التصنيفات » مقالات سياسية

العقيدة الأمنية الإسرائيلية

العقيدة الأمنية الإسرائيلية

الأستاذ علي حيدر


بداية لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة أن الحديث عن العقيدة الأمنية الإسرائيلية ليس مطلوباً فقط لذاته. فمن المهم الاطّلاع على العقيدة الأمنية لأي دولة؛ ولكن بالنسبة لإسرائيل، فهو مدخل ضروري ولازم لفهم  الكثير من الرؤى والمشاريع الإسرائيلية في المجالات الاستراتيجية، والسياسية،  والخطط المتعلقة بالجانب العسكري وبناء القوّة والقدرات؛ ولكن أوّلاً يجب دفع بعض الشبهات؛ فالكلام هو عن العقيدة أو النظرية الأمنية الإسرائيلية؛ وفي اللغة العبرية كلمة "أمنية" تعني استخبارية؛ لكننا مضطرّون  لاستعمالها كوننا نستخدم المصطلح الإسرائيلي؛ وليس المقصود بالعقيدة الأمنية  العقيدة الاستخباراتية، ولا العقيدة العسكرية، وإن كانت العقيدة العسكرية تتفرع من العقيدة الأمنية بمعنى الأمن القومي.
ومعروف أن مفهوم الأمن القومي هو مفهوم واسع، لأنه يتناول المجتمع والاقتصاد والسياسة؛ ولكننا سنركّز على المعنى الأقرب للمفهوم العسكري؛ والسبب أن كل التحالفات العسكرية تنطلق في البداية من الجانب الأمني، وخاصة بالنسبة للكيان الإسرائيلي.
إن أحد جوانب فلسفة تشكيل لجنة الخارجية والأمن في الكنيست هو أنهم ليس لديهم سياسة خارجية بمعزل عن السياسة  الأمنية؛ فحتى نفهم السياسة الخارجية الإسرائيلية وتوجهاتها الخارجية، علينا أولاً أن نفهم اعتباراتها الأمنية. وهنا نحن نتحدث عن المجال الاستراتيجي .
إن المدخل التأسيسي لفهم العقيدة الأمنية، بالمفهوم الذي أشرنا إليه، ينطلق من محاولة استحضار كيفية تشكّل هذه العقيدة الأمنية، وما هي منطلقاتها، وهل ما زالت هذه المنطلقات قائمة؛ وما هي المستجدات التي طرأت عليها؟
في البداية نشير إلى أن من صاغ النظرية الأمنية الاسرائيلية هو ديفيد بن غوريون، حيث قام بعقد خلوة عام 1953 استمرت نحو خمسة أسابيع، مع طواقم في جميع المجالات والاختصاصات؛ وانتهى إلى هذه النظرية التي كانت ولا تزال أساساً للسياسات الإسرائيلية العدوانية، مع ملاحظة التغيّرات التي استجدّت بالطبع.
عندما نحاول فهم أو  استشراف أي نظرية أمنية، أي بمعنى الأمن القومي لأي دولة (أو كيان)، يجب أن ننطلق من رؤيتها للمخاطر القائمة واتجاهاتها الكامنة أو التي يمكن أن تستجد. ومن هنا، فإن القاعدة الأولى التي انطلق منها بن غوريون قبل بلورة العقيدة الأمنية، ضبطتها ثلاثة محدّدات: المحدّد الأول هو الهوّة بين المحيط العربي المعادي وبين إسرائيل على مستوى الجغرافيا؛ وللجغرافيا دور أساسي في قوّة الدول. فمساحة ما كان محتلاً من فلسطين عام 1948 بلغت 20 ألف كم مربع من أصل  27 ألفاً؛ وما كان محتلاً من مصر(شبه جزيرة سيناء) هو 60 ألف كم مربع من أصل مساحة مصر البالغة أكثر من 950 ألفاً؛ وتبلغ مساحة سوريا 180 ألفاً، ومساحة لبنان أكثر من 10 آلاف كم مربع. وهنا نتكلم عن الطوق المباشر وليس عن العمق العربي؛ وهذا أمرٌ ثابت ولا يتغيّر.
أما المحدّد الثاني، فهو الهوّة الديموغرافية. فقد بلغ عدد سكان "إسرائيل"، عندما أقيمت "الدولة"  عام  1948، 650 ألفاً، محاطين بعشرات الملايين من العرب؛ لكن من الواضح أنه كانت هناك مؤامرة، حيث أصبح عدد سكان الكيان ما بين المليونين والثالثة ملايين في الخمسينات، وهو في ازدياد. وهذه الهوّة الديموغرافية تؤثّر على العسكر وعلى الاقتصاد وعلى قوّة الصمود؛ وتلك المسألة أساسية في الأمن القومي.
أما المحدّد الثالث، فهو الإمكانيات. فالجانب الكميّ يعوّض عن الجانب النوعي. وإسرائيل لم تكن على ثقة أنها ستبقى.
 إذاً، هذه المحدّدات أو العناصر ترجمها بن غوريون، بالاقتباس عن أحد المنظّرين في الكيان الإسرائيلي: "عادة المتعارف عليه أن الدول عندما تبلور أو تدرس بيئة تضع  أمامها المعادلة الرباعية: نقاط قوّة وفرص ونقاط ضعف وتحليلات؛ لكن بن غوريون انطلق في دراسته بناءً على مسألتين: القيود والمخاطر. ما هي المخاطر الكامنة والفاعلة؟ وما هي القيود التي تفرض على إسرائيل المواجهة؛ وهي ثلاثة: الجغرافيا والديمغرافيا والإمكانيات؟ ما الذي على إسرائيل فعله في مواجهة هذه المخاطر، مع الأخذ بالحسبان القيود القائمة. وهنا بلور بن غوريون مجموعة من العناصر:
أولاً، التفوّق الكمّي العربي يجب مواجهته بالتفوّق الكمّي؛ من أهم مزايا الصهاينة أنهم أتوا من أوروبا، مع ما كانت تمثّله من تطور عسكري وتنظيمي واستراتيجي؛ ومواجهة هذا التفوق النوعي للتفوق الكمي العربي يتم عبر هذه الطريقة. ثانياً: أقام الإسرائيليون علاقة خاصة بدولة عظمى، وجوهرها التبعية لهذه الدولة، لأنهم مهما بلغوا من قوّة لن يستطيعوا أن يحموا وجودهم ومستقبلهم من دون أن احتضان دولة عظمى لهم؛ والدولة العظمى لن تحتضن إسرائيل إلاّ إذا كانت لديها مصالح معها؛ فهذه المسألة مسألة وجود ومسألة ديمومة. ثالثاً، التفوّق التقني والاقتصادي، والذي هو ترجمة للتفوق النوعي.
رابعاً، لا بدّ من الحصول على رادع نووي في مرحلة من المراحل.
وهنا ننتقل إلى العناصر الرئيسية التي سيتم التركيز عليها. وإلى جانب هذه العناصر هناك ثلاثة عناصر أخرى تُعرف بالأدبيات في الاستراتيجية الإسرائيلية؛ إسرائيل كانت ولا تزال ترتكز في عقيدتها الأمنية إلى ثلاثة عناصر: الردع، الإنذار والحسم.
أولاً، بما أن دولة اسرائيل وجِدت، فقد أصبح المطلوب هو المحافظة على وجودها؛ أي أن الطرف العربي لا يهاجمها ويمتنع عن ذلك؛ وهذا هو الردع.
 فيما يخص مفهوم الردع، أولاً ليس كل امتناع عن فعل هو فعلاً ردع؛ والشرط الآخر هو وجود دافع، لكن الطرف المهاجم يرتدع لأنه لن يحقّق نتائج ولا جدوى من التدخل؛ فمثلاً إسرائيل تقصف بالصواريخ دولاً خارج لبنان، ولكنها ترتدع في لبنان نتيجة قوّة الردع فيه.
وهناك مجموعة من التغييرات قد تؤثّر في حالة الردع، حيث لا توجد صيغة ثابتة له؛ فقد يحدث تطوّر في قدرات أحد الأطراف يغيّر المعادلات؛ وقد يحدث تطور في البيئة الاقليمية يستغلّه أحد الطرفين. مثلاً، قبل 2011 كانت إسرائيل لا تضرب سوريا؛ إلاّ أن الأمر تغيّر فيما بعد(الحرب السورية). لكن في لبنان، عندما حاولت إسرائيل استغلال الفرص لم تستطع نتيجة تهديدها(من قِبل المقاومة) بالأمونيا(المنشآت في حيفا) .
كذلك، التغيرات نتيجتها غير حتمية. فقد يتغير قائد عند أحد الطرفين أيضاً؛ والردع يتأثر بالكثير من المتغيرات؛ لذلك يحتاج الردع إلى مراقبة دائمة وإلى تغذية دائمة.
فالأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان راهن عليها الإسرائيلي على أنها قد تقيّد المقاومة؛ إضافة إلى انقضاض جمهور المقاومة عليها. لكن الإسرائيلي تفاجأ بأن حزب الله حوّل الأزمة إلى دافع للهجوم على إسرائيل، حيث تعمّد الحزب  إيصال رسالة حاسمة إلى الإسرائيلي: إما التنازل(في ملف الغاز والنفط) أو الذهاب إلى الحرب، كي يردعه ويؤكد له أن الأزمة الاقتصادية لن توقفه.
 وفي مرحلة ما تهيّأ للإسرائيلي أن حزب الله يناور، فقام حزب الله بتفجير جسور العودة. لذلك قال الرئيس السابق للاستخبارات الإسرائيلية: ليس من مصلحتنا أن نقدّم ذريعة لطرفٍ ما لا يملك شيئاً ليخسره.
إذاً، الردع يحتاج إلى تغذية. يُقال أحياناً إن في خطاب السيد حسن نصرالله تكراراً، لكن هذا غير صحيح، لأن الكلام مع لحظ التغيرات لا يُعدّ تكراراً.
من هنا، عندما نحلّل الردع يجب أن نعرف متغيراته وعناصره. هناك ردع استراتيجي، وردع الضرب أو الردع العملياتي؛ أي الضرب من دون تجاوز سقف معيّن لمنع الرد.
إسرائيل كانت تحتاج لهذا الردع، لكنها لم تقم بذلك؛ بل كان هناك تخاذل وضعف. من أهم مداميك عقيدة حزب الله الردع؛ والردع دائماً مرتبط بالطرف الآخر.
إن الردع له ثلاثة عناصر: وجود القدرة المطلوبة، وجود إرادة تفعيل القدرة؛ فالدول العربية لا تفعّل هذه القدرة نتيجة حسابات معينة؛ وما يميّز حزب الله أن لديه هذه الإرادة، وأن تحضر القدرة وإرادة تفعيل القدرة عند الحاجة. العدو عند التحضير للهجوم لا يستطيع أن يعلم بوجود القدرة؛ وإن علِم بوجود القدرة المفعّلة فإنه سيرتدع. لكن ماذا لو لم يرتدع؟ يوجد الإنذار؛ أي أن يستكشف الخطر قبل حدوثه. وظيفة الإسرائيلي أن يستكشف نوايا وقدرات العدو؛ ما هو دور الاستخبارات العسكرية؟ رصد نوايا العدو وتطور قدراته. عندما وصل عبد الناصر إلى الحكم في مصر، أُنذر العدو بشكل استباقي بأن عبد الناصر سيشكّل خطراً عليه. والفرق بين الضربات الوقائية والاستباقية، أن الضربة الوقائية تعني الضرب قبل الوصول إلى فكرة الضرب من الطرف الآخر، مثل حرب 1956؛ الوقاية تكمن في الإنذار من خلال المراقبة.
الإنذار إذاً، بالمعنى الاستراتيجي، يكون باستشراف نوايا العدو ومعرفة قدراته. الإسرائيلي يعتقد بأنه لا يستطيع أن يخوض معارك واسعة مفتوحة لأسباب اقتصادية وديمغرافية.
تكلّمنا إذاً عن الثالوث: الردع، الإنذار الحسم؛ ومن الممكن إدخال عناصر أخرى، ولكن منهجياً هذا لا يصح.
أن تشن إسرائيل حرباً قصيرة المدى؛ أن تنقل المعركة إلى أرض العدو؛ أن تصدّ الاعتداء وتنقل المعركة مباشرة إلى أرض العدو، فهذا تجسيد لتفوّقها الاستخباري والتكنولوجي وغيره.
قد يُفاجأ البعض بأن هذه المبادئ بقيت ثابتة منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى عام 2006. لكن يجب التفريق بين العقيدة الأمنية والخطط العسكرية بدرجة معيّنة. إلاّ أن النظرية الأمنية الإسرائيلية لم تتغير إلاّ بعد حرب 2006 على لبنان، حيث تم إدخال بند رابع على هذه النظرية الأمنية، وهو حماية الجبهة الداخلية. 
شرحنا مفهوم الردع؛ عندما احتلّت إسرائيل لبنان، لم تستطع أن تردع الشعب اللبناني عن المقاومة، ولا أن تردع سوريا وإيران عن مساعدة المقاومة. الردع سقط حتى بعد انسحاب إسرائيل إلى الحزام الأمني، لأنها قلّصت انتشارها الجغرافي  مع انتشار جيشها والمواقع المحصّنة على التلال، حيث تستطيع إسرائيل قصف المدن والقرى اللبنانية من دون تحمّل خسائر كبيرة؛ ومن دخل إلى هذه المواقع العسكرية بعد التحرير، رأى ما كان الإسرائيلي يقوله للجنود بأنهم في هذه المواقع يحمون الجنود والناس في شمال إسرائيل.
ابتكر حزب الله في أساليبه؛ وهذه المسألة من أهم المتغيرات وأسّست لكلّ ما تلاها، وهو تغيير الساحة الداخلية إلى ساحة مواجهة بالصواريخ المتواضعة في البداية، كالكاتيوشا.
الخطة لا تواجه إلاّ بخطة، وليس بشكل عشوائي. ابحثوا عن الفكر الاستراتيجي والإبداع الاستراتيجي للمقاومة.  فمن كان يعتقد أن المقاومة قادرة على ردع الإسرائيليين بهذه الصواريخ البدائية؟!
هناك مفصلان مهمّان في تاريخ الصراع بين إسرائيل وحزب الله، ويتمثّلان في (عدوانيْ) عامي 96 و93.
وتلخّص هذا المشهد عبارة لغادي أيزنكوت: إن الذي ابتدع المعركة اللاتماثلية لصالح إسرائيل، عبر تحويل الجبهة الداخلية إلى ساحة مواجهة، هو حزب الله في لبنان؛ وما غيّر المعادلات في الصراع هو تحويل الجبهة الداخلية إلى ساحة قتال.
يقول أحد القادة العسكريين الإسرائيليين "إنه ومنذ العام 2006 تم تطوير قدراتنا في مجالات الجو والبر والبحر؛ وأبشّركم بأن ما أطلقناه في 33 يوماً أصبحنا قادرين على إطلاقه في 4 أيام"؛ وبالتالي هناك سباق جهوزية بين المقاومة وإسرائيل، ويقوم بشكل أساسي على عناصر متعددة: إن الإسرائيلي، على الرغم من كلّ تطوّره، لم يستطع أن يحول دون ردع حزب الله له، عبر تحويل الساحة الداخلية العميقة (حتى تل أبيب) إلى ساحة مواجهة؛ وهذا التحوّل لم يحصل في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.
هناك ميزة في لبنان هي صغر مساحته؛ ومساحة بيئة المقاومة هي أقل من 10000 كيلومتر مربع بالتأكيد؛ فمساحة الجنوب هي 2000 كيلومتر مربع؛ أما مساحة سيناء فتتجاوز 60 ألف كيلومتر مربع؛ ومع ذلك استطاعت إسرائيل السيطرة عليها خلال أيام.
قبل حرب تموز 2006، قال موشيه يعلون إن الدخول إلى لبنان براً كمن يُدخِل يده في كيس من المسامير. قائد سلاح الجو يقول: لدينا مشكلة بأن دخول سلاح المدرّعات سيخرج للدبابة الإسرائيلية مقاتلين من كل جهاتها، وتصبح المسافة صفراً مع سلاح المدرّعات، ويتعطل سلاح الجو. وكل مقاتل في "قوات الرضوان" هو بمثابة دبابة بمواجهة دبابة.
إسرائيل تعلم أنها إن دخلت لبنان ستغرق فيه. يقول إيهودا باراك: إن نظرتَ إلى جنوب لبنان لا ترى مقاتلين ولا دبابات ولا صواريخ، ولكن يوجد الكثيرين غير القابلين للرؤية.
إذاً، هناك الكثير من التغييرات التي سلبت إسرائيل الكثير من القابلية للردع  والإنذار المبكر وسلبهم القدرة على الحسم؛ حزب الله ردع إسرائيل بالتأثير الكمّي، أو بالتأثير النوعي لهذا الكم الهائل من الصواريخ.
باراك يقول إنه في كل سنة يدخل 10 آلاف صاروخ دقيق لحزب الله؛ وهذا التراكم الكمّي أحدث هذا النوع من الردع للعدو.
الأسلحة الدقيقة ليست سلاحاً متطوراً دقيقاً فقط؛ بل هي تصبح مع الوقت تهديداً وجودياً لإسرائيل، وقد تضعها على خط الزوال. وزير الأمن الإسرائيلي كان يقول إنهم لن يسمحوا لحزب الله أن يطوّر قدراته، لدرجة أنه كان يهدّد وجود حزب الله.
امتلاك حزب الله صواريخ دقيقة أمر لا تحتمله إسرائيل؛ قالها بنيامين نتنياهو عندما ذهب إلى فرنسا؛ ثم قال إنه إذا أصبحوا(الصواريخ) بالمئات سنشن حرباً؛ فأصبحوا بالمئات ولم يفعل العدو شيئاً.
وختاماً، نحن أمام معادلة جديدة، ويجب أن نفهم الصبر على عدم الرد على الضربات في سوريا من إحدى زوايا الرؤية التي تحدثنا عنها آنفاً؛ يقول عاموس جلعاد إن على إسرائيل ألاّ تفرح إذا لم يردّ حزب الله على الضربات في سوريا لأنهم مشغولون في مكان آخر بتنمية قدراتهم.. والحمد لله ربّ العالمين.
 
     

 

2023-03-10 10:53:36 | 1111 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية