التصنيفات » دراسات

المتغيّر الإيراني في سياق السياسة الخارجية الروسية

 

نوح فسيفس -  باحث في العلاقات الدولية وقضايا الشرق الأوسط

مقدّمة
شهدت الساحة العالمية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، واقعاً استراتيجياً جديداً على صعيد التوازنات الدولية والإقليمية، والتي أسّست لتشكّل ما بات يُعرف في الأدبيات السياسية بـ "النظام العالمي الجديد" أحاديّ القطبية أو ذو الهيمنة الأحاديّة، وذلك في ظلّ بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى مهيمنة تنفرد بهذا النظام، وتعمل بشكل مستمر للاستئثار بمضامين اللعبة السياسية الدولية، إلى الوقت الذي بدأت فيه الأوضاع العالمية تتغير لصالح إعادة التشكّل في توازنات القوى العالمية على حساب الاحتكار الأمريكي، وذلك بالتزامن مع ظهور قوىً دولية صاعدة مثل الصين والهند، وأخرى آخذةً في التعافي والعودة إلى المسرح العالمي مثل روسيا واليابان، والتي بدأت تنسج لها أدواراً في مجمل القضايا السياسية على المستوى الدولي والإقليمي، ولا سيّما في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.
ويبدو أن القوى العالمية في عالم ما بعد ثنائيّ القطبية تتوجه من جديد إلى المنافسة على الهيمنة وكسب حلفاء إقليميين على مستوى العالم، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها إحدى أهم المناطق الغنيّة بالموارد على مستوى العالم، فضلاً عن موقعها الجيوسياسي في الصراع العالمي. وقد جاء هذا التوجه في إطار التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية التي شهدتها الساحة السياسية في الشرق الأوسط، بعد الحرب على أفغانستان والعراق، وما نتج عنهما من انهيار في معادلة التوازن الإستراتيجي القائمة في المنطقة، الأمر الذي فرض إعادة تقييم الدور الدولي بالنسبة للقوى العظمى في إطار صون المصالح وحماية النفوذ؛ ومن جانب آخر، أخذت القوى الإقليمية الفاعلة في تصعيد الدور الإقليمي لجهة منافسة النفوذ الأجنبي في مرحلة إعادة بناء التوازنات في المنطقة.
وعلى الصعيد نفسه، فإن التطورات السياسية التي صاحبت ثورات (الربيع العربي) في مطلع العقد الحالي، والتي غيّرت ميزان النفوذ ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط برمّتها، إذ آذنت بظهور معادلة جديدة على صعيد الأوضاع الإستراتيجية، والتي أثّرت بصورة حاسمة في نشوء حالة من الاستقطاب لدى القوى الدولية والإقليمية، وبخاصة في ظل ظهور قواعد جديدة ولاعبين جدد دخلوا في إطار الحسابات الإستراتيجية، والتي وصلت إلى حد ضياع الحدود الفاصلة بين الفعل الداخلي والتأثير الخارجي، على النحو الذي تبلور في قيام تحالفات بين القوى الدولية والإقليمية، والتي باتت تنشُد مصالح متعارضة وتتبنّى أهدافاً مزدوجة، ممّا أوجد واقعاً أشبه بالاصطفاف السياسي بين اللاعبين الرئيسيين، ممّا كان له بالغ الأثر في تأجيج الأوضاع الإقليمية وتأزّم القضايا الصراعية، كما يتضح من مسارات عدم الاستقرار الإقليمي التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن.        
ووفق ذلك، فإن روسيا الاتحادية، وفي خضم هذه التفاعلات، بدأت تُعيد النظر في تحالفاتها التي كانت قد ورثتها من الاتحاد السوفياتي السابق، وأخذت تتطلّع إلى تأسيس علاقات جديدة لم تكن قادرة على أن تحظى بمثلها أو الحفاظ عليها في مراحل زمنية سابقة.
وتسعى روسيا إلى تكثيف وجودها في العديد من الدول الشرق أوسطية أكثر من أيّ وقت مضى، لتحقيق العديد من المصالح وكسب حلفاء جدد لهم موقع مؤثّر في المنطقة، على نحوٍ يتضح في كثافة التحركات الدبلوماسية الروسية للتقرب من دول المنطقة، ولا سيّما عبر تلك الزيارات المتكررة لمسؤولين روس رفيعي المستوى، وعلى رأسهم الرئيس فيلاديمير بوتين، إلى المنطقة، لأكثر من مرّة منذ تولّيه السلطة في روسيا. لقد بدا أن القيادة الروسية تحاول العمل على الحؤول دون أن تقع دول المنطقة في دائرة النفوذ الأمريكي، لجهة تأمين موضع قدم لها ومنفذ للتأثير في المناطق ذات الأهمية الحيوية والإستراتيجية، وبخاصة تلك المناطق المتاخمة للمجال الحيوي الروسي. وقد كان من الطبيعي أن تُثير مثل هذه التحركات الروسية في الشرق الأوسط المخاوف لدى القوى الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية، بأن تكون هذه المحاولة هدفها استهداف المصالح الحيوية الأمريكية والغربية في المنطقة، عبر تنامي الدور الروسي في عدد من الدول الهامة في المنطقة، كإيران ومصر والخليج وسورية والعراق.
وتبقى الأولوية الأساسية لدى النخبة الروسية هي لحماية تلك العلاقات وإيجاد شركاء جدد، وبخاصة أن روسيا تسعى لإيجاد موطئ قدمٍ لها للمشاركة في العمليات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها قوّة عالمية، بهدف التأثير في صورة الأحداث الجارية في المنطقة؛ وهي تستخدم في ذلك توجهات براغماتية في سياستها الخارجية، والتي أولت متغير المصالح على حساب الاعتبارات الأيديولوجية، في استجابةٍ مباشرة لمسارات التحوّل في النظام العالمي، كضرورة استراتيجية لجعل السياسة الخارجية أكثر فعالية.
وعلى الرغم من تعدّد السياسات الروسية المتعلقة بالشرق الأوسط، إلاّ أنها جاءت على العكس من السياسات الأمريكية، متشابهة ومتكاملة. ولم تشهد مثل تلك التحولات التي عرفتها السياسة الأمريكية في ذات المنطقة؛ ويرجع ذلك بدرجة أولى إلى الخصائص البنيوية والقيود التي تحكم السياسة الروسية، وتجعلها حذرة وجامدة ومترددة وشديدة الارتباط بالأمن القومي الروسي، ويرجع بدرجة ثانية إلى إدراك صانعي هذه السياسة لحقيقة الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط.
والمعلوم أن التخطيط الاستراتيجي الروسي، مع إدراكه للأهمية الحيوية للشرق الأوسط بالنسبة للقوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وقد سعى لإفساد التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، سواء عن طريق إفشال محاولات تطويق روسيا واحتوائها من الحدود الجنوبية لروسيا، وذلك عبر تأمين سواتر استراتيجية لأراضيها، علاوة على تكثيف التحركات العسكرية في المنطقة لتحقيق توازن استراتيجي مع الولايات المتحدة.
هذا، وقد كانت العلاقة بين موسكو وطهران من أهم المكتسبات التاريخية التي حققتها روسيا في مرحلة ما قبل الانهيار السوفياتي، بحكم أن إيران تشكّل عموداً مهماً في سياسة الارتكاز للاستراتيجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، إذا أخذنا بعين الاعتبار الحسابات الجيوبوليتيكية لموقع إيران في المنطقة، ولا سيّما في ضوء تأثير إيران في منطقة آسيا الوسطى، بالنظر إلى التهديدات المحتملة التي يمكن أن تشكّلها إيران على النفوذ الروسي في تلك المنطقة المهمة استراتيجياً، وبخاصة إذا ما حاولت ايران أن تلعب بالورقة الإسلامية في هذه الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة. بيد أن روسيا دعمت تقليدياً الجغرافيا السياسية الشيعية في الشرق الأوسط، باعتبار الشيعة حلفاءها في المنطقة، وجاء ذلك بعد فقدانها حليفها الأقوى في المنطقة بسقوط نظام صدام حسين في الحرب الأميركية على العراق في العام 2003. وبذلك، فإن روسيا تعزّز في الوقت نفسه دورها في حل الأزمات الإقليمية المتناسلة في هذه المنطقة التي توصف بالاضطراب الدائم.

توطئة تأسيسية
بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران بإسقاط نظام الشاه في العام 1979، انهار التوازن الاستراتيجي القائم في الشرق الأوسط، والمبني أساساً على مبدأ نيكسون في حماية المصالح الحيوية الغربية، حيث أدّى سقوط حكومة الشاه ـ التي كانت تُمثّل شرطي الخليج والركيزة الأساسية في سياسة "توازن القوى" - إلى تراجع الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وبالقدر الذي أصاب الولايات المتحدة من خسائر فادحة بفقدان حليفها الاستراتيجي في المنطقة، فإن النخبة السياسية في روسيا كانت تتهيّأ لتوظيف هذه الخسارة الأمريكية لصالح تعزيز نفوذ موسكو السياسي في المنطقة، عبر بناء علاقة صداقة مع النظام الثوري الجديد في طهران، لا سيّما وأن روسيا كانت لها يد في دعم الثورة التي أسقطت الشاه، من خلال الحزب الشيوعي الإيراني .
وبوجهٍ عام، أضحت الحكومة الراديكالية في إيران ما بعد الثورة تمثّل تهديداً جيوسياسياً حقيقياً ومتنامياً بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، ذلك أن نظام الثورة ذو الأجندات الراديكالية كان يبذل جهوداً دؤوبة لنشر لهيب الثورة في الضفة الغربية من الخليج، في إطار مضمون فكرة "تصدير الثورة" التي تبنّتها قيادة الثورة؛ وهو الأمر الذي صاحبه تهديد النظم السياسية الحاكمة في دول الجوار الإقليمي، وبخاصة الدول الخليجية العربية. كما أنه ضاعف من الانزعاج الأمريكي في المنطقة مع احتمالية توالد أخطار تهدّد الأمن الإقليمي والمصالح الأمريكية؛ إذ إن هذه التطورات فتحت أبواب التوقعات أمام الدبلوماسية الروسية، وأغرت النخبة الروسية باتجاه تنشيط دورها في إيران على وجه خاص، ومن ثم في منطقة الخليج على وجه العموم، لتحقيق مطلب «الزعيم» ليونيد بريجنيف في إعادة توجيه الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط والمحيط الهندي.
وقد كان من أهم المعطيات الواقعية للثورة الإسلامية الإيرانية نشوء اختلال في حركة التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط، والتي بدورها زادت من إحساس النخبة الحاكمة في الكرملين باتساع الفجوة بين واشنطن وحلفائها الإقليميين من جهة، فضلاً عن المراهنة الروسية على ضعف البنية الأمنية الأمريكية في الخليج، وعجزها في ذات الوقت عن حماية المصالح الأمريكية؛ وبخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الضربة التي تلقّتها الولايات المتحدة الأمريكية بانهيار النظام السياسي في إيران، والإهانة التي تعرضت لها نتيجة حصار السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز الدبلوماسيين. ولذلك، فربما زادت قناعة القادة الروس بضرورة القيام بدور خاص بهم يحول دون إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على تحريك قواتها باتجاه إيران لوأد الثورة؛ وقد جاء التدخل العسكري الروسي في أفغانستان في أيلول/ سبتمبر 1979، في ظلّ تأخّر عامل الحسم الأمريكي إزاء تلك التطورات الخطيرة، ليخدم هذه الغاية بشكل أساسي، ولكي يتجاوب، من وجهة نظر النخبة الروسية، مع حقائق توازن القوى الجديد في النظام الإقليمي للشرق الأوسط وما يفرضه من دور جديد للدول الإقليمية الفاعلة ضمن هذا النظام، وبما يتوافق مع المساعي الروسية الدؤوبة لكسر الحواجز الجغرافية الإستراتيجية التي أقامها الغرب لتكون مصيدة لروسيا. فأفغانستان تُعتبر بمثابة حلقة الوصل المفقودة بين إيران وباكستان؛ وبالتالي فإن احتلالها يساعد في تمكين الروس من ممارسة ضغوطات قوية على طهران وإسلام أباد، سوف تمتدّ آثارها حتماً إلى الخليج . وقد كان لمثل هذه التحذيرات تأثير كبير لدى دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ارتبكت حساباتها الإستراتيجية جرّاء هذا التدخل، والذي اعتبرته على لسان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر "أكثر التهديدات جديّة للسلام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية" . وفيما يبدو، فإنه قد فُرِضت على الأمريكيين عملية إعادة تقييم شاملة للدور الذي تؤدّيه واشنطن في الشؤون الدولية بوجه عام، خاصة وأن هذا التدخل بات يُهدّد المصالح الأمريكية الحيوية في الخليج، ويضع مستقبل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط في إطار مجهول، وذلك لاعتبارات مؤدّاها الجغرافيا السياسية. وقد أدّى ذلك إلى تعميق التحول في مضامين الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي اتجهت لصالح اعتماد سياسةٍ تعتمد على التدخل العسكري المباشر واستخدام القوة للحفاظ على المصالح الأمريكية في أيّ بقعة من العالم. جاءت هذه السياسة منسجمة مع التوجهات التي تبنّاها الرئيس جيمي كارتر في الأيام الأخيرة لولايته وقبل مغادرته البيت الأبيض عام 1981؛ ثم تبلورت هذه التوجهات في ما عُرف لاحقاً بـ"مبدأ كارتر"، والذي أكّد فيه على تصميم الولايات المتحدة الأمريكية على مقاومة أيّ خطر يهدّد الخليج، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية لصد أيّ قوة خارجية تحاول السيطرة على الخليج، في إشارة واضحة إلى موسكو التي تدخلت عسكرياً في أفغانستان وتطمع في تمدّد هذا التدخل في اتجاه الخليج. وكان ذلك يعني أن الإدارة الأمريكية أضحت تربط بين الأمن الإقليمي في الخليج (من منظور مصالحها الحيوية) والأمن الإستراتيجي الأمريكي (من منظور مصالحها القومية). وضمن هذا الإطار، سعى الأمريكيون باطّراد، وبتأييد من الخليجيين، إلى تركيز الاهتمام على المملكة العربية السعودية وتقويتها ضمن الحفاظ على توازنات القوى في الخليج، فيما كان الروس يتّجهون صوب إيران للوقوف خلفها في خِضَمّ حركة الاصطفاف الإستراتيجي التي كانت قد دخلت في نطاق الصراع الكوني في تلك الفترة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا السوفياتية.
وقد كانت المحصّلة المنطقية إزاء هذه التطورات هي التحوّل من حالة الوفاق إلى حالة الحرب الباردة الجديدة، نظراً لاختلال الرادع التوازني لصالح الاتحاد السوفياتي على حساب الولايات المتحدة. ومن الناحية العملية، فإنه في كلّ مرّة تتأزم فيها العلاقات الأمريكية ـ الروسية، كان ذلك ينعكس بصورة طبيعية على سياسات القوّتين معاً في المنطقة، على النحو الذي اتضح في أدوار كلا القوّتين في تغذية الأزمات الإقليمية المتناسلة بين القوى الرئيسية في المنطقة، ولعلّ أهمها الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)، والتي اعتُبرت أطول صراع عسكري في القرن العشرين، وأكثر النزاعات الإقليمية دموية، وقد أثّرت بحسم على المعادلة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، نظراً لتأثيراتها السلبية على التوازن الإستراتيجي في المنطقة؛ بل كان لنتائجها العملية بالغ الأثر في العوامل التي قادت لاندلاع حرب الخليج الثانية (1991) وحرب العراق (2003)، فضلاً عن دورها في انجرار المنطقة بأكملها إلى الاحتماء تحت المظلّة الخارجية لتسوية قضاياها المثيرة للنزاع. وكان ممّا يلفت الانتباه خلال هذا الصراع المرير هو المنحنيات المتعرجة التي اتسم بها الموقف الروسي حيال سنوات الحرب. ففي اللحظة التي تأمّل فيها الروس بالحفاظ على صداقتهم القوية مع النظام العراقي بدون خسارة فرصتهم بتأسيس صداقة جديدة مع النظام الثوري في طهران، كانت الرياح تهبّ على الجهة المعاكسة لشهيّة السياسة الروسية. فقد فشل الكرملين بالإمساك بالورقتين معاً؛ بل هو تعرّض لموقف حرج على الجبهتين في نفس الوقت، وبخاصة بعد توجّه العراق لتنويع مصادر تسلّحه من فرنسا، وقيام النظام الثوري بتصفية الحزب الشيوعي الإيراني؛ غير أن تداعيات الحرب فرضت الوجود الروسي كأمرٍ واقعٍ على خريطة التوازنات الإقليمية، ليبقى الاستقطاب الكوني مفتوحاً على مصراعيه بين القوّتين العظميين.

أجندات التحوّل في الحركة السياسية الروسية 
كان التوجّه الروسي في ضوء تلك المستجدّات، قائماً على صياغة أسس جديدة لمعادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، باعتبارها بديلاً موازياً للاستراتيجية الأمريكية التي تُرجّح التدخل العسكري المباشر في شؤون المنطقة، بما يخدم سياسة كسر الاحتكار الغربي للمنطقة، وتمكين روسيا من الدخول كطرفٍ شريكٍ في تسوية الأوضاع الإستراتيجية في الشرق الأوسط.
وإذا كان الاستراتيجيون الروس يترقّبون ما ستؤول إليه سياسة توزان القوى التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية مع العراق وإيران في تلك الفترة، والتي انتهت بإنهاك كلا القوّتين معاً، فإنهم في الوقت ذاته كانوا على قناعة راسخة لما ترمي إليه هذه السياسة في منظورها البعيد، والتي كانت مُصاغةً أساساً لتحييد دور السياسة الروسية عن تلك القوّتين؛ وينطبق هذا الأمر تحديداً على إيران بعد الثورة؛ فقد كانت فكرة وجود قوات روسية في بلدٍ كإيران، يسعى للتمدّد الأيديولوجي في إطارٍ يتجاوز نطاقها الجغرافي، تلقى معارضة أمريكية شديدة. كما أن التوجهات الراديكالية للنظام الثوري في إيران كانت تجعل من إيران خطراً على معادلة الأمن الإقليمي والنفوذ الأمريكي.
ظلّت إيران تُمثّل مكانةً خاصةً في السياسة الخارجية الروسية، حتى قبل سقوط الشاه. فعلى الرغم من الدور الذي كانت تؤدّيه كشرطي لحماية أمن المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، فإن موسكو كانت حريصة على الحفاظ على مستويات مقبولة من العلاقات الطبيعية مع طهران . وربما كانت الاعتبارات الاقتصادية هي المدخل المتاح أمام موسكو للإبقاء على ارتباطاتها مع طهران، وبما يسمح لها بتأمين الحدود الجغرافية بين البلدين كضرورة لضمان الحيلولة دون توظيف الأراضي الإيرانية عسكرياً، بهدف شنّ عمليات هجومية باتجاه المناطق الجنوبية الروسية. وضمن هذا الإطار، سعى الكرملين إلى الحصول على تعهدات من الشاه الإيراني بعدم السماح بنصب أيّ صواريخ أجنبية على الأراضي الإيرانية تُهدّد الأمن الروسي، إذ إن ايران كانت تحاول تحييد السياسة السوفياتية بإقامة علاقات تعاون ثنائي مشترك.
هذا وتعطي روسيا أهمية قصوى لمسألة تحييد إيران عن النفوذ الغربي والأمريكي بوجه خاص، وتعتبر أن مثل هذه الجهود تصّ في إطار كسر الاحتكار الأمريكي للاستحواذ بالشرق الأوسط. ولذا، فإنه في الوقت الذي كانت موسكو تلتزم سياسة الحياد المتوازن تجاه إيران في حربها الطويلة مع العراق، فإنها «تورّطت» في تقديم الدعم لإيران عندما سمحت لحلفائها، مثل: كوريا الشمالية وسوريا، بإمداد طهران بأسلحة روسية الصنع . وقد جاء هذا التورّط الروسي في أعقاب ما سُمّي فضيحة صفقة "إيران كونتراغيت"، التي قدّمت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية أسلحة أمريكية بصورة سريّة إلى إيران. وكان يعني ذلك، أن موسكو تسعى لموازنة أيّ دور أمريكي في سياق سياسة توازن القوى في الإقليم.
مع منتصف الثمانينات، ظهرت متغيّرات جديدة على مسرح السياسة الدولية، أدّت إلى إحداث تحوّلات في مسار الصراع الكوني بين القوّتين العظميين لصالح عودة مناخ الوفاق الدولي، نتيجة لنهج التهدئة الذي سلكه الرئيس ميخائيل غورباتشوف منذ وصوله إلى السلطة في موسكو، والذي أثّر بوضوح في سلوكيات السياسة الخارجية الروسية، في شكل تراجع الدور الروسي في الصراعات الإقليمية، وعجزه عن المضيّ قُدماً في سباق التسلّح العالمي، وبخاصة في ظلّ مرحلة "العُقدة الأفغانية" التي ضاعفت من تشويه صورة موسكو في المسرح العالمي؛ وهو الأمر الذي دفع الكرملين إلى انتهاج سياسات براغماتية تجاه العالم الثالث على حساب اندثار الالتزامات الأيديولوجية. وقد انعكست هذه التحولات على طبيعة المنهجيات المتبعة في موسكو حيال علاقاتها الخارجية مع الأنظمة المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، وتأتي إيران في مقدّمة هذه الدول، ممّا أوجد معادلة جديدة اضطرّ إزاءها الإيرانيون إلى تهدئة حماستهم الثورية والسعي إلى تقريب وجهات النظر مع الدول الإقليمية الأخرى، فضلاً عن حركة الإصلاحات الداخلية «الصاخبة» التي انتهجها القادة في طهران، بكلّ ما فُرض عليها من ضوابط على سلوك سياستها الخارجية.
وبحلول عام 1989، وفي ضوء تولّي نخبة قيادية جديدة مقاليد السلطة في إيران، بدأت مرحلة جديدة من الانفتاح الإيراني على العالم الخارجي، والذي قام على اعتبارات تخفيف حدّة الصدام وجذب الأصدقاء، ممّا أسفر عن طي صفحة الحياد التي اتّبعتها موسكو تجاه إيران، والتي مهّدت لها أيضاً تلك الرسالة التي بعث بها مؤسّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني إلى الرئيس غورباتشوف في 5 كانون الثاني/ يناير 1989، والتي امتدح فيها التغييرات الجذرية التي طرأت على الأيديولوجيا الشيوعية في العالم . ثم جاءت زيارة وزير الخارجية السوفياتي الأسبق إدوارد شيفردنازده إلى طهران، وهي الأولى من نوعها، في إطار ذوبان الجليد في العلاقات الثنائية، وبما يخدم تعزيز نفوذ موسكو في الشرق الأوسط . كما أعطت زيارة هاشمي رفسنجاني إلى موسكو عام 1989 زخماً كبيراً في مستوى العلاقات الثنائية، خاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية، إذ تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات، كان على رأسها التعاون العسكري وتطوير الجيش الإيراني . ومنذ ذلك الوقت، أصبحت العلاقات العسكرية الروسية - الإيرانية واحدةً من أقوى العلاقات الثنائية على مستوى الشرق الأوسط، إذ صُنّفت إيران منذ ذلك الوقت من أكبر المشترين بالعملة الصعبة للمعدّات العسكرية الروسية.
في منتصف 1990، كان تعزيز العلاقات الروسية - الإيرانية في مقدّمة أولويات السياسة الخارجية الروسية، نتيجة للسياسات العملية التي صاغها وزير الخارجية الروسي "يفغيني بريماكوف"، والتي تواصلت إلى منتصف التسعينات. ويرى "جاليا جولان"، في كتابه "روسيا وإيران: الشراكة الإستراتيجية": "إن تحرّك بريماكوف من جهاز المخابرات إلى رأس وزارة الخارجية، كان له تأثير واضح على المواقف الروسية تجاه الشرق الأوسط والخليج بالتحديد" . وكان هذا ما يمكن ملاحظته في موقف بريماكوف المتعاطف مع إيران ودول أخرى في المنطقة.
لقد كانت موسكو تترقب الاتجاهات التي بات يسلكها النظام العراقي بعد حرب الخليج الأولى، والتي غلب عليها طابع ممارسة الهيمنة الإقليمية وفرض الوصاية، ليس في منطقة الخليج فحسب، إنما في الشرق الأوسط برمّته، وبخاصة في ظلّ نشوة «النصر» التي أسَرَت قناعة القيادة العراقية في ذلك الوقت، بأنها أصبحت القوّة الضاربة في المنطقة والتي لا تعلوها قوّة. وفي سياقٍ من هذه الاتجاهات، جاء اجتياح العراق للكويت في عام 1990 واحتلالها، وهو الأمر الذي أدّى إلى اندلاع حرب الخليج الثانية عام 1991 لطرد القوات العراقية من الكويت، وصولاً إلى إضعاف العراق بتدمير إمكاناته العسكرية، ممّا آذن باختلال التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط على وجه العموم؛ إذ نشأ واقع جديد على صعيد توازنات القوى الإقليمية. فغياب العراق كقوة موازنة في المنطقة كان بمثابة فرصة تاريخية بالنسبة لإيران، التي باشرت بالعودة إلى مكانة عسكرية شبه متكافئة مع العراق خلال فترة زمنية محدودة، وباتت دول المنطقة في موقف ضعيف إزاء إيران، فازدادت تبعيّتها للولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدورها دخلت كفاعلٍ رئيسيٍ في المعادلة الأمنية في المنطقة، إذا ما أخذنا في الحسبان الامتيازات الأمنية والعسكرية التي حظِيت بها واشنطن في الشرق الأوسط في خضم حرب «عاصفة الصحراء»، والتي جاءت متزامنة مع بروز الولايات المتحدة كقوّة عظمى أحاديّة مسيطرة على قيادة النظام العالمي.
مسار البراجماتية السياسية في الميزان
بحلول ذلك الوقت، لم تكن موسكو في موقفٍ يسمح لها بالوقوف في وجه المجتمع الدولي بشأن العراق. فإلى جانب النأي بنفسها عن التحالف الذي قادته واشنطن ضدّ العراق، سعت روسيا إلى الوساطة من جهة أخرى بين العراق وقوات التحالف، ولكنها لم تحل دون وقوع الحرب، مستجيبةً في ذلك للضغوط التي مورست عليها من قِبل الولايات المتحدة؛ ثم إن روسيا، في الوقت نفسه، كانت تضع لنفسها هدفاً ترويجياً من سياستها تلك؛ وقد ارتبط هذا الهدف بالمساعي الروسية حول استعادة تواجدها السياسي في المنطقة. وبتعبير آخر، فإن الكرملين كان يستهدف حماية مصالح موسكو الجيوسياسية في المنطقة. وقد أضحت بعض هذه المنطلقات أساسيةً في السياسة الخارجية الروسية إزاء الشرق الأوسط.
وضمن هذا الإطار، كانت موسكو تتّجه بسياستها الخارجية نحو تعزيز تحالفها الإستراتيجي مع إيران، القوّة الإقليمية الصاعدة في الشرق الأوسط. وقد كان هذا التوجّه الروسي يخدم أولويات الكرملين في الحفاظ على توازن القوى بين الفاعلين الإقليميين في المنطقة. فالروس كانوا يُدركون أنه في حالة غياب العراق عن معادلة التوازن الإستراتيجي في الإقليم، فإن المملكة السعودية ستكون الدولة الأوفر حظاً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لتولّي دور الهيمنة على الخليج، إذا ما أخذنا في الحسبان وجود الولايات المتحدة كعامل توازن رئيسي في المنطقة. ومن هنا بادرت موسكو باتخاذ خطواتٍ لتوسيع وتجهيز القوات المسلّحة الإيرانية لمسؤوليات مستقبلية في الإقليم، متجاوزةً في ذلك الحظر العسكري الغربي المفروض على طهران بموجب سياسة "الاحتواء المزدوج" الأمريكية؛ وقد كان ذلك كمحاولة من موسكو للتأثير في معادلات القوّة الإقليمية التي برزت على الخارطة السياسية عقب أزمة الخليج الثانية، والتي جاءت صدىً للتحوّل العاصف في تراتبية مكانة القوى العالمية في السياسة الدولية.
ولم يَفُت الكرملين في هذا السياق، النزعة الإيرانية بامتلاك السيادة الإقليمية ضمن نطاقها الجغرافي من جهة، والتأثير السياسي في محاور صناعة القرار ضمن تصوّرِها لدورها العابر للأقاليم من جهة أخرى. فإيران تنظر إلى نفسها باعتبارها قوّةً طامحةً تعارض النظام الدولي المتفرّد، وتعتقد في ذات الوقت أنها تمتلك رسالةً عالمية تتجاوز ما هو مفهوم عادةً بالنسبة للمصالح القومية الضيّقة؛ ولذلك كان توجّهها الجاد بمزاحمة السياسات الغربية عبر احتواء نفوذ القوى الغربية أو تهديد مصالحها الحيوية، فضلاً عن السعي الدؤوب للدخول في تحالفات هدفها زعزعة الأحاديّة الأمريكية في قيادة النظام العالمي؛ وهو ما تدعمه روسيا بصورة كبيرة، وأضحى يُمثّل أهم أولويات سياساتها الخارجية. وقد كرّست لهذا الغرض الكثير من الموارد والمجهودات.

المتغيّر الجيوبوليتيكي في السياسة الروسية
ثمّة متغيّر مهم ترتكز عليه موسكو بشأن التحالف مع إيران، ويرتبط بالسياسة الروسية في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. فإيران تقع في خط التماس للحدود الجنوبية الروسية، ولديها تطلعاتها بالنفاذ إلى جمهوريات آسيا الوسطى التي تربطها بها علاقات دينية وعرقية ولغوية؛ وهو الأمر الذي أضحى نذير خطر بالنسبة لموسكو بعد صعود النظام الثوري في إيران، ممّا فرض على النخبة الروسية التحرك في إطار احتواء تلك التطلعات الإيرانية وتحييد أيّ دور (محتمل) لطهران في مناطق آسيا الوسطى والقوقاز؛ وهي المناطق التي تُمثّل المجال الحيوي الروسي؛ بل إنها تُعتبر اللبنة الأساسية بالنسبة لقضية الحفاظ على وحدة الأراضي الروسية. ومن المنظار الإستراتيجي، تتبدّى الضرورات الأمنية الروسية في إطار التقليل من مستوى التهديدات المحتملة في خاصرتها الجنوبية. وهكذا تبرز الوضعية الجيوبوليتيكية كإحدى الثوابت الأساسية في السياسة الخارجية الروسية. وقد كان أكثر ما يشغل روسيا في هذه الاتجاه، هو ضمان استمرار تحييد إيران عن اللعب بالورقة الإسلامية في الأقاليم المسلمة الواقعة في جنوب روسيا والمتاخمة لإيران، مع الأخذ بعين الاعتبار الوزن الديمغرافي للمسلمين الروس. ولذا ما تزال المؤسسة الروسية قلقة إلى درجة كبيرة من التأثيرات الحادّة للإسلام السياسي على مواطنيها المسلمين في الجمهوريات الجنوبية ذات الحكم الذاتي؛ فوفقاً للمنطق السائد في روسيا، أن الأصولية الإسلامية تنطوي على تهديدات جادّة للدولة، بوصفها تستخدم الإرهاب وسيلةً في صراعها مع الآخرين. وفي نظر كثيرين في مؤسسة الحكم في موسكو، فإن التجربة الروسية في هذا السياق تشير إلى أنه من السبل المهمّة للحيلولة دون بلوغ الإسلام السياسي ذروته في آسيا الوسطى، التنسيق مع الدول الإسلامية ذات التأثير في تلك المنطقة، في إطار تلاقي المصالح الأمنية التي تفرضها قواعد الجغرافيا والديموغرافيا. وعلى ذلك، تبدو العلاقة مع إيران ضروريةً في الإدراك الإستراتيجي الروسي.
وإلى جانب ذلك، سعت روسيا إلى الاستفادة من خصائص محدّدة من طبيعة الوضعية الجيواستراتيجية لإيران، لكونها تُطلّ على بحر قزوين، الذي يتمتع بثروة نفطية ضخمة من الممكن أن تجعل منها منافساً قوياً لنفط الخليج. فالدول المطلّة على بحر قزوين تستحوذ على احتياطي مؤكد من النفط بحوالي 200 مليار برميل، بما يعادل 4 تريليون دولار أمريكي. وقد ظهرت مؤشّرات التنافس الدولي للسيطرة على تلك المنطقة في النصف الثاني من التسعينات، من خلال حرص الولايات المتحدة الأمريكية على تكثيف قواعد وجودها وإبرام عقود نفطية مهمّة مع جمهورية أذربيجان على حساب النفوذ الروسي والإيراني؛ وهو الأمر الذي أثار ردود فعل صاخبة في الأوساط السياسية في موسكو وطهران؛ إذ اعتبر الإيرانيون التدخل الأمريكي في بحر قزوين خطأ تاريخياً ارتكبته أذربيجان . وكان ردّ روسيا على ذلك أكثر حدّةً، على لسان الرئيس بوريس يلتسين، الذي هدّد بالتصدي لأيّ نفوذ أمريكي محتمل في القوقاز . ثم إن موسكو تحاول الاستفادة من التعاون مع إيران في استثمار ثروات بحر قزوين، مع التحفظ على ميول إيران للاستئثار بالثروات النفطية في تلك المنطقة، وبخاصة عندما رفضت موسكو فكرة تقسيم النفط القزويني بنظام المحاصصة بين الدول المشاطئة لبحر قزوين .
لذا تتّضح أهمية إيران بالنسبة للتخطيط الإستراتيجي الروسي بشأن أمن الطاقة، خاصةً في ضوء مسعى الولايات المتحدة بشكل خاص في سياق استهدافها للمناطق الإستراتيجية الموازِنة للشرق الأوسط المضطرب، لجهة فكّ ارتباطها في الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، لا سيما إذا نظرنا إلى الجهود الأمريكية الدؤوبة لإيجاد مزوّد آخر بالنفط يعوّضها عن فقدانها للطاقة في هذه المنطقة التي توصف بعدم الاستقرار. وكان زبيغينيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، قد قال في ذات الصدد: "إن منطقة بحر قزوين ستكون في العقود القادمة مكاناً للتنافس حول الهيمنة والنفوذ العالميين، حيث تزخر المنطقة بثروات نفطية مهولة .      
وعلى الدرجة نفسها، فإن موسكو تدرك أهمية وجود إيران في إطار مسألة تقليص النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى، في ضوء تزايد الاهتمامات الإيرانية بمحيطها الإقليمي. وحتماً، فإنه إذا ما أرادت موسكو أن تحتفظ بهيمنتها في منطقة آسيا الوسطى في إطار صراعها مع الغرب، من المتعيّن عليها أن تعمل على تطوير العلاقات البيْنية مع إيران، لجهة استثمارها كورقة رابحة في موازنة الضغوطات الأمريكية، إذا ما أخذنا في الحسبان مكانة إيران في دائرة إزعاج الولايات المتحدة ومناهضة السياسات الغربية.
كما أن بوسع موسكو أن تستفيد من سياستها تجاه إيران، في العمل على إنهاك الولايات المتحدة الأمريكية، عبر إفشال استراتيجياتها في الشرق الأوسط، وإشغالها في مشاغبات على أكثر من جبهة، لجهة التخفيف من وطأة القبضة الأمريكية على النظام العالمي.

الأولويات الاقتصادية في النسق السياسي الروسي 
انطلاقاً من تلك الافتراضات الواقعية، يمكننا تفسير المنهجية الروسية التي ظلّ يتعاطى بها الكرملين إزاء قضية البرنامج النووي الإيراني طيلة الحقب الزمنية الماضية، بما ترتّب عليها من التزام بتطوير مصلحة جذرية وإيلاء اهتمام أكبر بشأن ملف إيران النووي، لجهة فرضه على التوازنات الدولية. وربما كانت الثقة التي تحققت ثنائياً بين الروس والإيرانيين، إلى جانب المصلحة في الحفاظ على العلاقات البينية وتطويرها، قد سهّلتا من مهمة موسكو في احتضان المساعي النووية لطهران؛ بل إنها أدّت إلى التزام روسيا بالاتفاقيات التي أبرمتها مع إيران بخصوص بناء وتطوير مفاعلاتها النووية، وفي مقدّمتها مفاعل بوشهر النووي. فإلى جانب التقاء مصالح الطرفين في مزاحمة وتحدّي النفوذ الأمريكي، فإنه ثمّة عامل آخر على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للاستراتيجية الروسية إزاء تعزيز قوّة إيران نووياً، إذ يرتبط هذا العامل بمتطلباتٍ ذات صلة بتحديث الاقتصاد الوطني الروسي، وهو العامل الذي يؤثّر تأثيراً مباشراً في خيارات السياسة الروسية، بما فيها السياسة الخارجية؛ بل إنه في ضوء الدينامية الدولية التي تطوّرت في عالم ما بعد الحرب الباردة، أصبح الاقتصاد محرّكاً رئيسياً للسلوك السياسي في روسيا، إذا ما أخذنا في الحسبان أن التداعي الذي أصاب الاقتصاد المركزي إبّان الحقبة السوفياتية، كان أحد المتغيرات الرئيسية في سقوط روسيا من معادلة القطبية الثنائية، الأمر الذي اقتضى أن تكون السياسة الخارجية مبنيّة على أسس مغايرة تماماً في جوهرها، في إطار إعادة هيكلة الأهداف الإستراتيجية الكبرى، سياسياً واقتصادياً. 
ولقد وجّهت الحكومة الروسية لاحقاً معظم نشاطات سياستها الخارجية نحو تهيئة ظروف دولية مواتية لاقتصادها ضمن الإطار الإستراتيجي، بالنظر إلى الارتباط الوثيق بين العوامل الاقتصادية للدولة وقدرتها على التأثير في النسق الدولي. وقد وجدت موسكو ضالّتها وفق هذا الاتجاه في برنامج إيران النووي، إذ يمكنها توظيفه بما يخدم متطلبات السياسة الاقتصادية للبلاد، من خلال العائدات التي تجنيها من شراكتها النووية مع إيران؛ فضلاً عن تشغيل أعداد كبيرة من الخبراء والقوى العاملة الروسية في المحطات النووية الإيرانية. كما لم يعد في وسع موسكو أن تُسقط من حساباتها الارتدادات الإستراتيجية للأزمة النووية الإيرانية في سعيها لفرض أجندتها العالمية على القوى الغربية.
وما من شك في أن روسيا كانت تسعى للاستفادة من هذه التحالفات الاقتصادية لتحقيق بعض المكاسب السياسية لسياستها الخارجية، باعتبارها إحدى أدوات ممارسة الضغط السياسي والتأثير في قواعد اللعبة السياسية. ففي حين كان الروس يتطلعون إلى العُملة الصعبة المتحصلة من المشروع النووي الإيراني، فإنهم في ذات الوقت كانوا يراهنون على المشروع ذاته في سياق الصراع مع الغرب؛ إذ كانت موسكو تنظر إلى هذه القضية على أنها تُمثّل فرصة مواتية يمكن المراهنة عليها في السياسة الدولية، لجهة منح موسكو مساحة في المناورة السياسية والمساومة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يضمن للكرملين القيام بدورٍ ضاغطٍ على المجتمع الدولي لانتزاع قدر أكبر من الاستجابة للمطالب والمصالح الروسية، في إطار التحوّل من سياسة الحياد إزاء العالم الخارجي إلى سياسة الفعل والمبادرة.
ومنذ عام 2000 فصاعداً، بدأ التطوير النووي الإيراني يلعب دوراً مركزياً في العلاقات الثنائية بين روسيا وإيران، وبخاصة في ضوء انسحاب روسيا الأحاديّ الجانب من البروتوكول السرّي (المعروف باسم اتفاق غور ـ تشيرنوميردين)، الذي وقّعت عليه موسكو عام 1995، والذي بموجبه يُحظر على روسيا التعاون العسكري مع إيران، وخاصة في برامجها النووية. وقد اتخذت روسيا سلسلة من الخطوات العملية لاستكمال بناء مفاعل بوشهر النووي في ايران، وهو المشروع الذي كان تم تجميده في عهد الرئيس بوريس يلتسين، ممّا أدّى إلى انتعاش التعاون العسكري والتكنولوجي بين الطرفين، والذي اكتمل بالدعم الدبلوماسي للموقف الإيراني بشأن البرنامج النووي. وقد حافظت روسيا من خلال هذا الدعم على نبرة موحّدة في خطابها السياسي أمام المجتمع الدولي بالنسبة لملف إيران النووي، حيث ظلّت تعارض تكرار سيناريو استخدام القوّة العسكرية إزاء الملف النووي الإيراني، في وضعٍ مماثلٍ لما تعرّض له العراق في التسعينيات. كما أنها عارضت فكرة تشديد العقوبات الاقتصادية على النظام الإيراني، وهو الأمر الذي سعت روسيا إلى تقييده عند الحدود التي لا تتضرّر فيها مصالحها الاقتصادية في طهران. فعندما استجابت روسيا للضغوطات الأمريكية بشأن معاقبة إيران، كانت تحاول تقنين تلك العقوبات في مسار إقناع الإيرانيين للتوجه نحو مزيدٍ من التعاون مع المجتمع الدولي، وليس فرض العقوبات في حدّ ذاتها. ولم يكن من العبث إزاء هذا الأمر أن النخبة الروسية كانت تُدرك انعكاس فرض عقوبات من هذا النوع على روسيا نفسها، إذا ما أخذنا في الحسبان حجم التجارة البيْنية بين روسيا وإيران، وبحكم الروابط الاقتصادية الكبيرة بينهما. فعلى سبيل المثال: لو تمكنت الدول الغربية من توسيع نطاق الحظر الاقتصادي على طهران، فإن روسيا ستكون أكثر الخاسرين. لذا هي هي سعت إلى تحييد تأثير العقوبات على مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري مع إيران.

عامل التوازنات في المعادلة الإقليمية
في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين وتراجع مكانة روسيا في العراق، كانت إيران الدولة الأوفر حظاً ضمن دوائر السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط، في إطار انقلاب الأوضاع الإستراتيجية في المنطقة، والتي تزامنت مع السياسات الإصلاحية التي انتهجها الرئيس الإيراني محمد خاتمي، الذي رفع شعار إزالة التوتر والانفتاح على العالم الخارجي لجهة إخراج إيران من العزلة الدولية؛ وهو الأمر الذي عزى بالإيرانيين إلى التوجه إلى موسكو، بوصفها قوّة عظمى شريكةً في قيادة النظام الدولي. وإلى يومنا هذا، فإن العلاقات الروسية ـ الإيرانية تتطور على طول خطٍ مماثل.
وبما أن الحرب على العراق جاءت في إطار فشل السياسة الأمريكية في تطويع النظام العراقي عبر استراتيجية "الاحتواء المزدوج"، وهي الخطّة التي كانت تستهدف إيران في شقّها الآخر ضمن الإستراتيجية الأمريكية الرامية لإحداث تحوّلٍ في منطقة الشرق الأوسط، بما ينسجم مع التوجّه الجديد لإدارة الرئيس بوش الابن، وبخاصة في ضوء دخول الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً رئيسياً في النظام الإقليمي في المنطقة؛ إذ أضحى لدى المحافظين الجدد في واشنطن اعتقاد سائد بأن الحالة العراقية قابلة للقياس في دول المنطقة ككل، وبخاصة "الدول المارقة" التي تقع ضمن منظومة «محور الشر» المعادية للسياسة الأمريكية. وعلى النقيض من ذلك، كان صنّاع السياسة في الكرملين على إدراك تام لحقيقة أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى تكرار سيناريو احتلال العراق في إيران، لجهة تغيير النظام السياسي الثوري؛ وهو الأمر الذي حاولت واشنطن عبثاً ولفترة طويلة أن تحقّقِه، لا سيّما وأن احتواء إيران كانت المهمة الأصعب بالنسبة للأمريكيين، نتيجة فقدانهم ذلك الإجماع الدولي الذي لاقوه في حالة العراق؛ ثم إن وجود روسيا كقوّة عظمى ممانعة إلى جانب إيران كان يضع قيوداً على التحركات الأمريكية في هذا الصدد، لا سيّما وأن موسكو كانت تتّجه إلى إعادة التموضع في مكانتها الإقليمية بعد خسارتها حليفها المهم صدّام حسين.
لقد تعزّزت رغبة روسيا بشكلٍ حاسمٍ في الحؤول دون تكرار تلك «الغلطة» التي كانت مفروضة على الكرملين. وحاولت من خلال تحالفها مع الصين وكوريا الشمالية تأسيس جبهة سياسية لتُشكّل ثقلاً موازياً للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، وذلك استجابةً لرغبتها في أن تُظهِر نواياها الحميدة تجاه الشرق الأوسط. بل إنها بالإضافة إلى ذلك سعت إلى استثمار المشاعر المعادية للولايات المتحدة التي اجتاحت العالم الإسلامي، بوصفها باتت تضطلعُ بدورٍ سلبيٍ في الشؤون العالمية، مما جعل السياسة الخارجية الروسية تُشرك إيران كحليفٍ في دعم صراعها مع الإمبريالية الأمريكية.               
وفي إطار هذه العلاقة، أسهمت روسيا بشكل فعّال في تعزيز حضور إيران على الساحة الإقليمية، وأيّدَت طموحاتها النووية. بل وتبنّت تصوّرات إيران حيال الأوضاع الأمنية في النظام الإقليمي في الخليج والشرق الأوسط. وكان الكرملين قد اتخذ موقفاً قاسياً ضدّ الغرب بشأن الخلاف حول إيران. وهو الموقف الذي كان يخلق شعوراً باحترام الذات لدى صنّاع السياسات في موسكو، بل والشعب الروسي بوجه عام، انطلاقاً من الاعتقاد بأن روسيا يمكن الوثوق بها لكن لا يمكن التنبّؤ بأفعالها.

تجلّيات الصراع الدولي على العلاقات الروسية ـ الإيرانية
هناك مخاوف جادّة مبعثُها نزوع الولايات المتحدة الأمريكية إلى توسيع الرقعة الجغرافية لحلف الناتو في شرق أوروبا. وهو الأمر الذي أضحى في العقيدة العسكرية الروسية يُمثّل أكبر التهديدات الجيوسياسية للأمن القومي الروسي، بوصفه يصب في إطار محاصرة العمق الإستراتيجي لروسيا . وقد كانت النخبة الروسية تنظر إلى هذه الخطوة على أنها موجّهة في الأساس نحو احتواء روسيا، تمهيداً لفرض ميزان للقوى في أوروبا تتولّى فيه الولايات المتحدة دور الموازن الوحيد فيها؛ وقد كان لذلك تأثير مهم في الأحكام الجيوسياسية للكرملين، والتي دفعت الرئيس يلتسين في أواخر التسعينات إلى التلويح بالترسانة النووية الضخمة والإستراتيجية الروسية المصمّمة لردع تلك التهديدات. لقد بدأت روسيا وإيران السير في طريق شراكة استراتيجية تستهدف مضاعفة قوّتهما في التصدي للولايات المتحدة، لا سيّما وأن إيران تشترك مع روسيا في نفس تلك المخاوف، مع احتمالية تمدّد الحلف إلى الخاصرة الجنوبية لروسيا، وهي نفسها المناطق القريبة لإيران من الجهة الشمالية إلى الغرب الأعلى.  
وعلى صعيد آخر، ظهرت مخاوف أخرى لدى الساسة الروس، منشؤها مساعي الأمريكيين في كانون الثاني/ يناير 2007 لتنصيب مشروع (الدرع الصاروخية) في دول محدّدة في أوروبا الشرقية، والذي اعتبرته موسكو موجّهاً ضدّها بالدرجة الأولى، ممّا خلق حالة من الشك في نوايا حلف الناتو وتوجهاته، فرضت على موسكو أن تُعيد النظر في علاقاتها السابقة مع الحلف ومع بعض الدول الأوروبية، لتستعيد في ذلك مفردات الحرب الباردة والصراع الكوني، في حين نفت قيادة الحلف أن يكون لهذا المشروع أيّ أبعاد هجومية تستهدف روسيا، مشيرةً إلى أنه يأتي في سياق الالتزامات الدولية للحلف تجاه أعضائه في تلك المنطقة، مستغلّةً في ذلك النزعة الإيرانية بامتلاك صواريخ استراتيجية قد تهدّد الأراضي الأمريكية وحلفاءها في أوروبا. غير أن الكرملين لم يكن مقتنعاً بنزاهة المبرّرات التي تسوقها الإدارة الأمريكية بشأن منظومة الدرع الصاروخي. وقد أكّد الكرملين على عِظم المخاطر التي يشكّلها هذا البرنامج للمصالح الروسية، لكونه يقوّض الاستقرار العالمي الطارد ويخلّ بميزان القوّة الذي يحكم القدرات الصاروخية النووية. كما أن تنفيذ مبادرة الضربة العالمية الفورية "PGS" ، سيُتيح للولايات المتحدة توجيه ضربات استراتيجية من دون استخدام الترسانة النووية، وبالتالي سيضمن هيمنتها السياسية والجيواستراتيجية على العالم .
وبحلول ذلك الوقت، كانت التوجهات الروسية تتعارض بشدّة مع التصورات الأمريكية التي تبنّتها إدارة الرئيس بوش، وبخاصة بعد قرارها بنشر منظومة الصواريخ الاعتراضية في جمهورية التشيك وبولندا، بحجّة درء تهديدات وشيكة من إيران أو كوريا الشمالية؛ إذ كان الروس يُفنّدون تذرّع واشنطن بامتلاك إيران صواريخ استراتيجية بعيد المدى، أو أن إيران قادرة على ضرب العمق الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية . ولعلّ من الأمثلة المثيرة على السياسة الخارجية الروسية حيال هذا الأمر، ما فعله الرئيس فلاديمير بوتين عندما كان يضحك ساخراً بشأن ادّعاءات الناتو أن المنظومة تستهدف إيران وليست ضد روسيا .
وفضلاً عمّا سبق، فإن برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي قد تمّ تصميمه ليكون شقاً من استراتيجية واسعة النطاق تهدف إلى التأثير على الدور الروسي في الساحة العالمية، عبر تهيئة الظروف لخلق مرحلة جديدة من التفوّق الإستراتيجي في أوروبا لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. إذ يعتقد صانعو القرار في واشنطن أنه بالإمكان إحداث تحوّل في سلوكيات السياسة الخارجية الروسية مع مرور الوقت، وبخاصة في مسألة التعاون العسكري الذي يجمع بين روسيا والدول المعادية للغرب، كالعلاقة الترابطية بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ ولا ريب في أن ذلك ثقيل الوطأة على الوعي السياسي ـ الإستراتيجي لدى نخبة صنع السياسة والقرار في روسيا، لكونه يهدّد محوراً مهماً ضمن محاور السياسة الخارجية الروسية.
أما الشقّ الآخر من هذه الاستراتيجية، فيتمثّل في ممارسة الضغط قدر الممكن على موسكو لجهة التخلي عن وقوفها إلى جانب إيران في مسألة التحرّر من العقوبات الدولية وتجريدها من طموحاتها النووية. وفيما يبدو، فقد برزت الحاجة لدى الأمريكيين في محاولة ابتزاز روسيا ومساومتها على موقفها المتصلّب إزاء الأزمة النووية بين الغرب وإيران، كما يبدو أن واشنطن سعت إلى عقد صفقة مع موسكو، يتجاوز خلالها الطرفان أجواء التوتر الناشئ بسبب برنامج الدرع الصاروخي. فقد ظهرت في واشنطن وجهة نظر واسعة الانتشار حول اللعب بورقة منظومة الدرع الصاروخي في شرق أوروبا، لجهة لجم السياسة الروسية وعزلها عن إيران بوجه خاص. والحقيقة أن الموقف الأمريكي في سياق هذه الصفقة، كان مبنياً على شعورٍ كبيرٍ بعدم الاطمئنان من التبعات الإقليمية والدولية للتصعيد مع روسيا. ولم يكن الساسة الأمريكيون مقتنعين أن إيران تشكّل فعلياً خطراً فورياً؛ كما كانوا يشكّكون في مدى نجاعة مشروع الدرع الصاروخي على المدى البعيد، لا سيّما وأن هذا المشروع جاء كوسيلة لحفز الكرملين على مسايرة الموقف الدولي والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية لمناقشة القضايا العالمية.
بيْد أن منطق موسكو ينبع من رؤيتها للأبعاد الإستراتيجية لتنفيذ هذا المشروع بالقرب من مجالها الحيوي، باعتباره التهديد الأهم لأمنها وسيادتها، ومن عدم قبولها سياسة فرض الوقائع التي يتّبعها المحافظون الجدد في واشنطن، والتي تُجبر موسكو على التخلّي عن استقلاليتها الإستراتيجية ويُخضعها للمصلحة الأمريكية في هدف الحيلولة دون أن تكون روسيا طرفاً مؤثّراً في السياسة الدولية. لذا، فإنه يتعذّر علينا أن نتفهم تطوّر السياسة الخارجية الروسية دون أن نأخذ في الحسبان دينامية العلاقات بين روسيا والغرب.
عندما وصلت حكومة الرئيس باراك أوباما إلى السلطة مع مطلع عام 2009، بادرت إلى إجراء تقييم شامل لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد حالة النظام العالمي وديناميات العلاقات الحاكمة للدول الكبرى بعضها ببعض، انسجاماً مع شعار "الحوار والتفاوض مع الأعداء قبل الأصدقاء" الذي رفعه "الواقعيون الجدد" أو الديمقراطيون خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية وقتذاك. وكان ذلك ينسجم أيضاً مع توجّهات الرئيس أوباما بتخفيف حدّة التوتر مع القوى الكبرى، والدفع باتجاه تعزيز حالة الوفاق الدولي في إطار الالتزام بالتعدّدية القطبية، والعودة إلى الدبلوماسية الواقعية للتحكم في التفاعلات الدولية. كما أنه توفّرت لدى إدارة أوباما نيّة للعمل ضمن إطار سياسة إزالة مسبّبات النزاع مع روسيا بشكل خاص، لجهة صياغة نموذج جديد للعلاقات الأمريكية ـ الروسية؛ وهي القضية التي أصبحت ضمن الأجندة السياسية الرئيسية للإدارة الأمريكية في عهد أوباما. ولم تعبّر مؤسسة الحكم في موسكو حيال ذلك عن أيّ معارضة جدّية لمثل هذه السياسة، لكونها تضمن دور روسيا في المنظومة الدولية.
ومن الأهداف الحاسمة لمثل هذه السياسة، محاولة استمالة روسيا بطريقة بنّاءة في الحوار، لجهة الضغط على إيران لتوقيف برنامجها النووي المثير للجدل، بما في ذلك رفع مستوى التنسيق مع روسيا في قضية ضبط الانتشار النووي العالمي. وضمن هذا الإطار، عرض الرئيس أوباما التخلّي عن بناء منظومة الدرع الصاروخي في أوروبا كخطوة لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، وبما يضمن تجاوب موسكو مع المجتمع الدولي في تقديم بعض التنازلات خلال المحادثات الإستراتيجية بشأن إيران . وقد أُثيرت حول هذا الأمر محاولة لإبرام صفقة كبرى في مجال الأمن الدولي .
وكان هذا هو محور النظرية بالنسبة للأمريكيين. غير أن الولايات المتحدة حاولت صياغة فرضيات محدّدة لتَعْرِضها على الساسة في روسيا، بشأن التهديدات التي يحملها البرنامج النووي الإيراني، والتي من أبسطها نشوء حالة من سباق التسلّح النووي في الشرق الأوسط؛ وهو الأمر الذي يتعارض مع الإستراتيجيات الدولية للحدّ من التسلّح، كضرورة للحفاظ على التوازن الإستراتيجي. فضلاً عن أن امتلاك إيران للسلاح النووي في ضوء سيطرة نظام الثورة المتشدّد، قد يدفع الإيرانيين إلى مزاحمة السياسات الروسية في المستقبل، وبخاصة في آسيا الوسطى، وهو السيناريو الذي ترفضه موسكو بالمطلق . ولم تُخفِ السلطات الروسية البتّة وجهة نظرها بأن النظام الإسلامي المُسلّح نووياً على الجهة الجنوبية لروسيا قد يكون أقلّ تعاوناً من ذي قبل في قضايا السياسة ذات الحساسية في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، بالشكل الذي يقوّض من نفوذ موسكو في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة .  
وقد فُسّرت هذه التطورات لدى الأوساط في السياسة الخارجية الروسية، على أنها جاءت في إطار سياسة "إعادة التعيين" التي تمّت صياغتها بين روسيا والدول الكبرى بشأن إيجاد تسوية سياسية لأزمة البرنامج النووي الإيراني. وليس هناك من يُنكر فعلياً حقيقة أن الموقف الروسي بشأن القضية النووية الإيرانية لا يكمن في سياق الشراكة الإستراتيجية بين روسيا وإيران، بل إنه يتأثّر بدينامية العلاقات الروسية - الأمريكية بشكل أكبر من تأثّره بالتهديدات الإيرانية في هذا الصدد.
ويترتب على هذا الالتزام بطبيعة الحال إيلاء اهتمام أكبر بالتخلّي عن النقاط المثارة للخلاف بين الجانبين، وأهمها قضايا الانتشار النووي، بما في ذلك تجنّب نقل الأسلحة الإستراتيجية إلى الدول المحظورة. وهو الأمر الذي التزمت به روسيا في نطاق تعاونها العسكري مع إيران، على نحوٍ اتضح في تهاون موسكو في تسليم إيران صفقة منظومة صواريخ S-300 إلى طهران في العام 2010؛ الأمر الذي أضعف من مساعي إيران في بناء منظومة الدفاع عن منشآتها النووية، ووضع العلاقة الثنائية مع روسيا في موقف صعب؛ ولكنه لم يُفسد مسار تلك العلاقة الإستراتيجية، حيث أعلن المسؤولون في موسكو حيال هذا الأمر أن "روسيا ملتزمة بما هو مسموح وبما هو محظور بشأن التعاون مع إيران، ولكن التعاون سوف يستمر" .  
ومن المثير للاهتمام في السياق نفسه، أن إلغاء صفقة الصواريخ S-300 جاء في الوقت الذي بلغت فيه الصادرات العسكرية الأمريكية إلى المملكة السعودية - وهي الحليف الإقليمي الرئيسي والتقليدي للولايات المتحدة ـ مستويات قياسية، حيث وصلت قيمتها الإجمالية إلى 60 مليار دولار، بالإضافة إلى العقود الموقّعة لبيع السعودية طائرات مقاتلة بمليارات الدولارات؛ فضلاً عن الخطط الأمريكية لإقامة منظومات دفاعية استراتيجية في الخليج لحماية المصالح الحيوية. ولهذا السبب، فإن الروس كانوا يفكّرون بجديّة للعودة إلى تمرير الاتفاقية المبرمة لتوريد صفقة S-300 لإيران من جديد، بوصفه شكلاً فاقعاً من ردود الأفعال لجهة الضغط على الأمريكيين في إطار الحفاظ على التوازن الإقليمي؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن إيران هي المنافس الرئيسي للمملكة السعودية في المنطقة.
كما أن روسيا تعتبر أن أكثر ما يهمّها في ظلّ هذه الحالة، الحيلولة دون أن تصوغ الولايات المتحدة الأمريكية وحدها قواعد لعبة توازنات القوى في الشرق الأوسط، في حين كانت حريصة على ضبط الطموحات النووية لإيران، حيث كانت موسكو تلتقي مع منظومة الأسرة الدولية في الحدّ من الأبعاد العسكرية (المفترضة) للبرنامج النووي الإيراني، كضرورة للحفاظ على السلم والاستقرار العالميين. كما لم تُقلّل موسكو من جديّة المخاوف الدولية فيما يتعلق بتصرفات إيران، وهو ما ساعد في تغيير موقف روسيا لصالح تأييد قرارات مجلس الأمن الدولي بحق إيران، لجهة الضغط عليها للانصياع إلى المعاهدات الدولية ذات الصلة بالمسألة النووية، وبما يعزّز من فرص العودة إلى التفاوض في تسوية أزمتها النووية. وربما بفضل الثقة التي تحققت في هذا السياق، تمكنت روسيا من أن تلعب دور الوسيط الفاعل بين إيران والمجتمع الدولي؛ بل وأصبحت بعد ذلك هي الضامن الأساسي لتنفيذ الاتفاق وجزءاً لا يتجزّأ منه، لكونها المسؤولة عن التزام الجانب الإيراني بالشروط التفاوضية، بهدف استعادة الثقة الدولية في حصرية الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني. ولكن علينا ألاّ نفترض عملياً المصالح الحيوية لروسيا في طبيعة المفاوضات النووية نفسها؛ فعلى الرغم من أن هذه المفاوضات تُمثّل ورقة رابحة في يد روسيا في سياق الأزمة النووية مع إيران، لما تنطوي عليه فوائد للسياسة الخارجية الروسية، وبخاصة تعزيز مكانة روسيا كقوّة عالمية في التسويات السياسية للقضايا الدولية والإقليمية، فإن ساسة الكرملين كانوا يرون أهميةً مضافةً في المماطلة لأقصى حدٍ في سير العملية السياسية مع إيران أكثر من إعاقتها بالكليّة، وذلك لاعتبارات تتعلق بالمساحة المتاحة للمناورة والمقايضة في قضايا استراتيجية أخرى لا تقلّ أهمية، كالوضع العام في الشرق الأوسط والأزمة في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وشرق أوروبا عموماً.
وفق هذه المنهجية، كانت النخبة السياسية تعتقد أنها أمام فرصة تاريخية في كلّ مرّة تتعرقل فيها عملية التسوية السياسية بشأن البرنامج النووي الإيراني، على اعتبار أن ذلك يساعد في تمرير سياستها بتحقيق نوع من توازن القوّة الإقليمية، موازاةً لتلك القوى التي تدعمها واشنطن في الضفة الأخرى من الخليج؛ وهو ما يصب في نهاية المطاف في إطار تقوية نفوذ إيران، لتكون قوّة مؤثّرة في المنطقة، بوصفها واحدة من ركيزتي السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط.
لقد كانت موسكو دائماً، بوصفها العضو الدائم في مجلس الأمن، والعضو المحوري في مجموعة (5 + 1) المكوّنة من الدول الست في مجلس الأمن، داعماً صريحاً لسياسة الحلول الدبلوماسية للمسائل الدولية. لذا ظلّت حريصة على الدفع باتجاه استئناف المحادثات النووية مع طهران طيلة السنوات الماضية، كما شجّعت الإيرانيين على التحلّي بالمسؤولية الكاملة إزاء الالتزامات السياسية تجاه المجتمع الدولي وقواعد القانون الدولي؛ كما رفضت موسكو تلك المحاولات الرامية إلى فرض قيود من جانب أحاديّ إزاء القضية الأساسية في المحادثات، باعتبارها تُقوّض الجهود المشتركة وتخرق الإجماع الدولي؛ وهو الأمر الذي قد يُعزّز من درجة التشدّد لدى الإيرانيين ويدفعهم إلى التشكيك في نوايا القوى الدولية، ممّا يعني إثارة المزيد من المواجهة وعدم الثقة في العملية التفاوضية. ويعتقد المسؤولون في الاتحاد الروسي أن نهج المواجهة قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة لن تنحصر على الصعيد الإقليمي فحسب، إنما أيضاً على المستوى العالمي، لاعتبارات ترتبط بالمتغيرات الجيوسياسية والجيوستراتيجية. وأخيراً، هم حذّروا من أن إيران، بحسب خبرة روسيا التاريخية، لن تتعاون تحت الضغط أو أنه يمكن جرّها إلى التفاوض بالإكراه.
المتطلّبات الأمنية الروسية
إذا ما أردنا أن نتحدث في سياق أعم، يمكننا القول إن روسيا قد تعاملت مع ملف الأزمة النووية انطلاقاً من اعتبارات خاضعة للمنهجيات الأمنية التي تُشغل صنّاع السياسة في روسيا. فإلى جانب مخاوف الروس من امتلاك إيران (المفترض) للقنبلة النووية على حدودها الجنوبية، فإنهم في ذات الوقت كانوا يعمدون إلى الحيلولة دون انهيار المفاوضات مع إيران تجنّباً للانزلاق في مواجهة عسكرية قد تكون روسيا هي الخاسر الأكبر فيها ضمن تبعاتها الجيوسياسية؛ إذ إن انهيار النظام الإيراني من شأنه تكرار سيناريو خسارة شراكة قوية لروسيا في الشرق الأوسط، فضلاً عن تأثيره على الاستقرار في مناطق آسيا الوسطى، إذ من المحتمل أن يخلق نقطة ضعف حسّاسة لروسيا في قيادتها لتلك المنطقة، مع إمكانية تدخل الغرب للتأثير على الدول المجاورة لروسيا.
وهنا تبرز حقيقة أخرى من المهم الإشارة إليها في هذا السياق، وهي العلاقة الترابطية السلبية التي اكتشفها الساسة في الكرملين بين ملف إيران النووي وبين الأزمة الأوكرانية، مع إدراكهم لأهمية إيران ضمن الأولويات الأمنية القومية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فكلّما تعثّرت عملية المفاوضات النووية مع إيران تصعّدت الأزمة السياسية بشأن أوكرانيا. وكلّما أخفقت موسكو في تقريب وجهات النظر بشأن المحادثات النووية، تعطّلت جهودها بشأن احتواء العزلة الغربية ضدّها بسبب أوكرانيا؛ وقد كان ذلك صحيحاً، ولا سيّما عندما نفت موسكو مراراً أن تكون الأزمة بينها وبين الغرب بسبب أوضاع أوكرانيا لها تأثير على مسار المحادثات النووية بين إيران والقوى الكبرى. وحتى على الرغم من التهديدات التي أطلقها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، باضطرار روسيا للقيام بعمليات انتقامية تجاه الغرب إذا لزم الأمر، في إشارةٍ للتلويح بالورقة الإيرانية في الأزمة مع الغرب، إلا أن ذلك كان يأتي في إطار المساومة السياسية مع الغرب أكثر من كونه حياداً عن الالتزام بالجديّة في التفاوض، إذ امتنعت موسكو عن الاعتراض على ضغوطات الأمم المتحدة التي أجبرت في النهاية الإيرانيين على التفاوض بشكل جدّي. وفي الوقت نفسه، امتنعت موسكو عن لعب دور المفسد في المفاوضات، تحسّباً من مضاعفة الخطر على مصالحها الحيوية، واحترازاً من رفع مستوى العقوبات الغربية عليها . بل إن موسكو كانت تحاول إقناع الأمريكيين بأن يركنوا لها في الحصول على التنازلات من جانب إيران، وقد كان ذلك يُعبّر عن إحدى الأوراق الرابحة للسياسة الروسية على صعيد العلاقات مع الغرب .
لكن ما الذي كان يجول في خاطر صانعي السياسات في موسكو خلال مسيرة التفاوض مع إيران وما سينشأ في أعقابها، وبوجه خاص في حال توصلت الأطراف المتفاوضة إلى اتفاق نهائي للأزمة؟ إن أهم ما كان يدفع السياسة الروسية إزاء صفقةٍ مع إيران، هو الحيلولة دون التحاق طهران بدائرة النفوذ الغربي عموماً، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد؛ إذ إن أيّ اتفاق سيتضمن في المحصّلة إزالة العقوبات الاقتصادية عن إيران ورفع العزلة السياسية عنها، وبالتالي سيُؤمّن لها الانفتاح على العالم الخارجي بدون عوائق. وعليه، فإن انفتاح إيران الحتمي على العالم الغربي من شأنه أن يحدّ من دور روسيا في إيران بشكل كبير، بل من شأنه أن يزيد من قوّة إيران واستقلالها كلاعب إقليمي .

الطاقة في الميزان الروسي
يؤمن كثيرون من السياسيين والاقتصاديين في موسكو أن محصّلة رفع الحظر عن إيران لن تحدّد الرفاهية الاقتصادية لإيران فحسب، أو دور روسيا المستقبلي في الساحة العالمية فحسب، إنما ستؤثّر في استقرار أسواق الطاقة العالمية برمّتها. إذ إن رفع الحظر عن منتجات الطاقة الإيرانية من النفط والغاز سيؤدّي إلى انخفاض الأسعار العالمية للطاقة، مع إمكانية أن تظهر إيران كمنافس قوي لروسيا في هذا المجال، وذلك في حال دخلت إيران بكامل قوّتها الاحتياطية إلى الأسواق؛ وهذا ما سيكون له تأثير سلبي على الاقتصاد الوطني الروسي. وهو الأمر الذي تبدو روسيا غير مستعدّة له الآن، لاسيّما في ظلّ تأثيرات العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بسبب الأزمة في القرم وأوكرانيا .
وبما أن روسيا هي من المنتجين الكبار للطاقة على مستوى العالم، وتسعى لأن تكون طرفاً مؤثّراً في صياغة قواعد اللعبة في أسواق الطاقة العالمية، وهي تُقدّم نفسها على أنها دولة منتجة من خارج منظمة الدول المصدّرة للنفط "أوبك"، فإنها قد تجد نفسها في مصيدةٍ للطاقة، إذا ما فشلت ـ بمشاركة الدول المعنيّة ـ بإحداث الاستقرار في أسعار النفط والغاز، وذلك بسبب حساسية اقتصادها للتغيّرات في أسعار الطاقة، لكونها تُركّز على قطاع الطاقة بشكل أساسي في عملية تحديث الاقتصاد الوطني؛ بل ويُعتبر قطاع الطاقة المصدر الأساسي للدخل في الميزانية الاتحادية لروسيا، وبالتالي يتعيّن عليها الحفاظ على حالة الارتفاع في الأسعار بصورة دائمة. ولنا أن نتصوّر هنا أيّ تأثير سيقع على روسيا في حال انخفضت أسعار الطاقة العالمية نتيجة لعودة إيران إلى أسواق الطاقة.
ولكن، هل ستتمكن روسيا من التأثير في محصّلة هذه الفرضيات؟ إن عدداً كبيراً من المسؤولين في قطاع الطاقة الروسي متفائلون إلى درجة كبيرة بأن التعاون السياسي الوثيق بين روسيا وإيران سيُرخي بظلاله على هذه المحاذير، على اعتبار أن موسكو الشريك الأمثل بالنسبة للإيرانيين في العالم. ووفقاً للرأي السائد في الكرملين، فإن موسكو ستستند إلى الدبلوماسية في التفاهم مع إيران والغرب، في محاولةٍ لإظهار دورها الكبير في إفلات إيران من العزلة والعقوبات، ومؤكدةً في الوقت نفسه للغرب أنها تؤيّد الجهود الرامية إلى منع إيران من حيازة القنبلة النووية!
كما أن بوسع روسيا أن تُعوّض -ولو جزئياً - هذه الخسائر من حصّتها في السوق النفطية، بالاعتماد على الشقّ الآخر في استراتيجيتها الاقتصادية، وذلك من خلال مبيعات الأسلحة الروسية إلى إيران، بعد رفع الحظر المفروض على الأسلحة من قِبل الأمم المتحدة، بموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في يونيو/ حزيران 2015 بين إيران والدول الكبرى . ومن منطلق أن موسكو تسعى لإظهار موثوقية شراكتها مع إيران، وتُثمّن صداقتها لها، فإنها بادرت إلى إعادة تمرير اتفاقية تسليم إيران صفقة صواريخ S-300 التي تمّ إلغاؤها سابقاً . وقد كان المعنى المراد تضمينه في هذه المبادرة لفت أنظار الإيرانيين إلى أن روسيا هي الطرف الأقرب دائماً إلى إيران، ومحاولةً لقطع الطريق على الولايات المتحدة الأمريكية التي قد تتطلع إلى توسيع التجارة والاستثمار في إيران. وعموماً، فإن روسيا ترى أن من أولويات سياستها الخارجية في اللحظة الراهنة، العمل على تعقيد أجواء التقارب المحتمل بين واشنطن وطهران، باعتبار أن التحسن في العلاقات الأمريكية - الإيرانية يعني إضعاف موقف موسكو على الساحة العالمية، وهو أمرٌ سيّئ بالنسبة لها في سياق جهودها لتجنّب العزلة الغربية. ولعلّ ما يُهم السياسة الروسية أيضاً في هذا السياق، ليس في أن تنجذب إيران نحو الولايات المتحدة فحسب، إنما في أن لا تصبح إيران جاراً شرّيراً لها، بأن تتولّى مثلاً أدواراً مفسدةً في شمال القوقاز. وهو ما يندرج ضمن سياسة إفشال التخطيط الإستراتيجي الأمريكي الرامي إلى زعزعة الاستقرار في مناطق مهمّة بالنسبة إلى روسيا.
ومن ثمّ، فإن إيران التي تُعتبر نقطة الدخول المفضّلة بالنسبة لموسكو في الشرق الأوسط، بات يُخشى من أن تعود إلى لعب دور العازل الجغرافي لروسيا عن المياه الدافئة في الشرق الأوسط والخليج، وهو الدور الذي برعت فيه إيران لعقود طويلة، لا سيّما في عهد الشاه. ولذا، فإن التخطيط الإستراتيجي الروسي، مع إدراكه لأهمية إيران في الخلفية التاريخية، انطلاقاً من الحسابات السياسية والاقتصادية، يعتبر أن حالة وجود إيران مواليةً للولايات المتحدة الأمريكية أشدّ خطراً بالنسبة لموسكو من أن تكون إيران دولة نووية .
وفي ضوء ما تقدّم، تتبدّى لدى واضعي السياسات ومسؤولي الشؤون الإستراتيجية في الكرملين، رغبة تقليص فرصة تلاقي الأمريكيين والإيرانيين من جديد في المعادلة السياسية في الشرق الأوسط، في ظلّ تنامي المحفّزات الإقليمية والدولية لبحث بعض الأطراف عن إطارٍ يتجاوز أيّ دور للسياسة الروسية في المنطقة، بالنظر إلى نجاح الروس في استمالة القرار الصيني لصالحهم في قضايا السياسة الدولية.
        
الاستنتاجات
خلاصة القول: إن روسيا تعتقد أن التحسّن في العلاقات بين طهران وواشنطن يعني دائماً إضعاف موقفها على الساحة العالمية، وهو أمرٌ سيّئ، خصوصاً بالنسبة لموسكو التي تأمل في تجنّب المزيد من العزلة الدولية. 
لقد قطعت روسيا شوطاً طويلاً في مسار المفاوضات النووية لإنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني، حيث كان لموسكو الدور الأكبر في تقريب وجهات النظر بين ايران وبين المجموعة الدولية في جميع مراحل الاتفاق، وصولاً إلى النجاح في إبرام هذا الاتفاق؛ والذي اعتبرته الخارجية الروسية إنجازاً مهماً للدبلوماسية الدولية، لكونه سيؤثّر بشكل إيجابي على الوضع الأمني العام في منطقة الشرق الأوسط. واعتبرت روسيا الاتفاق دليلاً دامغاً على أن الجهود السياسية الدبلوماسية تصلح لحلّ المشكلات والأزمات الأكثر تعقيداً، في إشارةٍ إلى عدم موافقتها على استخدام الوسائل العسكرية لحلّ تلك الأزمات، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بدولٍ حليفةٍ لها، كإيران وسورية.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن روسيا، في الوقت الذي كانت تقف فيه حائط صدٍ أمام التوجهات العسكرية في التعاطي مع إيران، فإنها كانت تفعل ذلك في إطار تضييق آفاق الفرص المتاحة للأمريكيين في الشرق الأوسط، وهو ما يندرج ضمن سياسة إفشال المخطّطات الأمريكية واحتوائها.  
إن السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط تنطلق من قناعة أكيدة لدى صنّاع القرار في موسكو، بأنه قد حان الوقت للتخلّي عن سياسة النقد الذاتي والانعتاق من حالة الاعتزال السياسي والترهل الاقتصادي، وذلك بموجب خطّة استراتيجية صاغتها مجموعة من السياسيين النخبويين في حقبة ما يمكن تسميته بـالحقبة "البوتينية"، والتي تضمّنت إعادة هيكلة السياسات الداخلية والخارجية؛ بالإضافة إلى صياغة سياسات اقتصادية أكثر فاعلية، مقرونة بإطلاق أدوات جديدة على صعيد العقيدة العسكرية والسياسة الخارجية، بصورةٍ يصعب معها تجاوز نفوذ روسيا أو تهميشها بأيّ شكل في الساحة الدولية، وبما يتيح لها اللعب بأوراق قوية في مسرح السياسة الدولية.
كما استفادت موسكو من بعض التطورات المستجدّة في المنطقة لتعزيز نفوذها، مثل: تداعيات حرب العراق واندلاع ثورات (الربيع العربي) والأزمة السورية الدامية والاتفاق النووي الإيراني الأخير. وهي كلّها أمور مثلّت بالنسبة للروس مفاتيح لحشد المزيد من مكامن القوة والنفوذ في الشرق الأوسط، والتي جاءت على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدورها باتت تشعر بثقل أعبائها في هذه المنطقة. ولذا فقد ركّزت موسكو اهتمامها خلال هذه الفترة على  تقييد قوّة الولايات المتحدة دون تقديم حلول بنّاءة من تلقاء نفسها، وسَعَت إلى اضعاف العلاقات الأمريكية بدول المنطقة، مُستغلّةً في ذلك حالة الاستعداء التي خلقتها السياسة الأمريكية في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وفي العالم الإسلامي برمّته.
لكن علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه، أن روسيا في وقتٍ مضى كانت حريصة على مسايرة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى أقصى درجة، بما فيها الحفاظ على المصالح العالمية الحيوية في المنطقة، واحتواء مصادر القلق وعدم الاستقرار، إلى جانب دعم سياسة الإصلاحات السياسية والدستورية في بعض بلدان المنطقة في إطار التحوّل العالمي نحو الديمقراطية. وقد كان ذلك يصبّ في إطار اتّباع الروس سياسة دفاعية في تأمين موقف موسكو في الساحة العالمية، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتّبع سياسة هجومية. هذا في الوقت الذي بدأت فيه روسيا تتزحزح عن ركام الانهيار، وتدخل طوراً جديداً من النهج الإستراتيجي في آليات الحكم والإدارة، والتي قادتها إلى الانقلاب في سياستها الخارجية وتحديث منظومة أولوياتها وأهدافها السياسية والاقتصادية، ومن منطلق قناعتها أن ذلك الانهيار كان كبوةً عارضة، وأنها تستعيد عافيتها العالمية من جديد؛ وقد تشعّبت مصالحها حتى تصادمت مع مصالح القوى العظمى الأخرى؛ فقد انعكس ذلك جلياً على وجهة النظر الروسية إزاء الدعم الغربي للديمقراطية في إطار (الربيع العربي)، إذ اعتبرته موسكو مؤامرة للإطاحة بالحكومات الموالية لروسيا. ولذا، فإن غالبية الروس لا يرون في دمقرطة الشرق الأوسط ـ على الطريقة الأمريكية ـ أيّ مصلحةً لروسيا وللشعب الروسي.
كما تُظهر سياسات الإستراتيجية التقابلية لدى الولايات المتحدة وروسيا في منطقة الشرق الأوسط، أن لعبة المصالح في تلك المنطقة الحيوية ليست بسيطة بالمطلق، إلى الدرجة التي تجعل محصّلتها صفرية، نظراً لحالتها غير الثابتة. وكان اختيار كلا الجانبين قائماً على أساس مبادئ تعظيم المصالح الوطنية.
وبالتأكيد، فإنه لأسباب سياسية واستراتيجية دقيقة، تولّت روسيا موقفاً أكثر اعتدالاً بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بإيران. كما وجدت نفسها على خلاف مع واشنطن في كيفية التعامل مع العراق قبل الحرب.
لقد سعى بوتين من خلال التوجّه نجو الشرق الأوسط، للتحرك في أكثر من جبهة لجهة الإمساك بورقة التحدّي للولايات المتحدة والقوى الغربية المتحالفة معها، حيث اقترح بوتين في أكثر من مرّة انعقاد مؤتمر دولي خاص بمنطقة الشرق الأوسط المتخمة بالصراع والفوضى، مع الإشارة إلى ضرورة مشاركة روسيا في عملية صياغة الحلول للأزمات الإقليمية التي تعانيها المنطقة، بوصفها دولة عظمى لها مكانتها لدى الدول الشرق أوسطية، وبحكم الجوار الجغرافي؛ وبالتالي بإمكان موسكو أن تلعب دوراً محورياً في تسوية قضايا المنطقة.
ونتيجةً لذلك، توقعت موسكو، ولاعتبارات محدّدة، أن تحتلّ موقعاً أمامياً في المنطقة. ولم يكن توجّه روسيا الشرق أوسطي استجابةً لرغبتها في أن يكون النظام العالمي متعدّد القطبية فحسب، وليس فقط لكونها ترغب في أن تُظهر نواياها الحسنة تجاه الشرق الأوسط؛ بل لأنها بالإضافة إلى ذلك كلّه، تسعى لتعزيز تكاملها واندماجها مع قضايا هذه المنطقة المهمّة بالنسبة للسياسة الروسية الدولية.
وفي حين أن روسيا تسعى إلى إعادة التوازن إلى الساحة الدولية، بحيث تحول دون تفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة والتحكم في النظام العالمي، فإنها في ذات الوقت تتطلع إلى تغيير الحسابات الإستراتيجية في المعادلة الإقليمية القائمة في الشرق الأوسط، بحيث تصبح هذه المعادلة في صالحها، وبما يُمكّنها من ممارسة الدور الأكبر في صياغة توازنات القوى الإقليمية.
           




2017-05-04 11:58:16 | 8902 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية