التصنيفات » مقالات سياسية

التحوّلات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي ودلالاتها
التحوّلات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي ودلالاتها
الدكتور عباس إسماعيل

في البداية، الموضوع له علاقة بالتركيبة المجتمعية لإسرائيل ودلالاتها على مستقبل هذا الكيان في أكثر من معنى. الموضوع مهم جداً، وهناك العديد من العناوين فيه، والتي سنضيء على أكبر عدد ممكن منها.
سنتكلم بداية عن التوزيع التقليدي الذي أصبح معتمداً في مقاربة المجتمع الإسرائيلي، وسننطلق منه لنصل إلى التقسيم الواقعي لهذا المجتمع.
استجلب المجتمع الإسرائيلي مجموعات من "اليهود" من كلّ بقاع الأرض ومن كلّ القوميات. وقد اجتمعت هذه المجموعات على أرض فلسطين، حيث قام علماء المجتمع بتقسيمها إلى خمسة فروع (تصدّعات) أساسية: أولاً: التصدّع الديني - العلماني، ويُقصد به وجود مجموعة من الإسرائيليين العلمانيين مقابل غيرهم من المتديّنين؛ ويسبّب هذا التقسيم - مثل أي مجتمع- نوعاً من الفرقة والاختلاف حول الثقافة والهوية ونظام الحكم؛ وبالتالي هذا خطأ جوهري له ميزة في إسرائيل عن باقي المجتمعات، وله علاقة بطبيعة المجتمع الديني في الكيان. وهذا الواقع موجود منذ ما قبل قيام الكيان واستمر طيلة العقود الماضية.
 التصدّع الثاني هو ذلك القائم بين الشرقيين والغربيين، على قاعدة التمييز بين الشرقيين والغربيين المتحدّرين من أوروبا وأميركا؛ وخطورة هذا الانقسام تكمن في أن الإسرائيليين الأوائل هم أشكيناز، وهم يعتبرون أن الشرقيين جاؤوا فيما بعد، وقد اعتبرهم الغربيون بدائيين لأنهم أتوا من الدول العربية أو من أفريقيا، فتم التعامل معهم بفوقيّة وعنصرية؛ والأدبيات الإسرائيلية حافلة بالطرق التي تم التعامل بها مع هؤلاء الشرقيين والتراكمات التي حصلت، ما أدّى إلى الانقلاب الكبير الذي حصل عام 1977، عندما صوّت الشرقيون لليكود، وقاموا بثورة في السياسة الإسرائيلية. ومنذ ذلك الوقت بدأ حزب العمل مساره التراجعي، حيث أصبح اليوم من أصغر الأحزاب في إسرائيل .
هذا الانقسام الشرقي- الغربي كان بالغ الحدّة في البداية؛ لكن هذه الحدّة تراجعت في العقدين الأخيرين، لأن الفجوة بين الشرقيين والغربيين تضاءلت نتيجة التطورات التي حصلت في المجتمع الإسرائيلي؛ لكن  الانقسام لا يزال موجوداً؛ فنحن نعلم أن هناك بعض السياسيين الشرقيين مثل أرييه درعي- رئيس لحزب شاس المغربي؛ وبعضهم لا يزوّج ابنته لمغربي. والمتابعات أثبتت أن الغربيين يتقدمون على الشرقيين في كل شيء؛ حتى أن الرواتب والمناصب تختلف بين الشرقيين والغربيين.
التصدّع الثالث يتمثّل في التوتر السياسي بين اليمين واليسار؛ والاختلاف الأساسي بينهما هو حول القضية الفلسطينية. هناك تحوّل كبير على هذا الصعيد؛ بمعنى أنه في العقود الأولى وحتى الثمانينات كانت أغلبية الإسرائيليين تصنّف نفسها  في اليسار أو الوسط؛ أما الآن، فحوالي 60% من الإسرائيليين يصّنفون أنفسهم على أنهم يمينيين، وأقل من 15% يساريين، والباقي في الوسط؛ وهذا يدل على الخلل المستمر في التوزيع.
التصدّع أو الانقسام الرابع يكمن في التوتر القومي؛ نحن لا نعتبر إسرائيل دولة قومية؛ وتعريف اليهودية بالقومية له اعتبار كبير في إسرائيل، والتي تنقسم بين يهود وعرب (فلسطينيو 48 وليس كل العرب). في العام 1948 بقي ما يقارب 150 ألف فلسطيني من أصل 900 ألف كانوا يعيشون داخل أراضي 48؛ ونتيجة اعتبارات عديدة، وبعد فشل المحاولات الصهيونية لتهجير هؤلاء، فرِض عليهم حمل الجنسية الإسرائيلية؛ لكنهم ظلّوا عرباً؛ وبالتالي، عندما نتكلم عن الفلسطينيين يجب أن نفرّق بين عرب 48 الذين ينتخبون في الانتخابات الإسرائيلية وبين فلسطينيي الضفة والقدس.  وحين نتكلم عن الصدع بين اليهود العرب، فإننا نتكلم عن التوترات الخطيرة التي تشهدها إسرائيل منذ عقود؛ فالصهاينة يعتبرون أن فلسطينيي 48، لأنهم من خارج اليهودية ويشكّلون خطراً على يهودية الدولة؛ خاصة أنهم أصحاب الأرض الفلسطينية الحقيقيين. وبالتالي، المشكلة بين اليهود وعرب 48 ليست فقط في الاختلاف القومي والديني؛ بل إن عرب 48 يسمّون في المجتمع الدولي بالقومية الأصلانية، لأنهم أهل الأرض؛ وهذا الوضع تختلف مقاربته في القانون الدولي من جهة الحقوق.
 الصدع الخامس والأخير، هو الصدع الطبقي الموجود في كل المجتمعات، أي بين الأغنياء والفقراء.
هذه هي التقسيمات التقليدية، مع الرهان على تأثير هذه التقسيمات أو التصدعات بعد نحو ثمانية عقود على إنشاء "إسرائيل"؛ وهناك عامل التدخل الخارجي، والقادر على تفكيك المجتمعات؛ لكنه يعمل دائماً على حماية وتعزيز وجود الكيان.
يقوم نظام الحكم في الكيان على الانتخابات التي تعتبر إسرائيل دائرة واحدة ودوائر مقفلة. وعندما نتحدث عن مجتمع متنوع، فهذا يعني انقسامات سياسية؛ وكل قسم ذكرناه آنفاً تجلّى ضمن حزب سياسي؛ وأغلب الأحزاب في إسرائيل هي أحزاب قطاعية، أي أنها تمثّل قطاعاً معيّناً؛ فمثلاً، هناك أحزاب يهودية وأحزاب عربية، من الناحية القومية؛ وهناك أحزاب يسارية وأخرى يمينية؛ وهناك أحزاب علمانية وأخرى دينية. والأسوأ أن هناك أحزاباً تمثّل جماعات معيّنة؛ فمثلاً هناك حزب يمثّل الروس وآخر يمثّل الشرقيين، وآخر يمثّل الغربيين. هذا الانقسام المجتمعي تحوّل إلى انقسام سياسي؛ وعندما يمثّل الحزب فئة معيّنة يكون همّه الأساسي الوصول إلى الحكم لتمثيل هذه الفئة.
وبرأيي، خاطئ من يعتبر أن النظام في إسرائيل هو نظام ديمقراطي. فالأحزاب الإسرائيلية كثيرة الانشقاقات؛ والظاهرة الأخطر هي ظاهرة شخصنة تلك الأحزاب. فحزب الليكود تحوّل إلى حزب نتنياهو، والذي هو رئيس الليكود منذ عام 1993 باستثناء 3 سنوات تولّى فيها شارون الرئاسة؛ وأغلب الانشقاقات التي حصلت كانت عن حزب الليكود. وهناك حزب أفيغدور ليبرمان، وهو علماني يمثّل الروس؛ وهو رئيس الحزب منذ عام 1999، لكنه يعطي دروساً في الديمقراطية. وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب الدينية؛ فمثلاً، حزب شاس ليس فيه انتخابات، بل القرار هو للحاخامات، ويفتقد الحزب لأبسط القواعد الديمقراطية. أيضاً، أغلب الحكومات الإسرائيلية هي حكومات ائتلافية وتلبّي رغبات كلّ حزب من تلك الأحزاب.
أما حول الخطر المجتمعي المقبل على إسرائيل ودلالاته  وأهميته بالنسبة إلينا، فأقول:
هناك تقسيم معتمد حالياً في المجتمع الاسرائيلي هو تقسيم القبائل الأربعة. وأوّل من أطلق هذا المصطلح هو الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين عام 2015؛ وهو يتحدث عن تحوّلات أو قبائل أربع في المجتمع الاسرائيلي: القبيلة العلمانية، والقبيلة العربية، والقبيلة الحريدية- المتدينون الحريديم، وقبيلة الصهيونية الدينية أو الصهيونية القومية.
هذه القبائل الأربع تشكّل خطورة على المجتمع الإسرائيلي، خاصة في دائرة التوازن الديمغرافي والتغيرات داخله. في العقود الأولى كانت الأغلبية هي أغلبية علمانية، وعلى هامشها كانت القبائل الصغيرة الأخرى. أما اليوم، فهناك شكل مختلف من التوازن؛ وفي ظل النظام السياسي الحالي، القوّة الديمغرافية هي قوّة سياسية واقتصادية وغير ذلك.
لذا، عندما نسمع بالتهديد الداخلي للكيان، فإن جزء من هذا التهديد هو من هذا المنظور. والخطر في أن هذه القبائل باتت تيارات مستقلة داخل الكيان؛ هذا هو واقع المجتمع الإسرائيلي. العلمانيون مستقلون عن الآخرين؛ وكل قبيلة تعيش في مكان مستقل عن الآخرين، ضمن حيّز جغرافي مختلف. ولكلّ قبيلة نظام تعليم خاص بها. في إسرائيل أربعة نظم تعليمية: الرسمي، والخاص بالعرب، والخاص بالحريديم، والخاص بالصهيونية الدينية؛ وكل قبيلة لديها عادات وتقاليد وثقافة خاصة. وهناك قبيلتان لا تخدمان في الجيش الإسرائيلي: الحريديم والعرب.
ونشير هنا إلى أن إسرائيل ذاهبة إلى مكان في المستقبل القريب، بحيث يصبح عدد الحريديم والعرب أكثر من نصف السكان؛ وهذا التطور فيه خطورة كبيرة على المجتمع الإسرائيلي.
يجمع التيار الديني الصهيوني بين اليهودية والصهيونية؛ فهو أنشأ تآلفاً بين الدين والقومية، وأنصار هذا التيار هم أنصار أرض إسرائيل الكبرى؛ بمعنى أنه تيار متطرف، ولا يقبل بالتسويات، ويعتبر أن غرب الأردن هي أرض إسرائيل. وهؤلاء المتطرفون يخدمون في الجيش ويعملون على فرض سيطرتهم على الجيش وعلى المناصب في إسرائيل.
أما الحريديم فيرفعون شعارهم: توراتهم مهنتهم؛ وهم ينصرفون لتعلّم العلوم الشرعية فلا ينخرطون في الجيش ولا في الدورة الاقتصادية للبلاد. وهذه الشريحة من المجتمع الإسرائيلي عقدت اتفاقاً عند قيام "دولة إسرائيل" بإعفائها من الخدمة في الجيش وبالعطلة نهار السبت؛ في البداية كانت نسبة هؤلاء قليلة، وكان الرهان أن يذوبوا في المجتمع الإسرائيلي العلماني. لكن ما حدث هو العكس، حيث زاد عددهم وأصبح تأثيرهم مهماً في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ وهم يشكّلون اليوم نسبة ٪14 من نسبة اليهود؛ والتوقعات أن النسبة ستصبح في عام 2055 نحو 27%، وعام 2065 قد تبلغ نسبتهم 31%. والمشكلة أنهم متزمتون جداً ولا يشاركون في الدورة الاقتصادية، ولا يحاربون في الجيش، ولا يدرّسون أولادهم العلوم العصرية في المدارس، بل يعملون فقط على العقيدة. إذاً، الحريديم زادت قوّتهم الديمغرافية كثيراً، وبالتالي زادت قوّتهم السياسية؛ فهم باتوا جزءاً أساسياً من  الأزمة السياسية في إسرائيل منذ العام 2019 حتى الآن، حيث لا يستطيع نتنياهو تشكيل حكومة من دونهم، وهم لا يقبلون إلاّ بالحصول على موارد مالية كبيرة. والعلمانيون في الكيان يصفون أنفسهم بأنهم حمير الحريديم، لأن الحريديم لا يعملون (60% منهم)، ولا يدفعون الضرائب؛ فهم منصرفون لتلقّي العلوم الدينية، ولا يتعلمون العلوم الأساسية، ولا ينصرفون للعمل في السوق؛ وهم أكثر الفئات إنجاباً في المجتمع الإسرائيلي؛ أما العلماني فيُنجب ولداً وولدين.
أيضاً، أحزاب الحريديم عند دخولها في الحكومات تشترط  الحصول على موارد مالية لطلاّب المدارس الحريدية؛ العلماني يخدم في الجيش ويعمل ويدفع الضرائب، إضافة إلى دفع رسوم الجامعات والمدارس. من هنا تتأتى خطورة الحريديم على مستقبل إسرائيل.
وكما ذكرنا، فالحريديم والعرب (فلسطينيو 48) لا يخدمون في الجيش، باستثناء الدروز؛ فخدمتهم إلزامية، ولكن نسبتهم قليلة، وبعض البدو يتطوعون للخدمة.
 بعد 30 أو 40 سنة سيتشكّل واقع ديمغرافي في إسرائيل، فيه ما يقارب 55 % حريديم وعرب و25% صهيونية دينية و25% علمانيون. وهذا الواقع معطوف على  واقع آخر مهم، وهو أن الفلسطينيين اليوم باتوا أكثر من اليهود إذا ما جمعنا سكان الضفة الغربية وغزة والقدس (أرض فلسطين التاريخية).
إن للمؤشرات الديمغرافية  خطورتين أساسيتين: الخطورة الأولى تكمن في التحدي الداخلي. ذكرنا أن النظام الإسرائيلي قائم على دعامات أساسية، وهي: يهودية الدولة، ديمقراطية النظام، والأمن. وإذا اهتزّت إحدى هذه الدعامات ستهتزّ كلّ "الدولة".
إسرائيل تأسست لتكون وطناً قومياً لليهود. لذا يجب أن تكون الأغلبية لليهود؛ وكل مبدأ الهجرة قائم على هذا الهدف؛ أغلبية يهودية في الكيان، بحيث لا تتجاوز نسبة غير اليهود20%؛ ويعمل اليهود لتحقيق هذا الهدف بشتّى الطرق؛ وهم يفكّرون بتهجير الفلسطينيين بطريقة ناعمة؛ ومن شروطها أن ينفصل اليهود عن الفلسطينيين، لأن استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي يعني أنهم سيذهبون إلى "الدولة الواحدة" شاؤوا أم أبوا. والدولة الواحدة تعني: إما أن يكون نظام ديمقراطي والفلسطينيون سيحكمون لأنهم الأغلبية؛ وإما أن يحكم نظام الفصل العنصري، والذي ستكون له تداعيات كبيرة.
 وهنا تتبدّى خطورة اليمين واليسار معاً. الجمهور الإسرائيلي يسير نحو الهاوية، لأن 65% من الإسرائيليين صاروا يمينيين، وهم لن يعطوا الشعب الفلسطيني دولة؛ فما العمل مع هذا الشعب إذاً؟ فالدلالة الأولى للتغيرات الديمغرافية هي التحدي الداخلي اليهودي.
التحدي الثاني هو ديمقراطية النظام. ذكرنا أن نظام الحريديم قائم على نظام الحاخامات؛ ونقدّر أن الدينيين سيصبحون الأغلبية في إسرائيل، وهم على شقّين: التيار الديني القومي، والتيار الحريدي؛ وبالتالي هناك مطالبات متزايدة بتطبيق الشريعة اليهودية. وحصلت معاقبة وإسقاط لحكومة، لأن شركة الكهرباء نقلت موتورات كهرباء نهار السبت، أو لأنها استقبلت طائرات F16 قبل نهاية السبت.
وتبقى الديمقراطية مهمة لإسرائيل، لأنه من دون ديمقراطية لا يمكن لها أن تحتوي المشاكل الموجودة فيها. إسرائيل ليست نظاماً ديمقراطياً بالمفهوم الغربي؛ ولكننا نتكلم عن الديمقراطية لليهود فقط.
التحدي أو المفهوم الثالث هو الأمن؛ وفيه أكثر من دلالة: الدلالة الأولى حين قلنا إن أكثر من نصف الإسرائيليين لن يخدموا في الجيش (العرب والحريديم)، والنصف الآخر لا يخدم كله؛ فتتراجع قوّة الجيش "الحديدية". الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى إمكانيات؛ لكن الحريديم والعرب لا يقدّمون الدعم، فتتراجع القوّة الاقتصادية وتزيد نسبة المتدينين في الجيش الإسرائيلي.
إذاً، إسرائيل أمام تحوّلات ديمغرافية ستكون لها دلالات على مستوى الداخل، وعلى مستوى الصراع العربي - الإسرائيلي وعلى الأمن القومي؛ ونحن لم نتكلم عن التحديات الخارجية أمام الكيان، كتحدي محور المقاومة، وكيف يمكن للكيان والمجتمع الإسرائيلي أن يواجه تحدي محور المقاومة. 
 

2023-03-10 10:51:23 | 586 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية