التصنيفات » مقالات سياسية

الاجتياح الصهيوني 1982 بين خياري التسوية والمقاومة

       يعود شهر حزيران محمّلاً بذكريات المآسي، وأبرزها سقوط القدس بيد الغزاة الصهاينة في حزيران عام 1967، والتي لازالت أسيرة الاحتلال طيلة هذه العقود الطويلة التي شهد خلالها حال الأمّة تقدّماً هنا وتراجعاً هناك.وقد شكّل الفعل المقاوم أبرز الصور الناصعة والباعثة على الأمل بالنهوض من الكبوة واسترداد الأمّة لعافيتها. وفي ذكرى سقوط القدس في عام 1982، أقدم الغزاة الصهاينة أيضاً على اجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، لتتأكد مجدّداً الطبيعة العدوانية للكيان الغاصب وطبيعة الدور الذي يقوم به في قلب العالم الإسلامي.ومعلوم أن هذا الاجتياح جاء يحمل أهدافاً عميقة خطّط لها العدو، مستفيداً من حالة الضعف المقابلة، خاصة بعد خروج مصر من معادلة الصراع، وإنهاك المقاومة الفلسطينية في الحرب اللبنانية، ومحاولات عزل سوريا، وأخذ القيادة الفلسطينية إلى مسار التسوية الذي بدأ بين مصر و"اسرائيل"، وتوِّج باتفاقات كامب ديفيد، والتي تضمنت قسماً يتعلق  بالتصوّر المنشود للحلّ على المسار الفلسطيني.

خلفيات الاجتياح :
  في 14آذار 1978 نفّذ العدو الإسرائيلي عملية الليطاني، وغزت قواته ما يقارب 10% من جنوب لبنان حتى نهر الليطاني بحجّة إزالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية، وإنشاء منطقة عازلة بعرض عشرة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، في أعقاب عملية الشهيد كمال عدوان يوم 11 آذار،  والتي استهدفت حافلتين إسرائيليتين قرب تل أبيب، ممّا أسفر عن مقتل 37 إسرائيلياً.
 في 19 آذار أصدر مجلس الأمن القرار رقم 425، الذي طالب فيه "إسرائيل" بالانسحاب من لبنان، وأنشأ بموجبه قوات "اليونيفيل" المنوط بها حفظ الأمن في الجنوب. وبحلول مايو/أيار، انسحبت "إسرائيل" من جنوب لبنان باستثناء "منطقة أمنية" تراوح عرضها ما بين أربعة كيلومترات و12 كيلومتراً على طول الحدود الجنوبية وأقامت فيها قوّة موالية لها.
    يُذكر أنه في 10 تموز 1981، وبعد فوز الليكود في انتخابات الكنيست في حزيران1981، نفّذ العدو ماعُرِف بالاجتياح الجوّي، حيث قام بشنّ غارات جويّة عنيفة استمرّت إلى يوم 24 تموز، وذلك بعد صدور قرار من مجلس الأمن يطالب فيه بوقف فوري للهجمات المسلّحة على لبنان. تم التوقف بناءً على مساعي موفد الرئاسة الأمريكي، فيليب حبيب، بين منظمة التحرير و"إسرائيل"، والذي حذّر حينها بأنه في حالة حدوث أيّ مناوشة عسكرية مع "إسرائيل" أو أيّ اعتداء (بالمفهوم الأميركي) فسيجري اجتياح كبير للبنان. بينما التزمت منظمة التحرير الفلسطينية بالهدنة التي رعتها الولايات المتحدة وأمّنت حدوداً شمالية هادئة لإسرائيل. وقد خرقت إسرائيل هذه الهدنة 2777 مرّة في الفترة بين عامي 1981 و 1982. .
     في كانون الثاني 1982، قابل قائد "القوات اللبنانية" المسيحية بشير الجميل وزير دفاع العدو أرييل شارون على متن سفينة قبالة السواحل اللبنانية، وناقشا خطّة تقضي بمحاصرة قوات العدو لبيروت الغربية وقيام "القوات اللبنانية" باقتحامها والقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية.
     كان العدو قد وضع خطّة الإجتياح مسبقاً. وقدّم رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي حينها، الغطاء لهذا الاجتياح ، فيما أكدت "إسرائيل" للأمريكيين أنها ستدخل لبنان لمسافة لا تتجاوز 30 كيلومتراً لتحقيق أمنها و الدفاع عن نفسها. كان ريغان لا يمانع من القيام بعملية سريعة تكون بمثابة "درس قوي" لمنظمة التحرير الفلسطينية و لسورية، حليفة الاتحاد السوفياتي الشيوعية، حيث صرّح دافيد كمحي• بأنه لم يكن هناك مقاومة قوية لخطط أرئيل شارون في واشنطن ؛و قال الجنرال ألكسندر هيغ، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك: " ...إننا نفهم أهدافكم، ولا نستطيع أن نقول لكم لا تدافعوا عن مصالحكم؛ "وقام بإخبار شارون عن الحاجة إلى "استفزاز واضح يعترف به العالم"  ليكون سبباً في البدء بالاجتياح.  ويرى البعض أن محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن جاءت في اللحظة المناسبة تماماً بصورة غريبة .
      بدأ العدو اجتياح لبنان في 4-6-1982 تحت عنوان " عملية سلامة الجليل". وأعلن وقتها شارون، الذي قاد العمليات الإسرائيلية و كان وزيراً للحرب في الحكومة التي يرأسها الإرهابي مناحيم بيغين، أن السبب هو دفع منظمة التحرير الفلسطينية وصواريخ الكاتيوشا إلى مسافة 40 كيلومتر عن حدود "إسرائيل" . لكن "تعدّلت" هذه الأهداف لاحقاً ، حيث أعلن الناطق الرسمي باسم حكومة العدو "آفى بازنز" أن أهداف إسرائيل هي إجلاء " كلّ القوات الغريبة عن لبنان ومن ضمن ذلك الجيش السوري"، وتدمير منظمة التحرير الفلسطينية، وتنصيب "القوات اللبنانية" كحكومة لبنانية، وتوقيع اتفاقية سلام معها، و ضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية.
أبرز محطّات الاجتياح:
     في صباح يوم 4 حزيران من عام 1982، بدأت "إسرائيل" حملة قصف جوّي ومدفعي كثيف. ثم بدأ جيش العدو بغزو برّي في 6 حزيران 1982، بقوات ضخمة بلغت نحو 75 ألف جندي ؛ وتم اجتياز مواقع القوات الدولية الأممية بكلّ سهولة، لتتقدم قوات العدو على عدّة محاور بأتجاه العاصمة بيروت. ولكنها واجهت مقاومة عنيفة من قِبل القوات السورية و المقاتلين الفلسطينيين، خاصة في المخيمات. كما واجه العدو مقاومة شرسة عند محاولته احتلال قلعة الشقيف الإستراتيجية، والتي قام مناحيم بيغن بزيارتها شخصياً بعد بسط السيطرة الإسرائيلية عليها نظراً لأهميتها، ومن ثمّ تمّ تسليم القلعة إلى جيش لبنان الجنوبي التابع لقوات الاحتلال؛ وبدأ جيش العدو بالتقدّم نحو الطريق الرئيسي بين بيروت ودمشق مخترقاً منطقة الشوف. وفي 8 حزيران 1982، اشتبك الجيش السوري لأول مرّة مع قوات العدو، وتمكن من وقف تقدّم القوة الإسرائيلية المتّجهة إلى ضهر البيدر ؛ كما قاتل فيما بعد بشراسة في البقاع، وكبّد العدو خسائر كبيرة  .
       و بعد 5 أيام فقط من الاجتياح، تمكنت القوات الإسرائيلية من بسط سيطرتها على ما يقارب ثلث الأراضي اللبنانية. وفي 9 حزيران 1982، وصل الجيش الإسرائيلي إلى مشارف بيروت. وفي نفس اليوم قام سلاح الجوّ الإسرائيلي بقصف عدّة مواقع للدفاع الجوّي السوري،  ووقعت اشتباكات جويّة عنيفة بين الطرفين. وقد قامت القوات السورية بإعادة تمركزها خارج منطقة الشوف، فيما جرت معركة بريّة في منطقة السلطان يعقوب يوم 12 حزيران، و تم الاستيلاء على عشرات الدبابات الإسرائيلية بعد فرار أطقمها؛ في 13 حزيران دخلت قوات العدو منطقة بعبدا وتمركزت في مواقع محيطة بالقصر الجمهوري، ثم تقدمت باتجاه الحدث وأدركت مشارف الشويفات. وأعلنت عن شروطها لتسوية سياسية تسبق انسحابها من لبنان، وهي:
•    أنها لا توافق على أن تكون في لبنان قواعد لمنظمة التحرير الفلسطينية.
•    أنها لن تغادر المنطقة التي احتلّتها إلاّ بعد أن تضمن سلامة المستوطنات في الشمال وتمنع قيام ما سمّته “منظمات تخريب جديدة.”
•    أنها تطمح في أن تجلو عن لبنان كلّ القوات الأجنبية الموجودة فيها، والمقصود قوات سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
     وفي يوم 14 حزيران عام 1982، دخل جيش العدو شرق بيروت وطوّقت القسم الغربي من بيروت الذي كان معقلاً رئيسياً للمقاتلين الفلسطينيين .
     في 16 حزيران،  صرّح إسحق شامير وزير خارجية العدو أن "إسرائيل" تضع شرطين للانسحاب من لبنان، هما:
1.    تشكيل حكومة لبنانية قوية وحرّة يمكن الحوار معها.
2.     تشكيل قوّة متعدّدة الجنسيات تنتشر على مسافة 40 كم من الحدود الشمالية لإسرائيل بضمان أميركا.
في 19 حزيران، أعلن ياسر عرفات استعداده للتفاوض مع الحكومة اللبنانية وإنهاء القتال، لكنه رفض التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. وصرّح ناطق إسرائيلي أنه إذا وافق الزعماء الفلسطينيون على إلقاء سلاحهم فستضمن "إسرائيل" خروجهم من بيروت سالمين.
      مع اقتراب نهاية شهر حزيران، كان هناك 100.000 جندي إسرائيلي في لبنان، وقرابة 11.000 مقاتل فلسطيني محاصرين مع ياسر عرفات في غرب بيروت، و في مطلع شهر تموز، قام جيش العدو بفرض حصار على غرب بيروت قاطعاً وصول المواد الغذائية والماء إلى تلك المنطقة ؛ وتم منع الانتقال بين شطري بيروت، بينما واستمر القصف الجوّي لغرب بيروت طوال شهر تموز .
  في 10 آب  وافقت "إسرائيل" على مشروع اتفاق للموفد الأميركي فيليب حبيب لإخراج الفدائيين والسوريين من بيروت وكلّ لبنان، وطالبت بأن تُسلَّم رسمياً قائمة بأسماء الدول التي ستستقبلهم وأعداد الفدائيين المغادرين وجثث 9 جنود إسرائيليين دفِنوا في بيروت خلال حرب 1978.
      ورغم هذا الاتفاق، وفي 12آب 1982، قصفت بيروت لمدة 15 ساعة متواصلة. وقد سمِّي ذلك اليوم بالأحد الأسود، حيث ألقِيت 185 ألف قذيفة على بيروت وأحيائها السكنية، بمعدّل 3 قذائف في الثانية خلال 15 ساعة، وحوالي 210 غارات بالطيران، بمعدّل غارة كلّ ثلاث دقائق، بموازاة هجوم إسرائيلي على مطار بيروت الدولي واحتلاله.
    في ظلّ هذه التطورات عقد مجلس الأمن الدولي جلسة طارئة، أصدر فيها القرار رقم (516)، وطالب فيه بوقف إطلاق النار فوراً وإرسال مراقبين دوليين فوراً إلى لبنان لمراقبة الوضع. وكان المجلس قد أصدر أيضاً خلال فترة الاجتياح  القرارين 508/509 . 
توصل الطرفان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 18 آب بوساطة المبعوث الأمريكي فيليب حبيب. وفي19آب، خفّفت "إسرائيل" من حصارها لغرب بيروت وسمحت لإمدادات الصليب الأحمر بدخول المدينة .
    وفي 20 آب انسحبت "إسرائيل" من مرفأ بيروت ومحيطه، ليتسلّمه الجيش اللبناني. وأعلن الرئيس الأمريكي ريغان موافقته على إرسال قوة أميركية إلى لبنان، للمشاركة في إطار القوة المتعدّدة الجنسيات في الإشراف على خروج الفدائيين الفلسطينيين من بيروت.
      وفي 21 آب بدأت عملية مغادرة المقاتلين الفلسطينيين من بيروت الغربية وتوزيعهم في سبع دول عربية )تونس واليمن والأردن  والجزائر والسودان والعراق وسورية).
       في 23 آب انتُخِب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية اللبنانية. وفي 11 أيلول قابل الجميّل رئيس وزراء العدو مناحيم بيغين في نهاريا، ووعده باتخاذ خطوات لبدء علاقات دبلوماسية بين لبنان و"إسرائيل". لكن، وقبل أيام من الموعد المحدّد لتسلّمه الرئاسة، اغتيل الجميل في 14 أيلول 1982، فاقتحمت "القوات اللبنانية" مُخيّمي صبرا وشاتيلا وقتلت ما يقارب 3500 فلسطيني بمساعدة أو تغطية من الجيش الإسرائيلي.
في 22 أيلول انتخب البرلمان اللبناني أمين الجميّل خلفاً لأخيه في رئاسة الجمهورية. وفي 17 مايو/أيار 1983 وقّع الجميّل و"إسرائيل" اتفاقاً ينصّ على انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان بشرط انسحاب القوات السورية منه؛ ونصّ الاتفاق أيضاّ على أن "حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل قد انتهت ولم يعد لها وجود"! لكن هذا الاتفاق سقط  بفعل انتفاضة، شباط 1984.•
     في هذه المناخات انبثقت مقاومة لبنانية وإسلامية على أسس جديدة أجبرت العدو على الانسحاب من لبنان على مراحل، وصولاً إلى اندحاره نهائياً عنه عام 2000، حيث برز حزب الله كحركة مقاومة رئيسية مسلّحة في وجه الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني. وخلال  هذه المرحلة، واعتباراّ من العام (1985)، نشأ جدل كبير بين الجنرالات والسياسيين الإسرائيليين بشأن خيار البقاء أو الانسحاب من لبنان؛ وكان من أبرز الأصوات المنادية بالانسحاب صوت الجنرال الاحتياطي في سلاح المشاة يعقوب حسدائي، الذي وصف الاجتياح بـ"الخطيئة الإستراتيجية"، وقال "إن استخدام القوّة بصورة تتخطّى المألوف يؤدّي إلى إلحاق ضرر سياسي بعيد المدى بالدولة الإسرائيلية أكثر من الفائدة التي ينطوي عليها هذا الاستخدام".
في هذه الأثناء كانت قوّة وقدرات المقاومة الإسلامية تتزايد يوماً بعد يوم، لتشكّل تهديدا جدّياً ومتراكماً لإسرائيل ولوجودها في جنوب لبنان. ومن هنا أيضاً كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في يوليو/ تموز 1993 ( تصفية الحساب) وصولاً إلى عدوان "عناقيد الغضب" في نيسان 1996، والذي كان من أبرز مشاهده الدموية مذبحة قانا. في تلك المرحلة كانت "إسرائيل" تواجه مقاومة مفتوحة في الجنوب والبقاع الغربي، لتجد نفسها أمام ثلاثة خيارات:
1.    توسيع رقعة الاحتلال في الجنوب والبقاع الغربي لإبعاد قوة نار المقاومة عن مستوطنات الجليل.
2.    ضرب المنشآت والمرافق الحيوية في لبنان ودفع الحكومة اللبنانية إلى صدام مع المقاومة لوقف عملياتها العسكرية.
3.    توجيه ضربات عسكرية تحذيرية وإفساح المجال أمام الاتصالات الإقليمية والدولية لتهدئة الجبهة العسكرية.
       وقد اعتمدت قيادة العدو آنذاك للخيار الثالث، وبدأت تنفيذه بتوجيه عمليات نوعية. لكن حتى هذا الخيار بدأت الثقة تتزعزع في جدواه بعد فشل عملية الكوماندوز الإسرائيلي في بلدة أنصارية الجنوبية في أيلول 1997. وقد وصف المحلّل العسكري والخبير الإستراتيجي الإسرائيلي "الشهير"، زئيف شيف، هذه الثقة التي تزعزعت بقوله: "مثل هذا الفشل الذي يُقاس عادة بعدد القتلى وبعدم تنفيذ المهمّة هو أمرٌ لم يسبق له مثيل في تاريخ وحدات النخبة في الجيش الاسرائيلي".
     لقد رفعت عمليات المقاومة الإسلامية من تكلفة بقاء جيش الإحتلال، وأقنعته بأن الدفاع عن "إسرائيل" من خلف الحدود أقلّ كلفة من التوغل في الجنوب؛ حيث خلقت عمليات المقاومة الإسلامية وقدراتها المتزايدة حالة من الارتباك في مفاهيم الأمن القومي ونظرياته داخل "إسرائيل"، والتي بدأت تفكر جدّياً في الثمن الذي تدفعه، مع تطوير عروض الانسحاب التي تقدّمت بها من قبل، بدءاً من العام 1983، وأوّلها مشروع "الانسحاب مقابل اتفاق سلام"، والذي رفضه لبنان لأنه لا يتم وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 425.
    ومن ثمّ كان عرض مناحيم بيغن، الذي اشترط لانسحابه من لبنان انسحاب الجيش السوري المتواجد على الأراضي اللبنانية في وقت متزامن، وعرض انسحاباً مشروطاً بترتيبات أمنية تتماهى مع اتفاقية الهدنة وليس مع قراري 245 و426 . كما عرض إسحق رابين الانسحاب مقابل نشر الجيش اللبناني على الحدود في الجنوب، مع توقيع معاهدة سلام مع لبنان.
     وقد استمرّت عروض الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني إلى أن تقدّم أرئيل شارون بمشروع للانسحاب من طرف واحد، وعلى مراحل، شريطة أن تأخذ الحكومة اللبنانية على عاتقها مسؤولية ملء الفراغ الناجم بعد كلّ انسحاب جزئي ؛ وإن لم تتمكن هذه الحكومة من ضبط الأمن على الحدود يبدأ الجيش الإسرائيلي في الرّد بقوّة تدميرية لمواقع المقاومة مع ضرب البنى التحتية المدنية في لبنان.
      وفي العام 1998، تقدّمت حكومة بنيامين نتنياهو بعرضٍ وصِف آنذاك بالمتكامل لوضع حدٍ للتمدّد الإسرائيلي في لبنان. وتضمّن العرض نقاطاً خمس تمثّلت في:
1.    القبول بالقرار رقم 425 مع ضمان عدم استخدام الأراضي اللبنانية كقاعدة لنشاطات معادية لإسرائيل.
2.    مواصلة الجيش الإسرائيلي مهمّاته حتى تنفيذ الترتيبات الأمنية الضرورية.
3.    التفاوض مع الحكومة اللبنانية من أجل التأكيد على ضمان أمن "دولة إسرائيل".
4.    اعتبار موضوع الحزام الأمني وضمانه جزءاً من القرار 425 ومن أيّ ترتيبات أخرى.
5.    مواصلة الجهود لإبرام "اتفاقيات سلام" مع دول الجوار.
لكن لم تصل هذه المشاريع إلى طريق تستطيع "إسرائيل" من خلاله الخروج من لبنان، فزادت قوّاتها من وتيرة المواجهات ومن استهداف البنية التحتية، خاصة في حزيران 1999؛ وهو ما أدّى إلى ما أسماه حزب الله آنذاك بوأد العمل بتفاهم نيسان 1996. هذا التصعيد كانت له ضريبة متزايدة على العدو كانت تتراكم يومياً بفعل العمل المقاوم ؛ حتى أجبِر العدو في أيارعام 2000 على الاندحارعن الجنوب اللبناني دون قيد أوشرط ؛ بأعتبار ذلك أقلّ كلفة من البقاء في الجنوب وتلقّي الضربات المتتالية من رجال المقاومة.
       وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أن المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقها قد تعرّضت لسلسلة من الاستهدافات، بعضها كان من العدو، والآخر من بعض الدول العربية، سياسياً وعسكرياً، بهدف حرفها عن خيار الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين. وفي كلّ محطة كان الابتزاز السياسي يلحق الضغط العسكري. فبعد طرح مبادرة روجرز عام 1970، حصلت معارك أيلول الأسود والتي كانت نتيجتها إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في الأردن؛ ثم بدأت سلسلة  الاستهدافات لوجود المقاومة في لبنان، والتي كانت قد بدأت قبل ذلك، وأدّت الى إبرام اتفاق القاهرة (1969) لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، والذي أعطى الشرعية لوجود وعمل المقاومة الفلسطينية في لبنان. فقد تم الاعتراف بالوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية من قِبل لبنان، مع التأكيد على حرية العمل العسكري الفلسطيني انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. لقد حمى هذا الاتفاق الفلسطينيين. من المحاولات المتعدّدة لنزع سلاحهم، لكن البعض اعتبر أنه ينتهك سيادة الدولة اللبنانية ويتضمن بنوداً تتعارض وأحكام القوانين اللبنانية. ولم يكن لهذه الاتفاقية دور ملموس لتحسين العلاقات بين القيادتين اللبنانية والفلسطينية، فيما اعتبرت "إسرائيل" اتفاق القاهرة خرقاً للهدنة المعقودة بينها وبين لبنان سنة 1949.
هذا الوجود الفلسطيني ظلّ هدفاً مستمراً للضغوط حتى حصول الاجتياح الكبير عام 1982. وقد ترافقت الضغوط  مع الابتزاز السياسي، إلى أن اختارت القيادة الفلسطينية نهج التسوية إلى جانب خيار الكفاح المسلّح، وصولاً إلى إسقاط هذا الخيار من أجندتها واعتبار التسوية الخيار الوحيد لديها؛ وهو الأمر الذي تم بالتدريج. لذلك جاءت نتائج الاجتياح تحمل في ثناياها وعداً يإقامة الدولة الفلسطينية خلال ستة شهور؛ وهو ما دفع القيادة الفلسطينية للموافقة على مشروع (فاس)• الذي أعقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، والمشاريع التي تلته، مروراً باتفاق أوسلو(1993) وسلسلة المفاوضات العبثية التي تلته، وصولاً إلى المأزق الراهن والاستجارة بالمبادرات الأجنبية التي يملك العدو دوماً القدرة على إفراغها من أيّ مضمون.
إن الدرس المستفاد من كلّ ماتقّدم أننا أصبحنا أمام خيارين:
-الأول: هو الاستجابة لتأثير الضغوط العسكرية والسياسية التي تعرّضت لها المقاومة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتلبية رغبات الدول العربية والتحالف معها للولوج إلى مسار التسوية ؛ وهو ما قاد إلى استهتار العدو بنا، وجعله يواصل ابتزاز القيادة الفلسطينية؛ وفي كلّ مرحلة كان يجبرها على خفض سقف أهدافها مستعيناً بالنظام العربي الذي كان يدفع للعدوّ من حساب الطرف الفلسطيني والذي أصبح في أضعف حالاته بعد أن خسر كلّ ما يملك من وسائل وأدوات للضغط؛ والنتيجة كانت إيصال الشعب الفلسطيني إلى حالة اليأس من خيار أو وهم حلّ الدولتين، رغم مكابرة بعض القيادة الفلسطينية باستمرار رهانه على الوهم..
-الثاني: هو قبول التحدّي والتمسك بخيار المقاومة لإجبار العدوعلى الاندحار، كما حصل في جنوب لبنان 2000 وفي قطاع غزة 2005، ومنعه جنْي ثمار  عدوانه، كما حصل في تموز 2006 في لبنان واعتداءاته اللاحقة على قطاع غزة؛ وصولاً إلى تحدّي نظرياته الأمنية، بالارتكاز على دعم وتأييد محور المقاومة، وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية في إيران. إن اللغة التي فهمها ويفهمها العدو، والتي أعطت نتائج ملموسة على أرض الواقع، هي لغة المواجهة والمقاومة. أما خيار التسوية، فهو الذي أدّى إلى المزيد من استهتار العدو الصهيوني بالحقوق الفلسطينية والعربية وإلى تماديه في غطرسته وعدوانه على شعوب ودول المنطقة عموماً.



                                                                 محمود ابراهيم
                                                                 باحث فلسطيني  

2016-06-08 12:21:06 | 3042 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية