التصنيفات » مقابلات

مقابلة لموقعنا مع العميد المتقاعد الياس فرحات - حول الأوضاع في المنطقة


أجرت المقابلة: حنين رباح





1 ـ في البداية، كيف ترون واقع الجيش اللبناني اليوم، في ضوء التجارب المهمة التي خاضها خلال السنوات الأخيرة، وآخرها تجربة مواجهته للجماعات الإرهابية التكفيرية على حدود لبنان الشرقية مع سورية، مع العلم بأن إمكانات الجيش لا تزال متواضعة قياساً بقدرات جيوش دول المنطقة، وخاصة تلك التي تخوض مواجهات مع العدو التكفيري ذاته؟

مهمة الجيش اللبناني أساساً هي الدفاع عن الوطن ضد أيّ اعتداء خارجي ، ومؤازرة قوى الأمن في حفظ الأمن والنظام . لهذه الغاية ينتشر الجيش على طول الحدود المواجهة للعدو الاسرائيلي . في عام 2014 دخلت مجموعات من تنظيم القاعدة في بلاد الشام وداعش الإرهابية إلى منطقة عرسال، حيث اقتحمت مركزاً عسكرياً وسيطرت عليه بعدما قتلت نحو 15 جندياً وضابطاً واختطفت نحو عشرين آخرين . انتشر الجيش في البقاع الشمالي للتصدّي لخطر عناصر داعش والقاعدة، وتعامل مع مواقعهم العسكرية في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع بالاشتباك المباشر، الذي تطوّر إلى إغارات وإلقاء القبض على أفراد أو خلايا من داعش وسوقهم الى العدالة؛ كما تعامل استخبارياً مع الخلايا النائمة بالتنسيق مع باقي الأجهزة الأمنية، وتمكن من إحباط العديد من محاولات التفجير  والقبض على شبكات تابعة للقاعدة ولداعش. وقد انطلق الجيش اللبناني لتنفيذ مهامه من قرارات سياسية حكومية كانت خجولة في البداية، ثم تطورت وأصبحت جريئة مع حملة المداهمة الأخيرة لعناصر القاعدة وداعش في مخيّمات النازحين السوريين في منطقة عرسال وتوقيف العشرات منهم. وكانت بعض القوى  السياسية تخلط بين المعارضة السورية وبين القاعدة وداعش. واليوم بدأت الصورة تتوضح، وثبت أن الجيش، وقبله مقاومة حزب الله، إنما يحاربان داعش والقاعدة وليس المعارضة السورية .

2 ـ هل تعتقدون أن قوة الردع التي حقّقتها المقاومة اللبنانية هي التي تمنع كيان العدو من الاعتداء على لبنان مجدّداً، أم أن الغطاء الدولي والظروف الإقليمية والحسابات الإسرائيلية السياسية تقف وراء ارتداع الكيان عن شنّ عدوان جديد على لبنان، كما توحي مواقف وتصريحات مسؤولين لبنانيين وأجانب صدرت مؤخراً؟


لم تكن المواقف السياسية الداخلية أو الإقليمية أو الدولية رادعة في أيّ وقت لإسرائيل. فرغم صدور العديد منها خلال العقود الماضية، استمرّت الاعتداءات الإسرائيلية وتجاوزت قرارات مجلس الأمن والهيئات الدولية . وحدها المقاومة المسلّحة هي التي أرغمت «إسرائيل» على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000. وبعدها شكّلت هذه المقاومة قوة ردع نسبية تمنع «إسرائيل» عن مهاجمة لبنان حين تشاء.
ومفهوم الردع الحالي يتلخص في أن المقاومة أثبتت لإسرائيل أنها بقوّتها المسلّحة والصاروخية قادرة على نقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي. وهذا ما تخشاه «إسرائيل»؛ والمقاومة قادرة أيضاً على إحداث أضرار كبيرة في البنى الصناعية وقطاع الطاقة وفي المنشآت العسكرية والنووية والنفطية . هذا الواقع هو ما يردع «إسرائيل» عن القيام بأيّ اعتداء جديد على لبنان.

3 ـ على الصعيد الإقليمي، كيف ترون المشهد العراقي بعد اقتراب الحرب مع (داعش) من نهايتها، بتحرير الموصل، سواء على المستوى العسكري أو الاستراتيجي؛ والسؤال ذاته بالنسبة للوضع السوري، مع تحقيق الجيش السوري وحلفائه إنجازات كبرى في مختلف المناطق والمدن والأرياف السورية؟


بالفعل، لقد انتهت معركة الموصل؛ لكن المعركة مع داعش لم تنته بعد. فلا زالت داعش متواجدة بشكل فاعل في الحويجة والشرقاط وتلعفر شمالاً وفِي راوة وعانا والقائم في الأنبار. كما أنها لا تزال تتلقى الدعم والتسهيلات من قوىً إقليمية ودولية. والأرجح أن يتمكن الجيش والحشد الشعبي العراقي من القضاء على جيش داعش. اما القضاء علئ التنظيم، فهو أمر آخر؛ فداعش لديها خلايا نائمة في العديد من دول المنطقة والعالم، ولديها مؤيدون وداعمون كثر. وهذه معركة أخرى وطويلة، وهي تتطلب تضافر جهود الشعوب والقوى السياسية في المنطقة، كما تتطلب وضوحاً عقائدياً وأيديولوجياً غير متوافر حالياً، لأن طروحات داعش الأيديولوجية تشبه بعض طروحات تنظيمات أخرى ودول أخرى في المنطقة؛ وهذه مسألة معقّدة تتطلب إيجاد خطط ثقافية وفكرية مفقودة اليوم. أما في سورية، فالوضع مختلف. صحيح أن القاعدة وداعش تحتلاّن أراض شاسعة في إدلب وحلب، لكن الدولة السورية لا تزال موجودة، وإن كانت منهكة؛ وهي قادرة على بسط سلطتها الإدارية والأمنية والعسكرية في أيّ منطقة بعد القضاء على القاعدة وداعش. لكن الوضع في العراق يختلف؛ فالدولة شبه فاشلة، والنظام السياسي أو الصيغة السياسية التي أنشأها الاحتلال الأميركي (والحاكم بول بريمر) هي السائدة حتى اليوم؛ وهي التي أدّت إلى استشراء الفساد، وإلى الانتكاسات الأمنية الكبرى، وإلى الشرذمة الوطنية. نعم، في سورية هناك تقدّم ملحوظ عسكرياً في الشرق والجنوب وفِي الغوطة، وهناك المصالحات التي أعادت سلطة الدولة إلى بلدات ومناطق مهمة، وأراحت الشعب السوري من خطر القاعدة وداعش.

4 ـ هل يمكن للولايات المتحدة أن توسّع من تدخلها العسكري في الحرب السورية، كما تدلّ بعض التطوّرات الأخيرة، سواء لفرض تغييرات على الأرض تعاكس الإنجازات التي حقّقها حلف المقاومة، أو بهدف إرضاء «الحليف» السعودي الذي يريد الاستمرار في مواجهة النظام السوري وحلفائه حتى النهاية ويرفض أيّ تسوية سياسية تسعى إليها روسيا وإيران ودول أخرى في أوروبا؟


تنتشر القوات الأميركية في الشمال السوري، وتحديداً في مناطق قوات سورية الديموقراطية - وحدات حماية الشعب الكردي. وهي تدعمها في قتالها ضد داعش، كما حصل في عين العرب  كوباني وفِي منبج . إلاّ أن المهمة الأخطر لهذه القوات هي تشكيل حماية فاعلة من  الجيش التركي الذي يرابط  على الحدود ويهدّد بمنع قيام أيّ كيان كردي بالقوة .
أما في الجنوب، فالوجود الأميركي يقتصر على نقطة «التنف» الحدودية، حيث نشرت القوات الأميركية مدفعية صاروخية، وأنشأت منطقة عدم نزاع   Deconfliction zone بشعاع 55 كلم من  مركز التنف.
وخلاف ذلك، تنفّذ القوات الأميركية عملياتها العسكرية في سورية انطلاقاً من قاعدة إنجرليك التركية ومن القطع البحرية الأميركية في شرق البحر المتوسط، وهي تعزّزت بمجموعة عمل من حاملة الطائرات جورج بوش وبمدمّرات وغوّاصات تابعة لها .
ويمكن للقوات الجوية الأميركية عرقلة الهجمات الجويّة السورية ضد داعش والقاعدة، كما حصل عندما أسقطت طائرة «سوخوي» سورية فوق الرصافة جنوب غربي الرقّة مؤخّراً.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة لا تريد إنهاء الأزمة السورية. والأمر نفسه ينطبق على العراق واليمن وليبيا والصومال. تلك هي السياسة الأميركية الهادفة لإدامة النزاعات وإنهاك الشعوب والدول، وخصوصاً في المنطقة العربية التي فقدت استقرارها منذ «الربيع العربي».
ومن الطبيعي أن تتطابق أهداف الولايات المتحدة مع أهداف دول الخليج في محاولات تغيير بعض الأنظمة وتقويض الاستقرار في سورية والعراق، ومصر أيضاً.
من هنا لا يبدو أن الولايات المتحدة جادّة في تحقيق تسوية سياسية في سورية، وخصوصاً أن إيران لاعب أساسي وطرف في المفاوضات الجارية، وأميركا ترفض الاعتراف بالدور الإيراني في سورية. ولذلك هي تعرقل مشاريع التسوية بكلّ إمكاناتها.

5 ـ هل تعتقدون أن القوات الكردية المدعومة أميركياً تستطيع حسم معركة الرقّة لوحدها، بعد مؤشرات تدلّ على تخبّطها في إنهاء هذه المعركة التي طال انتظارها، في مقابل تقدّم سريع للجيش السوري والقوات الحليفة له باتجاه الرقّة؟


أصرّت الولايات المتحدة على منع الجيش السوري من التقدم باتجاه الرقّة لتحريرها، وذلك منذ أن نفّذت وحدة من قوات العمليات الخاصة إنزالاً غربي مدينة الطبقة لترسم حدوداً للتقدم السوري . فيما بعد، وعندما حرّرت القوات السورية القرى والبلدات جنوب شرق حلب، ثم تقدمت نحو الرصافة جنوب غربي الرقّة، وبينما كانت طائرة سورية تقدّم المساندة النارية للقوات المتقدمة، تدخلت الطائرات الأميركية وأسقطت طائرة «سوخوي» سورية؛ وبذلك أوقفت التقدم السوري الى جنوب الرقّة.
وبالنسبة إلى تركيا، رفضت الولايات المتحدة السماح لها بالتقدم نحو الرقّة، وذلك لعدم إزعاج حلفائها الأكراد . وقد اعتمدت الولايات المتحدة على قوات سورية الديموقراطية (قسد)، المؤلّفة من وحدات حماية الشعب الكردي ومن عشائر عربية، أبرزها عشيرة الشعيطات وقوات تابعة للمعارض أحمد الجربا. لكن بشكل عام (قسد) غير متماسكة، ولا توجد ثقة بين مكوّناتها؛ كما أن تسليح الأكراد وتدريبهم وتنظيم قواتهم ليس جيداً، والقيادة والسيطرة لديهم ليست قوية. لذلك، هناك بطء ملحوظ في التقدّم نحو الرقّة؛ وقد خسرت (قسد) حي الصالحية الشرقي إثر هجوم معاكس شنّته داعش التي استعادت هذا الحي. المعركة طويلة، ولا يمكن أن تنتهي إلاّ باتفاق يشبه اتفاق السيطرة على جرابلس ومنبج والباب، حيث تُركت داعش تغادر عبر ممرّات آمنة. وحتى اليوم لم يتبلور اتفاق بين داعش وقوات سورية الديموقراطية، رغم اتهام روسيا للأكراد بأنهم اتفقوا مع داعش لمغادرة المدينة من الجهة الجنوبية؛ وكانت القوات الجوية الروسية قصفت قوات داعش حين انتقلت ضمن قافلة من 32 آلية، كما أطلقت عليها صواريخ «كاليبر» من البحر.
إذاً، من المرتقب أن تطول المعركة في الرقّة، وأن تشارك القوات الأميركية البريّة فيها، خصوصاً ان هناك وحدات أميركية من العمليات الخاصة تتمركز حالياً شمالي الرقّة.

6 ـ تُعرب «إسرائيل» عن قلقها البالغ من إنجازات حلف المقاومة في سورية خصوصاً؛ هل ترون أنها يمكن أن تصعّد من تدخلها العسكري في الحرب السورية لصالح الجماعات الإرهابية، كما أظهرت التطوّرات الميدانية الأخيرة في منطقة القنيطرة والجولان المحتل؟


منذ اندلاع الأزمة السورية كان واضحاً أن «إسرائيل» هي المستفيدة الأولى من تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية السورية. وكان هناك تقاطع مصالح بين ما سمّي المعارضة السورية وبين «إسرائيل». وقد تجلّى عمق هذا التقاطع في أعمال التخريب التي قامت بها فصائل المعارضة المسلّحة في مواقع أسلحة الدفاع الجوّي السوري من صواريخ ورادارات؛ ومن المعروف أن الصواريخ والرادارات تركّز عادة في مناطق منعزلة ويشغّلها فنّيون عسكريون، مهمتهم المسح الراداري للأجواء السورية وجوارها والدفاع عنها ضدّ أيّ خرق جوّي. كانت هذه المواقع ضعيفة في الدفاع الأرضي، وهي أساساً لا علاقة لها بالعمليات العسكرية البريّة؛ وسيطرة عناصر المعارضة عليها لا تقدّم شيئاً للتغلب على النظام، كما هي حال الوحدات البريّة المقاتلة. وتدمير رادارات لإنذار وصواريخ الدفاع الجوّي كان أول خدمة كبيرة تقدّمها المعارضة لإسرائيل، حيث شاءت هذه المعارضة تدمير قدرات جيش الدولة في مضمار الدفاع الجوّي من أجل إراحة «إسرائيل» من خطرها.
ومع استمرار الأزمة ظهرت أحداث أخطر، لا سيّما بعد احتلال تل الحارة قرب الجبهة مع (إسرائيل) بمشاركة وعناصر إسرائيلية. كما ان تعاون تنظيم القاعدة في بلاد الشام، وهو من أكبر فصائل المعارضة، مع «إسرائيل»، على جبهة الجولان أصبح علنياً. وقد عالجت المستشفيات الإسرائيلية أكثر من ألفي جريح من تنظيم القاعدة (جبهة النصرة) الذين أصيبوا في معارك مع القوات السورية، فيما سجّل مراقبو الأمم المتحدة اجتماعات بين ضبّاط إسرائيليين وقادة من تنظيم القاعدة . ومثل هذه الإجراءات لا تتم من دون اتصال سياسي بين القاعدة و«إسرائيل». لقد ظهر المعارض السياسي السوري كمال اللبواني ليعلن صراحة التحالف مع «إسرائيل» ضدّ النظام، ولحقه المعارض مجد حُذيفة. أما بسمة قضماني، فلم تشعر بالحياء من شهداء فلسطين والعرب، عندما تحدثت عبر التلفزيون الفرنسي عن علاقتها بإسرائيل وعن إعجابها بها وتربية أولادها في «إسرائيل».
لكن المفاجأة جاءت من وزير الأمن الإسرائيلي السابق موشي يعلون، عندما قال إن «إسرائيل» تفضّل انتصار داعش في سورية على الجيش السوري. كما كشف ان قذيفة أطلِقت من داعش باتجاه «إسرائيل» وأن داعش "اعتذرت"(!). والاعتذار عادة يكون بين جهتين تعرفان بعضهما جيّداً، وليس بين غريبين؛ وهذا يدلّ على عمق العلاقة بين داعش،المتمركزة في وادي اليرموك على الحدود مباشرة مع «إسرائيل» وبين السلطات الإسرائيلية. ويمكن القول إن تنظيمي داعش والقاعدة يخدمان المصالح الإسرائيلية، وإن عدم تعرّضهما لإسرائيل هو سياسة، وعقيدة راسخة لدى كلٍ منهما .

7 ـ في السياق، هدّد البيت الأبيض الأميركي منذ أيام بشنّ ضربات قاسية ضد الجيش السوري، بزعم أنه يحضّر لهجمات كيميائية ضدّ الجماعات المعارضة؛ ما هي احتمالات تنفيذ هكذا تهديد، برأيكم، وما مدى انعكاس هذه القضية على إنجازات حلف المقاومة التي تحققت خلال الأشهر الأخيرة؟
يختلف هذا التهديد الأميركي عن الضربة بصواريخ «توما هوك»، التي حصلت إثر مزاعم استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون وقبله في الغوطة الشرقية، والتهديد بحربٍ على سورية حتى التوصل إلى اتفاق نزع السلاح الكيماوي. فهذه المرّة جاء التهديد بصيغة معلومات عن تحضير سورية لهجمات بالسلاح الكيماوي، وأن التحضير يجري في مبنى في مطار الشعيرات الذي تعرّض للقصف مؤخراً. والرئيس الأميركي ترامب، كما قال عنه أحد معارفه من الصحافيين، يقصف ثم يفاوض؛ لكن هذه المرّة نراه يهدّد عبر الناطق بلسان البيت الأبيض  وليس عبر وزارة الدفاع وفقاً للأصول. ويرجح أن الولايات المتحدة كانت تريد اختبار ردّ الفعل السوري والروسي . وبالفعل، فقد جاء ردّ الفعل الروسي عنيفاً ومهدّداً بالردّ على أيّ هجوم أميركي بهجوم آخر متكافئ معه. كما أن سورية رفضت الانصياع للتهديد الأميركي، وتابعت عملياتها في البادية ضد داعش، وفِي الغوطة الشرقية ضد تنظيم القاعدة وفيلق الرحمن المرتبط بها،  وفِي درعا والقنيطرة . بعد ردّة الفعل هذه تراجعت أميركا، وصرّح وزير الدفاع الجنرال ماتيس أن الولايات المتحدة لن تضرب لأن الأسد أذعن للتهديد ولم يستعمل السلاح الكيماوي، وكأن سورية كانت تريد استعماله فعلاً وتوقفت إثر التهديد الأميركي! هذا التراجع الأميركي، وبهذه الصيغة، أكد أن تصميم سورية وحلفائها على اقتلاع تنظيمي القاعدة وداعش والتنظيمات الأخرى المرتبطة بهما قويٌ وصلب، ولن يتزحزح أمام التهديدات. ولا يبدو أن الولايات المتحدة بصدد تنفيذ تهديداتها بعد تصريح ماتيس؛ وما نشِر مؤخراً حول إصابة ثلاثين عنصراً من فيلق الرحمن في عين ترما بغاز الكلور لم يقتنع به أحد. وحتى الولايات المتحدة لم تعلّق على هذه المزاعم . وما منع الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديدها هو العزم السوري والمضيّ في الحرب على الإرهاب، والتهديد الروسي برد متكافئ على الأميركيين.

8 ـ على مستوى أشمل، كيف تقيّمون الانتصارات التي حقّقها حلف المقاومة، في العراق وسورية واليمن، مؤخراً، وتحديداً بعد الضربة الصاروخية الإيرانية النوعية التي وجّهت ضد جماعات (داعش) في منطقة دير الزور السورية، وردود الفعل المرتبكة التي صدرت بشأنها، من الكيان الإسرائيلي تحديداً؟

في نظرة استراتيجية إلى ما يجري في المنطقة، نرى أن الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل»، والغرب عموماً، في وضعية الهجوم على المقاومة (الممثّلة بحزب الله) وداعميها في سورية وإيران، منذ إملاءات كولن باول عام 2003، التي طلبت من النظام السوري قطع علاقته مع إيران وطرد حماس والجهاد الإسلامي من سورية ووقف دعم حزب الله في لبنان. من حينه وضعت الولايات المتحدة سورية تحت التهديد، وبدأ التحضير لقلب نظام الحكم فيها، وحشد كلّ الجهود السياسية والإعلامية والاقتصادية والأمنية من جل تحقيق هذا الهدف . وما إن أطلّ ما يسمّى (الربيع العربي) حتى بدأت الأحداث الخطيرة في سورية، حيث سمعنا من رئيس المجلس الوطني للمعارضة السورية برهان غليون تصريحات نارية ضد حزب الله وإيران، فيما كان المفترض أن تكون معارضته بهدف إصلاحات ديموقراطية في النظام. وقد ثبت منذ البداية أن المعارضين السياسيين في سورية، وخصوصاً معارضة الخارج، كانوا يريدون تغيير سياسة سورية الداعمة للمقاومة وليس إجراء إصلاحات سياسية. وعندما دخل تنظيم القاعدة إلى سورية، بدعم إقليمي ودولي، وبدأت التفجيرات الانتحارية وأعمال القتل الجماعي، اتضح أن القاعدة، وفيما بعد داعش، كانتا مجرّد أدوات لتغيير النظام وإحلال نموذج «طالباني» في سورية، بدعمٍ غربيٍ كامل.
وقد تصدّت سورية وحلفاؤها لهذا العدوان الكبير. ويمكن القول إنها أفشلت المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي لتغيير النظام. أما في العراق، فقد كان الهدف الأساسي للولايات المتحدة هو ضرب قدرات العراق وتفتيته وتشتيت موارده وتقويض بنى الدولة والمجتمع؛ وهذا ما قام به الحاكم بول بريمر، الذي حلّ الجيش العراقي وفرض دستوراً طائفياً مفرّقاً للشعب. حينها تولّى معارضون عراقيون السلطة بتسهيل من الولايات المتحدة، ومعظمهم كانوا أعضاء في مجلس الحكم الذي عيّنه بريمر؛ وهم زاروا الولايات المتحدة وعقدوا اجتماعات مع مستويات عليا، أبرزها مع رئيس الولايات المتحدة. لقد أسهمت هذه الطبقة بإفساد الحياة السياسية وتفشّي سرقة المال العام ما أدّى إلى إفقار الشعب العراقي وحرمانه من واردات النفط. على أن الكارثة الكبرى حصلت عندما استطاع تنظيم داعش اجتياح محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وأقسام من ديالى وبابل، ما تسبّب في انهيار الجيش الذي بنته حكومة فاسدة، وكلّف أكثر من 25 مليار دولار . هنا هبّ الشعب العراقي وحمل السلاح وانتظم ضمن الحشد الشعبي، ملبّياً نداء المرجعية التي أعلنت الجهاد الكفائي، وأعيد بناء وحدات الجيش على أسس جديدة . وبعد نحو ثلاث سنوات من المعاناة تمكن العراقيون من القضاء على داعش؛ وأمامهم اليوم استحقاقات أخطر، أهمها الوجود العسكري الأميركي في العراق وتأمين وحدة العراق بعد دعوات البرازاني لانفصال إقليم كردستان. نعم، لا تزال الهجمة الأميركية قوية في العراق وسورية، لكن المقاومة أقوى، وهي ردّت الكثير من الاعتداءات.
في اليمن، دخلت السعودية، في آذار 2015، في حرب مع اليمن، وهاجم السلاح الجوّي السعودي هذا البلد الفقير بوحشية، ودمّر البنى التحتية العسكرية والاستراتيجية  بأمل أن يغيّر نظام الحكم وينصّب جماعة توالي السعودية في الحكم. وقد أخطأت حسابات المملكة، وصمد الشعب اليمني (أنصار الله والجيش بقيادة الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأهم قبائل اليمن). وأدّت الحرب إلى خسائر بشرية فادحة ونشوء أزمة مجاعة وتفشّي مرض الكوليرا وتدهور الاقتصاد، فيما لم يحقّق السعوديون شيئاً، واستُنزفت قواتهم على الحدود الجنوبية. وبشكل عام، فإن محور المقاومة صمد بشكل مذهل أمام الهجوم الأميركي الكبير على المنطقة العربية.

9 ـ بالانتقال إلى فلسطين، الكثير من المراقبين والخبراء في «إسرائيل» يقدّرون بأن حماس وقوى المقاومة في قطاع غزة باتت قوّة رادعة بالفعل أمام أيّ عدوان إسرائيلي كبير على غزة، بما يشبه حالة الردع التي خلقتها المقاومة في لبنان؛ فهل حقّقت القوى الفلسطينية المقاومة هكذا تحوّل بالفعل؟ وما هي احتمالات حصول مواجهة عسكرية جديدة في قطاع غزة في المستقبل المنظور؟

لم تتوقف «إسرائيل» عن تهديد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد ثلاث حروب شنّتها ضدّ القطاع: الأولى عام 2008/2009، واستمرّت ثلاثة أسابيع؛ والثانية عام 2012، واستمرّت أسبوعاً، والثالثة عام 2014، واستمرت 50 يوماً. وقد فشلت جميعها في تحقيق أهدافها بضرب المقاومة، وخرجت منها المقاومة وغزة والشعب الفلسطيني أقوى. لكن التهديد استمر، ودعوات القيادات العسكرية والسياسية الصهيونية لاجتياح قطاع غزة لم تتوقف. ورغم الوضع العربي المتدهور، والخلافات بين الفصيل المقاوم الأكبر في غزة (حماس) مع مصر وخروجه من سورية، ولجوئه إلى قطر ، بقيت المقاومة في غزة . كان الهدف الاأميركي ـ الإسرائيلي هو إغراء حماس بالسلطة في سورية ومصر لصرف اهتمامها عن فلسطين؛ لكن فلسطين ظلّت حاضرة واستمرت القضية الفلسطينية حيّة. كما تعبئة الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي.
فقد ظهرت في غزة صواريخ المقاومة التي أرعبت الكيان الإسرائيلي، باعتبار أنها تنطلق من غزة القريبة من قلب فلسطين وتستهدف العمق الاسرائيلي في القدس وتل أبيب. وهذا ما أثار قلقاً كيانياً في «إسرائيل».
عليه، ورغم التهديدات الإسرائيلية، وضبابية الوضع الفلسطيني والعربي، يبقى ردع المقاومة الفلسطينية هو الذي يمنع «إسرائيل» من مهاجمة غزة مجدّداً.

10 ـ تحدثت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن (صفقة كبرى) لحلّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن ضمنه القضية الفلسطينية؛ وجوهر هذه الصفقة المزعومة هو تطبيع عربي ـ إسرائيلي كامل قبل البدء بمفاوضات إسرائيلية ـ فلسطينية جديدة لا أحد يعلم طبيعتها ومداها الزمني أو نتائجها المتوخاة؛ فما هي احتمالات نجاح هكذا سيناريو أميركي برأيكم، في ظلّ ظروف أو معطيات أميركية وإقليمية غير مساعدة في تنفيذ هكذا مشروع؟

صدرت تصريحات كثيرة على لسان مسؤولين إسرائيليين عن تغيير في اتجاهات (عملية السلام). فبدلاً من مفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية حول الوضع النهائي ومفاوضات جديدة مع سورية ومع لبنان ، بات مسار العملية السلمية يبدأ من «السلام» والتطبيع مع الدول العربية والإسلامية وبعدها تُبحث القضية الفلسطينية . هذا ما تعمل عليه إدارة ترامب حالياً، من خلال مؤتمر عربي إسلامي ـ إسرائيلي ينتج عنه اعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها، بما فيها التمثيل الدبلوماسي والانتقال منها وإليها. وبعدها تبدأ المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية في ظلّ وضع فلسطيني لا حول له ولا قوة؛ وهكذا تتم تصفية القضية الفلسطينية. وإذا كان هذا ما بجري فعلاً في الأروقة وبين الحكومات، فإن الذاكرة السياسية تخبرنا كيف أسقط اللبنانيون اتفاق 17 أيار، وأن المقاومة الفلسطينية (والعربية والإسلامية) لن تسمح بتمرير مثل هذه المشاريع التصفوية. وتبقى الأمور مرهونة بتطور إجراءات التطبيع المقترح. والتي ربما تكون شرارة تفجّر الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، والعودة إلى خيار المقاومة.


2017-07-07 15:07:11 | 3658 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية