التصنيفات » مقالات سياسية

نصر تموز 2006 ومستقبل الكيان الصهيوني


منذ أن كان الكيان الصهيوني في طور التأسيس، كان قادته يدركون بعمق أن كيانهم لا يمكن أن تقوم له قائمة، وبأن أطماعهم ومشاريعهم الهادفة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وتهويدها، والسيطرة على المقدسات، وتحويل فلسطين إلى قاعدة عسكرية متقدمة للاستعمار، قادرة على القيام بالدور الوظيفي الموكل لها، وما يستدعيه  ذلك من قهر للشعوب العربية والإسلامية، وإبقائها متخلفة ومجزأة قابلة للاستعمار والاستغلال، أمر غير ممكن إلا إذا كانت هذه الثكنة المسماة "إسرائيل"  قادرة على هزيمة العرب والمسلمين وإخضاعهم بالقوة، وأن يكون جيشها جيشا لا يقهر ولا يمكن هزيمته. ولا يوجد خيار أمام هذا الكيان المصطنع إلا أن يظل متفوقاً وقادراً دائماً على توجيه الضربات القاسية لتأديب هذه الشعوب وردعها، وصولاً إلى إخضاعهم وفرض الاستسلام عليهم.
وهذا كان واقع الحال لسنوات طويلة، فقد تمكن الجيش الصهيوني ومؤسسته الأمنية، من تحقيق التفوق النوعي على كامل الجيوش العربية، وصناعة الانتصار تلو الانتصار على الدول العربية، وذلك بفضل علاقته العضوية والحيوية بقوى الاستكبار العالمي، بدايةً مع بريطانيا العظمى (الأب العضوي) الذي كان له الدور الأبرز في ولادة الكيان، ثم مع الولايات المتحدة (الأب الاجتماعي) الراعي والداعم والحامي للكيان إلى يومنا هذا، ولا ننسى الدور التآمري  للرجعية العربية وخضوعها المباشر والعلني لقوى الاستكبار الإمبريالي، وخدمتها وتعاونها غير المباشر والسري مع الكيان الصهيوني .
وقد استمرت هذه الحال إلى أن جاءت انطلاقة المقاومة الشعبية بمسيرتها المظفرة مع العمل الفدائي للمقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى المقاومة الإسلامية وانتصاراتها المظفرة في لبنان وفلسطين، والتي بدأت تتجلى في إجبار العدو الصهيوني على الاندحار عن جل الأراضي اللبنانية دون أية اتفاقات، وبلا قيد ولا شرط في أيار\ مايو عام 2000، فسقطت كل الأحلام الصهيونية في إمكانية تأسيس "إسرائيل الكبرى" وجاء بعد ذلك الاندحار الصهيوني عن قطاع غزة في أب\اغسطس 2005.
وبغض النظر عن ما كان يخطط له الكيان من استغلال لهذا الانكفاء، إلا أن هذا الاندحار عن قطاع غزة والتفكيك لمستوطنات لأول مرة عن جزء من أرض فلسطين جاء ليؤكد أن العدو الصهيوني لا يفهم إلا لغة القوة، وأن لا شيء يدفعه إلى التراجع إلا إذا باتت كلفة عدم التراجع أعلى من مردوده.
وجاء العدوان الصهيوني على لبنان في تموز 2006 ليس بمباركة أمريكية فحسب بل بتحريض أيضاً، وبقبول من دول وجهات عربية حرّضت على المقاومة علانيةً و اتهمتها بالتهور والمغامرة. ولقد بات واضحاً أن هذه الحرب كان قد أُعد لها قبل اندلاعها، أقله بعدة أشهر، وبهدف مركب من شقين: الأول صهيوني، يتعلق باستعادة هيبة الجيش الصهيوني الذي أراده الأعداء جيشاً لا يُقهر، فقدموا  له أحدث الأسلحة وأحدث التقنيات، وآخر ما توصلت له التكنولوجيا. والثاني إمبريالي أمريكي، يهدف لبناء نظام "الشرق الأوسط الجديد" بقيادة الكيان الصهيوني، بما يمكن الولايات المتحدة من استمرار التفرد بقيادة "النظام العالمي" بفضل استمرار بسط  قبضتها على المنطقة العربية والإسلامية وثرواتها، خاصةً وأن التطورات الكونية تفرض عليها تخفيف تواجدها في "الشرق الأوسط" والتركيز على منطقة المحيط الباسيفيكي.
 إلا أن بطولة المقاومة في لبنان، وحكمة قيادتها وعلاقتها العضوية الصادقة مع باقي مكونات محور المقاومة (الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجمهورية العربية السورية، وفصائل المقاومة الفلسطينية إضافةً لحركات وقوى شعبية، عربية، إسلامية ومستضعفة على امتداد مساحة الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم)، أفشل كل هذا السيناريو وأسقط تلك الأهداف وصنع  الانتصار الاستراتيجي والتاريخي على العدوان، وكال ضربةً قاسمةً للمخططات الصهيو-استعمارية، وتأكدت مرة أخرى مقولة قائد المقاومة والانتصار السيد حسن نصر الله، "لقد ولى عصر الهزائم وجاء زمن الانتصار".
وأسقطت المقاومة  مشروع "إسرائيل الكبرى / الشرق الأوسط الجديد"، كما أسقطت من قبل مشروع  مشروع "إسرائيل الكبرى" . 

هذه الهزائم المتتالية وهذا الفشل الذريع الذي  مُني به الجيش الصهيوني ومؤسسته الأمنية، كان بمثابة هزيمة مفصلية للمشروع الصهيو- استكباري بالغ الدلالات والأثر، وقد كان هذا واضحاً في الدراسات والأبحاث التي صدرت عن مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار في الكيان الصهيوني في تقييم  نتائج ذلك العدوان وآثار ذلك على مستقبل المشروع الصهيوني، فقد سيطرت على تلك الأبحاث والدراسات فكرة مركزية خلاصتها: "إسرائيل باتت تواجه تحدي وجودي غير مسبوق"، وذلك لعدة أسباب أهمها:
أولاً- أن المنظومة الاستعمارية، وثكنتها المتقدمة "الكيان الصهيوني"، باتت تواجه تحديا استراتيجيا وجوديا، يختلف جذرياً عما واجهته في حروبها مع الدول العربية وجيوشها النظامية، وذلك يعود إلى أن حركات المقاومة الشعبية قد تمكنت من انتزاع دورها المتطور والمتنامي في أكثر من موقع على حساب الكيانات الرسمية العربية العاجزة والمتهالكة .
ثانياً – إن حركات المقاومة الشعبية، أثبتت وبفضل بنيتها الشبكيَّة المرنة قدرتها وفي عدة منازلات على مواجهة آلة الحرب المعادية رغم تطورها الكبير، بما يحرم تلك الآلة من تحقيق الحسم العسكري المطلوب. 
ثالثاً- إن دول محور المقاومة (إيران وسورية)، أخذت تتجه نحو بناء وحدات عسكرية تعمل وفق أساليب المقاومة في المواجهات العسكرية، إضافةً إلى تعزيز قدرات جيوشها النظامية.
رابعاً: تراجع دور الأنظمة العربية المرتبطة بقوى الاستكبار في التأثير على الشارع العربي والإسلامي، وظهور مؤشرات قوية تدل على أن مشروع المقاومة بدأ يترسخ في وجدان أبناء الأمة العربية والإسلامية ووعيها كأسلوب وحيد وناجع ومجرب، ليس في مواجهة الأعداء وحسب بل وفي إحباط مخططاتهم والانتصار على مشاريعهم.
 في مواجهة كل هذه المتغيرات العميقة، وأخطارها المحتملة على كامل مشاريع ومخططات قوى الاستكبار والصهيونية، أوصت مراكز البحث وصناعة الأفكار دوائر صنع القرار، بضرورة العمل الحثيث وبكافة السبل والوسائل المتاحة والممكن تشكيلها على اجتثاث ثقافة المقاومة من وعي الشعوب العربية والإسلامية. وذلك عبر حصار ثقافتها، وتشويه صورتها وتفتيت صفوفها عبر خلق الشقاق والفراق بين مكونات محور المقاومة لنشر الأوهام وإعطاء وعود تدغدغ حسابات البعض ومصالحه وحساباته الفئوية المتوهمة، وتزيين فائدة التساوي الموضوعي مع المشروع الاستعماري التقليدي "فرق تسد"، وكأنه عامل مفيد لبعض الأحزاب والحركات.
وكانت البداية السعي لخلق بيئة شعبية تتصور أن مصالحها الحياتية اليومية تتناقض مع مشروع المقاومة، فكان أن سعت لتعميم الشعار المضلّل "نحبّ الحياة"، مقترناً مع حملة إعلامية مركزة مفادها: إن للمقاومة كلفة عالية جداً، ستؤثر سلباً على كل المشاريع الاقتصادية والعمرانية، كما على القطاع المصرفي، وبالتالي فإن استمرار المقاومة يعني وقف كل بناء، وإعاقة كل ازدهار!
وقد شاركت في تلك الحملة قوى وأحزاب وحركات وشخصيات، مستندةً إلى ماكينة إعلامية عملاقة تابعة أو مملوكة لقوى الاستكبار العالمي أو من يتبعها، ممّن كان يطلق عليهم دول "محور الاعتدال العربي".
ولمّا كان الفشل الذريع من نصيب خطّ التآمر الداخلي والخارجي على المقاومة في لبنان وفلسطين، كما كان من نصيب العدوان العسكري، بدأ العمل الأمريكي المباشر وبالتعاون مع دول صديقة تربطها علاقات مع أطراف مقاومة لتقنعها بأن مصلحتها تكمن في إدارة الظهر لدول قدمت لهم الدعم والرعاية وتحملت في سبيل ذلك الكثير من الضغوط،  تحت حجة أن الظروف الجديدة والمعطيات تقول أن هذه الدول لن تصمد في مواجهة ما رُسم لها، وأن مصلحة هذه الحركات أن تعد نفسها للتعاون مع من سيتولون السلطة.
كما عمل أطراف المعسكر المعادي للمقاومة على خط آخر، وهو دعم حركات متطرفة مرتبطة بشبكات دولية إرهابية ومرتزقة لإسقاط سوريا كحلقة وصل وربط بين إيران كقائد لمشروع المقاومة، وحزب الله رأس الرمح المشتبك مع العدو، الأمر الذي دفع حزب الله للوفاء لمن وقف إلى جانبه، والدفاع عن خط إمداده وقواعد إسناده.
تضحيات أبطال المقاومة، والموقف الحاسم للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومتغيرات النظام العالمي حولت التحدي الكبير إلى فرصة، وبدل أن تُحاصر المقاومة في لبنان ويُقطع خط إمدادها في سوريا، فإن جبهة المواجهة مع العدو اتسعت ولم تعد تقتصر على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، ولا حتى على الأراضي اللبنانية في نطاق مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي لا يزال يحتلها العدو الصهيوني، بل باتت تشمل الأراضي السورية، والجولان المحتل، واتسعت إلى فلسطين التي انفجرت فيها انتفاضة السكاكين.
كما اتسع محور المقاومة ليشمل قطاعات واسعة من أبناء العراق الجريح، وهو اتساع واعد ومفتوح على أفاق رحبة، ولا ننسى ما يجري في اليمن الذي رغم المعاناة جراء العدوان السعودي التكفيري لم ينس فلسطين ومقدساتها.
كل هذه المتغيرات التي يصعب على من فقد بصيرته إدراكها، أدركها قادة المشروع الصهيوني. فالمواقف التي أطلقها قادة الكيان الصهيوني، في الاحتفال الذي أُقيم في القدس المحتلة إحياءً لذكرى قتلى حرب تموز 2006، وإن جاءت بمجملها لتؤكد المؤكد أي إخفاق تلك الحرب وفشلها في تحقيق أهدافها، فهي أكدت أيضاً على ضرورة الحفاظ على التهدئة والابتعاد عن كل ما يمكن أن يدفع نحو إشعال الحرب. ولكن لماذا هذا الموقف العقلاني والسلمي من قبل هؤلاء ؟؟؟
الجواب يمكن إستخلاصه من كلمات هؤلاء:
رجل المافيا وزير الحرب أفيغدور ليبرمان قال: "الواقع هناك (على الحدود مع لبنان) معقد، وإسرائيل لا تبحث عن مغامرات". وأضاف "إنطلاقاً من مسؤوليتي على رأس المؤسسة الأمنية، ومن واجبات الجيش، أن نتذكر العبر الأليمة لحرب لبنان الثانية، وأن نتأكد من أننا سنكون جاهزين ومدربين للحرب المقبلة، ومصممين على منع نشوبها أيضاً".
ولكن لماذا كل هذا التعقل من قبل من دعا لإعدام الأسرى الفلسطينيين ولقصف السد العالي ....إلخ. الجواب عند نتنياهو، الذي يقول "حزب الله هو ذراع إيرانية، وبدعم من إيران تحوّل لبنان إلى مستودع هائل للسلاح".
ويضيف رئيس المعارضة في الكنيست، يتسحاق هرتسوغ، "حزب الله يشكل أكبر تهديد يمكن أن تواجهه إسرائيل، وهو يزداد قوة وخبرة قتالية جراء تدخله العسكري في الحرب السورية".
ختاماً: لقد بات واضحاً أن الكيان الصهيوني لم يعد قادراً على تحقيق أي إنتصار على محور المقاومة، وأن فرصته الأخيرة هي في بث روح الفتنة والفرقة بين الفلسطينيين وبين العرب والمسلمين. وللأسف فقد نجح في هذا، ولكنه نجاح نسبي ومؤقت فهل يستفيق من وقع في الشرك، ويُدرك أن لنا عدوا أساسيا واحدا هو العدو الصهيوني ولا خيار أمامنا إلا مواجهته والإنتصار عليه. 

وليد محمد علي
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني




2016-07-25 10:35:10 | 2961 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية