التصنيفات » مقالات سياسية

"إسرائيل" تشجّع الجريمة المنظّمة في الأراضي المحتلة 48
"إسرائيل" تشجّع الجريمة المنظّمة في الأراضي المحتلة 48
 
إحسان مرتضى
(باحث في الشؤون الإسرائيلية)

                        
أوّلاً – مدخل :
يشهد مجتمع عرب الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 ارتفاعاً كبيراً في وتيرة جرائم العنف والقتل، وسط غياب تام للردع والعقاب من قِبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي يُعتقد أنها متورّطة فيما يجري، من خلال غضّ الطرف عن عصابات الإجرام، وانتشار الأسلحة النارية بين الفلسطينيين.
وعلى مدى سنوات طوال، ظلّت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية متلكّئة عن ملاحقة منظّمات الإجرام في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لا بل هي تواطأت في تغذية تلك المنظّمات والتغطية على ممارساتها التي أزهقت أرواح ما لا يقلّ عن 1500 ضحية منذ العام 2000. ولم تفارق دولة الاحتلال تلك اللامبالاة إلّا عندما بدأت تكتوي بالنار التي أوقدتها بنفسها، لتشرع بعدها بوضع خطط مكثّفة تستهدف ما تسمّيه «مكافحة الجريمة». لكن يَثبت، يوماً بعد يوم، أن هذه "المكافحة" لا تستهدف إلّا السلاح الفردي الذي يمكن أن يُوجَّه في لحظة الحقيقة إلى صدور جنود الاحتلال أنفسهم، فيما يظلّ أساطين الجريمة طليقين، بلا حساب ولا عقاب.
وتعمل المنظّمات الإجرامية، التي تديرها عائلات ذات علاقات وطيدة مع السلطات الإسرائيلية، في أكثر من مجال، منها الإتجار بالسلاح والمخدّرات، وتبييض الأموال، والصيرفة والسوق الموازية (أكثر من 20% من محالّ الصيرفة مملوكة أو تابعة لها)، والحماية، والخوّات، والابتزاز، وجباية أموال الديون، وجمع الخردوات، وإعادة تدويرها، وغيرها. وهذه الممارسات خلّفت عشرات الضحايا، إلى جانب عشرات الإصابات الموثّقة، ومئات حوادث إطلاق النار.
يُضاف إلى ما تَقدّم أن سياسة الإفقار، إلى جانب السياسات البنكية التعجيزية، أدّت إلى لجوء عامّة الناس إلى الاستدانة من السوق السوداء التي تديرها تلك المنظّمات. ولأن الأخيرة تُقرِض الناس بفائدة تصاعدية خيالية، يجد المستدينون أنفسهم، في نهاية المطاف، عاجزين عن سداد قروضهم. ومن هنا، تبدأ رحلة العذاب، حيث يتعرّض المستدين للتهديد والابتزاز، ومن ثم يتحوّل التهديد إلى واقع، عبر إطلاق النار على ممتلكاته؛ وفي حال عدم استجابته، يتعرّض، هو أو أحد أفراد عائلته، للقتل. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، إذ يلاحَق أفراد العائلة، إلى أن يجري التنازل عن الممتلكات، أو سداد الدين. وحتى الأغنياء، وأصحاب المصالح التجارية من الفلسطينيين، ليسوا محميّين، ولا خارج دائرة الاستهداف؛ بل هم يتعرّضون بدورهم للمساومة، في إطار ما يُعرف بـ«جرائم الخوّة»، حيث تَفرض منظّمات الإجرام عليهم دفع مبلغٍ شهري لها، وفي حال عدم استجابتهم لا تتورّع عن إطلاق النار عليهم.
وباختصار، المشهد هو عبارة عن «غابة» فعلاً، كما وصفه وزير "الأمن" الداخلي الإسرائيلي، عومير بار- ليف، الذي يقف كيانه، بكلّ مؤسّساته، وفي مقدّمتها الشرطة وأجهزة الأمن، وراء توسّع رقعة هذه الغابة وخروجها عن السيطرة؛ وهو ما عبّر عنه مسؤولون في الشرطة، لوسائل إعلام عبرية، أكثر من مرّة، بالقول: «إنّنا نفقد السيطرة على ما يَحدث في الوسط العربي (فلسطينيو الـ48)». أمّا قِطع السلاح المنتشرة بين أيدي المجرمين، فلا أحد يعرف كمّها الحقيقي؛ إذ يُقال، بناءً على تصريحٍ لوزير الأمن الداخلي السابق، جلعاد إردان، إنها تُراوح ما بين 400 - 600 ألف قطعة، وإن أكثر من 70% منها مصدرها جنود الاحتلال، الذين يبيعونها للمنظّمات الإجرامية، ويبلّغون في الدوائر المعنيّة بأنها «سُرقت». والمفارقة أن أجهزة «إنفاذ القانون وتطبيقه» لم تَغِب إلّا حيث يجب أن تكون موجودة؛ ومع اندلاع الهَبّة الفلسطينية في أراضي الـ48، دعماً للمقاومة في معركة «سيف القدس» في أيار 2021، بدأت "إسرائيل" تتذوّق طعم «السُّم» الذي وضعته في «الطبخة». وها هي منذ أشهر تحاول تلقّف الصدمة، واضعةً عشرات الخطط لـ«مكافحة الجريمة»، عبر إنشاء وحدة «سيف» الشرطيّة، ووحدة للمستعربين، من أجل الدخول إلى القرى والبلدات الفلسطينية، وتجنيد أكثر من 1200 شرطي، وافتتاح مقرّات جديدة للشرطة، وإقامة مركز استخباري في وسط فلسطين؛ فضلاً عن إشراك جهاز «الشاباك» والجيش في "مكافحة" الجريمة. وفي المحصّلة، مَن خلق بيئة الإجرام في الأراضي المحتلّة هي سلطات العدو بأذرعها المختلفة نفسها، والتي تسبّبت في أن يحيا فلسطينيو الـ48 منتظرين موتهم على أيدي قتَلة متنقّلين، يتغذّون من وجود الاحتلال، والذي يتغذّى هو، في المقابل، على توسيعهم رقعة أعمالهم وتطويرها. أمّا صحوة الاحتلال الأخيرة، فليست إلّا لأنّه بدأ يكتوي بالنار التي أشعلها بنفسه.

ثانياً - الفلسطينيون في "إسرائيل" :
يمثّل الفلسطينيون العرب داخل الكيان نحو 21٪ من السكان، ويصل تعدادهم لحوالى 2 مليون مواطن؛ أقليّة صغيرة منهم من الدروز والمسيحيين، والأغلبية منهم مسلمون؛ وهم يعيشون في واقع شديد الخطورة وسط حالة من انعدام الأمن والاستقرار، إذ تتصاعد في أوساطهم معدّلات الجريمة وأعمال العنف بشكل لافت، حيث أضحى القتل والاغتيال وسفك الدماء أحداثاً اعتيادية شبه يومية، ما يعني أن المجتمع العربي أمام خطر داهم يوشك أن يدمّر نسيجه الاجتماعي، ويستنزف طاقاته وجهود أبنائه في صراعات لا تتوقف، ودوّامة من العنف العبثي لا تنتهي، أدّت إلى مقتل عشرات الأشخاص خلال هذا العام ناهيك عن الأعوام الماضية. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين يشكّلون خمس السكان في "إسرائيل"، إلّا أنهم شكّلوا 71% من ضحايا جرائم القتل التي ارتُكبت في "إسرائيل" خلال العام 2019م وفق تقارير رسمية. وفي عام 2020م قُتل نحو 113 مواطناً عربياً في جرائم وأحداث عنف مختلفة، بينما قتِل في هذا العام أكثر من 109 أشخاص؛ وأظهرت إحصاءات رسمية عام 2018 أن عمليات القتل بين العرب في "إسرائيل" تعادل ثمانية أضعاف معدّل الجريمة في الأحياء اليهودية.
ثالثاً – ردّات الفعل العربية: بلغ عدد ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربي قبل نهاية  العام 2019 ،71 شخصاً، من بينهم 11 امرأة. واحتجاجاً، عمّ الإضراب العام والشامل كلّ البلدات الفلسطينية داخل أراضي 48، ضمن سلسلة فعاليات قرّرتها لجنة المتابعة العليا في الداخل لمواجهة استفحال جرائم القتل. وجابت  مظاهرات حاشدة بلدات في الجليل، والمثلّث، والنقب، والساحل، في الداخل الفلسطيني، طالب المشاركون فيها بوقف نزيف الدم، عقب مقتل شقيقين في إطلاق نار ببلدة مجد الكروم، فيما قرّرت لجنة المتابعة العربية استمرار فعالياتها، ومواصلة الحملة الشعبية "لاجتثاث العنف والجريمة في المجتمع العربي" .
 لقد بات من المؤكد أن غالبيّة العرب في فلسطين لم يكونوا بحاجة إلى اعتراف المصدر الكبير في الشرطة الإسرائيلية الذي قال: " إن عملاء (الشَبَاك) مسؤولون عن غالبيّة الجرائم في الوسط العربي" ، وإن الشاباك هو من يمنع الشرطة من مطاردتهم ومحاربة الجريمة بين العرب. وهناك من يعتقد بأن عصابة صهيونية تنفّذ عمليات القتل بين عرب الـ48، وفي اللد، لترويعهم وجعلهم يعيشون في حالة دائمة من انعدام الأمن. وبالطبع يجب أخذ هذا الاعتقاد على محمل الجد، لأن القتلى من العرب بالعشرات وما من مُدانٍ!
وفي السياق، قال جمال زحالقة، النائب العربي في الكنيست، إن الفلسطينيين في الداخل يعيشون في ظل نظام عنصري إسرائيلي، يمارس التمييز في كافة مجالات الحياة، بما فيها مكافحة الجريمة. وأضاف: "العنصرية هي الخلفية الأساسية لما يجري؛ إسرائيل دولة يهودية، والأولوية فيها لليهود، وهناك تمييز بنيوي تجاه العرب، والقضية قضية نظام لا سياسة؛ وموضوع العنف والجريمة لا يختلف جوهرياً في سياسات إسرائيل فيما يتعلق بموضوع التعليم، والتشغيل، والبنى التحتية، وغير ذلك". وشدّد على أن إسرائيل تدّعي أنها تحارب الجريمة في المجتمع العربي في الداخل، لكن الحقيقة على العكس تماماً؛ الشرطة ساهمت في تقوية المنظمات العربية الاجرامية بعد أن سحقت منظمات الإجرام اليهودية، مشيراً إلى أن  هذه المنظمات تحظى بحالة ازدهار غير مسبوقة، فيما الشرطة تتفرّج. وتابع: "إسرائيل مارست سياسة التجاهل، وغض الطرف عن  موضوع العنف والجريمة في المجتمع العربي، لكن الآن ستضطر إلى التعامل معها، لأنها وصلت إلى المجتمع اليهودي"؛ شارحاً ذلك بالقول: " تجّار المخدّرات العرب يبيعون بضاعتهم الآن في المدن اليهودية، وهذا أطلق إشارات حمراء قوية لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية". واتهم زحالقة "المؤسسة الإسرائيلية" بالمسؤولية عن مقتل أكثر من 1300 شخص منذ عام 2000 إلى اليوم.
من ناحية أخرى، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية، إبراهيم جابر، إن الحكومة الإسرائيلية تتّبع سياسة التراخي وغض الطرف عن متابعة قضايا الجريمة في الوسط العربي، في إطار سياسة عامة هدفها إشغال المجتمع الفلسطيني بنفسه، بعيداً عن القضايا الجوهرية التي من المفترض أن يهتم بها المواطن العربي. وقال جابر إن العديد من المافيات والعصابات العربية تعمل في الداخل، مشيراً إلى أن الحديث يدور عن ثمانية من عصابات الإجرام تعمل في القتل والابتزاز في الوسط العربي، وسط غياب تام ومقصود لدور الشرطة، حيث  إن الكثير من المجرمين طلقاء، بدون ردع أو عقاب. ولفت إلى أن تجّار السلاح "اليهود" يروّجون بضاعتهم في الوسط العربي، مشيراً إلى أن الحديث يدور عن نحو 450 ألف قطعة سلاح منتشرة في المجتمع الفلسطيني، ساهمت في ترويجها عصابات إجرام يهودية.
وفي سياق متصل، عزا جابر انتشار الجريمة إلى "حالة الانفتاح على المجتمع اليهودي التي أدّت إلى حدوث بعض الأمراض الاجتماعية في المجتمع العربي"، لافتاً في هذا الصدد إلى أن "شريحة من الشباب الفلسطيني في الداخل تأثّروا بعصابات الإجرام في المجتمع اليهودي، وابتعدوا عن العادات والتقاليد في  المجتمع الفلسطيني، ما انعكس بشكل مباشر على ارتفاع حدّة قضايا العنف والإجرام". وشدّد على أن المظاهرات التي خرجت في الوسط العربي ضد انتشار الجريمة دفعت المستوى الأمني الإسرائيلي إلى التحرك، لافتاً إلى أن حديثاً يدور عن إمكانية زيادة أعداد الشرطة، وجمع الأسلحة من المناطق العربية؛ لكنه استدرك قائلاً: "في اعتقادي أن هذه الإجراءات لن تحدّ بشكل كبير من حجم الجريمة في الوسط العربي، بفعل غياب النوايا الحقيقية".
وأكد توفيق جبارين، عضو لجنة المتابعة العليا في الداخل الفلسطيني المحتل عام 48، أن السلطات الصهيونية تعمل على إدخال الشاباك وجيش الاحتلال للقرى والمدن الفلسطينية المحتلة تحت ذريعة "مكافحة الجريمة". وقال: إننا كلجنة متابعة نرى أن مسألة العنف والجريمة التي تم بثّها في الداخل الفلسطيني في أعقاب هبّة الأقصى والقدس عام 2000، جاءت كعقاب للفلسطينيين في الداخل الفلسطيني المحتل على موقفهم في الدفاع عن المسجد الأقصى بشكل غير معلن. ولكن ما لمسناه على أرض الواقع كان مخططاً يقضي بتفسيخ النسيج الاجتماعي للفلسطينيين، عبر نشر السلاح والتغاضي عن انتشاره والتواطؤ مع عصابات الإجرام. وأضاف أن هذا المخطط استمر على مدى أكثر من 20 عاماً، حتى جاءت هبّة الكرامة لتقول لحكومة الاحتلال إن هذا المخطّط لم ينجح على الرغم من أنه آتى أُكُله في بعض الأحيان. وأشار إلى أن ما يحصل لدينا هو وجود دولة تخطّط ضدّنا وتحاول إغراق الفلسطينيين في شلاّل من الدماء؛ ولكن خلال هبّة الكرامة، انتفضت الفئة التي يعمل الاحتلال على إغراقها في عالم الجريمة. ورأى جبارين أن ما يحدث هو محاولة لإعادة الحكم العسكري الإسرائيلي بلباس وأسماء مختلفة للداخل الفلسطيني المحتل عام 48، عبر بوّابة مكافحة العنف والجريمة التي تُعتبر حكومة ودولة الاحتلال الراعيتين الرسميتين لها. وقال إن "شرطة الاحتلال تملك كافة الأدوات الكفيلة بمكافحة الجريمة والعنف، ولكن ينقصها قرار من جهاز الشرطة نفسه ومن حكومة الاحتلال". وأكد أن الشاباك لم يغب عن الداخل الفلسطيني المحتل وكان موجوداً على الدوام بشكل سري؛ وما يحدث من خلال القرار الجديد يتيح له التواجد بشكل علني ويفتح له أبواب المدن والقرى المحتلة من أوسعها؛ وشدّد على رفض لجنة المتابعة العليا لهذا التوجّه، لما له من أبعاد خطيرة على المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل 48، وتشديد القبضة الأمنية على الفلسطينيين.
نفهم مما تقدّم أن الكيان العبري، بمؤسساته المختلفة، هو الذي أنتج وأغرق مجتمعات عرب 48 بالعنف والجرائم والدماء والدموع. وقد أوكلت إسرائيل هذه المهمة لعملائها. أما ‘الخلافات’ التي تناقلتها وسائل الإعلام بين الشرطة والمخابرات ضمن هذا الملف، فما هي إلاّ محض أكاذيب لا تُصدّق، لأن الجميع يدرك بأن الهدف من إغراق العرب في دماء العنف والجريمة كان ولا يزال أمنياً، بدليل تصريحات كبار المسؤولين، خاصة خلال مجزرة أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، والتي يسمّيها العرب هبّة أكتوبر، حيث قتلت فيها الدولة العبرية 13 شاباً عربياً، مع الإعلان عن "ضرورة كسر رأس كلّ من يحاول الاحتجاج على سياسة الدولة".
 وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، نستذكر بعض معارك السلطات المحتلة ذات الطابع الجنائي ضد عرب فلسطين خلال  العقود التسعة الأخيرة، ونستعيد إلى الأذهان حالتين بارزتين؛ الأولى- بعد احتلال جنوب لبنان سنة 1982، تسارع النشاط السياسي بين عرب 48 إلى أن وصل أوْجه في الانتفاضة الأولى (اليتيمة) بين سنتي 1988- 1991، والتي قيل عنها إنها “محت الخطّ الأخضر” (الذي كان بين منطقتي الـ48 والـ67)، حين سارعت إسرائيل إلى تنظيم تجارة واستهلاك المخدّرات بين العرب. حينها نشر الكاتب الإسرائيلي (ران كِسليف) عدّة تحقيقات في (هآرتس) قال فيها إن ضبّاطاً من الجيش والشرطة والمخابرات هم من يُشرفون على تجارتها. ويتذكّر القرّاء العرب (ران كسليف) من خلال عدة تقارير عن مصادرة الأراضي العربية نشرها في (هآرتس)، وتمّت ترجمتها في كرّاسّ من قِبل(جفعات حبيبه) سنة 1976؛ والحالة الثانية- يعتقد بعض المؤرّخين والمهتمين بتاريخ ثورة 1936 أن الحركة الصهيونية والإستعمار البريطاني أغرقا فلسطين بصراعات دموية سياسية وعائلية لإفشال الثورة. وفعلاً، لا تزال الذاكرة الشعبية ممّن عاصروا تلك الفترة تذكر الصراعات الدموية الداخليّة التي أسهمت بإفشال الثورة، والتي تناساها غالبية المؤرّخين العرب.
لذا، يمكن القول إن إغراق من يسمّون بـ "عرب اسرائيل" في دماء الجريمة ودموعها- من جهة؛ وعجزهم عن القيام بأي دور نضالي لصدّها أو كبحها وتحميلهم مسؤوليتها، بالقول تارة إن العنف مسألة ثقافية عربية، وتارة إن العرب لا يحترمون القانون- من جهة ثانية؛ قد دفعت وجهاءهم، رجالاً ونساءً، من سياسيين ومثقّفين وإعلاميين، لقبول وتصديق أكاذيب دولة الاحتلال والبحث معها عن حلول لمكافحتها.
كان تفكير هؤلاء موضعيّاً، أو لنقل حاراتيّاً، ولم يدركوا أن إنتاج العنف وإدارته يُعتبر من صميم وجوهر الدولة الاستعماريّة الليبراليّة. زد على ذلك، كون إسرائيل تعيش في الفلك الاستراتيجي لأمريكا التي تعتبر الفوضى، أي إنتاج العنف وإدارته، سياسة مركزية لها في الإقليم الذي نعيش فيه، كما الحال في العراق، وسوريا، ولبنان، وليبيا، والسودان، وأفغانستان، واليمن.. والقادم أعظم. إن الرصاص الذي يطلقه عملاء السلطة في اللد وأم الفحم ومجد الكروم هو من نفس (D.N.A) الطائرات وبقية الأسلحة الحارقة التي يطلقها عملاء إسرائيل وأمريكا المجرمين على الناس في كلٍ من الدول المذكورة ومناطق الـ48. ومن لا يدرك هذه الحقيقة سيهلّل للعصابات التي يُشرف عليها رئيس الشاباك (بارليف الثاني). لذا، فإن مكافحة العنف بين جماهير الـ48 في يافا وأم الفحم ومجد الكروم هي كمحاربته في الشام وبغداد والإقليم بالعودة إلى الدائرة القوميّة للصراع.
رابعاً – حيثيّات الجريمة في مجتمع عرب 48 :
لم تكن الجريمة في المجتمع العربي داخل الكيان الإسرائيلي وليدة المرحلة الراهنة، إذ تمتد جذورها إلى سنواتٍ وعقودٍ خلت، تفاقمت فيها أعمال العنف والقتل، وسط انتشار السلاح والمخدّرات بشكل مخيف، وفي ظل حالة من التراخي والتغافل تعاملت بها الشرطة الإسرائيلية مع هذه القضايا الخطيرة. ورغم رفض الشرطة الإسرائيلية الاتهامات الموجّهة لها بالتمييز والإهمال، وادعاءاتها بوضع خطط لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي، إلاّ أن منحنى الجريمة يتصاعد ويتعاظم في كل سنة مقارنةً بالسنوات الماضية، حيث يُلقي العرب باللوم في ذلك على الجهات الرسمية والحكومية، ويتّهمون الشرطة بتخصيص موارد قليلة للغاية لمواجهة الجريمة المنظّمة في المدن والبلدات العربية، مقارنة بالاهتمام الكبير وتخصيص الميزانيات الضخمة لمواجهة العنف في المجتمع الإسرائيلي.
منذ سنوات يواصل العرب في "إسرائيل" مناشداتهم للجهات الرسمية بالتدخل لضبط حالة الانفلات الأمني ومكافحة الجريمة المنظّمة التي جعلت الحياة في المجتمع العربي لا تُطاق، لكن من دون أن تلقى نداءاتهم تلك آذاناً صاغية. فحين تكون الضحية شخصًا يهودياً ويكون المشتبه بارتكاب الجريمة عربياً، تُسارع الشرطة لوضع الحواجز وتسخير كل إمكانياتها لإلقاء القبض على الفاعل؛ ولكن عندما يكون القاتل والمقتول عرباً، تتقاعس الشرطة عن القيام بدورها ولا تبذل الكثير من الجهود لفك لغز هذه الجرائم، ما يضع الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية أمام علامات استفهام مهمة حول دورها في التغاضي عن الجريمة، أو حتى تغذيتها من طرف خفي، لتحقيق أهداف سياسية وديمغرافية مرتبطة بالوجود العربي داخل كيان الاحتلال.
 
خامساً - التمييز العنصري في مكافحة الجريمة :
كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية أن الشرطة الإسرائيلية قامت بحلّ 22٪ من جرائم القتل التي حدثت هذا العام في المجتمع العربي، بينما في المجتمع الإسرائيلي تم حلّ 71٪ من القضايا. وفقًا للبيانات في عام 2021 هناك زيادة في عدد جرائم القتل التي حدثت بسبب النزاعات داخل المجتمع العربي، حيث قُتل 64 عربيًا بين شهري يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز من هذا العام، مقارنة بـ 51 قتيلاً في الفترة نفسها من العام الماضي.
من ناحية أخرى، كان هناك انخفاض في عدد جرائم القتل في المجتمع الإسرائيلي، حيث وقعت هذا العام  21 جريمة قتل، بينما في عام 2020 كان هناك 26 جريمة قتل في الفترة نفسها.
وفي تقرير خاص لمراقب الدولة الإسرائيلي، قال: "إن أجهزة الأمن فشلت في منع انتشار واستخدام السلاح غير المرخّص في المجتمع العربي، الأمر الذي كان له الأثر الهائل في ارتفاع نسبة الجريمة"؛ والسبب ببساطة أن المؤسسة الرسمية في "إسرائيل" لا تحرّك ساكناً رغم تصاعد الجريمة، ورغم معرفتها بالنقاط السوداء ومراكز السلاح المنفلت، طالما أن السلاح غير موجّه للإسرائيليين؛ بينما جاء في مسودّة تقرير صيغت عام 2020 بشأن العنف في المجتمع العربي، وصل ديوان رئيس الوزراء، إلى الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه قادة الوسط العربي ومنظمات المجتمع المدني، وهو أن الجريمة المنظّمة في الأحياء العربية تفاقمت نتيجة لجهود السلطات في مكافحة الجريمة المنظّمة التي كانت متفشية في المجتمع الإسرائيلي، وذلك بعد أن أمر رئيس الوزراء "أرئيل شارون" في بدايات الألفية الثانية سلطات إنفاذ القانون بقمع الجريمة في المدن التي يقطنها الإسرائيليون، حيث كان أعضاء المنظمات الإجرامية يقتلون بعضهم البعض في شوارع تل أبيب ونتانيا وأسدود؛ وببساطة بعد أن بدأت الحكومة الإسرائيلية بمحاربة الجريمة المنظّمة في المجتمع الإسرائيلي، انتقلت تلك العصابات إلى "المثلّث"، في إشارة إلى مجموعة من المدن والبلدات العربية الواقعة في شمال البلاد.
وبالتالي، فإن السلطات الإسرائيلية التي تجاهلت الواقع الأمني والجنائي في المجتمع العربي طيلة عقود مضت، وتعاملت مع هذه الكارثة بمنطق "الغيتو"، كون هذه الجرائم تقع في المجتمع العربي المغلق والمعزول عن المجتمع الإسرائيلي، وتركت العرب يواجهون مصيرهم المظلم بأنفسهم في مواجهة العصابات المسلّحة وجماعات الجريمة المنظّمة؛ وجدت نفسها أمام معضلة أمنية خطيرة بعد انخراط فلسطينيي الداخل بشكل مباشر في الحرب الأخيرة "حارس الأسوار" التي شنّتها إسرائيل على غزة في مايو/أيار 2021، في ظل وجود قرابة 320 ألف قطعة سلاح في المدن والبلدات العربية، وفق إحصاءات رسمية إسرائيلية، ما دفع المستوى الأمني والسياسي للتداعي بصورة حثيثة لتطويق ومعالجة هذا التحدي الأمني الخطير الذي عصف بالجبهة الداخلية مؤخراً، إثر اشتعال جبهة الجنوب ووصول صواريخ غزة إلى القدس وتل أبيب شمالاً ومطار ريمون أقصى الجنوب.
أمام هذا التهديد الخطير قرّرت الحكومة الإسرائيلية إشراك الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، في محاربة العنف والجريمة، ومكافحة ظاهرة انتشار الأسلحة غير الشرعية في المجتمع العربي. وجاء ذلك بعد عقد جلسة هي الأولى من نوعها للجنة الوزارية المكلّفة بمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، والتي ترأّسها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي قال: إن "العنف في المجتمع العربي وصل إلى الخط الأحمر" وإن على الحكومة "أن تأخذ هذه القضية على محمل الجد"، مضيفاً بأن "الجمهور العربي يجب يفهم بأن قوات الأمن ليست العدو، بل هي الحل". ويرفض العرب في إسرائيل إدخال الجيش والشاباك إلى المدن والقرى العربية، في ظل تخوّفات من أن إسرائيل تحاول استغلال استفحال الجريمة في المجتمع العربي لتحقيق مكاسب أمنية واجتماعية، واستثمارها لتسهيل تغلغل المخابرات وشرعنة وجود الجيش، على أمل النجاح في "صهينة" المجتمع العربي في الداخل وفق وجهة نظر قادة الأحزاب العربية، خصوصاً بعد الفشل الأمني والاستخباري الإسرائيلي في توقّع التفاعل الكبير من قِبل المجتمع العربي مع الحرب الأخيرة على غزة، والتي دفعت بالجيش لإرسال ألوية ووحدات قتالية للسيطرة على الوضع الأمني بعد خروج الأوضاع عن سيطرة الشرطة الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل "إسرائيل" أمام خطر حقيقي بخضوعها لحالة من الاستنزاف في حال تعدّد ساحات المواجهة معها في كل أنحاء الكيان.
سادساً - مصادر سلاح الجريمة المنظّمة:
تتنوع مصادر الأسلحة التي يستخدمها الفلسطينيون في حوادث إطلاق النار؛ منها ما هو مهرّب من دول الجوار، أو ما يتم شراؤه من مجنّدين إسرائيليين، وبعضها يتم تصنيعه محلياً، بحسب تقرير "مراقب الدولة". وجاء في تقرير نشره "مراقب الدولة" في العام 2019 أن: "معسكرات الجيش مستمرة في الفشل بجمع المعلومات الاستخباراتية حول سرقة الوسائل القتالية، ولم تتوصل الشرطة إلى المعلومات الكافية حول ذلك". وفي العام 2015، صرّح وزير "الأمن" الإسرائيلي السابق جلعاد أردان، أن 90 في المئة من السلاح غير المرخّص، والمنتشر في شمال البلاد والداخل الفلسطيني تحديداً، مصدره الجيش الإسرائيلي. ويشير تقرير لمنظمة "مسدّس على طاولة المطبخ" إلى أن السلاح غير القانوني يأتي من مصادر عدة، بينها مخازن السّلاح العسكريّة والجنود خارج قواعدهم، ومخازن أسلحة الشرطة، بما فيها سلاح "حرس الحدود".
من ناحية أخرى، اتّهم رئيس "القائمة المشتركة" في البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، أيمن عودة، الجيش الإسرائيلي بأنه يعلم بوجود 400 ألف قطعة سلاح في الداخل الفلسطيني 48 مصدرها الجيش نفسه، وأنه قدّم طلبات لوزير الأمن الإسرائيلي ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش بمنع ذلك؛ وقال إنه سيرفع دعاوى في المحاكم.
 وفسّر تقرير صدر عن وزارة الأمن الإسرائيلية في مطلع أيار/ مايو 2020 ظاهرة تسريب السلاح، بأن 86 في المئة من ملفات التحقيق في قضايا سرقة الأسلحة تم إغلاقها من قِبل السلطات الإسرائيلية، لعدم معرفة هوية المتّهمين بالسرقة. التقرير غطّى الفترة بين 2018 و2020، وأشار إلى تقديم لائحتي اتهام فقط من مجموع الملفات. وتحدثت معِدّة التحقيق مع مُدانين اثنين في السجن، أكدا لها شراء مسدّس تنفيذ الجريمة من شرطي! وأعلن الجيش الإسرائيلي في مطلع 2021 عن سرقة 93 ألف رصاصة تُستخدم في أسلحة M4 وM16 من معسكر للجيش في الجنوب؛ وأن التحقيقات الأوليّة لا تستبعد أن يكون جنود من داخل المعسكر قد تعاونوا مع السارقين.
سابعاً - “سيف القدس” المعركة الفاصلة:
بعد سنوات طويلة من البحث عن حلول لمكافحة الجريمة بين الوجهاء العرب و"الدولة"، قرّرت الأخيرة إدخال قوات الشرطة والمخابرات، وربما الجيش لاحقاً، والذي شهدنا ممارساته أثناء العدوان على اللد في معركة سيف القدس، وصولاً إلى القرى والمجمّعات العربيّة. لكن حسابات الذي يُطلق الرصاص على الشباب تختلف عن حسابات الذي يدفن قتلاه في طقوس هستيرية مرعبة. فالدولة التي تُطلق الرصاص بشكل مباشر وتُنظّم إطلاقه بواسطة عملاها، كانت تعدّ لما هو فوق طاقة هؤلاء واستيعاب وجهائهم، فاستقرّ مقامها وقرارها بعد معركة سيف القدس على ضرورة إعادة أو تجديد احتلال المناطق التي احتلّتها سنة 1948. وبالتالي تُعتبر معركة سيف القدس حدثاً مفصليّاً في الصراع العربي- اليهودي في فلسطين والوطن العربي.
لقد حجّمت هذه المعركة قدرات إسرائيل المدجّجة،  من جلدها إلى روحها، بكل أنواع الأسلحة وآليات التجسس والاستشعار والتنبؤ بما قد يحدث، وجعلتها تخسر المعركة أمام مقاومة لم تفكّر إسرائيل بظهورها في أسوأ كوابيسها. وما يهمّنا في هذا السياق هو قدرة شباب عرب الـ48 أثناء هذه المعركة على تحدّي حالة التشظية التي فرضتها إسرائيل وتوابعها عليهم، والشروع في معركة إعادة اللُحمة مجدداً لجميع أبناء فلسطين والوطن العربي، والتي وصل صداها إلى كافة أجهزة "الدولة" العلنيّة والسريّة، السطحيّة والعميقة، وضرورة التصدي لهؤلاء الشباب وتحطيم قدراتهم على إعادة هذه اللُحمة في المعركة أو المعارك القادمة.
والواقع هو أن حراك شباب عرب 48 هو الذي دفع دولة الاحتلال، بكافة مؤسساتها، للإسراع بالإعلان عن إدخال وحدة المستعربين (سيناي) إلى القرى العربية لمكافحة الجريمة، على حدّ زعمها. لكن الحقيقة المؤكدة هي أن هدف هذه الوحدة ليس في السياق الجنائي مطلقاً، بل في السياق الوطني (“الأمني”)؛ أي العودة للمربّع الأول وإعادة احتلال أو تجديد احتلال مناطق الـ48. فالهدف هو إعادة ترتيب أولويات عُنف وجرائم الدولة، ولنا أن نتوقع تركيزها في وسط البلاد، في كلٍ من اللد والرملة ويافا وعكا، والتي لن تغفر لها "الدولة" بسبب مقتل شخصية مرموقة في الصناعات العسكرية فيها أثناء هبّة سيف القدس، لأن وجود العرب فيها بات يُقلق  الكيان جداً؛ وعليه، يجب العمل على إضعاف العرب، وإذا أمكن تهجيرهم منها؛ كذلك الأمر في مناطق الشاغور والجليل الأعلى، لما فيهما من كثافة عربيّة بارزة. ومن المتوقع أن تفتعل العصابات الإجرامية صدامات خلال مباريات، ومسيرات وطنية ودينية، وخلال الأعراس، ومطاردة سائقي السيارات في شوارع القرى الضّيقة والمتهالكة، كما تفعل اليوم شرطتا السير والجماهيرية المختصة بصنع الإشاعات ونشرها؛ والأخطر من هذا كلّه خلخلة السلم الأهلي بواسطة تحويل الناس إلى عملاء لهذه الوحدة، عن طريق استخدام كاميرات مثبتة لدى الجيران المُستهدفين بإطلاق النار للتعرف على الجناة وعرض صورهم، ليس كدليل جُرمي بل كمتعاونين مع هذه الوحدة.
لذا سيقوم الكثيرون من عائلات الـ48 بإزالة كاميرات المراقبة أو تعطيلها تحسباً من استخدامها للتحريض ضدّهم؛ كما أنه يمكن اعتبار مقال (ليران ليفي، walla.co.il, 4.9.2021) الذي جاء عنوانه على النحو التالي “الشرطة تحذّر: المدن المختلطة ستشهد أعمال شغب عنيفة – لكن لا يمكننا المساعدة بسرعة”، تأكيداً وتحشيداً من قِبل الدولة الإسرائيلية وإعلامها المتعطشين لدماء هذه المدن وبقيّة العرب. ونعيد إلى الأذهان أن هذه الشرطة هي التي قتلت كلاً من الشاهدين الشهيدين: يعقوب أبو القيعان في النقب، وإيّاد الحلاق في القدس. وتم في الفترة الأخيرة استجلاب عصابات المستعمرين من الضفة التي تقوم بأعمال استفزاز ضد العرب لاستجرار وحدة (سيناي) إلى داخل بلدات الـ48.
ثامناً – دراسة إحصائية: أصدرت "جمعية الشباب العربي - بلدنا"، بالتعاون مع "المركز من أجل الثقة، والسلام والعلاقات الاجتماعية" في جامعة كوفنتري البريطانية، دراسة إحصائية شاملة ل"9 سنوات من الدم"، رصدت "معلومات إحصائية عن ضحايا جرائم القتل... بين سنوات 2011-2019"، لأول مرّة منذ تفشّي هذه الظاهرة الخطيرة. وتشير الدراسة إلى أن "تقديم وتحليل معطيات حول الضحايا لا يعني بالضرورة فهم حالة العنف والجريمة"، وأن "تقديم المعلومات حول الضحايا.. من شأنه أن يساعدنا على الفهم وأن يكون مدخلاً لدراسات معمّقة لاحقاً".
 ووفقاً للدراسة، يرتفع "المعدّل السنوي لجرائم القتل في المجتمع الفلسطيني في الداخل" إلى 64 جريمة، وهو معدّل "مرتفع جداً" بالمقارنة مع نظيره في الضفة الغربية من جهة، وفي المجتمع الصهيوني من جهة أخرى. وتفيد الدراسة أن جرائم القتل منتشرة "في كافة مناطق تواجد الفلسطينيين"، ولكن نسبة الضحايا أعلى في منطقة "المركز" (يافا، اللد والرملة)، حيث إن عدد القتلى يرتفع إلى 112 في هذه المنطقة، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز ال71,000 نسمة، ما يعني أن عدد القتلى لكل 100 ألف شخص هو 156، وهو الأعلى بين المناطق الفلسطينية.
وارتفع عدد القتلى في منطقة الشمال (من عكّا على الساحل إلى بلدات وقرى الداخل) إلى 138 ضحية، ما يشكّل 24% من مجموع الضحايا. ولكن بسبب عدد السكان الذي يصل إلى 464,700 نسمة، فعدد القتلى لكل 100 ألف شخص هو 30. ولكن حين ركّزت الدراسة على تطوّر الظاهرة خلال تلك السنوات الثمانية، وجدت أن عدد الضحايا في الشمال ارتفع في السنوات الأخيرة، من 7 ضحايا عام 2018 إلى 24 ضحية عام 2019.
المدن والبلدات التي شهدت أكبر عدد من الضحايا هي: يافا واللد والطيبة وأم الفحم والطيرة (2 في المركز و3 في المثلّث)؛ وكان إطلاق النار هو أداة القتل الأكثر شيوعاً (74% من الجرائم). أما بالنسبة لجنس الضحية، فالإناث تشكّل 16,3% من الضحايا، وهي نسبة أقل من نسبة الذكور التي ارتفعت إلى 83,7%.
وتشير الإحصائيات إلى أن جيل الشباب هو المستهدف الأول بجرائم القتل، إذ إن "حوالي نصف القتلى هم شباب من عمر 15 عاماً حتى 30 عاماً"، ونسبة فئة الشباب من الضحايا مرتفعة في كل المناطق؛ ورغم تدنّي عدد الضحايا في منطقة حيفا (24 ضحية)، إلاّ أن نسبة الشباب الذين سقطوا من جرّاء القتل تمثّل 79% من مجمل الضحايا في هذه المنطقة.
إضافة إلى هذه الدراسة الإحصائية، تناولت الدراسات الخاصة بالمسألة، الأسباب التي تقف وراء تفشّي الجريمة في أراضي 48 . لكن في البداية، ميّزت المخرجة السينمائية والصحافية سهى عرّاف، في دراسة استقصائية، بين الجريمة المنظّمة والجريمة الفردية، مُعرّفة الجريمة المنظّمة أنها "منظومة اجتماعية واقتصادية مرتّبة ومركّبة، ذات نظام إداري وهيكلية تنظيمية يسعى أعضاؤها إلى جني مكاسب مادية".
ومن خلال المقابلات التي أجرتها الكاتبة مع المتخصصين في شأن الجريمة، يتّضح أن منظمات الإجرام الكبيرة ولِدت بداية الثمانينيات في الشارع اليهودي، و"أصبحت تشكّل خطراً على اقتصاد وأمن "إسرائيل". لقد عملت هذه المنظمات في المدن اليهودية، مثل نتانيا، كرمئيل ونهاريا.. وكانت منظمات الإجرام "العربية" بمثابة مقاول ثانوي لها، وكانت تتولّى التنفيذ..". وبعد انهيار المنظمات اليهودية التي تمّت محاربتها من قِبل السلطات الرسمية، انتقلت الظاهرة إلى الوسط العربي حيث "شرعت في تطوير ذاتها"؛ لم تحاربها الشرطة "الإسرائيلية"، فتوسّع نشاطها إلى حدّ سيطرتها على المجالس المحلية والبلديات: "تعرّض رؤساء 15 سلطة محلية لإطلاق النار، مباشرة، خلال العام 2019 ، وهو ما يؤشّر على منحىً خطير... الهدف من وراء هذا كلّه هو تبييض أموال هذه المنظمات" من خلال المناقصات والابتزاز.
يقول رئيس "لجنة المتابعة لقضايا الجماهير العربية في الداخل"، محمد بركة : "منظمات الإجرام اخترقت السلطات المحلية قبل 20 سنة، في الانتخابات المحلية التي جرت في العام 1998... وتعززت قوّة هذه المنظمات بالدعم الذي تحصل عليه من الدولة (الصهيونية).. الدولة لا تدافع عن القانون في القرى والمدن العربية.. وتحظى (هذه المنظمات) برعاية الدولة والشرطة وحمايتها".
في الدراسة ذاتها، تستطلع الكاتبة آراء مسؤولين فلسطينيين حول هذه الظاهرة. لم يُخف أغلبهم تحميل المسؤولية للكيان الصهيوني ومؤسساته الأمنية، وركّز بعضهم على أن الأسباب سياسية، لا سيما بعد انتفاضة الأقصى العام 2000، التي أحدثت قطيعة بين المجتمع الصهيوني ومؤسساته الأمنية وبين المجتمع الفلسطيني.
ويلفت المحامي رسول سعدة الانتباه إلى وجود "المتعاونين" (العملاء من الضفة الغربية وقطاع غزة): "نحن رفضناهم ونبذناهم، فأخذوا يبيعون المخدرات؛ كانوا يحملون السلاح. ورويداً رويداً، انخرطوا في عالم الإجرام، وهو ما منحهم مكانة ما. الآن، أصبحنا نحن نتوجه إليهم ليوفّروا لنا الحماية من أشخاص آخرين". ويؤيّد مسؤول صهيوني أمني متقاعد هذا الكلام عن العملاء، بقوله: "جلبوهم للسكن في جنوب تل أبيب ويافا؛ هم يحسبون أنه مسموح لهم فعل كلّ ما يريدون لمجرّد أنهم كانوا متعاونين؛ بعض أفراد عائلاتهم أصبحوا مجرمين، ولا يمكن التحدث معهم. بعضهم لديه أسلحة. هم واثقون تماماً من أنهم مدعومون".
وإذا كانت المؤسسة الأمنية الصهيونية تتحمل المسؤولية المباشرة عن تفشّي العنف والجريمة المنظّمة في المجتمع الفلسطيني، فهي تتحمل أيضاً المسؤولية غير المباشرة بسبب احتلالها وتهميش المجتمع الفلسطيني، وإضعاف النخب العربية الفلسطينية، السياسية والمجتمعية. قد تكون يد الإجرام فلسطينية، لكن لا يمكن التغاضي عن التحوّلات الاجتماعية والسياسية والنفسية التي أحدثتها النكبة لدى من بقِي في وطنه.
يتحدث رضا جابر، مدير مركز أمان، "المركز العربي للمجتمع الآمن"، عن عملية "بتر مؤلمة لهذا المجتمع عن شعبه واستقراره بصورة قسرية، على هامش دولة ومجتمع آخر قوي ومعادٍ له... وقد أصبح الشعب الفلسطيني في الداخل "أقليّة قومية في حالة صراع وهامشية دائمة داخل دولة تعتبرها جسماً غريباً، بل عدواً لها". ثم جاءت "مرحلة ما بعد أوسلو، وقد رافقتها عملية بتر ناعمة وغير مرئيّة، في الوعي، عن القضية الأم. وقد أحدثت تحولّاً في عمق انتماء هذا المجتمع وتماسكه". ويستخلص جابر أن "تأثير هذين الحدثين (النكبتين) متواصل وتراكمي، وله أبعاد عميقة على شعور الفرد بالانتماء لمجتمعه وشعوره بالمعنى والأهمية داخله. تتفشّى الجريمة والعنف في المجتمعات التي تآكلت بوصلتها الجامعة وتشظّت هويتها".
في ظل الاحتلال ومنعه من التطور الطبيعي للمدن والبلدات الفلسطينية، "لم تتحوّل هذه التجمعات السكانية إلى مدن حديثة"، ولم تلبّ الطموحات الفردية لساكنيها. وقد أسفرت سرقة الأراضي وسياسة التهميش التي اتّبعتها المؤسسة الصهيونية إلى تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني؛ وبالتالي إلى تغيير وظيفة العائلة والحمولة "من مصدر لحماية أفرادها إلى مبنى سياسي يصحو فقط في الانتخابات المحلية".
 وينطلق د. أسعد غانم، الذي كلّفته لجنة المتابعة العليا بترؤّس طاقم لصياغة "المشروع الاستراتيجي لمكافحة العنف والجريمة في المجتمع العربي"، من ضرورة تقديم تفسير شامل لظاهرة العنف "حتى نقف على أرضية ثابتة تتيح معالجتها"، بدلاً من التفسيرات "القطاعية" (اقتصادية، تربوية، تفكك المجتمع، انعدام النظام، إلخ..)؛ فيعتبر أن "تراجع المرجعيات التي تستطيع ضبط الناس وتنظيمهم، بسبب المأزق المركّب للأقلية الفلسطينية"، مسؤول عن تفشّي هذه الظاهرة؛ والمرجعيات "قد تكون أنماطاً أو قيماً أو أفكاراً، وقد تكون مؤسسات، أو حتى قد تتمثل في قيادات فردية لها دور مركزي..". وقد تراجعت المرجعيات الاجتماعية والدينية "نتيجة لتغييرات على مستويات عدة"، والمرجعيات السياسية الوطنية، التي "لا تملك مفاتيح لحلّ قضايا الناس... (و)لا تطرح القيادات برنامجاً جماعياً وطنياً لمستقبل الفلسطينيين في إسرائيل يستطيع أن يبعث الأمل.."،وشعور الفلسطينيين بأنهم عاجزون عن التغيير "إلى الأفضل" يؤدّي "إلى اللجوء لوسائل القوّة والعنف؛ بمعنى أن حالة العنف المتزايد هي علامة قوية على انهيار المجتمع وتفتّته". ولكن، يبقى الكيان الصهيوني أساس هذه الأزمة، بسبب بُنيته الإثنية العنصرية و"رفض الدولة الإستراتيجي لمطالب المساواة والانتماء". ولذلك هو يعيد المسألة الى إقامة هذا الكيان، أو "بعد قيام دولة إسرائيل"، حيث بدأت"مشكلة الفلسطينيين في إسرائيل، وهي جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية بمفهومها الواسع".
 ويعتبر د. غانم أن "التهميش المزدوج" للمجتمع الفلسطيني (الحركة الوطنية الفلسطينية التي أُبعدوا عنها أو ابتعدوا عنها، وكيان الاحتلال)، أدّى "إلى تغلغل الوهن والضعف والتفتت على المستوى الداخلي"، وإلى "انعدام رؤية متّفق عليها لمستقبل جماعي".
وإضافة الى "تعقيدات سيرورة التغيير الاجتماعي"، شكّلت هذه العوامل "الحاضنة الأشمل لتفاقم العنف، وحتى الجريمة.. حتى أن عصابات الجريمة المنظّمة تجد مرتعاً خصباً لعملها، ولا تجد من يردعها داخلياً من قِبل المجتمع، وخارجياً من قِبل الشرطة".
 أمام هذا التشخيص السياسي والاجتماعي لأسباب تفشّي الجريمة، قدّم الباحثون بعض الاقتراحات لمعالجتها، وكلٌ حسب اختصاصه. ففي حين ركّز الخط الإندماجي على مطالبة الشرطة ووزارة "الأمن" الصهيونية بتحمّل المسؤولية ومحاربة الجريمة في الوسط العربي كما تحاربه في الوسط اليهودي، طالب آخرون بعلاجات "قطاعية"، مع التركيز على ضرورة النهوض الإقتصادي، وفرض "القانون"، والتوعية في المدارس والمنازل حول مخاطر استخدام العنف. ويرى الأستاذ رضا جابر أن "معالجة العنف والجريمة بالوقاية منه كفعل استباقي، أو مواجهته المباشرة، هو فرصة المجتمع الفلسطيني لإعادة التأكيد على قِيمه"، لكنها بحاجة إلى مشروع "مجتمعي وحكومي مدعوم بالميزانيات الهائلة، وأيضاً بموقف سياسي داعم ومستعد للمواجهة لسنوات طويلة".
من جهته، يركّز د. أسعد غانم على ضرورة المعالجة الشاملة، تبدأ ب"إعادة الاعتبار لتنظيم المجتمع، من خلال إعادة ترميم أو بناء جديد لمرجعيات مجتمعية، وعلى رأسها موضوع القيادة الجماعية" والالتفاف حول مشروع وطني. ويستند د. غانم إلى تاريخ الشعب الفلسطيني و"تجربة مجتمعنا الفلسطيني في "إسرائيل" إبّان عهد الصعود الوطني.. فالشروع بمشروع جماعي، يشدّ الجماعة وينظّمها ويجعلها أكثر تسامحاً فيما بينها، في مواجهة العدو الخارجي"؛ ولكنه يضيف أن على الدولة (الصهيونية) أن تغيّر سياستها، وكذلك الشرطة.
وبرغم الاعتراف بأن "سياسات الدولة هي السبب الرئيسي في تفكك المجتمع الفلسطيني عموماً"، يستبعد د. غانم "أي إمكانية واقعية لأن يكونوا (فلسطينيو الداخل) جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية في الظروف الراهنة، على أساس من المساواة مع الفئات الفلسطينية الأخرى". ولهذه الأسباب، هو يطالب بصياغة مشروع وطني لفلسطينيي الداخل، بمعزل عن بقية الشعب الفلسطيني، للخروج من الأزمة الوجودية التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني في الداخل؛ أي الاعتراف بالمواطنة الكاملة وبـ"الحقوق القومية" للمجتمع الفلسطيني ضمن الكيان الصهيوني؛ ما يعني العودة مرة أخرى إلى ثنائية المواطنة في كيان العدو مقابل المشاركة في الحركة الوطنية الفلسطينية، رغم تعثّرها الحالي، ضمن برنامج يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كلّ ساحة من ساحاتها.
تاسعاً: خاتمة
عامًا بعد آخر تزداد جرائم القتل في الوسط الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948 من دون تحرك جديّ يُذكر من جانب شرطة الاحتلال، بينما تُغلق ملفات بعد شكاوى تُقدّم للقضاء الإسرائيلي؛ لكن من غير تحقيق أو مساءلة.
وكان قتِل 93 مواطناً، بينهم 11 امرأة، في الأراضي المحتلة عام 1948، خلال العام 2019، وذلك بتواطؤ أوتقاعس سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وقد شهد العام نفسه حراكًا شعبيًّا واسعًا ضد جرائم القتل في أوساط فلسطينيي الـ48، لوضع حد لازدياد العنف والجريمة وتواطؤ سلطات الاحتلال. وأظهرت إحصائيات نشرتها مواقع بحثية، مقتل 76 مواطنًا بينهم 14 امرأة، في جرائم قتل مختلفة، عام 2018، ومقتل 72 مواطناً، بينهم 10 نساء عام 2017. وقد اجتمعت عوامل عديدة، منها "السلاح غير المرخّص، وتقاعس شرطة الاحتلال الإسرائيلي عن محاسبة المجرمين، وانتشار الفقر والبطالة، وعدم وجود مقرّات للشرطة في المدن والتجمعات الفلسطينية، ممّا ساهم في تفاقم وانتشار الجريمة في الداخل الفلسطيني، بشكل منفلت . والجدير بالذكر أن غالبية المجرمين، ومن يقومون بعمليات قتل في الداخل المحتل، هم أعوان للاحتلال الإسرائيلي الذي يرفض محاسبتهم ويعزّز من تواجدهم خدمة لأطماعه التوسعية؛ لكن أي محاولة للإخلال بأمن الاحتلال تتمّ مواجهتها بالقوّة واعتقال القائمين عليها، على عكس من يرتكبون الجريمة في الوسط العربي الذين يُتركون أحراراً، بل وتوفّر لهم الحماية.
 إن عدم محاسبة واعتقال المجرمين يشجّع على زيادة أعمال العنف وخلخلة الأوضاع في الداخل الفلسطيني. وإن صمت شرطة الاحتلال عن الجرائم التي تُرتكب في الداخل المحتل، هو بمثابة مكافأة وتشجيع للمجرمين لزيادة جرائمهم. وقد أضحت هذه الجرائم تهدّد كلّ المجتمع الفلسطيني في أراضي الـ48، لاسيما وأن معظمها مجهولة المنفّذين؛ أو بالمعنى الأدق ليست هناك متابعة حقيقية وجديّة من قِبل شرطة الاحتلال لحيثيات هذه الجرائم ومُرتكبيها، وذلك لأسباب سياسية وتآمرية ذكرناها آنفاً.
 

2022-11-21 13:47:30 | 697 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية