التصنيفات » مقالات سياسية

في اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة
*
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، عضو اللجنة المكلفة بإدارة شؤون الهيئة في قطاع غزة، أسير محرر ، و مختص في شؤون الأسرى

لا تقل لي إنني لم أُعذّبب في سجون الاحتلال الإسرائيلي،  أو أن آثاره قد فارقتني دون رجعة. فما من فلسطيني، من بين قرابة مليون مواطن مرّوا بتجربة الاعتقال، إلاّ وقد ذاق مرارة التعذيب، الجسدي أو النفسي. لكن ليس كل من تعرض التعذيب نجا من الموت ليروي لنا ما تعرض له؛ كما أنه ليس كلّ من نجا منهم امتلك جرأة الحديث عمّا تعرض له. لكن هناك الكثيرون ممّن مرّوا من هنا فامتلكوا الجرأة وكشفوا عن الاجراءات المذلّة والمهينة التي ارتكِبت بحقّهم، وتحدثوا عن فظاعة التعذيب الذي مُورس ضدّهم خلال فترات اعتقالهم. كان حديثهم يفيض بالألم والمرارة عن حجم معاناتهم، وقد انفجروا في البكاء وهم يصفون ما تعرضوا له خلال فترات اعتقالهم.
 
إن تأملاً متمعناً في ممارسات محقّقي جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك)، يجعلك توشك أن تظن بأنهم ليسوا بشراً. فهذا الحجم الهائل من القسوة، التي تظهر على وجوههم، وبشاعة تصرفاتهم، حين يتلذّذون بممارسة التعذيب ورؤية ضحيّتهم تتألم، يجعلك تعتقد ذلك.
 
    لقد عشت تجارب مريرة، واستمعت لشهادات أليمة روت بشاعة التعذيب في سجون العدو، وقرأت تجارب لا يمكن تصوّرها أو مجرد تخيّل حدوثها، تلك التي وثّقتها ألسن النساء والفتيات والأطفال والشيوخ والجرحى والمصابين الذين مرّوا على السجون الإسرائيلية التي لا زالت ممتلئة بالآلاف من أمثالهم. وكلّما كتبت شيئاً عن جرائم التعذيب، وجدتني مضطراً لأن أستحضر تجربتي الشخصية في "أروقة الموت" والتي استمرّت لأكثر من ثلاثة شهور، يُضاف إليها عقود من الزمن قضيت سنوات منها أسيراً، أو زائراً متنقلاً ما بين هذا السجن أو ذاك، للقاء والدي الذي أُسر منذ أن كنت طفلاً في الثالثة من عمري؛  فيستمرّ اعتقاله لخمسة عشر عاماً ونيّف قبل أن يتحرّر في صفقة تبادل الأسرى عام 1985؛ أو بحثاً عن لقاءٍ يجمعني بأخي الصغير الذي اعتُقل طفلا ليمضي سبع سنوات في السجن. تلك التجربة التي تتقاطع مع التجربة الجماعية لأبناء شعبنا الفلسطيني عموماً.
 
فما أقسى السجن الصهيوني وما أسوأ التعذيب بين جدرانه. لقد عشنا فيه وخرجنا منه، لكنه لا يزال يستوطن داخلنا ويرفض فراقنا. وصوره المؤلمة حاضرة في ذاكرتنا ويصعب محوها. والنماذج المريرة منتشرة أمامنا وبيننا ومن حولنا، وهي تجدّد آلامنا وتعمّق من جراحنا.
 
نحن ندرك أننا لسنا وحدنا ضحايا جرائم التعذيب، وإنما عائلاتنا، أسرنا، أهلنا، أصدقاؤنا، جيراننا، ومجتمعاتنا هم أيضاً ضحايا مثلنا. لذا، إن كان من الواجب الوطني والإنساني والأخلاقي مساندة الأسرى والمعتقلين ورعايتهم والوقوف بجانبهم، فمن الضروري كذلك مساندة الدوائر الاجتماعية المحيطة بالمعذّبين. وهذه دعوة منّي لإنشاء مركز مختص لتوثق جرائم التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي وآثارها على الفرد والمجتمع، والعمل على احتضان المُعذّبين ورعايتهم وضمان مستوى لائق من الحياة الكريمة لهم ولعائلاتهم.
 
  ولا يهدف التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي -كما هو معلن - إلى انتزاع الاعترافات فقط؛ بل يهدف أيضاً إلى هدم الذات الفلسطينية والوطنية، وتدمير الإنسان الفلسطيني جسداً وروحاً، وتحطيم شخصيته، وتغيير سلوكه ونمط تفكيره وحياته، ومعتقداته السياسية، والتأثير على الفرد والجماعة، وإلحاق الأذى بالمجتمع الفلسطيني ككل. ومن الخطأ الاعتقاد بأن التعذيب يُمارس في أقبية التحقيق فقط ، أو أنه يُقترف بحقّ فئة عمرية أو شريحة اجتماعية دون غيرها؛ إذ أن الحقيقة المرّة تقول بأن التعذيب يُمارس في كلّ الأوقات والأزمنة، وبحق كلّ من يتعرض للاعتقال، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً.
 
     إن اشكال التعذيب، الجسدي والنفسي، التي تجاوزت الثمانين شكلاً، قد أودت بحياة واحد وسبعين أسيرا فلسطينياً في أقبية التحقيق، منذ العام 1967. ولعلّ أشهر حوادث التعذيب التي أفضت إلى الموت داخل السجون، هي على سبيل المثال لا الحصر: قاسم أبو عكر، ابراهيم الراعي، مصطفى العكّاوي، عطيّة الزعانين، خالد الشيخ علي، خضر الترزي، عبد الصمد حريزات، عرفات جرادات، وغيرهم. بالإضافة إلى عشرات آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن متأثرين بما تعرضوا له من تعذيب خلال فترة اعتقالهم؛ هذا بالإضافة الى إصابة عدد كبير لم يتم إحصاؤهم من الأسرى الذين خرجوا من السجون والمعتقلات بعاهات مستديمة. وقد أكدت العديد من الدراسات العلمية على أن الأعراض والأمراض المزمنة والمستعصية التي ظهرت أو بدأت تظهر على الأسرى المحرّرين لها علاقة بصورة دالّة إحصائياً بتجارب الأسر والتعذيب.
 
وتُعدّ دولة الاحتلال الإسرائيلي حالة فريدة وشاذّة. فهي الدولة الوحيدة في العالم التي شرّعت التعذيب قانوناً في سجونها ومعتقلاتها، ومنحت مُقترفيه الحصانة الداخلية، ممّا فتح الباب على مصراعيه لاقتراف المزيد من جرائم التعذيب بحقّ المعتقلين الفلسطينيين، دون محاسبة أو حتى ضوابط ومراقبة داخلية؛ فأضحى التعذيب نهجاً أساسياً وممارسةً مؤسسيةً وجزءاً ثابتاً في المعاملة الإسرائيلية اليومية للمعتقلين في إطار سياسة رسمية.
 
     إن التعذيب، وأياً كان نوعه وشكله، يُعتبر انتهاكا أساسياً وخطيراً لحقوق الإنسان، وهو جرم فظيع وبشع يُرتكب بحقّ الإنسانية، واستمراره  يُعتبر ممارسة قبيحة تدنّس ضمير الإنسانية، ووصمة عار على جبين الحضارة العصرية والديمقراطية المنشودة والسلام المأمول. فليس التعذيب ما يخيفني، بل اللامبالاة العمياء، للعالم عديم الرحمة، فاقد الشعور.
 
     يُذكر هنا أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت قد أقرّت في الثاني عشر من شهر ديسمبر من عام 1997، يوم السادس والعشرين من حزيران/ يونيو من كلّ عام، يوماً لمناهضة التعذيب ومساندة ضحاياه، باعتباره يوماً لتفعيل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي بدأت بالتنفيذ الفعلي بتاريخ 26 حزيران عام 1987م؛ فيما لا يزال التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي مستمراً، والشعب الفلسطيني ينتظر من سينتصر للمُعَذّبين من أبنائه داخل "أروقة الموت" الإسرائيلي. ولا زال "اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب" يثير في نفوسنا ونفوس الأسرى المحرّرين الألم والحسرة. ذاك الألم الذي لا ينتهي بمرور الزمن.


2017-06-30 15:34:21 | 3333 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية