التصنيفات » مقالات سياسية

52 عاماً على انطلاقة حركة فتح: جردة حساب


     مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وما رافقه من عمليات تدمير وتشريد لأبناء الشعب الفلسطيني وإحلال المستوطنين الصهاينة مكانهم، وبداية تعزيز وتثبيت الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وما ترتّب على ذلك من صدمة كبرى للفلسطينيين؛ في هذه المناخات نشأت مجموعات فلسطينية وعربية للردّ على الهزيمة، ولكنها سلكت دروباً لم تلامس همّ الإنسان الفلسطيني مباشرة؛ الأمر الذي قاد إلى بلورة وعي فلسطيني بضرورة إمساك الفلسطينيين بقضيتهم باعتبارهم من يحملون المعاناة أولاً، ولأن النظام العربي (وجيوشه) غير قادر على إدامة حالة الاشتباك مع العدو. أخذ هذا التوجه على عاتقه مسؤولية المواجهة وعدم ترك الكيان الصهيوني ينمو  بدون مقاومة؛ وتبلورت فكرة حركة فلسطينية مقاتلة تخوض حرب تحرير حرب شعبية طويلة الأمد، تديم حالة الاشتباك مع العدو وتحشد الفلسطينيين والعرب بهذا الاتجاه، مستفيدة من تجارب الشعوب في مقاومة الاحتلال والغزو الأجنبي؛ وفي نفس الوقت تحافظ على الهوية الفلسطينية بعمقها العربي والإسلامي، حتى لا ينجح العدو في إلغاء الشعب الفلسطيني الذي انتشر في عدّة أقطار ولا يتمكن من تثبيت مقولته "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ومقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون" هذه كانت المحرّكات النظرية لحركة فتح، التي حمل اسمها كلّ هذه المضامين "حركة التحرير الوطني الفلسطيني"، معلناً أهدافاً واضحة بتحرير فلسطين وتدمير الكيان الصهيوني لعودة الفلسطينيين إلى أرضهم، واعتماد الكفاح المسلّح وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد أسلوباً. وكانت مسيرة ثورية قدّمت عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين والأسرى. لكن هذه المسيرة  واجهت تحدّيات كبيرة، داخلية وخارجية؛ وجرى استهدافها في أكثر من محطّة بهدف دفعها لليأس، وبالتالي تيئيس  الشعب الفلسطيني من إمكانية تحرير فلسطين .
       فبعد سبعة عشر عاماً من الضياع الذي عاشه الشعب الفلسطيني، في أعقاب نكبة عام 1948، جاء اليوم الأول من كانون الثاني/يناير 1965، ليكون نقطة البداية في أول تحرّك جماهيري فلسطيني على الطريق السليم. وتركّزت أهداف "فتح" حينها في اتجاه:
1.    تحريك الوجود الفلسطيني... وبعث الشخصية الفلسطينية، محلّياً ودولياً، من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم المناعة الإسرائيلية.
2.    استقطاب الجماهير الفلسطينية، ومن خلفها كلّ الجماهير العربية، في طريق الثورة المسلّحة، وحشدها لتكون قادرة على:_ تجميد نموّ وجود الكيان الصهيوني؛ تقطيع هذا الوجود؛  وصولاً إلى تصفية الوجود الصهيوني.
3.    إعادة بناء الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية 
 وعبر فهم أبعاد الإستراتيجية الإسرائيلية التوسعية وأثر العامل الزمني فيها.. كان لا بدّ أن تتحرك "فتح" لمنع العدو من تحقيق أهدافه قبل أن تصبح واقعاً جديداً، ومن أجل أن تعيد الأمور إلى حجمها الحقيقي وتستردّ للقضية وجهها العادل، وتوقف الزحف البشري الغريب على أرض فلسطين وتخرج بالمنطقة العربية من تحت الإستراتيجية الإسرائيلية.. وتعطيها فرصة لالتقاط أنفاسها وسط سباق التسلّح المجنون، وتجّرد العدو من المزايا التي يوفّرها العامل الزمني.. وتقلب ميزان المعادلة في الاتجاه المضاد.
    إضافة إلى الجزم بأن الثورة المسلّحة هي المؤهّلة والقادرة على أن تتصدّى للإستراتيجية الهجومية الإسرائيلية، وتنقل المعركة من خلال استراتيجية مضادّة إلى قلب الأرض المحتلة في قتال مواجهة مع الغزو الإسرائيلي. 
وهكذا طرحت الثورة الفلسطينية نفسها كضرورة حتمية يفرضها منطق التاريخ. وستستكمل إستراتيجية المعركة أبعادها وتحقّق أهدافها على مدى مراحل ثلاث:
1- مرحلة تجميد النمو في الوجود الإسرائيلي على الأرض المحتلة.
2- مرحلة تحطيم هذا الوجود.
3- مرحلة تصفية وتطهير الأرض المحتلة من كلّ آثاره.
 لكن هذه المسيرة واجهتها تحدّيات كبيرة جعلتها تمرّ بتجارب قاسية ودموية؛ نجحت حركة فتح في تخطّي بعضها وفشلت في بعضها الآخر؛ وكان أبرزها:
-  تحدّي مواصلة الكفاح المسلّح، وسط محيطٍ عربيٍ معادٍ لمنطق الثورة؛
- تحدّي الحفاظ على الوحدة الوطنية و القرار الفلسطيني المستقل؛
- تحدّي التدخل العربي في توجيه المسيرة والتأثير عليها، عسكرياً وسياسياً؛
تحدّي الانشقاقات الداخلية، والتي كانت بمنشأ خارجي.
      وكان الأثر الأبرز للخروج الفلسطيني المسلّح من الأردن عام 1970،  تصعيد الحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتصاعد الصراع على منظمة التحرير الفلسطينية. لكن منذ عام 1973 استطاعت حركة "فتح" تعزيز قوّتها داخل منظمة التحرير، وتعزيز تواجدها المسلّح في الجنوب اللبناني وبيروت والمخيّمات الفلسطينية. وبدأت الحركة بتكريس مفاهيم التنظيم، والمؤسسات المدنية التي انتشرت في مراكز المجتمع الفلسطيني، جنباً إلى جنب مع القواعد العسكرية.
     وفي نفس الفترة (1974) تبنّت حركة "فتح" بشكل واضح مفهوم "مرحلية النضال" السياسي، حيث قبلت مقرّرات المجلس الوطني الفلسطيني ونقاطه العشر الداعية إلى إقامة السلطة الوطنية على أيّ شبر يتم تحريره أو استرداده، إضافة لإمكانية التفاوض مع قوى "السلام التقدمية" الإسرائيلية، لتنشأ حينها "جبهة الرفض".  داخل الساحة الفلسطينية.
وقد برزت الصراعات الفكرية والسياسية خلال الأعوام (1973 – 1983 ) خاصة حول الموقف من السلطة والمؤتمر الدولي للتسوية ( مؤتمر جنيف)، وفي العام 1974 واجهت حركة "فتح" تحدّياً تنظيمياً صعباً بخروج صبري البنّا "أبو نضال"، مدير مكتب الحركة في العاصمة العراقية بغداد، من صفوف الحركة، وتأسيسه لما أسماه "حركة فتح– المجلس الثوري"، والذي أعقبه اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية في ظلّ انطلاق المسيرة السياسية في المنطقة ومحاولات استبعاد منظمة التحرير عن الجهود السياسية للتسوية.
    وكانت استراتيجية حركة "فتح" السياسية، عقب انخراطها في المسيرة السلمية، في الفترة ما بين (1973 – 1982 )، تتركز أولاً على إدراج مسألة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في جدول الأعمال السياسي؛ وثانياً على مشاركة  منظمة التحرير الفلسطينية في أيّ مفاوضات تتعلق  بالحقوق الفلسطينية. لذلك ظهر شعار (القرار الفلسطيني المستقل) بقوّة ضدّ محاولات الهيمنة الإقليمية أو الحلّ من خلف ظهر الفلسطينيين. لكن، بعد الخروج الفلسطيني من لبنان، وافقت "فتح" على مقرّرات قمّة فاس العربية عام 1982،  وأخذت بتفعيل علاقات علاقاتها مع الأردن من خلال التنسيق المشترك والدعوة للكونفدرالية، والمشاركة في المفاوضات مع "إسرائيل". 
    اندلعت الانتفاضة الأولى في العام 1987 وفي ظلّ تصاعدها، عقِدت دورة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988،  وجرى خلالها الإعلان عن قيام دولة فلسطين، والاعتراف بإسرائيل من خلال الاعتراف بالقرار242، الذي لحقه الانخراط الفلسطيني بالتسوية من خلال مؤتمر مدريد عام 1991، وما أفضت إليه المحادثات السريّة بين قيادة منظمة التحرير وحركة "فتح"، من الموافقة على توقيع اتفاق أوسلو، الذي أدّى لانقسام سياسي فلسطيني عميق بين مؤيّد ومعارض للاتفاق، الذي وقِّع في واشنطن بتاريخ 13/9/1993، وذلك بين (م.ت.ف) والحكومة الإسرائيلية. واعتبرت حركة فتح  أنها دخلت عبر اتفاق أوسلو في  الممرّ الإجباري ، إلى فلسطين، كبداية لصنع المصير على الأرض، حيث أجرِيت أول فلسطينية وانتخابات نيابية، ومع انتخاب رئيس للسلطة الوطنية ؛ والذي أعقبه اثنان وعشرون عاماً من المفاوضات العقيمة مع الاحتلال.
  وفي أجواء الفشل السياسي في إنجاز الحدّ الأدنى المطلوب فلسطينياً من خيار التسوية، ألا يبدو مشروعاً التساؤل عن المسؤول عن هذه التداعيات القاسية على القضية والشعب الفلسطيني. فأين نحن من (هيكل البناء الثوري ) الذي حدّد لحركة "فتح" فكرها منذ صياغة الجواب على التشرّد وفقدان الأمل والكرامة والوطن والقيادة والسلاح والعون: أي الثورة؛ بحيث أصبح شعار تحرير فلسطين وإزالة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، وإعادة تأكيد الوجود الفلسطيني، والاستقلالية للقرار والإرادة الوطنية الصلبة، والكفاح المسلّح، وبعث الكيان الفلسطيني، هو سمة المرحلة. 
  وبعد كلّ ما مرّ في هذا النهر، هل بقي فيه غير حجارته؟ وهل يوجد عاقل لا يزال يراهن على التمسك ببرنامج سياسي يؤكد "التمسك (بما وصفه) السلام العادل والشامل كخيار استراتيجي"، أوما أسماه "المقاومة الشعبية السلمية".
  في مواجهة عدوٍ يضاعف كلّ يوم قوّته، ويصادر المزيد من الأرض والحقوق، فإن واقع القضية الفلسطينية في "أسوأ حالاته". ولا يتوقّع أحد غير المزيد من التعسف الصهيوني  والركود السياسي والمراوحة في المكان"، مع استبعاد أيّ اختراق في المزاج الدولي تجاه القضية الفلسطينية، والتي لم تعد أولوية  لدى دوائر صنع القرار في العالم.
    وعملياً، لم تكن اتفاقية أوسلو إلاّ نتاجاً طبيعياً  للتوجه العربي "السلمي" بعد هزيمة حزيران 67، للتسوية مع الكيان الصهيوني، حيث وجد التيار الرئيسي في (النظام العربي) الداعي للتسوية من يتناغم معه فلسطينياً؛ وهو ما شكّل انتكاسة أو صدمة أدّت إلى انقسام سياسي فلسطيني جاد، بين من يعطي الأولوية لتحرير الأرض وبين من يعطي الأولوية للمحافظة على الهوية الفلسطينية وحضورها السياسي عربياً ودولياً. وهو المسار الانقسامي الطويل، الذي أدّى في كلّ محطة منه إلى هذه السلسلة من التنازلات لعقد اتفاقية أوسلو مع الكيان الصهيوني؛ وما تلاها من اعتراف متبادل وتنازل فلسطيني عن فكرة التحرير وإنهاء الكيان الاحتلال الصهيوني وعودة اللاجئين، ثم الدخول في مسار عقيم من المفاوضات، التي لم تؤدّي إلى تحقيق الهدف المنشود بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما يدفع الشعب الفلسطيني ثمنه احد الآن، تشتيتاً في الرؤية الاستراتيجية، وتبديداً للطاقات، وانقساماً حاداً يستفيد منه العدو الصهيوني ويوظّفه لإدامة حالة التآكل الداخلي الفلسطيني. وهذا ما يستوجب العودة بالقضية الفلسطينية إلى أصولها التي انطلقت على هديها الثورة الفلسطينية المعاصرة، بتوحيد الهدف مجدّداً والاتجاه نحو تحرير فلسطين وتصفية الوجود الصهيوني على أرضها، عبر تفعيل خيار الجهاد والمقاومة وبناء التحالفات على هذا الأساس، فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، لأن هذا هو الطريق الذي أثبت جدواه بالتعامل مع كلّ الغزاة على مدار التاريخ.

محمود إبراهيم
باحث فلسطيني


2017-01-07 12:34:53 | 2796 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية