التصنيفات » مقالات سياسية

مئوية وعد بلفور - التحدّي والفرصة


لن أدور حول نفسي، ولن أكرّر ما كتب على مرّ السنين بمناسبة حلول هذه الذكرى الأليمة، وأكرّر إدانة هذا الوعد المشؤوم، ولا شتم بريطانيا العجوز، وتحميلها مسؤولية هذه الجريمة النكراء التي دمّرت الوطن الهادئ، الذي لم يعرف يوماً أيّ شكل من أشكال العنصرية ولا العدوان، وأدّت إلى اقتلاع شعب وادع مسالم منتج ومحبّ للإنسانية. فقد تكرّر كلّ ما أسلفت كثيراً على مدى عشرات السنوات،  حيث أطلقنا التعهدات ودبّجنا قصائد الوعد والوعيد بمحاربة الصهيونية، وإعادة المقتلعين الفلسطينين إلى ديارهم، والحق إلى أصحابه مهما طال الزمن وغلت التضحيات.

ولكننا في الواقع لم نكن جميعاً، كعرب ومسلمين، وقبل ذلك رأس الرمح كفلسطينيين، على قلب واحد في مواجهة المشروع العنصري الصهيوني، رغم أن منظّري هذا المشروع الصهيوني وقادته و(أحزابه) لم يُخفوا يوماً هدفهم؛ بالاستيلاء على كامل تراب فلسطين، وعملهم الجاد المتراكم للعمل كغدّة سرطانية مهمتها الأساس تدمير الوطن العربي والعالم الإسلامي، وتمكين الإستعمار من استمرار سيطرته على العرب والمسلمين وسلب ثرواتهم وتحويلهم إلى مجرّد أتباع في خدمة تفوّق الغرب ورفاه أهله .

التحدّي

لقد تمكن الصهاينة، بدعم وإسناد إمبريالي ضخم، من بناءً دولةً حديثه، تديرها مؤسسات متطورة. وكانت المؤسسة الأولى التي بُنيت كحجر أساس للكيان الصهيوني الذي قام بفعل احتلاله ما يزيد عن ثلاثة أرباع التراب الفلسطيني عام 1948، واقتلاع القسم الأكبر من أبناء فلسطين من مدنهم وقراهم. وفي عام 1967 قام الكيان باحتلال ما تبقى من أرض فلسطين، إضافة إلى الجولان وسيناء وقد استمرّ فيما بعدمسلسل تقدّم المشروع الصهيوني، وتراجع الفلسطينين خصوصاً والعرب عموماً. ورغم أن لا أحد يستطع إنكار عظمة الإنجاز الذي حقّقه الجيشان المصري والسوري في حرب تشرين/أكتوبر1973، إلاّ أن الرئيس المصري السابق "أنور السادات" لم يبدّد ذلك الإنجاز فحسب، بل مكّن المشروع الصهيوني من تحقيق أكبر إنجاز بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد معه. ليتوالى بعدها مسلسل الإنهيار العربي. فرغم ما أنجزته المقاومة في لبنان من انتصارات على المؤسسة العسكرية الصهيونية، واندلاع الإنتفاضة الشعبية الكبرى في فلسطين (إنتفاضة الحجارة)، إلاّ أن القيادة الفلسطينية وقّعت إتفاقية "أوسلو" الكارثية، والتي يمكن أن نطلق عليها وعد بلفور2؛ ثم جاءت إتفاقية "وادي عربة" مع الأردن، ثم كان ما سمِّي المبادرة العربية للسلام، والتي لم تكن أكثر من صك استسلام أمام المشروع الصهيوني الباغي.

ولم تقف الأمور عند إلى هذا الحد "الاعتراف بالكيان الصهيوني". بل وصل الأمر ببعض الفلسطينيين حدّ الانتقال إلى مرحلة تقديم الخدمات لمصلحة الإحتلال، عبر التنسيق (التعاون) مع جيش الإحتلال وأجهزته الأمنية. فبات الإحتلال احتلالاً مريحاً وغير مكلِف، وصار جل ما يطمح له البعض هو الحفاظ على بطاقات VIB لتسهيل تنقلهم وسفرهم المريح عبر حواجز الجيش المعادي ومعابره؛ وكلّ ذلك تحت وهم أن يمنحهم العدو جزءاً من وطنهم السليب ليقيموا عليه كياناً يطلقون عليه مسمّى دولة!

لكن الوقائع على الأرض كانت مختلفه. فقد كبر غول الإستيطان والتوسع والتهام الأرض في كامل مساحة الضفة الغربية. وما تبقّى منها بات محاصراً بين جدارين غربي وشرقي: جدار للضم والعزل العنصري في الغرب يلتهم الأرض الخصبة وأحواض المياه؛ وجدار في الشرق يلتهم أراضي الغور الخصبة ويتحكم في مياه نهر الأردن ويمنع أيّ تواصل بين الدويل الفلسطينية العتيدة والأردن. وفي القدس يتسارع تهويد المدينة، مقدّسات وأحياء ومعالم.

واليوم، بات أهل وهم الدولة المستقلّة يندبون حظّهم، بعد أن أسقط الاحتلال حلمهم نهائياً. وازدادت القناعة الشعبية والسياسية بعقم الرهان على ما سمّي حلّ الدولتين، بسبب الطبيعة الإقتلاعية الإحلالية للمشروع العنصري الصهيوني .

وما زاد الطين بلّة أن هذه التطورات ترافقت مع تراجع حضور القضية الفلسطينية على أجندة الدول العربية، حيث هرولت المزيد من تلك الدول (خاصة السعودية ودول الخليج والمغرب) نحو التطبيع مع العدو الصهيوني. بل هي تجاوزت ذلك، لدرجة سمحت لبنيامين نتنياهو أن يكرّر، وفي أكثر من مناسبة، أن العديد من الدول العربية باتت ترى بـ"إسرائيل" حليفة لها، وأن الاستيطان ليس سبب الصراع، وإنما الرفض الفلسطيني للاعتراف بالدولة اليهودية، وأن التقارب مع العالم العربي سيؤدّي إلى السلام مع الفلسطينيين؛ يعني "تصفية القضية الفلسطينية بالتفاهم مع النظام الرسمي العربي"!

 

الفرصة

الغريب أن هذا الانهيار المربع في موقف القيادة الفلسطينية والنظام العربي الرسمي يأتي في ظلّ إهتزاز الركن الأساسي للكيان الصهيوني "الجيش"، وبداية تساقط أساطيره الملفقه .

فالكيان ليس دولة عادية كبقيّة الدول. بل هو عبارة عن ثكنة عسكرية متقدّمة لقوى الإستكبار العالمي؛ ولديها وظيفة محدّدة في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، تتمثل في مواجهة كلّ حركات التغيير والنهضة والتطوّر والوحدة، لإبقاء العرب والمسلمين متخلّفين ومنقسمين، ومجرد مصدّرين للمواد الخام ،والكفاءات من الأجيال الشابه ،لنبقى مجرد اتباع نستهلك ما ينتجون. ولكي ينجح الجيش الصهيوني في هذه المهمّة فقد حظي بدعم غير مسبوق من قوى الاستكبار، وخاصة الولايات المتحدة التي قدّمت له كلّ ما طلبه أو تمنّاه من موازنات مالية وتسليح وتكنولوجيا وتدريب، بما يجعله متفوّقاً دائماً على الجيوش العربية مجتمعه، فهم أرادوا صناعة جيش لا يُهزم ويكون قادراً على صناعة الإنتصار دائماً.

لكن هذا الجيش الذي تحوّل أسطورة، وأُطلق عليه "الجيش الذي لا ُيهزم" بعد أن هزم بسهولة سبعة جيوش عربية عام 1948، واحتل ثلاثة أرباع فلسطين، وتمكن من هزيمة ثلاث جيوش عربية بساعات قليلة عام 1967(بتسليح استعماري وتمويل رجعي عربي، وتعاون فلسطيني محلّي مرتبط بالرجعية العربية)؛ هذا الجيش لم يتمكن من تحقيق أيّ نصر واضح منذ انطلاق المقاومة الشعبية بحلقتها الأولى "العمل الفدائي"، إثر هزيمة عام 1967. فكانت معركة الكرامة في آذار/مارس 1968، وحرب تشرين /أكتوبر 1973. وإن كان التحوّل النوعي في المواجهة مع الجيش الصهيوني حصل عندما أجبر أبطال المقاومة في لبنان، هذا الجيش على الاندحار عن مدينة بيروت عام 1982 دون قيد أو شرط . وقد توّجت هذه المرحلة "مرحلة التحوّل الإستراتيجي في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني"، في 25 أيار/مايو عام 2000، عندما أُجبر الجيش الصهيوني على الإندحار عن جلّ الأراضي اللبنانية المحتلة تحت وطأة ضربات المقاومة الإسلامية دون قيد أو شرط أيضاً؛ وكان التأسيس لمرحلة الهزيمة التاريخية المشروع الصهيوني. وتمّ بعد ذلك انكفاء الجيش الصهيوني الإجباري عن قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيه (2005) ليؤكد هذا المسار، وما عناه من سقوط مشروع "إسرائيل الكبرى" نهائياً.

حاول الجيش الصهيوني أن يستعيد أمجاد انتصاراته، فكان عدوانه على لبنان في تموز/يوليو 2006، وكانت هزيمته النكراء. فبعد 33 يوماً من العدوان، لم يتمكن الجيش الصهيوني من الاستقرار في متر مربّع واحد . وفي ذات السياق، جاءت الإعتداءات الصهيونية المتكرّرة على قطاع غزّة المحاصر، والذي يعاني الأمرّين من ذوي القربى، كما من العدو؛ وفشل الجيش الصهيوني أيضاً في تحقيق أيّ إنجاز. لقد أكدت حرب تموز 2006 وحروب قطاع غزة أن الجيش الصهيوني لم يعد قادراً على تحقيق أيّ انتصار. بل هو دخل بالمعنى التاريخي في عصر الهزيمة، والتي تشكّل بيئة ملائمة لتوليد مشروع عربي وإسلامي تحرّري قادر على تجسيد هدف "زوال إسرائيل" وإعادة فلسطين عزيزة حرّة لكلّ أبنائها، وكقلب معافى للوطن العربي والعالم الإسلامي كله.

وما يؤكد صوابية هذه الرؤية، ما نشاهدخ في أرض الواقع من تداعيات انهيار الحجر الأساسي في الكيان الصهيوني "الجيش الذي لا يُقهر" على ما تبقّى من ركائز ملفّقة للكيان المحتلّ.

فعجز الجيش الصهيوني عن تحقيق أيّ انتصار، وفشل الكيان في القيام بدوره الوظيفي، حوّل هذا الكيان من كنز إستراتيجي (حاملة طائرات أرضية أرخص وأكثر نجاعة من حاملات الطائرات البحرية) إلى عبء إستراتيجي، الأمر الذي بدأ يؤثّر على مستقبل العلاقات بين الكيان الصهيوني وحاضنته العسكرية، الإقتصادية والإجتماعية "أمريكا". فباتت التشكيلات الصهيونية في الولايات المتحدة تواجه صعوبات واضحة في القيام بدورها في خدمة الكيان الصهيوني، ولم تعد "السردية" الصهيونية مقبولة لدى شرائح واسعة من الجمهور الأميركي، خاصة في أوساط الشباب الذين ازداد تفاعلهم مع حركة مقاطعة المنتوجات والاستثمارات في الكيان الصهيوني، المعروفة بحركة "بي. دي. أس"، والتي تقدمّت بشكل ملموس داخل الجامعات الأميركية. كما أن جمعية الجامعيين الأميركيين قرّرت منذ فترة مقاطعة الأكاديميين الصهاينة. ومن مظاهر ذلك المتغير أيضاً القرار الذي اتخذته جامعة كاليفورنيا "يو. سي. ال. إي" بإعادة تدريس مادة "فلسطين" في برامجها. وكذلك دلالات الخبر الذي نشره معهد "بروكنز" في نهاية شهر أيلول المنصرم، عن استطلاع للرأي العام الأميركي حول صفقة المساعدات العسكرية للكيان الصهيوني المقدّرة ب 38 مليار دولار، التي كشفت بوضوح انقسام الأميركيين حول تلك المساعدات. وهذا الأمر لم يكن يحدث سابقاً.

 تلك المؤشرات وغيرها تشير إلى تراجع تراكمي في الـتأييد والدعم الشعبي الأميركي للكيان الصهيوني، الأمر الذي سيؤثر حتماً على الاحتضان الأمريكي المطلق له. وبداية الحالة السلبية في الموقف الشعبي الأمريكي من الكيان الصهيوني، كانت مسبوقة باتساع حملة مقاطعة البضائع الصهيونية، والمقاطعة الأكاديمية وحملات التضامن الشعبي الأوروبي مع القضية الفلسطينية، الأمر الذي دفع القادة الصهاينة للحديث عن خطر وجودي على كيانهم جرّاء المقاطعة والعزلة الدولية المتصاعدة في وجه المشروع الصهيوني .

وفي ذات السياق كان القرار الهام مؤخراً لمنظمة اليونسكو حول المسجد الأقصى، وارتباطه التراثي بالحضارة الإسلامية ،الأمر الذي يكشف مدى زيف وكذب "أسطورة أرض الميعاد وجبل الهيكل" الصهيونية .

وأخيراً وليس آخراً، نتوقف عند ما يجري داخل ما يسمّى الحبهة الداخلية للكيان الصهيوني الغاصب، من تصاعد في الخلافات والصراعات، لدرجة دفعت ببعض القادة الأمنيين للتحذير من خطر الوصول إلى الحرب الأهلية. كما دفعت رئيس الكيان إلى القول "إن الانقسام في المجتمع الإسرائيلي قائم على مستوى الخيار والهوية والتطلعات"، محذّراً "إسرائيل أمام مفترق طرق" .

نعم الكيان الصهيوني أمام مفترق طرق: إما أن ينجح مشروعه "الشرق الأوسط الجديد" الذي يفتّت الأقطار العربية ويحولها إلى كيانات متناحرة، تستجدي قيادة العدو وتستمرئ الخضوع والتبعية له. وهذا هو التحدي .

 أو تتمكن المقاومة، بكلّ مكوّناتها من هزيمة هذا المشروع، وتقتلع الغدّة السرطانية "إسرائيل" وتعيد إلى الأمّة مجدها وحقّها في الحياة الكريمة تحت الشمس، إلى جانب أمم العالم الحرّة السعيدة. وهذه هي الفرصة .

 فلنعمل معاً لاغتنام الفرصة، ونصرة المقاومة في كلّ المجالات، لأن المرحلة تؤكد أننا في ممر إجباري وجودي "نكون أو لا نكون". وعلى أبناء الأمّة يقع واجب الإختيار .


وليد محمد علي
باحث في الشؤون الإستراتيجية


2016-11-11 14:45:15 | 3568 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية