التصنيفات » مقالات سياسية

صمود غزة وتضحياتها بين التحدّي والفرصة


في الثالث والعشرين من آب \ أغسطس العام 2005 ، كان يوم الأنتهاء من تفكيك المستوطنات الصهيونية المقامة في قطاع غزة، ومع اضطرار الجيش الصهيوني للاندحار عن أرض غزة الأبيّة المقاومة دون قيد أوشرط . وفي أواخر آب من العام 2014، وتحديداً في الثامن والعشرين منه ، أجبر العدو على وقف عدوانه الأطول والأكثر تدميراً على قطاع غزة ، وكان انسحاب جيشه صاغرا من القطاعً ، دون قيد أو شرط ودون أن يحقّق أياً من أهداف ذلك العدوان .  وعلى الإثر ، بدأ الهجوم السياسي على القطاع، من خلال تدفق المبعوثين الدوليين ووكلائهم من الأعراب ، وبقصد محدّد هو "تحقيق ما فشل العدوان العسكري في تحقيقه" .
 فقد زار غزة أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون" في 14 تشرين أول/أكتوبر 2014، "توني بلير" في 15شباط / فبراير 2015، ومندوب قطر، المتنقل بين رام الله وتل أبيب وغزة، محمد العمادي، في 9 آذار/مارس 2015، والسفير السويسري لدى السلطة الفلسطينية "بول غارنير" في 23 أذار/مارس الماضي، ووفد ألماني في مطلع نيسان / أبريل الماضي .
وكان هؤلاء المبعوثون يعملون لتحقيق ما أطلقوا عليه "هدنة طويلة الأمد تمتد لعدّة سنوات " ؛ أي بالعربي الفصيح "وقف المقاومة" وإخراج قطاع غزة من الصراع مع المشروع الصهيوني. وهو حلم قديم لقادة هذا المشروع العنصري الذين كانوا يعملون ليل نهار كي يبتلع البحر المتوسط قطاع غزة بمن فيه " .
وتفاصيل مقترحات ال"تهدئة" هذه نشرتها الصحافة الصهيونية يوم 11 مارس الماضي: "وقف طويل الأمد لإطلاق النار لمدة 15 عامًا، تبدأ بـ5 سنوات، يلتزم خلالها الجانبان بوقف كامل للعمل العسكري مقابل رفع حصار غزة، وبناء ميناء ومطار فيها " .
ومن يدقّق بما سلف ذكره يرى أن أهداف الهجوم العسكري الإسرائيلي الأخير، وما تلاه من هجوم سياسي ، لا تختلف في الجوهر عن الأهداف التي حدّدها "آرييل شارون"  عندما تجرّع السم باندحار جيشه عن قطاع غزة. حينها كان المخطّط الصهيوني يفترض : إخراج قطاع غزة من معادلة الصراع ، والاستفراد بالقدس لاستكمال تهويدها ، والسيطرة على كامل مساحة الضفة الغربية التي تُعتبر وفق معتقدات الصهاينة "يهودا والسامرا" أرض الدولة اليهودية . 
 فمنذ ذلك الحين والمؤسسة العسكرية/ الأمنية للكيان تعمل على وضع سيناريوهات متعدّدة لهدف محدّد : ضرب البنية التحتية لحركات المقاومة في غزة وتصفيتها . فكان العدوان الإسرائيلي بحلقاته المتعددة (" الرصاص المسكوب" 12/2008، 1/2009 ، "عامود السحاب" 14 نوفمبر 2012) ....كما كان الحصار وكافة أشكال التضييق .
لكن هذا العدوان باء بالفشل الذريع. ليس هذا فحسب بل تمكنت فصائل المقاومة، وبدعمٍ من إيران ، سورية وحزب الله،  من الحصول على أسلحة نوعية (وتطويرها) وصلت بنيرانها إلى ما بعد تل أبيب وقلب القدس  .
طبعاً، لا نستطيع بحالٍ من الأحوال أن نتجاهل الأوضاع الصعبة التي يعيش فيها سكان قطاع غزة ،الذين يعاقبون من قِبل العدو على بطولاتهم وتضحياتهم وصبرهم. كما يدفعون ثمن انقسام الصف الفلسطيني والعربي ، واستمرار الرهان على إمكانية إيجاد تسوية مع العدو الصهيوني. وقد يصل الوهم عند البعض حد تخيّل تحويل هذا العدو إلى صديق وحليف!
لكن كلّ هذه الظروف الصعبة والمعقّدة ، وهذا الخذلان للقطاع وأهله، من الدول العربية الذي أقلّ ما يقال عنها إنها مشغولة اليوم في شؤونها الخاصة وإنها نسيت فلسطين ومقدّساتها وبطولات وتضحيات أهلها، يجب الاّ تُغيّب عن الأذهان حقيقة أن هذه الحرب الاسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة إنما تأتي في إطار مرحلة جديدة من مراحل الصراع العميق الدائر لإعادة رسم خرائط المنطقة، بين مشروعين : مشروع السيادة والاستقلال والتفلّت من التبعيّة لقوى الاستكبار(مشروع المقاومة) ، ومشروع إدامة السيطرة والهيمنة من جهة أخرى.
 لكن هناك محطة نوعية طرأت على هذا الصراع ، وتتمثل في أن فشل قوى الاستكبار، وثكنته المتقدّمة الكيان الصهيوني، في معاركها المباشرة مع محور المقاومة ، دفعها لتصعيد دور قوى التبعيّة من الدول العربية والإسلامية لتلعب دور الصدام المباشر مع قوى المقاومة والسيادة والاستقلال . ونحن بتنا في هذه المرحلة نعيش في قلب معركة مباشرة بين قوى المقاومة والإستقلال والسيادة من جهة ، وقوى التبعية والخضوع من جهة أخرى .  وفي خضم هذه المعركة ،يقع فرز موضوعي بين قوى المقاومة والتحرّر من جهة، وقوى التبعيّة من جهة أخرى؛ وفي حالتنا المحدّدة (الحرب المفتوحة على غزة )، لا بدّ من الحذر خلال عملية الفرز من سعي البعض لاستغلال حالة تراجع الدعم ، وعدم مبالاة الكثيرين بما يجري في غزة ، لتعميق وتعميم مقولة "يا وحدنا"، كمقدّمة للانحراف عن درب المقاومة وكتبرير للارتباط بقوى التبعية والعمالة لقوى الاستكبار . وهذا السيناريو ذاته هو ما جرى في تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في السابق .
لكن دروس وعِبر المقاومة الفلسطينية، كما دروس وعِبر تجارب المقاومات العربية المنتصرة (المقاومة الجزائرية ، والمقاومة اللبنانية ) ، كما تجربة الثورات التي انتصرت إسلامياً وعالمياً ( الثورة الكوبية ، الثورة الفيتنامية ، الثورة الإيرانية ) ، تشير كلّها إلى أن طريق الإنتصار تحتّم على قوى المقاومة المخلِصة لمشروع التحرّر والسيادة ورفض التبعيّة، ألاّ تواجه ذلك التحدّي بالنكوص عن مشروع المقاومة والتحرير ، وتبرير الإرتباط بقوى التبعية والخضوع؛ بل في التوقف أمام الأسباب الحقيقية لهذا التراجع ، ومعالجة تلك الأسباب ،على طريق العمل لبناء كتلة تاريخية من الشعوب العربية والمسلمة، حاضنة لنواة صلبة في قلب مشروع المقاومة الفلسطينية ، وتكون قادرة على هزيمة المشروع الصهيوإستكباري وأدواته من قوى التبعيّة والتكفير والإرهاب .
ولتحويل هذا التحدّي الكبير إلى فرصة سانحة، ما سبق يضعنا أمام مهام مباشرة تتمثل في :
-    البحث عن صيغ وآليات تمكّن من بناء صيغة جبهوية فلسطينية ، تحمي سلاح المقاومة.  فمنذ مدّة يردّد "أبو مازن"  أن "القيادة الإسرائيلية  لا تريد أن تعطي الفلسطينيين شيئاً ، وأن كلّ ما تريده هو تكريس صيغة فلسطينية تساعد  في تكريس احتلال بلا كلفة. إن فضح هذه الصيغة وتجسيد رفضها يعطي فرصة لإنجاز اتفاق فلسطيني يقوم على الإقرار بحقّ فصائل المقاومة بالاحتفاظ بسلاحها حتى كنس الإحتلال عن كامل حدود الرابع من حزيران وبناء دولة الفلسطينة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، ليصبح هذا السلاح تحت إمرة المؤسسة الأمنية للدولة العتيدة. وأبو مازن وأركان سلطته لا يستطيعون رفض هذا الإقتراح ، في الوقت الذي يستحيل أن يقبل به العدو؛ وهذا ما يتيح إسقاط أيّ محاولة لخلق صراع فلسطيني حول سلاح المقاومة. وهذا الطرح  محرج أيضاً للدول العربية التي تقول إن    ( الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران ) هي هدف المبادرة العربية. كما تحرج تلك الفكرة معظم دول العالم التي تعلن دعمها دائماً لحلّ الدولتين .
-    الطرح المذكور قد يفتح الباب أمام كسر الحصار الصهيوني على قطاع غزة ، بموازاة العمل الجاد لربط استيراد حاجات سكان القطاع بمصر ، وتقليل الاعتماد على كيان الاحتلال حتى الوصول للقطع النهائي معه،  وتكريس قطاع غزة كمنطقة محرّرة تماماً من الاحتلال الصهيوني .
-    العمل بكلّ الوسائل المتاحة لتفجير انتفاضة شعبية شاملة في الضفة الغربية، وإطلاق خطوات عملية لتفعيل المقاومة الشعبية، وأشكال نضال أخرى في الضفة، وفق معطيات الزمان والمكان  .
-    تفعيل دور الفلسطينيين في داخل فلسطين المحتلة عام 48، وفتح آفاق التعاون مع "حالات يهودية" ترفض المشروع العنصري الصهيوني. وهي موجودة ومعروفه .
-    العمل لإيجاد صيغة عمل تساعد على تجاوز الثغرات التي أدّت إلى تراجع الالتفاف الشعبي العربي حول الانتفاضة والمقاومة .
-    الدفع باتجاه تطوير الحراك الشعبي الدولي ، والتواصل والتكامل مع حركات المقاطعة للكيان، والتركيز على بناء شبكات تقاوم الأفكار العنصرية والتطرّف والإرهاب (إرهاب الدول والمنظمات والأفراد ) .
لكن كلّ ما سبق يجب أن يكون مترافقاً مع السعي الحثيث  لتركيز مشروع الحلّ الإنساني للقضية الفلسطينية " حقّ أبناء فلسطين من كافة الديانات في تقرير مصيرهم ومستقبل فلسطين، في مقابل المشروع العنصري الصهيوني   " الدولة اليهودية "، الأمر الذي ستكون له تداعيات ضخمة، ليس على صعيد الرأي العام العالمي، بل وعلى صعيد معتنقي الديانة اليهودية داخل فلسطين وفي خارجها أيضاً .
وعلى قاعدة كلّ ماسبق، علينا الاستعداد لمعركة إزالة الكيان الصهيوني. وهذا أمرٌ باتت إمكانية تحقيقه تلوح في الأفق .

وليد محمد علي
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني


2016-08-31 14:31:42 | 3070 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية