجتماعية و السبب الرئيسي في ذلك لا يعود إلى الحصار الأمريكي الإسرائيلي فحسب، بل أيضاً إلى الانقسام واستمرار الصراع بين فتح وحماس، والآثار السياسية والاقتصادية الضارة الناجمة عنه.

الخسائر اليومية بسبب الحصار على قطاع غزة :
- الخسائر المباشرة تقدر بحوالي 48 مليون دولار شهرياً (منذ منتصف حزيران 2007) و تتوزع على قطاع الصناعة بمعدل 16 مليون دولار بنسبة 33% و على قطاع الزراعة بمعدل 12 مليون دولار بنسبة 25 % وعلى القطاعات الأخرى، التجارة والإنشاءات والخدمات والصيد بمعدل 20 مليون دولار بنسبة 42% .
- الخسائر اليومية غير المباشرة : تحتاج إلى دراسة عاجلة من المتخصصين المشهود لهم بالمصداقية الوطنية، و في هذا الجانب يمكننا الإشارة إلى عدد من الجوانب الرئيسة المولدة لهذه الخسائر غير المباشرة و هي :
1. النتائج الكارثية على العاملين في القطاعات الاقتصادية عموماً و قطاعي الصناعة و الزراعة خصوصاً و آثار الحصار على إغلاق 89% من مجموع المنشآت الصناعية من حيث الخسائر الناجمة عن عدم توفر المواد الخام و توقف فرص المبيعات و التصدير .
2. الارتفاع المذهل في أسعار العديد من السلع و المواد الغذائية و الضرورية ارتباطاً بتحديد العرض من جهة و بالسوق السوداء أو الاحتكار من بعض تجار الأنفاق و القطاع الخاص الذين لا همّ لهم سوى الربح من جهة ثانية.
3. التراجع التدريجي في الإنتاج الحيواني و البيض و الألبان بسبب ضعف توريد الأعلاف ما قد يؤدي إلى انهيار الثروة الحيوانية و خاصة الدواجن اللاحمة و البياضة و التي تزيد قيمتها عن 50 مليون دولار.
4. الخسارة غير المباشرة الناجمة عن غياب فرص توليد الدخل مما سيراكم في حرمان اقتصادنا في القطاع من النمو الطبيعي و عزله عن اقتصاده في الضفة وعلاقاته مع الأسواق العربية والأجنبية .
أما الخسائر الناجمة عن العدوان العسكري الهمجي ضد قطاع غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009 فقد بلغت حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 1.9 مليار دولار .وبلغ عدد المنشآت الاقتصادية التي تضررت نتيجة العدوان وبناء على التقرير الأولي الصادر من المجلس ألتنسيقي لمؤسسات القطاع الخاص في شهر فبراير من العام الحالي بأكثر من 700 منشأه اقتصاديه حيث بلغ عدد المنشآت التي تضررت بشكل جزئي 432 منشأه والمنشات التي تضررت بشكل كلي 268 منشأه موزعة على مختلف القطاعات الاقتصادية، كل ذلك عدا عن ما يزيد عن (1300) شهيد، منهم (900) شهيد من المدنيين بينهم (280) طفل و (111) امرأة، أما الجرحى فقد وصلة عددهم إلى (5300) جريح بينهم (1855) طفل و (750) امرأة، وكان من نتيجة ذلك العدوان أيضاً تدمير حوالي (25000) منزل منها (5000) تدميراً كلياً .
تفاقمت عوامل هذه الكارثة بعواملها الإنسانية والوطنية، وخلقت حالة من الذهول والإحباط والتشاؤم عند المواطن الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وخارجها. كما تفاعلت الأوضاع السياسية المتأزمة مع الأوضاع الاقتصادي السيئة، لتزيد من تكريس أوضاع بيئة الركود التضخمي التي عاشها الاقتصاد الفلسطيني منذ بداية العام، والتي تفاقمت فيها مشكلة البطالة، مع مشكلة الغلاء والارتفاع المستمر للأسعار.

* آثار الحصار والإغلاق على الأنشطة الاقتصادية :
1. أثر الإغلاق على التجارة :
- استمرار عمليات إغلاق المعابر والتحكم بحركة الصادرات والواردات أدى إلى تراجع في الحركة اليومية للشاحنات التجارية الأمر الذي اثر بشكل سلبي على قدرات القطاعات الاقتصادية المحلية من ناحية وإحجام المستثمرين عن تنفيذ العديد من المشاريع الاقتصادية داخل قطاع غزة، إلى جانب التراجع الحاد في تسجيل الشركات حيث تشير التقديرات أن الشركات التي تم تسجيلها في قطاع غزة عامي 2007/2008 لم يتجاوز (182 ) شركة  .
كما عانى القطاع التجاري من الحصار الشامل طوال 26 شهر و أوشك القطاع التجاري علي الانهيار وذلك نتيجة للنقص الشديد في البضائع المتوفرة في الأسواق وأوشكت المحال التجارية على إغلاق أبوابها، وأصبح التجار والمستوردون الفلسطينيون في قطاع غزة على شفا الإفلاس بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة .
ومن الآثار السلبية والخسائر الغير مباشرة التي تعرض لها المستوردون هي إلغاء الوكالات والعلامات التجارية العالمية والعربية الخاصة بمستوردين قطاع غزة مما يتسبب في ضياع إيرادات السلطة من الجمارك والضرائب المحصلة من الاستيراد المباشر، وتوقفت حركة التصدير من القطاع بشكل تام وخسرت المنتجات الزراعية والصناعية الأسواق العربية والعالمية مما تسبب بخسائر فادحة للمصدرين  .

أما من حيث التأثير المباشر فقد أدت هذه الإجراءات إلى انعدام التصدير وتراجع حجم واردات قطاع غزة إلى أقل من 700 مليون دولار من اجل إجمالي الواردات السلطة للضفة والقطاع البالغة (2093) مليون دولار في نهاية عام 2007   ، وفي هذا الجانب نشير إلى أن أكثر من 70% من هذه الواردات جاءت من السوق المصري عن طريق التهريب بواسطة الأنفاق خلال العامين 2008-2009.

2. أثر الإغلاق على القطاع الصناعي في قطغزة:ة :
- تراجعت المنشآت العاملة في القطاع الصناعي تراجعت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الإجمالي لقطاع غزة، منذ نوفمبر 2007، من حوالي 13% إلى أقل من 5% حسب معظم التقديرات، بسبب إغلاق أو تدمير حوالي 90% من المنشآت العاملة في القطاع الصناعي، حيث أدى ذلك إلى انخفاض أعداد العاملين في القطاع الصناعي في قطاع غزة من 35.000 عامل إلى نحو 4.200 عامل ، وإلى حوالي 1500 عامل في منتصف عام 2009.
- وفي هذا السياق، فإننا نشير إلى أن أكثر القطاعات الصناعية تضررا هو قطاع صناعة الأثاث والملابس والنسيج والصناعات الغذائية، إذ انخفضت عدد المنشات العاملة في قطاع صناعة الأثاث في قطاع غزة من 600 مصنع خلال العام 2005 إلى نحو120 مصنع في يوليو2007 ثم تراجعت إلي أقل من 50 مصنع في يوليو 2009 وانخفض عدد العاملين في صناعة الأثاث من 5,500 عامل إلى نحو 550 عامل في يوليو 2007 ثم تراجع إلي أقل من 200 عامل في يوليو 2009 ، هذا وتقدر الخسائر الإجمالية المتراكمة لقطاع الصناعة بمبلغ نصف مليون دولار يوميا منذ فرض الحصار حتى أول أغسطس الحالي (ما يعادل 315 مليون دولار) إلى جانب الخسائر المباشرة الناجمة عن تدمير المنشآت الصناعية أثناء الحرب العدوانية يناير 2009 والتي قدرت بـ (35) مليون دولار ، مما يدفع إلى تآكل رأس المال الصناعي أو هروبه إلى الخارج ، والحد من قدرة القطاع الصناعي في المستقبل  .

والمعروف أن القطاع الصناعي تعرض قبل الحرب للآثار الضارة للحصار الخانق حيث حرم من المواد الخام الأولية الضرورية لعملية الإنتاج ، وحرم أيضا من تصدير المنتجات الجاهزة للخارج ، وأدى ذلك إلي إغلاق ما يقارب من 3700 مصنع من مجموع 4000 منشأة صناعية وباقي المصانع العاملة تعمل بطاقة إنتاجية لا تزيد عن 50 % و تأثرت مبيعات المصانع العاملة بضعف القدرة الشرائية لدي المواطنين.

وتعمدت آلة الحرب الإسرائيلية إلي تدمير القطاع الصناعي حيث تم استهداف ما يزيد عن 236 منشأه صناعية خلال فترة الحرب علي غزة وبلغت الخسائر الأولية المباشرة للقطاع الصناعي نتيجة الحرب حوالي 57 مليون دولار أمريكي حسب تقديرات أصحاب المنشآت الصناعية. طال إغلاق المعابر التجارية أهم المشاريع الاستثمارية في قطاع غزة وهو منطقة غزة الصناعية والتي بدأ العمل فيها في عام 1999 و تضم المنطقة الصناعية 45 مصنعا, أغلقت كليا ولم يعد هناك أي مصنع يعمل فيها. علما بان 30% من أصحاب هذه المصانع باشروا بإجراءات الهجرة وفق مصادر القطاع الخاص.

3. أثر الإغلاق على القطاع الزراعي في قطغزة:ة :
- يعتبر القطاع الزراعي من أهم القطاعات الاقتصادية التي يعتمد عليها سكان قطاع غزة إذ يساهم هذا القطاع بنسبة كبيرة في الاقتصاد المحلي من حيث القيمة المضافة والتشغيل، كما يوفر القطاع الزراعي وظائف دائمة ومؤقتة لحوالي (30) ألف عامل في غزة بنسبة 13.4%  من العاملين بالفعل في قطاع غزة، كما ويوفر الغذاء والحياة المعيشية ل 25% من سكان في قطاع غزة.

- لكن الحصار و اغلاقات المعابر أدى إلى وقف حركة استيراد المستلزمات الإنتاجية مثل الأدوية الزراعية والأسمدة والحبوب والنايلون المستخدم في الدفيئات الزراعية ، وإعاقة تصدير المنتجات الزراعية، ثم جاء قرار الاحتلال الإسرائيلي في آب 2008 بتوسيع المنطقة العازلة على طول حدود قطاع غزة بعرض يصل إلى (500)  متر، ليؤدي إلى مزيد من تراجع القطاع الزراعي ، حيث حرم المزارعين من استغلال وزراعة حوالي (25) ألف دونم من أجود الأراضي الزراعية جنوب وشرق وشمال قطاع غزة، إلى جانب تدمير أو تعطيل المنشآت الزراعية (الدفيئات) ومنشآت الإنتاج الحيواني في تلك المناطق المعزولة، أما بالنسبة لخسائر القطاع الزراعي الناجمة عن الحصار فتقدر بحوالي (12) مليون دولار شهرياً منذ منتصف حزيران 2007  ، هذا وقد ترتب على الإغلاق والحصار نقص كامل في مستلزمات الإنتاج الزراعي التالية : الأسمدة الزراعية بأنواعها، الأدوية الزراعية بأنواعها ، النايلون الخاص بزراعة التوت الأراضي (نايلون التغطية)، عدم توفر قطاع غيار لصيانة مضخات المياه التي تستعمل في ري المزروعات، مستلزمات إنشاء البيوت البلاستيكية (الهيكل الحديدي). توقفت تقريباً معظم المشاريع الزراعية التنموية والإغاثة التي تنفذها منظمات محلية ودولية.
هذا وقد " بلغت الخسائر المباشرة للقطاع الزراعي نتيجة الحرب علي قطاع غزة حسب التقديرات الأولية 200 مليون دولار , حيث وصلت خسائر الإنتاج الحيواني إلي 52 مليون دولار والإنتاج النباتي إلي 110 مليون دولار بالإضافة إلي القطاع البحري (الصيادين) والتي وصلت إلي 7 مليون دولار بالإضافة إلي تدمير نحو 1000 بئر زراعي بالإضافة إلي تدمير مزارع الدواجن وفقاسات البيض، علما بان إعادة بناء هذه  المزارع سيحتاج إلى عشرات الملايين من الدولارات و إلي العديد من السنوات" .
4. أثر الحصار على إمدادات الوقود والطاقة الكهربائية :
- لقد بات من المعروف لدى سكان قطاع غزة، ولدى الوفود الأجنبية التي تقوم في زيارته، أن انقطاع التيار الكهربائي بصورة شبه يومية هو سمة بارزة تكاد تكون ثابتة من مظاهر المعاناة الناجمة عن هذا الحصار العدواني ، الأمر الذي ترك تأثيراً سلبياً على كافة الأنشطة الاقتصادية وكافة أوجه الحياة الصحية والاجتماعية والنفسية، علاوة على الخسائر المادية المباشرة وغير المباشرة – شبه اليومية – التي يتعرض لها كافة الشرائح الاقتصادية والأهالي بسبب انقطاع التيار الكهربائي ونقص الوقود.
- وبناءً على تقرير جمعية أصحاب محطات الوقود في قطاع غزة  فإن الاحتياجات اليومية للقطاع من المحروقات هي : (350) ألف لتر من السولار ، (120) ألف لتر بنزين ، (350) طن غاز بالإضافة إلى (350) ألف لتر يوميا من السولار الصناعي لتشغيل محطة الكهرباء ، إلا انه في ضوء القرار الإسرائيلي في نهاية نوفمبر 2007 بخصوص تخفيض كميات المحروقات ، فقد انخفضت كميات السولار اليومية إلى (90) ألف لتر فقط بنسبة انخفاض 74% ، وانخفض البنزين إلى (25) ألف لتر فقط بنسبة انخفاض 79% ، وانخفض الغاز إلى (100) طن بنسبة انخفاض 71%، الأمر الذي فرض على كافة الجهات المعنية سواء في أوساط الحكومة أو في أوساط المهربين، إيجاد السبل الكفيلة بتأمين كميات المحروقات اللازمة لقطاع غزة عن طريق الأنفاق من مصر وبأسعار رخيصة جداً حققت أرباحاً طائلة للمهربين وغيرهم إلى جانب توفير هذه السلعة بسعر أقل بـ 60% من الأسعار الحكومية السابقة.
5. أثر الإغلاق على حركة الأفروالبضائع:ع :
- إن حصار الاحتلال لقطاع غزة يذكرنا بمظاهر أكثر بشاعة من الحصار الذي فرضته النازية على اليهود في معتقلاتها وحصارها لهم ، فقد أدى الحصار الصهيوني النازي الجديد على قطاع غزة إلى منع الطلاب والمرضى والتجار من السفر إلى الخارج، مما أدى إلى حرمان هذه الفئات من  التعليم والعمل والعلاج في الخارج ، حيث بلغ عدد الوفيات من المرضى بسبب الحصار 337 حالة وفاة حتى منتصف العام 2009  .

- كما أن إغلاق الاحتلال للمعابر المؤدية إلى قطاع غزة، أدى إلى منع دخول أكثر من 60% من السلع والبضائع خاصة مواد البناء والأدوات الكهربائية والصحية والمواد الخام باستثناء بعض السلع الأساسية من الأغذية والأدوية، وبالرغم من الدمار الهائل الذي خلفته الحرب العدوانية على قطاع غزة (يناير 2009) إلا أن دولة العدو الإسرائيلي ما زالت تمنع استيراد الاسمنت والحديد وكافة مواد ومستلزمات البناء من الأدوات الصحية والكهربائية والبنية التحتية الأمر الذي أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار مواد البناء حيث ارتفع سعر طن الاسمنت من 400 شيكل إلى 3500 شيكل وكذلك الأمر بالنسبة للحديد والمواسير والأدوات الصحية والكهربائية
6. توقف المشاريع الإنشائوالعمرانية:ة :
- واجه قطاع الإنشاءات على وجه التحديد انخفاضا وتدهورا حادا ومتواصلا منذ منتصف 2007 ،حيث توقف أكثر من 90% من شركات المقاولات عن العمل بسبب عدم توفر الاسمنت والحديد والحصمة التي ارتفعت أسعارها في السوق السوداء (إن وجدت) إلى أكثر من 800% إلى جانب توقف استيراد الأدوات الصحية والكهربائية وارتفاع أسعارها بنفس النسبة السابقة.
- توقف معظم المشاريع الإنشائية والعمرانية والتطويرية الخاصة والعامة، نتيجة إغلاق المعابر ومنع دخول مواد البناء إلى الأسواق الفلسطينية في قطاع غزة ، ومن أهم هذه المشاريع التي أوقفت مشروع تطوير شارع صلاح الدين الواصل شمال القطاع بجنوبه بتكلفة إجمالية تقدر بحوالي 18 مليون دولار ، وكذلك شارع النصر والعديد من المشاريع الأخرى .
- كما توقفت مشاريع البناء والتطوير التي تنفذها الأونروا والتي تقدر بحوالي 93 مليون دولار وتشكل مصدر دخل لما يزيد عن 120 ألف شخص ، وفي هذا السياق نشير إلى توقف المشاريع المتعلقة بالمرحلة الأولى لميناء غزة بكلفة (69) مليون دولار ومشروع المطار بكلفة (87) مليون دولار ومشروع الطريق الساحلي بكلفة (179) مليون دولار ومشروع تطوير ميناء الصيادين بحوالي (10) مليون دولار .
- ويبلغ مجموع المشاريع في قطاع البناء التي تم إيقافها وتعطلها بنحو 160 مليون دولار بما فيها مشاريع وكالة الغوث الأونروا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومشاريع أخرى .
هبط عدد العاملين في قطاع الإنشاءات من حوالي 10% من مجموع العاملين بالفعل إلى حوالي 1% فقط نهاية عام 2008 .
 و بلغ مجموع المشاريع في قطاع البناء والإنشاءات والبنية التحتية التي تم إيقافها وتعطيلها نتيجة عدم توفر المواد الخام بنحو 370 مليون دولار .
و توقفت جميع المشاريع الإنشائية والعمرانية والتطويرية الخاصة والعامة ومشاريع البنية التحتية نتيجة عدم وجود مواد البناء.
 ولحق الضرر بالصناعات الإنشائية المساندة لقطاع الإنشاءات والمقاولات فتوقفت جميع مصانع البناء والتي تشغل أكثر من 3500 عامل و موظف , 13 مصنع بلاط – 250 مصنع بلوك – 30 مصنع باطون جاهزة – مصانع الانترلوك – 145 مصنع رخام وجرانيت و مصانع أنابيب الصرف الصحي والمناهل عن العمل تماما.
كما توقفت معظم شركات المقاولات والإنشاءات العاملة في قطاع غزة والبالغ عددها 220 شركة عن العمل تماما وتكبدت خسائر فادحة نتيجة تجميد المشاريع قيد الإنشاء وأصاب التلف جميع المعدات والآلات الخاصة بهذه الشركات.
وتعمدت آلة الحرب الإسرائيلية إلي تدمير ما تبقي من قطاع الإنشاءات حيث تم استهداف ما يزيد عن 61 منشأه خلال فترة الحرب علي غزة وبلغت الخسائر الأولية المباشرة لقطاع الإنشاءات نتيجة الحرب حوالي 27 مليون دولار أمريكي حسب تقديرات أصحاب المنشآت .

7. قطالسياحة:  :
أصاب القطاع السياحي شلل كامل وأوشكت شركات ومكاتب السياحة والسفر البالغ عددها 39 شركة و مكتب على الإفلاس نتيجة إغلاق المعابر وعدم حرية السفر, كما أصاب الضرر أصحاب الفنادق السياحية البالغ عددها 12 فندق سياحي تحتوي على 423 غرفة جاهزة لاستقبال النزلاء وتدنت نسبة الإشغال إلى الصفر، كما تأثرت المطاعم السياحية والبالغ عددها 35 مطعم سياحي وأصبحت جميعها مهدد بالإغلاق نتيجة عدم تغطية المصاريف الجارية اليومية مما أدي إلى فقدان أكثر من 500 عامل لعملهم في المنشآت السياحية .
8. قطالاستثمار:  :
نتيجة لسياسة الحصار المالي والاقتصادي الإسرائيلي و إغلاق المعابر أصيب قطاع الاستثمار في فلسطين بشكل عام و في محافظات غزة بشكل خاص بانتكاسة كبيرة ينتج عنها العديد من الآثار السلبية:
ـ هروب رؤوس الأموال المحلية للدول المجاورة للبحث عن الاستقرار السياسي والاقتصادي
ـ هروب العديد من الشركات الأجنبية العاملة في المجال الاستثماري في فلسطين 
ـ إلغاء استثمارات أجنبية وفلسطينية وعربية كانت تحت الإعداد النهائي
ـ  توقف العمل في توسيع المناطق الصناعية الحرة والعديد من المشاريع الاستثمارية
ـ خسارة كل ما أنفقته السلطة الفلسطينية لتسويق فلسطين عالمياً وتشجيع الاستثمار لجذب المستثمرين، ونتيجة للحصار والدمار الناجم عن الحرب (يناير 2009) فقد ذهبت كل هذه الجهود والنفقات أدراج الرياح وسيحتاج الأمر لعدة سنوات لإعادة الأمور إلى نصابها وإعادة الثقة لدى المستثمرين في المناخ الاستثماري الفلسطيني إن وجد في المستقبل .

الآثار الاجتماعية للحصار :
الحديث عن الآثار الاجتماعية الناجمة عن الحصار وأوضاع الانقسام والصراع الداخلي الممتد حتى اللحظة في مجتمعنا, هو حديث عن متغيرات اجتماعية تتنوع بتنوع أسبابها الخارجية والداخلية.
إن التغير كما جاء في "لسان العرب" يعني: "تغير الشيء عن حاله, حَوّله وبَدّله, كأنه جعله غير ما كان, والتغير يشير إلى الاختلاف الكمي أو الكيفي ما بين الحالة الجديدة والحالة القديمة في فترة محدده من الزمن, وعندما تضاف كلمة الاجتماعي, يصبح التغير الاجتماعي هو: التغير الذي يحدث داخل المجتمع أو التحول الذي يطرأ على أي من جوانبه في كل مرحلة من مراحل تطوره, إلا أن ما جرى في حالتنا الفلسطينية, سواء بسبب العدوان الإسرائيلي شبه اليومي علي شعبنا ومقدراته, إلى جانب استمرار الحصار وإغلاق المعابر في قطاع  غزة ، أو بسبب استمرار حالة الانقسام بين فتح وحماس وحكومتيهما غير الشرعيتين ، لا يعني أن الآثار الاجتماعية لهذين العاملين ، تؤدي بالضرورة إلى تغيرات اجتماعية نوعية أو جوهرية في الضفة أو القطاع أو كليهما بالمعنى الإيجابي ، لان هذه التغيرات أدت إلى زعزعة أو تفكيك أو إزاحة وعي شعبنا الفلسطيني بوجوده السياسي الاجتماعي الموحد رغم توزعه وتباعده الإكراهي في المكان بين الضفة والقطاع من ناحية وبين توزعه في مخيمات اللجوء والمنافي من ناحية ثانية، إلى جانب سعي حماس لتكريس الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي بديلاً للهوية الوطنية الفلسطينية وانتمائها لبعدها القومي العربي، وفي المقابل تقوم حركة فتح وحكومتها في رام الله بمزيد من التوافق مع الشروط الأمريكية والإسرائيلية ، بحيث يمكن الاستنتاج بصورة موضوعية ، بأن كل من حركتي فتح وحماس تقدم للشعب الفلسطيني والشعوب العربية أسوأ صورة ممكنة عن حاضر ومستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني بعد أن ارتكبت كل منهما كبائر أو جرائم سياسية في حق هذا الشعب وقضيته، الأمر الذي لا يجوز لأي وطني فلسطيني أن يسكت عن هذا الانقسام .
فالتغير الاجتماعي النوعي كما نفهمه، هو مصطلح رديف لمفاهيم النمو والإصلاح أو التطور والتقدم الاجتماعي بالمعنى التنويري والحداثي والعقلاني عبر مراحل ارتقائية ، تكون كل مرحلة جديدة أفضل من سابقتها من حيث التنمية والنمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وبالتالي فإن تحليلنا للآثار الاجتماعية الناجمة عن الحصار أو عن الانقسام, مع إقرارنا باختلاف أهداف كل منهما, يقوم على أن الحصار العدواني الإسرائيلي ليس جديداً على شعبنا الصامد منذ عقود طويلة في مقاومته للاحتلال ولكل أشكال الحصار, وكذلك الأمر بالنسبة للآثار الناجمة عن الانقسام التي لن تستطيع أن تتحول إلى متغيرات نوعية تصيب جوهر الطبيعة الاجتماعية السياسية لشعبنا وذهنيته وذاكرته الوطنية, لأن حركة حماس ستظل عاجزة عن طرح برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي من منطلق الإسلام السياسي بما  يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية, فهذا نوع من الوهم, ذلك إن الحديث عن ما يسمى بـ "الاقتصاد الإسلامي " يتنافى مع مفاهيم و معطيات التطور الاقتصادي الحديث والمعاصر التي أكدت منذ بداية عصر النهضة إلى اليوم على وجود نوعين محددين من الاقتصاد هما : الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، وبالتالي فإن الرؤية الاقتصادية لحركة حماس والإخوان المسلمين تنطلق بالضرورة من محددات وأسس وآليات الاقتصاد الرأسمالي واقتصاد السوق الحر بكل مواصفاته ونزوعه صوب الربح والاستغلال في إطار من الصراع الطبقي الذي لا يتناقض في الجوهر مع شروط ومواصفات النظام الامبريالي برمته, فالحركات الإسلامية عموماً والإخوان المسلمين وحركة حماس على وجه الخصوص, تحاول نقل السجال أو الصراع الداخلي, ولاسيما الدينامية الاجتماعية بحيث تجعله- كما يقول د.علي الكنز - يدور حول تطابق الدولة والمجتمع مع النموذج الديني", مستغله في ذلك الأحوال المتردية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الناجمة عن ممارسات السلطة ارتباطاً بمصالحها الطبقية, إلى جانب استمرار قوة الصلف الإسرائيلي الذي يسعى إلى فرض شرعية المحتل الغاصب, كل ذلك أدى إلى إثارة النزعة الدينية الشعبية العفوية والتفافها حول حركة حماس, كحركة مقاومة أو كحركة سياسية وليس كحركة دينية بما أدى إلى فوزها في الانتخابات يناير 2006, اخذين بعين الاعتبار أن الترجمة الدينية للتناقضات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها- بصورة عفوية بسيطة- قطاعات واسعة من الشرائح الاجتماعية الفلسطينية, توافقت مع المنطلقات الدينية لحركة حماس- وهي منطلقات سياسية في جوهرها، حيث عمدت "حماس"  إلى استغلال هذا الالتفاف الشعبي – الوطني في جوهره و الديني في مظهره -  وتعبئته معنوياً فقط, دون أن تملك _ولن تملك_ القدرة على بلورته كحركة اجتماعية سياسية اقتصادية وفق مشروع أو برنامج محدد.
إن هذا الاحتكار من قبل حركة حماس للتدين الشعبي العفوي, تطور -كما يضيف د.علي الكنز - "كرد فعل بالأساس حول نسيج اجتماعي متفكك بسبب الأزمة الاقتصادية والعنف المتعدد الأشكال, وكذلك بسبب نظام فكري يستند إلى تصور ماضي تاريخي مجيد, قد يكون ناضجاً على المستوى المعنوي, ولكنه لا يتمتع بأدنى فعالية أمام المشاكل الراهنة"
نستنتج مما تقدم, أن انحسار وتراجع الدور الوطني الطليعي لحركة فتح إلى جانب تفاقم أوجه  الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري في السلطة، وضعف دور قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية عموماًُ والقوى اليسارية خصوصاً ، شكّل أحد أهم العوامل التي وفرت الفرص أمام حركة حماس من خلال تفاقم الصراع مع أجهزة السلطة وانفجاره عبر صراعات دموية في 14/حزيران/2007, وصولاً إلى الانقسام وفصل قطاع غزة عن الضفة، ومن ثم تفاقم بشاعة الحصار الإسرائيلي على شعبنا وما أدى إليه هذين العاملين من تعريض مجتمعنا الفلسطيني في قطاع غزة إلى أوضاع معيشية صعبة ومعقدة بلغت في بعض الأحيان – وما زالت – حد الكارثة الإنسانية على العديد من الشرائح الفقيرة المعدمة، يمكن ملاحظتها عبر العديد من الآثار الاجتماعية السائدة اليوم في المجتمع الفلسطيني عموماً وفي قطاع غزة خصوصاً .

وفي تناولنا التداعيات الاجتماعية على الشارع الفلسطيني، نعتقد أنه من المفيد -لغايات التحليل- إدراك طبيعة تطور المجتمع الفلسطيني كمجتمع  يندرج في إطار التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الطرفية شبه الرأسمالية. هذه تشكيلة لا تزال مشتملة على علاقات إنتاج اجتماعية ما قبل رأسمالية حرص الاحتلال على استمرار بقائها مستفيداً من حالة التخلف القائمة فيه مكرساً لها في آن واحد، ويمكن أن يوصف مجتمعنا اليوم بأنه مجتمع شبه تقليدي، تتداخل فيه الأنماط الاجتماعية القديمة ، العائلية والحمائلية جنباً إلى جنب مع العلاقات الرأسمالية التابعة والمشوهة السائدة في إطار الفئات المتنفذة من التحالف البيروقراطي الكومبرادوري المهيمن (بدرجات متفاوتة) بصورة مباشرة أو غير مباشرة في كل حكومتي الضفة وقطاع غزة.
فقد استمر التكوين الاجتماعي/الطبقي الهش في بلادنا محكوماً حتى اللحظة بأصوله الرئيسة –القديمة المتجددة- المتمثلة في ملكية الأرض والعقارات والتجارة ورأس المال والمنصب الحكومي، وهذا لا يلغي الدور الرئيسي التاريخي  للعدو الصهيوني من ناحية إلى جانب الصراع بين فتح وحماس والانقسام الراهن بين الضفة والقطاع  في تعطيل بلورة التشكيل أو الكيان السياسي الفلسطيني الموحد والمستقل، وآثار غياب هذا التبلور على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الضفة والقطاع. بما سيدفع إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الفلسطينيين في هذه المرحلة ؟ وأبرزها البحث عن تأمين المصالح الخاصة لدى البعض، وعن لقمة العيش وتأمين مستلزمات الحياة الضرورية لدى الشرائح الفقيرة ارتباطاً بالمأزق السياسي المسدود في اللحظة الراهنة، إلى جانب انتشار قيم النفاق الاجتماعي بكل صوره الاجتماعية والسياسية، أو اللامبالاة والاتكالية, وانتشار الميل إلى الإحباط أو اليأس, والخضوع, وتراكم الخوف في صدور الناس, لدرجة أن الكثيرين في مجتمعنا أصبح همهم هو الانخراط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصالحهم الخاصة والحفاظ على سلامتهم. والنتيجة الحتمية لهذا المسار الاجتماعي الشاذ تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام والكرامة, وروح المكر محل روح الشجاعة, وروح التراجع محل روح المبادرة, وروح الاستسلام محل روح المقاومة, وروح العدمية والتعصب الأعمى المنغلق محل روح الديمقراطية والتعددية. هذه المظاهر لم يكن ممكناً انتشارها بدون هذا التوسع المذهل في الهبوط السياسي ألانحطاط الاجتماعي الذي لم يعد هامشياً أو استثنائياً, ولم يعد مجرد مسألة انحطاط قيمي وأخلاقي فحسب, بل صار تعبيراً عن درجة عالية ومقلقة من انفصام السلطة عن الشعب, بعد أن انقسمت إلى "حكومتين" غير شرعيتين، تحاول كل منهما تثبيت مصالحها الفئوية على حساب المصالح والأهداف الوطنية التوحيدية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن منطق الاستبداد والهيمنة في ظل النظام الأبوي, الفردي شبه المطلق في السلطة الفلسطينية منذ قيامها, أدى بدوره إلى تشجيع بروز أشكال مماثلة من التفرد والهيمنة لدى العديد من المسئولين في مؤسسات وأجهزة السلطة, وذلك بالاستناد إلى مجموعات الولاء الشخصي أو الاستزلام التي تضخمت وتعددت، واستطاعت أن تفرض وجودها بمسميات مختلفة في ظروف الانقسام الراهن تحت مظلته دون أي اعتبار أو  التزام حقيقي بمبدأ الديمقراطية والتعددية وجوهر القوانين والنظام الأساسي, وفي مثل هذه الأوضاع, كان طبيعياً انتشار وسيادة منطق الاستبداد والولاء ألمصلحي أو الديني الشكلي إلى جانب انتشار مظاهر القلق والإحباط والخوف، الأمر الذي مهد لإثارة المزيد من الأزمات الداخلية ذات الطابع الديني ألعدمي المتطرف أو الانتهازي, وبدرجات متفاوتة, وهي أزمات قد تنذر بالانتقال من الحيز التنظيمي الضيق إلى الحيز الاجتماعي والسياسي العام, وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات خطيرة على مجمل نسيج الحركة الوطنية, ومجمل الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي, خاصة إذا لم تتدارك جميع القوى للإسهام بدورها في إطفاء الصراع الداخلي ووقف أسباب الأزمة على قاعدة وضوح الرؤية والإستراتيجية الوطنية أو العقد الاجتماعي الناظم للجميع.
إن استعراضنا لهذه المظاهر والتداعيات الاجتماعية يظهر مجموعة من الحقائق و المفاهيم و المؤشرات الدالة على الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية ( الداخلية والخارجية) التي أدت إلى انتشار هذه المظاهر, وأبرزها طبيعة الخارطة أو التركيبة الطبقية الفلسطينية ، التي لم تتبلور بصورة نهائية بعد ، و التي ما زالت تملك دوراً و تأثيراً ملموسا في عملية توزيع الدخل و الثروة و السلطة ، و لنا في تجربة الأعوام الماضية أن نستنبط العديد من الأمثلة على هذه العلاقة التي ينجم عنها ما نسميه بإعادة إنتاج العلاقات المتخلفة بما فيها ظاهرة الولاء الشخصي والاستزلام, خصوصاً في أوساط الجماهير الفقيرة, حيث يتم استغلال هذه العلاقة ضمن أبعادها الخاصة أو الحياتية بعيداً عن الرؤى الوطنية والمجتمعية التوحيدية، بحيث يمكن توصيف العلاقات  السائدة عندنا اليوم، على أنها تأكيد لمجتمع ما قبل الحداثة أو الرأسمالية ، حيث تمتزج و تنصهر فيها علاقات الإنتاج الاقتصادية من ناحية و علاقات التبعية و الولاءات ذات الطابع الفردي أو الجهوي من ناحية أخرى ، و كما هي الحال عندنا في الضفة و القطاع، فإن هذه العلاقات الاستزلامية –لهذا المسئول أو القيادي أو ذاك- تأخذ شكل العلاقات الشخصية القائمة على المصالح الاقتصادية الآنية والمباشرة، عبر النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الانقسام الراهن في حكومتي فتح وحماس، والذين تتجلى قوتهم الأساسية لحماية مصالحهم الفئوية بوسائل الاستبداد والقهر عبر الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري والأمني من ناحية أخرى.
وفي هذا الجانب, نشير إلى أن تشخيص جوانب الأوضاع والمتغيرات في سياق التطور الاجتماعي ، اظهر مجموعة من الحقائق والمؤشرات :
1- تطورت العلاقات الاجتماعية في اتجاه تبلور مجتمع طبقي مشوه، وتابع، في سياق نسيج اجتماعي مفكك ومتنوع في سماته الطبقية بين القديم والحديث والمعاصر.
2- تزايد مظاهر الانحطاط السائد في المجتمع الفلسطيني، بسبب التبعية والتخلف والفقر وانسداد الأفق السياسي، وما ستؤدي إليه هذه الحالة من الانهيار التدريجي في النسيج الاجتماعي في ظل انحسار الآمال الوطنية الكبرى أو المأزق المسدود بتأثير مباشر للانقسام ومن ثم اشتداد الحصار وتكريسه، وتحويل القسم الأكبر من المجتمع، خاصة في قطاع غزة إلى حالة قريبة من اليأس والانهيار على الصعيدين الاجتماعي والسياسي بعد أن فرض على شعبنا أن يدخل في متاهة صراع داخلي يضاف إلى قهر وظلم الاحتلال، لن يخرج منه احد رابحاً سوى العدو الإسرائيلي المنتشي بتحقيق أطماعه تحت غطاء هذا الانقسام الذي حقق هدف العدو في تقويض أمن ومستقبل الإنسان الفلسطيني ومن ثم تقويض الأساس المادي والمعنوي لضمان حياته ومصدر رزقه .
3-  تميز التطور الاجتماعي في شكله وجوهره ، بطابع تراكمي كمي مشوه ، بحيث لم يستطع أن يفرز بوضوح ملموس أية أطر برجوازية تنويرية أو ليبرالية ، فكرية ، أو ثقافية معاصرة ، وبقيت القيم والأفكار القديمة والتقليدية الموروثة سائدة في أوساط الوعي الاعتيادي (العفوي) للجماهير الشعبية بالرغم من بعض أوجه الحداثة الشكلية المستوردة التي أسهمت في تعميق حالة التبعية والتخلف الاجتماعي إلى جانب الهبوط السياسي .
4-  أن الانقسام الاجتماعي الداخلي، في جوهره وحقيقته الموضوعية يعبر عن نفسه في صفوف أبناء شعبنا، في الضفة والقطاع، على قاعدة توزع السكان في السُلَّم الطبقي أو الاجتماعي، بين القلة من الأغنياء، والأغلبية الساحقة من الفقراء في المدن والقرى والمخيمات.
5- تزايد انتشار الفقر الذي لم يتوقف عند الفقر المادي أو الفقر في الدخل، بل تخطى هذه الحدود إلى الفقر في القانون والنظام والقيم والحريات العامة، وتزايد التفاوت اتساعا بين مستويات المعيشة ، في معظم مناطق الضفة وقطاع غزة ، علاوة على مخيمات اللاجئين ، إلى جانب ذلك نلاحظ استمرار التفاوت الاجتماعي –في سياق التخلف التاريخي- بين الجنسين الناجم عن تكريس الهيمنة الذكورية والمجتمع الأبوي بصورة صارخة، إلى جانب تسارع عملية الاستقطاب الطبقي واتساع الفجوة الطبقية في المجتمع الفلسطيني ليس عبر اتساع وتزايد نسبة الفقراء المدقع فحسب، بل باتجاه تزايد انحسار الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي يتزايد انضمام غالبية أفرادها إلى طبقة الفقراء.
6- بروز المؤشرات السلبية الخطيرة على العاطلين عن العمل بسبب فقدانهم للأمن الاجتماعي ونظرتهم السوداوية وفقدانهم الثقة بالآخرين و اضطرابهم النفسي والسلوكي وتزايد حدة توترهم العائلي ورغبتهم في الانتقام، وما يؤدي إليه كل ذلك  من تراجع القيم الأخلاقية والتربوية في الأسرة وتدهور العلاقة بين الأب والأبناء مع تزايد حالة الاكتئاب النفسي لدى الأب أو المعيل الرئيسي، وهي حالة طبيعية حين يعجز الأب العاطل عن تأمين احتياجات أسرته وأطفاله ويشعر بفقدانه لقيمته الاجتماعية كأب مما يؤثر في علاقته بالآخرين.
7- في ضوء تكريس الانقسام وتفكك النظام السياسي ، تسود مجتمعنا اليوم سلوكيات أنانية تتسم بالراهنية والتركيز على حل قضايا الأجل القصير دون أن تعطي الاهتمام المطلوب لقضايا المستقبل ، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تفاقم مظاهر التخلف الاجتماعي ، وتراجع العلاقات القائمة على أساس المشروع الوطني والتعددية الديمقراطية لحساب قيم النفاق والإحباط والقيم الانتهازية والمصالح الشخصية بدلا من قيم التكافل والتضامن والمقاومة . ترافق إلى جانب ذلك ، غياب المجتمع السياسي الفلسطيني ليحل محله – في الفترة الأخيرة ، قبل وبعد الانقسام – مجتمع محكوم بالصراع والاستبداد والخوف والتعصب الديني اللاعقلاني ، ومحكوم
أيضاً بالمصالح والثروات الشخصية، على قاعدة أن السلطة مصدر للثروة وليست مصدرا للنظام والقانون والعدالة – إلى جانب الجرائم والانحرافات بكل أنواعها الأخلاقية والمجتمعية التي لم يعرفها مجتمعنا من قبل .
8- حذرت دراسة أعدتها جامعة «هارفارد»  الأميركية من احتمال زيادة دراماتيكية في أعمال العنف وعدم الاستقرار في قطاع غزة وانهيار البنى التحتية لخدماته العامة إذا ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي والأمن الإنساني على حاله.
وتوقعت الدراسة التي أعدها د.اسماعيل لبد لبرنامج أبحاث السياسات الإنسانية للنزاعات في جامعة «هارفارد» تحت عنوان «غزة 2010: احتياجات الأمن الإنساني في قطاع غزة»، أن تلجأ أعداد كبيرة من الأيدي العاملة في القطاع إلى مغادرته بحثاً عن فرص عمل في الخارج، ودعت إلى توفير أكثر من 135 ألف فرصة عمل جديدة لإبقاء معدلات البطالة في حدود 10 في المائة مع حلول العام 2010.
أما متطلبات التعليم في القطاع الذي تشرف عليه ثلاث جهات هي الحكومة، و «وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) والمؤسسات التعليمية الخاصة، فتوضح الدراسة إن عدد الطلاب سيرتفع إلى 471 ألفا في العام 2010، ما يتطلب 1517 مدرسا جديدا، ونحو 984 صفا مدرسيا جديدا أيضا، من اجل المحافظة على المستوى الحالي للخدمات التعليمية.
ومن اجل رفع مستوى التعليم في قطاع غزة إلى المستوى نفسه في الضفة، فانه مطلوب 7500 مدرس، و4700 صف مدرسي. ولجودة أفضل في التعليم، فانه يجب التخلص من العمل وفق نظام الفترتين في مدارس القطاع التي تعمل نحو 72 في المائة منها وفقا لهذا النظام مقارنة مع 9 في المائة في الضفة. ومن اجل أن تعمل مدارس القطاع وفقا لنظام الفترة الواحدة، فان القطاع بحاجة إلى بناء 376 مدرسة فوراً. وفي شأن متطلبات الخدمات الصحية، فان هناك حاجة إلى 425 طبيبا جديدا، و520 ممرضا، و465 سريرا في المستشفيات و132 مركزا صحيا أوليا جديدا.
9- دفع الحصار الإسرائيلي بنحو 84% من الأسر الفلسطينية إلى تغير أنماط حياتها فيما تنازل 93% منهم عن المتطلبات المعيشية اليومية، وعبر 95% عن استيائهم الشديد لتحويل القطاع إلى سجن كبير  كما تؤكد تقارير "برنامج غزة للصحة النفسية" الصادرة خلال عامي 2008/2009، وفي هذا السياق نشير إلى تأثير الحصار على المرضى وخاصة مرض الفشل الكلوي والسرطان والمرضى المحولين للخارج ، إلى جانب نسب النقص في الأدوية وانقطاع التيار الكهربائي عن المستشفيات، كما أثر الحصار على البيئة حيث يؤكد العديد من المصادر أن مياه البحر تلوثت بشكل حاد حيث تصب فيه 50% من مياه الصرف الصحي ( ما يعادل 77 مليون لتر من المياه العادمة).
10- انعكاس الآثار السلبية للحصار والعدوان على الأطفال من النواحي الصحية والاجتماعية والنفسية، حيث تشير نتائج دراسة د.سمير قوته إلى أن 51% من الأطفال لم تعد لديهم الرغبة في المشاركة في أية نشاطات وأن 47% منهم لم يعودوا قادرين على أداء  الواجبات المدرسية والعائلية، وأصبح 48% منهم يعانون من أمراض سوء التغذية إلى جانب بروز علامات الخوف والقلق على 61% منهم .
11- انتشار ظاهرة التسول المباشر وغير المباشر بصورة غير مسبوقة وخاصة بين الأطفال دون الخامسة عشر في شوارع غزة وخان يونس ورفح بعد أن فقدوا بهجة الحياة نتيجة الحصار والفقر وسوء التغذية الذي أدى إلى انتشار أمراض فقر الدم (الأنيميا)  في المناطق الفقيرة .
12- قد نتفق على أن خطوات حكومة حماس في إزاحة رموز الفساد والفلتان وعصابات تهريب المخدرات في قطاع غزة، قد أراحت سكان قطاع غزة بعد أن فرضت نوعاً من الانضباط فيه، لكن حكومة حماس بدأت عبر أجهزتها في ممارسة أشكال جديدة من الاعتقال وكبت الحريات والآراء، وتعبئة الرأي العام ضد اليساريين والعلمانيين أو ما تسميهم "الملحدين" في محاولة صريحة ومباشرة منها لفرض شرعيتها أو هويتها السياسية المتذرعة بغطاء ديني، وبالتالي تكرس نفس أساليب السلطة، ولكن بمسميات وذرائع مختلفة ومرفوضة من قطاعات واسعة جداً من أبناء شعبنا الذين عرفوا بتجربتهم التاريخية والراهنة مدى مصداقية قوى اليسار وثوريته وتضحياته قبل أن تظهر حركة حماس على سطح الحياة السياسية والاجتماعية في بلادنا، ما سيجعل الشعب الفلسطيني يضع حماس وحكومتها جنباً إلى جنب مع فتح وسلطتها أو حكومتها، خاصة بعد أن اتضح لأبناء شعبنا أن العديد من ممارسات حكومة حماس لا تختلف اليوم عن ممارسات السلطة، ما يعني أن حماس وقعت في محظور ممارسات البذخ وشراء الشقق والأراضي والسيارات والمرافقين إلى جانب ممارسة الاستبداد وقمع الحريات العامة وحرية الرأي بذرائع دينية في مجتمع قطاع غزة المحافظ على التقاليد الدينية تاريخياً دون أي شكل من أشكال التعصب أو الانغلاق، علاوة على المحظور الأكبر المتمثل في استمرار الانقسام والمأزق المسدود الراهن، الذي وفر – إلى جانب البؤس الاجتماعي السائد بسبب البطالة والفقر – المناخ اللازم لولادة وتأسيس التنظيمات السلفية العدمية المتطرفة إلى الحد الذي أوصلها إلى تكفير حركة حماس ذاتها وتكفير كل من يتحدث عن الديمقراطية والتعددية أو تطبيق القوانين الوضعية، إن هذه الصورة لم يكن ممكنا بروزها بهذه الحدة لولا الانقسام واستمرار الصراع على السلطة والمصالح بين فتح وحماس و التراجع المتزايد في مجتمعنا الفلسطيني الذي نشهده اليوم، الذي خلق مناخاً أصبح هم المواطن فيه ينحصر في الانخراط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصلحته العائلية الخاصة والمحافظة على سلامته – كما يقول د.هشام شرابي- انسجاماً مع القول العربي المأثور "امش الحيط الحيط" إن النتيجة الحتمية لهذا المسار الاجتماعي، تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام وروح المكر محل روح الشجاعة وروح التراجع محل روح المبادرة وروح الاستسلام محل روح المقاومة، وتبعاً لذلك فإن "القوي المسيطر لا يواجهونه مواجهة مباشرة، بل يستعينون بالله عليه، كما في القول "اليد التي لا تستطيع كسرها بوسها وادعي عليها بالكسر" ففي حالة الإحباط تتراجع قيم مقاومة الظلم لحساب الخضوع كما في القول المأثور "العين ما بتقاوم المخرز" أو المخرز حامي والكف طري"، فقط المواجهة تكون مع الأضعف ، وحين تسود هذه الخصائص أو السلوكيات فإن القوى يأكل الضعيف بغير حق في كل الأحوال.
13- تزايد انتشار البطالة في أوساط الشباب أدى إلى السرقات والجرائم وانتشار المخدرات بكل أنواعها (الحشيش والبانجو والهروين وحبوب الاترمال وغير ذلك ) والانحرافات الأخلاقية والاجتماعية والأمنية التي أدت إلى الإخلال بالأمن الاجتماعي ، إلى جانب سعي القسم الأكبر من الشباب للهجرة إلى الخارج هروباً من هذا الواقع.
14- بذريعة الحصار، أصبح التهريب عبر الإنفاق وغيرها في قطاع غزة خصوصا، ظاهرة "مشروعة" يتهافت عليها أصحاب المصالح والمحتكرين والزعران إلى جانب تهافت العمال المعدمين العاطلين عن العمل الذي تعرض العشرات منهم للموت للحصول على لقمة العيش، في ظل صمت الأجهزة الأمنية أو تواطئها، وبالتالي فإن الآثار الناجمة عن التهريب والأنفاق أدى التهريب والأنفاق إلى خلق حالة من الحراك الاجتماعي الشاذ الذي أفرز شرائح اجتماعية عليا أو ما يطلق عليهم الأثرياء الجدد أو أثرياء الحرب والسوق السوداء إلى جانب شريحة من العمال المعدمين الذين اضطروا للعمل في الأنفاق في ظروف أمنية معقدة بسبب مخاطر العدوان الإسرائيلي المتواصل على الأنفاق، ودون أي شكل من أشكال الحماية والضمانات الاجتماعية ، وفي ظروف بالغة السوء من النواحي الصحية إلى جانب مخاطرها التي أدت إلى وفاة 105 عمال من هؤلاء حتى منتصف عام 2009 بسبب عدم توفر الحد الأدنى من الوسائل المطلوبة لتأمين حياة العاملين في الأنفاق، الذين بلغ عددهم حوالي 15 ألف عامل.
15- تردي أحوال الصيادين وبائعي السمك وعمال الصيانة ( حوالي 4000 صياد يعيلون حوالي 25 ألف نسمة) تدهورت معيشتهم بسبب الحصار الإسرائيلي سواء عبر حرمانهم من الصيد أو تعطيل حركتهم أو تهديدهم بالقتل، وارتفعت البطالة في صفوفهم بعد أن فرض عليهم الصيد في الأيام المسموح بها –في مسافة (3) أميال فقط رغم أن اتفاق أوسلو سمح لهم بالصيد لمسافة (20) ميل بحري. 
كل ما تقدم ، و غيره الكثير من تفاصيل الحياة المجتمعية والمعيشية، يؤكد على ثقل العبء الذي يجب أن تتحمله القوى السياسية الفلسطينية بمختلف تلاوينها من أجل إنهاء حالة الانقسام والعودة إلى الاحتكام للديمقراطية والتعددية، حيث أن دور هذه القوى في استعادة الوحدة المجتمعية والسياسية للضفة والقطاع يجب أن يكون له الأولوية في سلم الأهداف الوطنية في هذه المرحلة وفق إستراتيجية وطنية موحدة من ناحية ووفق قواعد الديمقراطية وسيادة القانون والنظام الأساسي من ناحية ثانية.

إن الوضع الراهن يشير إلى أن السياسة باتت فناً للفوضى أو الموت البطيء بدلاً من فن إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطراً وعمقاً من نكبة 48... معنى ذلك هناك خلل كبير يدفع ثمنه شعبنا الفلسطيني عموماً والجماهير الفقيرة خصوصاً. ذلك أن ما يجري هو شكل من الفوضى السياسية والمجتمعية المحكومة بالطبع بأهداف ومصالح وبرامج انقسامية محددة، تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني وبلورته في الصيغة المطلوبة وفق مقتضيات الصراع بين القطبين، (فتح وحماس) في إطار فسيفساء متناقضة أو حالة من الفوضى والصراع قد يفقد معها المشروع الوطني عناصره وثوابته الجوهرية ما سيدفع إلى تكريس نوعاً من النظام السياسي الفئوي ، المشوه، العاجز عن حمل مواصفات وشروط النظام السياسي التوحيدي أو برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني لحساب هوية الإسلام السياسي أو الإمارة الإسلامية، حينئذ لن تكون هذه الهوية بديلاً للمشروع الوطني فحسب بل ، "ستمثل" نهاياته لكي تبدأ بالسير في مشروعها ، وهي إمكانية نزعم أنها مستحيلة التحقق في فلسطين راهناً إلا إذا استطاع تيار "الإسلام السياسي" أن يصبح مشهداً رئيسياً في بعض أو معظم بلداننا العربية، وهو أمر لا يمكن تحققه بدون التكيف مع السياسات الأمريكية.
فإذا كانت بعض ممارسات الانتفاضة الثانية قد جلبت الكارثة –ولو بالمعنى الجزئي- على الصعيدين المجتمعي الداخلي والسياسي العام، وعززت دور حماس الكفاحي والنضالي الذي نقر به، ونحترمه ، بمثل ما نقر بأنه يحمل مضموناً سياسياً وأيدلوجياً مغايراً يعبر عن نفسه عبر هوية لا نريد لها أن تشكل نقيضاً حاداً أو دموياً للهوية الوطنية ، من هنا أهمية الإقرار بمبدأ فصل الدين عن الدولة ، الذي يعني الاستمرار في تأكيد الاحترام للدين والمشاعر الدينية وكافة الجوانب الايجابية العديدة في تراثنا العربي الإسلامي، الذي حرصت كافة القوى الوطنية عموماً واليسار خصوصاً على تطبيق هذا التوجه منذ تأسيسها.
لذلك، علينا كتيار وطني ديمقراطي عموماً، وقوى يسارية خصوصاً أن نتعاطى مع ما يجري من على أرضية المصالح والأهداف الوطنية والقومية التقدمية الديمقراطية الكبرى وليس من منطلق حماس أو فتح ، خاصة وان كلاهما يعيش أزمة خانقة أو تحولات خطيرة... وهذا يحتاج منا إلى إعداد أنفسنا للبناء عبر مرحلة تمكين حقيقية على المستوى التنظيمي والفكري والسياسي، بما يحقق تطلعنا المشروع والتاريخي لاستعادة دورنا وتأثيرنا المستقبلي القريب المنشود، انطلاقاً من قناعتنا بان هذه المرحلة التي بات فيها المقرر الخارجي الأمريكي صاحب القرار الحاسم، هي مرحلة حافلة بسمات التراجع والهبوط والروح الانهزامية والتعصب، دون أن يعني ذلك انكفاءنا أو عزلتنا عن الجماهير، رغم اعترافنا بهذه العزلة التي أدت بنا إلى ما نحن فيه من تراجع وتفكك وضعف للدور والتأثير، بما يفرض علينا التركيز على تقوية بناء الذات التنظيمية والفكرية والسياسية التي تمكننا من النهوض مجدداً للإسهام بدورنا الطليعي في بناء وتطور المجتمع والتمسك بثوابت برنامج الإجماع الوطني للنظام السياسي الفلسطيني كهدف استراتيجي يحتل الأولوية في الفعل السياسي الديمقراطي الفلسطيني الراهن، باعتبار أن تحقيق هذا الهدف السياسي الوطني الديمقراطي هو الشرط الأساسي لاستكمال عملية التحرر ببعديها الوطني والديمقراطي معاً.
وفي محاولة للخروج من المأزق المعقد الراهن، علينا أن نبذل الجهود المكثفة من اجل:
1- إعادة الاعتبار لتوصيف المرحلة بوصفها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي.
2- تفعيل مشاركة الجماهير، والعمل على مواجهة العراقيل والأعباء الناجمة عن مواقف العدو الإسرائيلي/الأمريكي والقوى العربية الرسمية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة أو المنسجمة مع تلك المواقف .
3- المطالبة بضرورة تشكيل حكومة ائتلاف وطني، أو "حكومة وحدة وطنية"، على أساس وثيقة الوفاق الوطني ، لحماية المشروع الوطني وثوابته وحماية المجتمع الفلسطيني وتفعيل مضمون الوحدة الوطنية، دون أن يعني ذلك مشاركتنا فيها، لان هذه الحكومة ستكون –من الناحية الموضوعية- مرهونة بمحدديها الرئيسيين (فتح وحماس) وبالتالي لن يكون لنا في التيار الوطني الديمقراطي أي تأثير كبير عليها، ورغم ذلك فإننا من حيث المبدأ مع تشكيل حكومة الائتلاف الوطني كموقف وطني عام، لأنها قد تمثل في اللحظة الصعبة الراهنة، إمكانية وأد الصراع الدموي ووقف الانهيار الداخلي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورفع الحصار عن شعبنا وهي مطالب عامة ومحددة لا تستدعي مشاركتنا بل تستدعي بقائنا في قيادة المعارضة الوطنية الديمقراطية وفق رؤيتها ومضمون برنامجها السياسي والمطلبي الذي يجب أن يكون مرشداً وهادياً لنا في الانخراط الواسع والنشط في أوساط الجماهير من ناحية بمثل ما يجب أن يكون صمام الأمان للمعارضة ضد كل أشكال الهبوط السياسي والفساد الاقتصادي والتفكك المجتمعي من ناحية ثانية.
- الأمر الذي يفرض على كافة القوى السياسية والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والوطنية الأخرى ، سرعة المبادرة المنظمة الجادة بالاستناد إلى القطاعات الشعبية والوطنية المتضررة ، للبدء بتشكيل الإطار السياسي الجماهيري الضاغط على طرفي الصراع –فتح وحماس- ليتحملا مسئولياتهما الوطنية بإعادة الوحدة السياسية والمجتمعية بين قطاع غزة و الضفة الغربية كمهمة مركزية ، أولية ومباشرة في هذه المرحلة، تدفع صوب البدء الفوري بالحوار لاستعادة وحدة مكونات النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني وفق وثيقتي القاهرة والوفاق الوطني بما يضمن :
- الاتفاق على أسس وبرامج الرؤية الإستراتيجية الفلسطينية المطلوبة لتحقيق أهداف النضال الوطني والديمقراطي التعددي في هذه المرحلة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبما يؤدي إلى موقف دولي وعربي لوقف الحصار والإغلاق .
- البدء بالخطوات العملية الممكنة لإعادة إعمار قطاع غزة تمهيداً لبناء "اقتصاد الصمود" وتشجيع الاعتماد على الذات المرتبط تكاملياً مع الاقتصاد العربي ، وإنشاء المشاريع المنتجة بمساهمة البنوك والقطاع الخاص ، في الوطن والشتات تعزيزا ً لعوامل الصمود من أجل التحرر والديمقراطية والتنمية .

أخيراً، قد نتفق على أن هذه البديهيات تدعونا لإعادة بناء رؤيتنا ودورنا المستقبلي، وهي عملية تندرج تحت بند "الضرورة التاريخية" للتيار الوطني الديمقراطي عموماً ولليسار خصوصاً في فلسطين والوطن العربي، انطلاقاً من قناعاتنا بأن النظام السياسي العربي في واقعه الحالي من الخضوع والتبعية والارتهان والتخلف لن يتمكن من الاستمرار، وان التغيير –في المدى القريب والمتوسط-  قد يتحقق ولكن باتجاه أهداف مغايرة لأهدافنا... وباتجاه مشهد جديد يحمل أفكاراً وبرامج نقيضه لأفكارنا وبرامجنا... المهم أن نتدارك ونطرد عوامل الأزمة والهبوط في أوساط التيار الوطني الديمقراطي، اليساري، ونعيد إحياء الدافعية الذاتية والروح الجماعية في دواخل كل عضو فيه، حينئذ سنملك القدرة على توجيه دفة حركة التحرر الوطني الديمقراطي صوب أهدافنا ورؤيتنا ليس في الإطار الوطني الفلسطيني فحسب بل في إطار الرؤية والحركة التحررية القومية المستقبلية الاشتراكية الوحدوية الكفيلة وحدها بإزاحة كل عوامل الهزيمة واستنهاض الجماهير الشعبية وتحقيق أهدافها في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتقدم. 


 

2009-08-27 11:47:27 | 2093 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية